|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() نصوص وفهوم (1): {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} د. عثمان محمد غريب الحلقة الأولى ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 24] قال تعالى في سورة يوسف حاكيًا موقف امرأة عزيز مصر وسيدنا يوسف - عليه السلام -: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]. قد أكثر الناس الخوض في هاته الآية بالباطل، ذاكرين في تفسيرها وتأويلها أقوالًا ما أنزل الله بها من سلطان، ومع الأسف الشديد لم يسلم من ذلك كثيرٌ من كتب التفسير والتاريخ، ويا ليت الأمر متوقف عند هذا الحد ولم يتجاوزه، بل الطامة الكبرى فيها أن تنسب تلك الأقوال الباطلة - زورًا وبهتانًا - إلى الجيل الفريد، وخيـر القرون، وتابعيهم بإحسان - رضي الله عنهم - وإليك بعضَ تلك الطامات والبليَّات التي وجدتها في كتب التفاسير: 1- عن مجاهد[1]: جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وحل سراويله، وجعل يعالـج ثيابه، ونسب هذا إلى أكثر المتقدمين، مثل: سعيد بن جبير[2]، والحسن[3]، وعكرمة[4]. 2- عن سعيد بن جبير: ضرب بيده على صدره، فخرجت شهوة يوسف من أنامله. 3- عن ابن عباس[5]: حل الهميان، وجلس منها مجلس الخاتن، فنودي: يا بن يعقوب، أتزني فتكون كالطائر وقع ريشه؟! فلم يعظ عن النداء شيئًا، فنودي الثانية، فلم يعظ عن النداء شيئًا، فتمثل له يعقوب، فضرب صدره، فقام، فخرجت الشهوة من أنامله. وعنه أيضًا: كان يولد لإخوته اثنا عشر ذكرًا، ويولد له أحد عشر ولدًا من أجل الشهوة التي خرجت. وعنه أيضًا: حل سراويله، وقعد منها مقعد الرجل من امرأته، فإذا بكف قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد، مكتوب عليها: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]، فقام هاربًا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فظهرت تلك الكف مكتوبًا عليها: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، فقام هاربًا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فظهر ورأى تلك الكف مكتوبًا عليها: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، فقام هاربا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فقال الله عز وجل لجبريل - عليه السلام -: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عليه السلام عاضًّا على إصبعه يقول: يا يوسف، تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء[6]. فعلى هذا القول يكون الهم بالفاحشة حاصلًا من سيدنا يوسف - عليه السلام - بل تجاوز الهم بالفاحشة، وحصل عنده العزم والجزم بها، ويكرر معه جبريل - عليه السلام - الوعظ والنصيحة ثلاث مرات فلا ينزجر، ويتلو عليه قرآنًا لم ينـزل إلا بعد نبوة سيدنا يوسف - عليه السلام - بقرون! ورأى آخرون أن الهم قد حصل من سيدنا يوسف - عليه السلام - بَيْدَ أنهم نفوا عنه العزم بالفاحشة، واختلفوا في متعلق الهم، فمن قائل: إنه هم بالفاحشة بمقتضى الطبع البشري ولم يتجاوز ذلك، ومن قائل: هم بضربـها، وقال آخرون منهم: همَّ بالهروب منها. وكل هذه الأقوال باطلة؛ لِما يأتي: أولًا: ما نسب إلى الصحابة والتابعين من القول بأن سيدنا يوسف - عليه السلام - حل السراويل، وقعد منها مقعد الرجل من امرأته مبنيٌّ على روايات موضوعة، وأخبار كاذبة، لا نكاد نجد لها أسانيد، وإذا وجدناها فهي أسانيدُ لا خُطُمَ لها ولا أزِمَّةَ - كما قيل. ثانيًا: ما ذكر أن كفًّا قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد، مكتوب عليها كذا وكذا، لو حصل مثل هذا مع رجل فاجر فاسق شَبِقٍ مليء جسمه شهوةً لاتَّعَظ وانزجر، ولكن نبيًّا مثل يوسف - عليه السلام - على هذا الرأي بلغت به الشهوة مرحلة تظهر له تلك الأمور الخارقة ثلاث مرات أو أربع مرات - قولان - وهو لا يبالي فيها لا بالكرامات، ولا بالمعجزات، ولا بالتحذيرات.. إلى أن يظهر له جبريل عاضًّا على إصبعه يقول له ما قال، كما يقولون، ولو أن تلك التحذيرات ألقيت على الشبِق الغارق في الشهوات لخاف واضطرب، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحَدَّهم حدقةً وأصلحهم وجهًا لقي بأدنى ما لقي به نبي الله مما ذكروا، لما بقي له عرق ينبض، ولا عضو يتحرك - كما قال الزمخشري[7] - فيا له من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه! ثالثًا: لو كان ما ذكروه صحيحًا، لَمَا كان في القرآن الكريم وجود للتأكيد على تزكية سيدنا يوسف - عليه السلام - ومدحه بهذا الأسلوب المؤثر العجيب، ولتوضيح ذلك نقرأ معًا هاته الآيات القرآنية المباركة، ثم ليحكم كل منا ضميره وعقله ليتبين له مدى التناقض الموجود بين هذه الآيات، وبين ما ذكروه من روايات: 1- ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23]. 2- ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]. وانظر - هداني الله وإياك - ما في هذا التعبير العجيب البلاغي المؤثر من أسرار: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ﴾ [يوسف: 24] حيث لم يقل: لنصرفه عن السوء والفحشاء، ولو كان هكذا لكان يوسف عليه السلام آنذاك هو الذي يركض وراء السوء والفحشاء طالبًا لهما، ولما قدم لفظة ﴿ عَنْهُ ﴾ [يوسف: 24] على ﴿ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ﴾ [يوسف: 24]، دل على أن السوء والفاحشة هما اللذان يركضان وراء يوسف وهو يهرب منهما. 3- ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ [يوسف: 32]. 4- بل إن القرآن قد أخبرنا أنه قبل ذلك بكثير - وبالتحديد عندما بلغ أشده - قد أوتي حكمة وعلمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22]، والحكم: هو الحكمة، وهي: الإصابة في القول والفعل بوضعهما في موضعهما، أو هي النبوة، وعلى كلا التقديرين يبعُدُ عن صاحبها - مع ما يملِك من العلم - ما نسب إليه زورًا وبهتانًا. رابعًا: أما بالنسبة إلى تفسير همِّ يوسف - عليه السلام - بالهمِّ بالضرب أو بالهروب أو بغير ذلك فهو مردود؛ لأنه يلزم منه الاختلاف فيما حقه الاتحاد، وهو ممنوعٌ؛ لأنه لا يجوز في اللغة أن تقول: هممت بفلان وهم بي، وأنت تريد اختلاف الهمين. وعندما جاء بعض المحققين، أمثال قطرب[8]، وسعيد بن الحداد[9]، والقرطبي[10] وغيرهم وقالوا: إن في الآية تقديمًا وتأخيرًا[11]، والتقدير: (ولولا أن رأى برهان ربه هم بها)، قالوا لهم: إن تقديم جواب "لولا" عليها فاسدٌ، ولم يرِدْ في اللغة. وكلامهم هذا مردود؛ لأن أئمة حججًا في اللغة قد أجازوا ذلك، أمثال قطرب والكوفيين، وبعض أعلام البصريين؛ كأبي زيد الأنصاري[12]، وأبي العباس المبرد[13][14]. ثم إن القرآن قد كرر مثل هذا الأسلوب في غير هاتِهِ الآية؛ كقوله تعالى عن أم سيدنا موسى - عليه السلام -: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]، وقوله تعالى: ﴿ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 42]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ [الفرقان: 77]. فعلى القول بتأويل الآية وعدِّها من باب التقديم والتأخير، يكون "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ" كلامًا تامًّا، والواو استئنافية، وحينئذ يكون الهم السيئ بكل أنواعه منتفيًا عن سيدنا يوسف - عليه السلام - وهو اللائق بمثل جنابه الكريم، ويكون المعنى حينئذ: وهمَّ بـها لولا أن رأى برهان ربه، لكنه رأى برهان ربه فلم يهمَّ بـها أصلًا. وذهب آخرون، أمثال أبي حيان الأندلسي[15] - وهو من النحاة المشهورين - إلى تأويل الآية تأويلًا آخر، وجعلها من باب الإضمار الذي يدل عليه ما قبله، فقالوا: إن جواب "لولا" محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت، التقدير: فأنت ظالم، ولا يدل قولهم هذا على ثبوت الظلم للمخاطب، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل[16]. وعلى هذا التأويل أيضًا يكون "ولقد همت به" كلامًا تامًّا، والواو استئنافية، وحينئذ يكون الهمُّ السيئ بكل أنواعه أيضًا منتفيًا عن سيدنا يوسف عليه السلام، ويكون آنذاك "هم بها" جوابًا لـ "لولا" محذوفة مع اسمها، أما لولا المذكورة فجوابها محذوف يدل عليه ما قبله، فيكون الهم منه موجودًا على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكن البرهان قد وُجد، فانتفى الهم منه بها. أقول: إن هذا النوع من الإضمار الذي ذكره أبو حيان فنٌّ من فنون البديع يسمى بالاحتباك، وهو حذفٌ بدليل سابق أو لاحق، وله صور: منها حذف الأول لدلالة الثاني عليه؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56]، والتقدير: إن الله يصلي على النبي، وملائكته يصلون عليه، فحذف من الجملة الأولى: "يصلي على النبي"؛ لدلالة الجملة الثانية عليه، والله أعلم. ومنها حذف الثاني لدلالة الأول عليه؛ كقوله تعالى: ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]. والتقدير: والحافظين فروجهم والحافظات فروجهن، والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات الله كثيرًا، أعد الله لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا، فحذف "فروجهن" لدلالة ما قبله عليه، وحذف أيضًا "الله كثيرًا" لدلالة ما قبله عليه، والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ [العنكبوت: 62]، والتقدير: الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر الرزق على من يشاء من عباده، فحذف في الجملة الثانية "على من يشاء من عباده" بدلالة ما في الجملة الأولى، والله أعلم. ومنها حذف الأول والثاني لدلالة الثالث عليه؛ كقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]، والتقدير: ما لا يسمع شيئًا، ولا يبصر شيئًا، ولا يغني عنك شيئًا، فحذفت لفظة "شيئًا" من الأولى والثانية بدلالة الثالثة عليها. وقد يجمع بين أكثر من احتباك في نص واحد، كما هو عليه في هذه الآية الكريمة: ﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 24]؛ لأن الآية حينئذ تكون متضمنة لجملتين تامتين: الجملة الأولى: وهمَّ بـها، والجملة الثانية: لولا أن رأى برهان ربه. فحذف من الأولى "لولا" مع اسمها؛ لدلالة الجملة الثانية عليهما، وحذف من الثانية جواب "لولا" لدلالة الجملة الأولى عليه. ومع هذا، فإن القلب يميل إلى تأويل الآية باعتبارها من باب التقديم والتأخير؛ وذلك لأن الإضمار خلاف الأصل، كما أن التقديم والتأخير أيضًا خلاف الأصل، إلا أن القول بالتقديم والتأخير أولى من القول بالإضمار؛ لأنه في الأول يلزم منه الحمل على خلاف الأصل مرة واحدة، وفي الثاني - أي الإضمار - يلزم منه الحمل على خلاف الأصل مرتين: مرة بتقدير "لولا" محذوفة مع اسمها لجملة "همَّ بـها"، ومرة بتقدير جواب لـ "لولا" الموجودة في الآية، والتأويل - كما هو معلوم - ضرورة هنا، والضرورة تقدر بقدرها. وبهذا نصل إلى نتيجة مفادها براءة سيدنا يوسف - عليه السلام - وعفته، وانتفاء الهم منه؛ فلم يهُمَّ بالفاحشة قط. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع النبيين والمرسلين وآلهم وصحبهم وسلم أجمعين. المصادر: 1) أسد الغابة لابن الأثير - انتشارات إسماعيليان بطهران/ الطبعة الأولى ج3/ 192 إلى 195. 2) الأعلام لخير الدين الزركلي دار العلم للملايين - بيروت - الطبعة الخامسة 1980م. 3) البحر المحيط لأثير الدين محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي الشهير بأبي حيان - مطبعة السعادة - مصر، الطبعة الأولى 1328هـ. 4) تفسير الثوري للإمام أبي عبدالله سفيان بن سعيد الثوري - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1403هـ: ج1/ 140. 5) تفسير القرآن لعبدالرزاق بن همام الصنعاني - تحقيق: د. مصطفى مسلم محمد - مكتبة الرشد - الرياض - الطبعة الأولى 1410هـ. 6) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله محمد بن أحمد القرطبي - مطبعة دار إحياء التراث العربي - نشر مؤسسة التأريخ العربي - بيروت - 1405هـ. 7) طبقات المفسرين لأحمد بن محمد الأدنروي - تحقيق: سليمان بن صالح الخزي - مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة - الطبعة الأولى سنة 1997م. 8) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عُمَر بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407 هـ. 9) معالم التنزيل المشهور بتفسير البغوي لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - تحقيق: خالد العك - مروان سوار - دار المعرفة - بيروت - ط2 سنة 1407هـ - 1987م. 10) مفاتيح الغيب المشتهر بالتفسير الكبير للإمام أبي عبدالله محمد بن عمر، فخر الدين الرازي - دار الفكر للنشر - بيروت - الطبعة الثالثة 1405هـ - 1985م. [1] أبو الحجاج، مجاهد بن جبر المكي، مولى بني مخزوم، تابعي، مفسر من أهل مكة، قال الذهبي عنه: شيخ القراء والمفسرين، أخذ عن ابن عباس، أما الكتاب المنسوب إليه فيتقيه المفسرون، ولد سنة 21هـ - 642م، يقال: إنه مات وهو ساجد سنة 104هـ - 722م، الأعـلام للزركلي: 5/ 278. [2] سعيد بن جبير، الأسدي بالولاء، الكوفي، تابعي، من أعلم الناس على الإطلاق، أخذ العلم من ابن عباس وابن عمر، ولد سنة 45هـ - 665م واستشهد على يد الحجاج، الأعلام للزركلي: ج3/ 93. [3] أبو سعيد، الحسن بن يسار البصري، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمانه، وهو أحد العلماء الفقهاء الشجعان النساك، ولد بالمدينة سنة 21هـ - 642م، وشب في كنف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتوفي بالبصرة 110هـ 728م، الأعـلام: 2/ 226 و227. [4] أبو عبدالله عكرمة بن عبدالله المدني، مولى ابن عباس، تابعي ومفسر، ولد سنة 25هـ، وتوفي بالمدينة سنة 105هـ، الأعـلام للزركـلي: 4/ 244. [5] عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، أبو العباس القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، كان يسمى بالبحر؛ لسعة علمه، وبحبر الأمة، ولد والنبي وأهله في الشعب من مكة محاصرون، فحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات، توفي بالطائف سنة 68هـ، وقيل: سنة 70، ينظر: أسد الغابة لابن الأثير - انتشارات إسماعيليان بطهران/ الطبعة الأولى ج3/ 192 إلى 195. [6] ينظر هذه الأقوال في: تفسير الثوري للإمام أبي عبدالله سفيان بن سعيد الثوري - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1403هـ: ج1/ 140، وتفسير القرآن لعبدالرزاق بن همام الصنعاني - تحقيق: د. مصطفى مسلم محمد - مكتبة الرشد - الرياض - الطبعة الأولى 1410هـ: ج2/ 321، ومعالم التنزيل المشهور بتفسير البغوي لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - تحقيق: خالد العك - مروان سوار - دار المعرفة - بيروت - ط2 سنة 1407هـ - 1987م: ج2/ 418. [7] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عُمَر بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407 هـ: 2/ 457 - 458. [8] محمد بن المستنير بن أحمد، أبو علي، الشهير بقطرب، نحوي، عالم بالأدب واللغة، من أهل البصرة، ومن الموالي، أول من وضع المثلث في اللغة، من كتبه: معاني القرآن، وإعراب القرآن، وغريب الحديث، والأضداد، توفي سنة 206هـ 821 م، الأعلام: 7/ 95. [9] سعيد بن محمد الغساني، أبو عثمان، ويقال له: ابن الحداد، مناظر، قوي الحجة في علوم الدين واللغة، اشتهر بجدله مع بعض علماء الدولة العبيدية - الفاطمية - ولد سنة 219هـ - 834م، وتوفي سنة 302هـ - 915م، من كتبه: توضيح المشكل في القرآن، معاني الأخبار، الأعلام للزركلي: ج3/ 100. [10] أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي المالكي القرطبي، مصنف التفسير المشهور المسمى بجامع أحكام القرآن، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، قال الذهبي: إمام متفنن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته وكثرة اطلاعه ووفور فضله، توفي بمنية بني خصيب من الصعيد الأدنى سنة إحدى وسبعين وستمائة؛ طبقات المفسرين للأدنروي: ج1/ 246 و247. [11] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج9/ 166. [12] سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، أحد أئمة الأدب واللغة، كان سيبويه إذا قال: سمعت الثقة عنى بها أبا زيد، ولد سنة 119هـ - 737م، وتوفي بالبصرة سنة 215هـ - 830م، من كتبه: النوادر، ولغات القرآن، والمطر، الأعلام للزركلي: ج3/ 92. [13] محمد بن يزيد بن عبدالأكبر الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد، إمام العربية ببغداد، وأحد أئمة الأدب والأخبار، ولد بالبصرة سنة 210هـ - 826 م، وتوفي ببغداد سنة 286هـ - 899 م، من كتبه: إعراب القرآن، والكامل، والمذكر والمؤنث، والمقتضب، وشرح لامية العرب، الأعـلام: 7/ 144. [14] ينظر تفصيل المسألة في مفاتيح الغيب للرازي: الجزء الثامن عشر/ المجلد التاسع: ص117 ـ 126. [15] محمد بن يوسف بن علي بن يوسف الغرناطي الأندلسي، أثير الدين، أبو حيان، من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث والتراجم واللغات، ولد في غرناطة سنة 654هـ - 1256م، وتوفي بالقاهرة سنة 745هـ - 1344م، من كتبه: "البحر المحيط" في التفسير، و"النهر الماد" اختصر به البحر المحيط، و"تحفة الأريب" في غريب القرآن، الأعلام: 7/ 152. [16] البحر المحيط لأثير الدين محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي الشهير بأبي حيان - مطبعة السعادة - مصر، الطبعة الأولى 1328هـ: ج5/ 295.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() نصوص وفهوم (1): {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} د. عثمان محمد غريب [1] سلسلة نصوص وفهوم الحلقة الثانية ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ يستدلُّ بعض العلماء بقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4] على حجيَّة السنَّة؛ لأنَّ الآية في نظرهم عامَّة لكل ما يَنطق به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان قرآنًا أو غيـرَ قرآن، والأصل في العموم أن يبقى على عمومه ولا يُخصَّصَ إلا بدليل؛ قال الغزالي: "وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّة؛ لدلالة المعجزة على صدقه، ولأمر الله تعالى إيَّانا باتباعه، ولأنه لا يَنطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى، لكنَّ بعض الوحي يُتلى فيُسمَّى كتابًا، وبعضه لا يُتلى، وهو السنَّة"[2]. قال القرطبي: "وفيها أيضًا دلالة على أن السنَّة كالوحي المنزَّل في العمل"[3]. وقال آخرون: إنَّ الآية خاصة بالقرآن، ولا علاقة لها بالسنَّة. قال القاسمي: "والضمير للقرآن؛ لفهمِه مِن السياق، ولأنَّ كلام المُنكِرين كان في شأنه، وأرجَعَه بعضُهم إلى ما ينطق به مطلقًا، واستدلَّ على أن السنن القولية من الوحي". ثم قال: "والصواب هو الأول؛ أعني: كون مرجع الضمير للقرآن؛ لما ذكرنا، فإنه ردٌّ لقولهم: (افتراه)، والقرينة من أكبر المخصَّصات"[4]. وظنَّ المُنكرون لحجيَّة السنَّة أنهم وجدوا ضالتهم في هذا الرأي، وفرحوا به أيَّما فرَح. وأنا لست هنا بصدد الترجيح لرأي دون آخر، بَيْدَ أنني هنا أوجِّه إلى هؤلاء المُنكِرين لحجيَّة السنَّة سؤالًا: لو أخذنا بهذا الرأي الثاني، وسلَّمنا بأن الآية خاصة بالقرآن الكريم دون السنَّة النبوية، فهل يَنطق رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج القرآن عن الهوى؟! إن قلتُم: لا يَنطق عن الهوى فقد حصل المراد، وتحقَّق المقصد من إثبات حجيَّة قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن اجترأتم أن تُسيئوا إلى المقام الرفيع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلتم: نعم، في سوى القرآن الكريم يَنطق الرسول صلى الله عليه وسلم عن الهوى؛ فإنني أخشى عليكم الكفر باتِّهامكم لسيد الخلق باتباع الهوى، وقد شدَّد الله النَّكير على مَن اتَّبع هواه في نصوص كثيرةٍ من القرآن الكريم، وإليك جملةً منها: أولًا: أخبرنا القرآن الكريم بأنَّ اتباع الهوى منهيٌّ عنه؛ لأنه يؤدِّي إلى الوقوع في الضلالة عن سبيل الله تعالى، وَمَن ضلَّ عن سبيله له عذاب شديد؛ قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]. فهل تقبل أن يكون سيد الخلق - بآبائنا هو وأمهاتنا - متبعًا لهواه، ضالاًّ عن سبيل الله، وله عذاب شديد؟! وهو الذي قال عنه مولاه تبارك وتعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]. ثانيًا: أخبرنا القرآن الكريم بأن من تكون الجنة مأواه هو مَنْ نهى نفسَهُ عن الهوى، وقال: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، فهل ترضى لنبيك ألا يكون ممَّن نهى نفسه عن الهوى، ومِن ثَمَّ لا يكون من أهل الجنة؟! وهو الذي قال عنه ربه عز وجل: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4]، وقال: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]. ثالثًا: شَبَّه اللهُ تعالى مَن يتبع هواه بالكلب؛ حيث قال: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176]. فهل تتجرَّأ على وصْف نبيِّك بهذا الوصف؟! رابعًا: أخبَرَنا القرآن كذلك بأن من يتبع هواه فكأنه اتخذ إلهه هواه، ولا يوجد من هو أضلُّ منه، وقال: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]، وقال أيضًا﴿ : أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43]. خامسًا: لم يَكتفِ القرآن ببيان عاقبة مَن اتَّبع هواه والأمر بمُخالفة الهوى، بل بالإضافة إلى ذلك نهى عن اتباع من يتبع الهوى، فقال: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]. أسأل الله لي ولكم الهداية والتوفيق، إنه الهادي إلى صراط مستقيم [1] جامعة صلاح الدين - أربيل. [2] المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)، تحقيق: محمد عبدالسلام عبدالشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1413هـ - 1993م، (ص: 104). [3] الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي، شمس الدين القرطبي، (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م، (17 / 85). [4] محاسن التأويل، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي، (المتوفى: 1332هـ)، المحقق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى - 1418 هـ، (9 / 59).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() نصوص وفهوم (3): { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } د. عثمان محمد غريب [1] سلسلة نصوص وفهوم الحلقة الثالثة ميزان أم موازين؟ نحن نعلم أن الميزان في الدنيا ليس منحصرًا فيما له كِفَّتان ويوزن به الماديات فقط، بل إن لكل شيء ميزانًا خاصًّا يناسبه، فكما للفواكه ميزانٌ فللذهب ميزانٌ، ولكنَّ الميزانَ الذي يوزن به الذهب يختلف تمامًا عن الميزان الذي توزن به الفواكه، ولا يمكن أن تَزِنَ الفواكه بميزان الذهب، ولا العكس، والإنسان كلما تطوَّر استطاع أن يخترع من وسائل الوزن والقياس ما تحار فيه العقول. وكما للماديات موازينُ، فكذلك للأفكار والعلوم موازين، ولكل فن وعلم ميزانه الخاص به؛ فللطب ميزانه، وللفقه ميزانه، ولكل من الهندسة والفيزياء والكيمياء والنحو والصرف ميزانه، وللغة موازينها، بل إن لكل لغة موازينها الخاصة بها؛ فموازين اللغة العربية تختلف عن موازين بقية اللغات، ولا يجوز أن تحكمَ موازينُ أية لغة على لغة أخرى. والميزان الصرفي في علم الصرف يختلف تمامًا عن الميزان النحوي في علم النحو، وهما يختلفان عن الميزان المنطقي، الذي يميـَّز به الفكر الصحيح من الفاسد، وهي تختلف عن ميزان الاجتهاد والاستنباط الذي يخضع له المجتهد، كما هو مدونٌ في علم أصول الفقه. وإذا علمنا هذا، فإن الخَطْب في فهم المقصود من الآيات التي وردت فيها لفظة الموازين يكون سهلًا. وبعيدًا عن تفاصيل اختلافات علماء العقيدة والكلام حول ماهية الميزان الذي توزن به الأعمال، وهل هو ميزانٌ ماديٌّ أو معنويٌّ؟ وكيف توزن به النيات والأفعال والأقوال مع أنها ليست بأجسام مادية حتى توضع على الميزان؟! بعيدًا عن كل ذلك نريد أن نقف مع روح القرآن الكريم في بيان هذا الميزان. وعندما نفتح المصحف الشريف ونستقرئ آيات الميزان في يوم القيامة، نعلم يقينًا أننا أبعدنا النجعة في فهمنا للقرآن الكريم، وإليك - أيها القارئ اللبيب - جملةً من هاتِه الحقائق القرآنية: أولًا: إن الوزن يوم القيامة حقٌّ ثابتٌ؛ كما قال تعالى في الآية الثامنة من سورة الأعراف: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾ [الأعراف: 8]. ثانيًا: الميزان اسم لِما يوزن به الأشياء، قد يكون ماديًّا يأتي لبيان مقدار ثقل الشيء الموزون وخفَّته، وقد يكون معنويًّا، مثل معرفة قيمة الشخص وصدقه وكذبه، وحقه وباطله، وعدله وظلمه، وميزان الآخرة توزن به الماديات والمعنويات، فكما يوزن به الفعل كذلك يوزن به النية والقول. ثالثًا: إن الميزان من الأمور الغيبية المتعلقة بعالم الآخرة؛ فلا يمكن تفسير ميزان عالم الآخرة بما في الحياة الدنيا من وسائل "الوزن" و"القياس"، أو تفسيرها بالعدل الإلهي، بل إن الأسلم أن نَكِلَ العلم بكيفيته وماهيته وكُنْهِه إلى الله تعالى، مِن غير خوض في التفاصيل، إلا ما جاءنا من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. رابعًا: لا يوجد في يوم الآخرة ميزانٌ واحدٌ لجميع البشر، ولا ميزانٌ واحدٌ لجميع الأعمال، بل ثمة أعدادٌ هائلةٌ من الموازين، لا يعلم عددها وماهيتها سوى الله تعالى، ولكل إنسان موازينه الخاصة به، ولكل عمَل من أعماله ميزانه، بل يكون للعمل الواحد أعدادٌ كثيرةٌ من الموازين، ويظهر هذا جليًّا في ورود لفظة الموازين بصيغة الجمع في الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح في سياقات الآخرة؛ فقد وردت لفظة الميزان بصيغة المفرد في القرآن الكريم تسع مرات، وكلها خاصة بالدنيا، أما لفظة الموازين بصيغة الجمع فقد وردت سبع مرات، وكلها في سياق الكلام عن الآخرة، وإليكم تلكم الآيات التي ورد فيها الميزان بصيغة الجمع: 1- ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 8، 9]. 2- ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]. 3- ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 101 - 103]. 4 - ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 - 9]. وهكذا تصرِّح تلكم الآيات الكريمات بأن لكل إنسان موازين كثيرةً خاصةً به، ولا داعي لتأويل الموازين بالميزان، ونقول: إن لفظة الموازين وإن كانت جمعًا إلا أنه أريد بها المفرد؛ أي: الميزان، بل نحمل اللفظة على ظاهرها، ونُبقيها على عمومها، ولا نخصصها إلا بدليل، ولا دليل هنا لتخصيصها؛ لذا ينبغي أن نقول بأنه ليس ثمة ميزانٌ واحدٌ، بل لكل مكلف موازينه. قال الرازي: الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال في هذه الآية: ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ [الأعراف: 8]، وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ، ولما يتعلق بالقول ميزانٌ آخر[1]. وقال الشوكاني: وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحدٍ من العاملين موازينَ، يوزن بكل واحد منها صنفٌ من أعماله[2]. وبما أن الموازين هي موازين قِسط، فإن القسط يقتضي أن يكون لكل حالة ميزانها، ولكل عمل ميزانه، ولكل شخص موازينه، فما يفعله المكلف في حالة الفقر يختلف عما يفعله في حالة الغنى، وما يفعله وهو مطمئنُّ النفس مرتاح البال يختلف عما يفعله وهو مغمومٌ مهمومٌ، وكلمة (الشكر لله) تظهر على لسان الغني تختلف تمامًا عن تلكم الكلمة نفسِها التي يلفظها مَن أحاطَتْه المصائب، ونزلت عليه النكبات، ومع ذلك فهو موصول القلب بالله تعالى. وميزان محاسبة أهل بيت النبوة ليس كميزان محاسبة غيرهم، وليس ذنبهم كذنب غيرهم، ولو أن امرأةً من نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد أتت بفاحشة مبينة، فإنَّ عليها من العذاب ضِعفَ ما على غيرها من العذاب، كما أنها لو قنتت لله ورسوله وعملت صالحًا يضاعف لها الأجر مرتين؛ قال تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: 30، 31]. وثمةَ فرقٌ بين استكبار الغني وتواضُعه، واستكبار الفقير وتواضعه؛ فالتواضع من الكل جميلٌ، ولكن من الغني أجمل، والاستكبار من الكل قبيحٌ، ومن الفقير أقبح. وفرقٌ هائلٌ بين كذِب الرعية وكذِب الإمام الراعي. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: الإمامُ الكذَّاب، والشيخُ الزاني، والعائل المزهوُّ))[3]. وشتان بين التصرُّف الصادر في حالة الرضا، والتصرُّف الصادر في حالة الغضب. وشتان بين إنفاق الغنيِّ الذي لا يضره الإنفاق، وبين إنفاق الفقير؛ فالإنفاق مِن كل أحد جميلٌ، لكنه من الفقير أجملُ، وأكثر بركةً وأجرًا، ومن هنا يقول نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((سبق درهمٌ مائة ألف))، قالوا: يا رسول الله، كيف يسبق درهمٌ مائةَ ألف؟ قال: ((رجل كان له درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عرضها مائة ألف))[4]. وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: ((أن تصدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمُلُ الغنى، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان))[5]. وليس من المعقول والقِسط أن يكون الدرهمُ الذي ينفقه الفقير في الثواب كالدرهم الذي ينفقه الغني الموسِر. والتصدُّق في يوم ذي بركة ويُسر ليس كالتصدق في يوم ذي مسغبة وعُسر؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 16]. وليس من المعقول أن يكون للكل ميزانٌ واحدٌ لا يراعي اختلاف الحالات والطبائع، والبيئات والنِّيات. وكلما ازداد الإنسان معرفةً وعلمًا، كانت المسؤولية عليه أعظمَ، وحسابه أشد، وليس من المعقول أن يحاسَبَ الأميُّ الذي يعيش في الصحراء محاسبة العالم المتبحر في العلم، ومن هنا قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وإذا كان قيام جزءٍ قليل من الليل وأداء ركعتي صلاة فيها بالنسبة لعوام الخلق حسنةً، فإنها بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم غيرُ ذلك؛ لأنه مأمور بقيام الليل كله، إلا قليلًا، أو نصفه، أو ما يقارب ذلك؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 4]. ثم إن هناك اختلافًا في تحديد الأفضلية في العبادات والأعمال من شخص لآخر، ومن هنا اختلفت إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم على أسئلة الناس حول ذلك، فيسأله شخصٌ عن أفضل الأعمال، فيحدد له عملًا، ويسأله آخر السؤال نفسه، فيحدد له عملًا آخر. فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهادٌ في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرور))[6]. وروى - أيضًا - عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاةُ لوقتها، وبرُّ الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله))[7]. وسرُّ هذا الاختلاف: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - حدَّد الأفضل حسب اختلاف الشخص؛ فما يكون لشخص أفضلَ قد لا يكون لشخص آخرَ كذلك، فبالنسبة للحاكم ورئيس الدولة والقاضي يكون العدل أفضلَ له من قيام الليل وصوم النافلة؛ لذا قيل: عدلُ ساعة خيرٌ من عبادة كذا سنة - أي في النوافل - وفي المقابل يكون ظلمُ ساعة أشدَّ وأعظم من معصية كذا سنة، فبجرَّة قلمِ حاكم تُقطع أعناقٌ، وتمنع أرزاقٌ، وتدمَّر بيوتٌ، وتغتصب فروجٌ، ويودَع العشرات والمئات غياهبَ السجون. وبجرة قلم يُنتصف للمظلومين، وتُعمر ديار، وتعتق رقاب، وتعاد الابتسامة إلى شفاهٍ لطالما حُرمت منها، وتشبَع بطون جائعةٌ، وتكسى أجسادٌ عاريةٌ. ولا ريب أن العدل هو هو لم يتغير، والظلم هو هو لم يتغير، إلا أن ميزانهما من حالة لأخرى، ومن شخص لآخر - مختلف تمامًا، ولا يمكن أن يكون عدل شخص من الرعية كعدل الراعي، ولا ظلمه كظلمه. وللحج والعمرة فضلٌ كثيرٌ، لكن لهما موازين؛ فقد يكونانِ لشخص موجبين للجنة ورضا الله تعالى، وقد يحرمان ويكونان موجبين لجهنم بدل الجنة، وسخَط الله تعالى بدل رضاه - عز وجل - والعقوبة بدل الثواب، إن جاع جاره أو قريبه وهو يعلم به. وقد ذكَر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (ت505هـ) ضمن أصناف المغرورين فِرقة من أرباب الأموال، يحرصون على إنفاق المال في الحج، فيحجون مرةً بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعًا؛ ولذلك قال ابن مسعود: في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر، ويبسط لهم في الزرق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسورٌ إلى جنبه لا يواسيه. وقال أبو نصر التمار: إن رجلًا جاء يودع بشر بن الحارث وقال: قد عزمت على الحج، فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددتَ للنفقة؟ فقال: ألفي درهم، قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك، تزهدًا أو اشتياقًا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله، قال: فإن أصبتَ مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى، أتفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: اذهب، فأعطها عشرة أنفس، مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدًا فافعل؛ فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضلُ من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قُم فأخرجها كما أمرناك، وإلا فقُل لنا ما في قلبك، فقال: يا أبا نصر، سفري أقوى في قلبي، فتبسم بشر - رحمه الله - وأقبل عليه، وقال له: المال إذا جُمع من وَسَخ التجارات والشبهات، اقتضت النفس أن تقضي به وطرًا، فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه ألا يقبل إلا عمل المتقين. ونحن في الدنيا نحزن إذا سرق اللص من مالنا، ولكن حزننا أشد عندما نعلم بأن اللص من المقربين منا، ومن ثم لا يكون حساب خيانة الغريب وميزانه كخيانة القريب وميزانه، مع أن الخيانة هي هي لم تتغير ولم تختلف. قال طَرَفة بن العبد: وظُلْمُ ذوي القربى أشد مضاضةً ♦♦♦ على المرءِ مِن وَقْع الحُسامِ المهنَّد[8] وقد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: سألت - أو سئل - رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلَقك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تقتل ولدَك خشيةَ أن يطعَمَ معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزانيَ بحليلةِ جارك))، قال: ونزلَتْ هذه الآية تصديقًا لقول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ﴾ [الفرقان: 68][9]. ومَن قال عن نفسه بأنه الربُّ، وقال عن الله بأنه عبدُه - فقد كفَر، وقد يقوله أحدهم ولا يكفر؛ كما في الشخص الذي قال ذلك من شدة فرحه وأخطأ التعبير؛ روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلِّها، قد أَيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرح))[10]. وليس عدلًا أن يحاسب هذا الشخص محاسبة المختار الذي يقول ذلك وهو يعلم. وماهية الزنا لا تختلف من شخص لآخر؛ بَيْدَ أن زنا الرجل بمحارمه وبحليلة جاره أشدُّ قباحةً وإثمًا، ومن ثم يكون ميزانهما مختلفًا، وقد فرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين الزنا بشكل عام، والزنا بحليلة الجار، وجعل الزنا بحليلة الجار ثالثَ الذنوب الكبيرة عند الله - عز وجل. روى البخاري عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي الذنب أعظمُ عند الله؟))، قال: ((أن تجعلَ لله ندًّا وهو خلَقك))، قلت: إن ذلك لعظيمٌ، قلت: ثم أي؟ قال: ((وأن تقتل ولدَك تخاف أن يطعَمَ معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلةَ جارك))[11]. وثمة فرقٌ كبيرٌ بين زنا الشاب وزنا الشيخ، وعفَّة الشاب وعفة الشيخ؛ فالعفة جميلةٌ، لكنها في مرحلة الشباب أجمل، والزنا قبيحٌ، لكنه في مرحلة الشيخوخة أقبح؛ فاختلفت الموازينُ باختلاف الحالات والأشخاص. وشتان بين مَن عفَّ وأمسك نفسه عن الفواحش بين ظهرانَيِ المسلمين في بلد إسلامي، وهو بين ذويه وأقربائه، ومن أمسك نفسه عنها وهو في بلد الغربة في مجتمع ماجنٍ فاحش، بعيدًا عن أهله وأصحابه، حيث لا رقيب يخافه، ولا قريب يستحيي منه، ولا عيب يلحقه. والذنب هو هو، لا يختلف باختلاف المكان والزمان، إلا أن بعض الأزمنة والأمكنة أعظم حرمةً من غيرها؛ فيكون الذنب فيها أعظم، والعقوبة أشد، كما أن الطاعة فيها تكون أعظم، والثواب فيها يكون أجزل، وليس من المعقول أن يحاسب من يزني في شهر رمضان المبارك وهو بمكة بجوار بيت الله - عز وجل - أو بالمدينة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم كمَن يزني في غير شهر رمضان في مكان آخر. روى البخاري عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة؟!))، قالوا: ألا شهرنا هذا، قال: ((ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمةً؟!))، قالوا: ألا بلدُنا هذا، قال: ((ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمةً))، قالوا: ألا يومنا هذا، قال: ((فإن الله - تبارك وتعالى - قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟!)) ثلاثًا، كل ذلك يجيبونه: ألا نعم، قال: ((وَيْحَكم، أو ويلكم، لا ترجعن بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض))[12]. وبهذا يظهر لنا القولُ بوجود موازين كثيرة لكل إنسان، لا يعلم عددها إلا الله تعالى. اللهم ثقِّل موازيننا، واملَأْها بالطاعات والحسنات؛ إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [1] مفاتيح الغيب، أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسن، الملقب بفخر الدين الرازي، خطيب الري (المتوفى: 606هـ)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1420 هـ: 14/ 203. [2] فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت - الطبعة: الأولى - 1414 هـ: 2/ 217. [3] صحيح ابن حبان - كتاب الحدود، باب الزنا وحدّه - ذكر بغض الله جل وعلا الشيخ الزاني.. [4] صحيح ابن خزيمة - كتاب الزكاة - جماع أبواب صدقة التطوع - باب صدقة المقل إذا أبقى لنفسه قدر حاجته. [5] صحيح البخاري - كتاب الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح. [6] صحيح البخاري - كتاب الحج - باب فضل الحج المبرور. [7] صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملًا. [8] ديوان طرفة بن العبد، طرفة بن العبد بن سفيان البكري الوائلي (المتوفى: 564 م)، المحقق: مهدي محمد ناصر الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الثالثة، 1423 هـ - 2002 م: ص27. [9] صحيح البخاري - كتاب تفسير القرآن - سورة البقرة - باب قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]. [10] صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب في الحض على التوبة والفرح بها. [11] صحيح البخاري - كتاب تفسير القرآن - سورة البقرة - باب قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]. [12] صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب في الحض على التوبة والفرح بها.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() نصوص وفهوم (4) {سبع سموات ومن الأرض مثلهن} د. عثمان محمد غريب الحلقة الرابعة ﴿ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ والبحث عن مخلوقات فضائية الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه، أما بعد: فكثيرًا ما نسمع ونقرأ لبعض الملحدين اعتراضًا على المسلمين بأنهم لا يذكرون حقيقةً علميةً ذكرها قرآنُهم أو نبيُّهم، ولكن بعدما يأتي العلماء من غير المسلمين ويتوصلون بأبحاثهم ودراساتهم إلى اكتشاف حقائق علميةٍ سرعان ما يبدأ علماء المسلمين ويبحثون في نصوص قرآنهم وسنة نبيهم؛ علَّهم يجدون ما يوافق ما ذكره هؤلاء العلماء من الفلكيين والفيزيائيين والأطباء وغيرهم. وهذا الاعتراض فيه جانبٌ من الصواب؛ لأن كثيرًا من الاكتشافات قد قام بها غيرنا، وفيه ظلمٌ كبيرٌ لعلماء المسلمين، ومجانبةٌ للصواب، ونظرٌ إلى الواقع بعين واحدة؛ لِما يأتي: أولًا: ليس مهمًّا أن نقول بموافقة القرآن للنظريات والحقائق العلمية؛ فالقرآن أولًا أكبر من أن يقارن بآراء البشر ومكتشفاتهم، وثانيًا فإنه أسبق زمنًا من تلكم المكتشفات؛ فالقول بموافقة القرآن لها قلبٌ للحقائق، وظلم للقرآن الكريم، والحق أن يقال: جاءت تلكم المكتشفات موافقةً للقرآن الكريم؛ لأن الميزان هو القرآن الكريم، وليس آراء الناس وما يتوصلون إليه من اكتشافات علمية. ثانيًا: إن الأمر الأهم من وجهة نظر علماء المسلمين هو أنه لا يمكن أن تأتي حقيقةٌ علميةٌ مخالفةً للقرآن الكريم، ولو وُجِد شيءٌ من ذلك فالخلل حينئذٍ إما في تفسيرنا وفهمنا لنصوص القرآن الكريم؛ لأن الفهومَ والتفاسير ليست مقدسةً كالنصوص المقدسة، بل هي جهود بشرية يعتريها ما يعتري الجهدَ البشري من الأخطاء والأوهام، وإما في تلكم الاكتشافات؛ لأننا لطالما وجدنا علماء قد توصلوا إلى نتائج واكتشفوا نظريات، ثم جاء علماء آخرون وأبانوا عورها وأظهروا خطأها، وقد أجمع علماء الفلك عدة قرون من زمن بطليموس إلى القرن الخامس عشر يتصورون أن الأرض هي مركز الكون، حتى جاء كوبرنيكوس وغاليلو غاليلي وقالوا بعكس ذلك تمامًا، وعلماء الفلك اليوم يتبعون كوبرنيكوس، معترفين بخطأ بطليموس وآلاف العلماء من بعده. ومثال آخر على خطأ العلماء ونظرياتهم ما ذهب إليه (إسحاق نيوتن) من القول بمطلقية الزمن، وظن العلماء أن كلام نيوتن هذا حقيقة علمية لا يجوز أن نحيد عنها، حتى جاء (ألبرت أنشتاين) بالنظرية النسبية للزمن مفندًا كلام نيوتن. ثالثًا: في القرآن حقائق علميةٌ كثيرةٌ لم يتوصل العلماء إلى اكتشافها إلى يومنا هذا، وقد فهمها علماؤنا القدامى واستنبطوها من القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنًا، وهاته الآية التي نحن بصدد الكلام عنها مثالٌ واحدٌ من الكم الهائل من أمثلة الحقائق العلمية القرآنية التي لم تكتشف إلى اليوم. يقول المولى - عز وجل - في الآية الثانية عشرة من سورة الطلاق: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]. واستدل حبرُ الأمة ابن عباس - رضي الله عنهما - بهاته الآية الجليلة على وجود الحياة خارج أرضنا، ووجود خلائق حية في سبع أرَضين. قال ابن جريرٍ الطبري في تفسيره: حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا محمد بن جعفرٍ، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، عن ابن عباسٍ في هذه الآية: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 12]، قال عمرٌو: قال: في كل أرضٍ مثلُ إبراهيم، ونحوُ ما على الأرض من الخَلْق،وقال ابن المثنى في حديثه: في كل سماءٍ إبراهيم. وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 12] قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفرُكم تكذيبُكم بها. وعن سعيد بن جُبيرٍ قال: قال رجلٌ لابن عباسٍ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 12] الآية،فقال ابن عباسٍ: ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر[1]. ونقل الطبري عن قتادة، قوله: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 12] خلق سبع سموات، وسبع أرَضين؛ في كل سماء من سمائه، وأرض من أرضه: خَلْق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه[2]. وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" عن ابن عباسٍ قال: سبع أرَضين، في كل أرضٍ نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوحٌ كنوحٍ، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. وروى البيهقي - أيضًا - عنه أنه قال: في كل أرضٍ نحوُ إبراهيم - عليه السلام[3]. ونسبه القرطبي إلى الجمهور، قال القرطبي: ﴿ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 12]، يعني سبعًا،واختلف فيهن على قولين: أحدهما هو قول الجمهور: أنها سبع أرَضين طباقًا بعضها فوق بعض، بين كل أرضٍ وأرضٍ مسافةٌ كما بين السماء والسماء، وفي كل أرضٍ سكانٌ من خلق الله، وقال الضحاك: ومِن الأرض مثلهن؛ أي: سبعًا من الأرَضين، ولكنها مطبقةٌ بعضها على بعضٍ من غير فتوقٍ، بخلاف السموات،والأول أصح"[4]. وإذا تتبعنا نصوص القرآن الكريم المتعلقة بإمكانية وجود مخلوقات حية خارج كوكب الأرض، نتوصل إلى جملة من الأمور كما يأتي: الأمر الأول: لا دليلَ في القرآن الكريم على نفيِ وجود مخلوقات أخرى تعيش خارج كوكبنا. الأمر الثاني: يمكن الاستدلال على وجود مخلوقات حية خارج كوكبنا - بالإضافة إلى آية سورة الطلاق - بالآية التاسعة والعشرين من سورة الشورى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]. ومحل الاستشهاد هو ضمير المثنى في قوله تعالى: ﴿ فِيهِمَا ﴾ [الشورى: 29]، الذي يعود إلى السموات والأرض، ونجد في هذه التثنية التصريح بوجود الدواب وانتشارها في السموات والأرض، وليس في الأرض فقط. وربما يقول قائل: إن المقصود مِن دواب السموات هو الملائكة، وهذا استدلالٌ باطلٌ، ويمكن الاستدلال على بطلانه من جانبين: الجانب الأول: أن الملائكة ليست دوابَّ، بل هي من الأجسام النورانية الطائرة؛ كما قال تعالى في الآية الأولى من سورة فاطر: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1]. الجانب الثاني: قد فرَّق القرآن الكريم بين الملائكة والدواب؛ كما في قوله تعالى في الآية التاسعة والأربعين من سورة النحل: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل: 49]. الجانب الثالث: عرَّف لنا القرآن الكريم الدابة بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[النور: 45]. ثم فرَّق القرآن الكريم بين الدابة والطائر بقوله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38]. وهذا يدل على أن الدابة غير الطائر؛ فالدابة تمشي، وكل ما يدب على الأرض يسمى دابةً، مثل النملة والإنسان والفيل وغيرها، بينما الطائر يطير بجَناحيه، ومعلومٌ أن الملائكة أولو أجنحة؛ كما بيَّنت ذلك الآية الأولى من سورة فاطر: ﴿ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ﴾ [فاطر: 1]. ولذلك قال علماء التفسير بإمكانية وجود مخلوقات أخرى خارج كوكبنا. قال الزمخشري: "ولا يبعُدُ أن يخلُق في السموات حيوانًا يمشي فيها مَشْيَ الأناسيِّ على الأرض، سبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق!"[5]. وقال الرازي في تفسيره: "لا يبعُدُ أن يقال: إنه تعالى خلَق في السموات أنواعًا من الحيوانات يمشون مَشْيَ الأناسيِّ على الأرض"[6]. وقال القاسمي: "ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية والعوالم العلوية إلى معنى آخرَ في هذه الآية،وعبارته: يُفهَم من هذه الآية أن الله تعالى خلق في السموات دوابَّ، ويُستدلُّ من قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [النور: 45]، أن هذه الدوابَّ ليست ملائكةً كما قال المفسرون، بل حيوانات كحيوانات الأرض،ولا يبعُدُ أن يكون بينهم حيوان عاقل كالإنسان، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السموات نباتات وأشجار وبحار وأنهار، كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد". ثم قال: "لعمري، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة، لآية لأهل هذا العصر، وأية آيةٍ!، آيةٌ لأهل العلم والفلسفة الذين يبذلون الأموال والأرواح بلا حدٍّ ولا حساب ليتوصلوا إلى معرفة سرٍّ من أسرار الكائنات. ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية"[7]. وقال صاحب المنار في تفسير الآية الثامنة والثلاثين من سورة الأنعام: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38] مبينًا فائدة تخصيص دواب الأرض بالذِّكر دون دوابِّ الأجرام السماوية مع أنها موجودة: "ولمثل هذا المعنى خص دواب الأرض بالذِّكر؛ لأنها هي التي يراها المخاطَبون عامةً، ويدركون فيها معنى المماثلة دون دواب الأجرام السماوية، القابلة للحياة الحيوانية، التي أعلمنا بوجودها في قوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]"[8]. وقال عبدالكريم الخطيب في تفسير قوله - عز وجل -: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]: "وفي الآية إشارة إلى أن في العوالم الأخرى - غير عالم الأرض - مخلوقات حية، على صور وأشكال لا يعلمها إلا الله، وأنها تموت وتحيا، وهي في سلطان الله - سبحانه - يبسطها ويقبضها، ويُميتها ويُحييها، وليس ما على هذه الأرض من صور الحياة إلا صورةً مِن صُورٍ لا حصر لها، من صور الحياة، في هذا الوجود العظيم"[9]. الأمر الثالث: تحقق اجتماع البشر بهم والتخابر معهم: تخبرنا آية سورة الشورى أنه يأتي علينا يومٌ يجمعنا الله بهم فيه؛ حيث قال - تعالى - بعد أن صرح بوجود دوابَّ في السموات والأرض: ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، والتعبير القرآني دقيقٌ في استعمال (إذا) دون (إن)، وثمة فرقٌ دقيقٌ بين (إن) و(إذا) - كما لا يخفى على الضليع باللغة العربية؛ إذ الأول - أي (إن) - للاحتمال؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ﴾ [الحجرات: 6]؛ لأن مجيء الفاسق محتملٌ وليس محققًا، والثاني - أي (إذا) - للتحقيق؛ كما في الآية الخامسة من سورة الفلق: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]؛ لأن الحاسد لا يكون حاسدًا إلا إذا تحقَّق منه الحسد، ومن هنا قال علماء النحو: لا يحسُنُ أن تقول: إن طلعت الشمس، بل تقول: إذا طلعت الشمس؛ لأن طلوع الشمس محقَّق الوقوع، بخلاف قولك: إن جاء زيدٌ أكرمته؛ لأن مجيئه غير محقق. قال الزمخشري: "ولا يستعمل "إنْ" إلا في المعاني المحتملة المشكوك في كونها؛ ولذلك قبُح: إنِ احمَرَّ البُسر كان كذا، وإن طلعت الشمس آتِك، إلا في اليوم المغيم"[10]. ونرى في الآية الجليلة استعمالًا دقيقًا لـ (إذا) الدالة على التحقيق، وهذا يعني أن الجمع بين البشر وبين تلكم المخلوقات الأخرى الموجودة في السموات - محقَّقُ الوقوع، وإن كان مجهولَ الوقت والكيفية لدينا الآن. قال القاسمي: "ويُستدلُّ على إمكانيته - أي إمكانية التخابر مع الكائنات الفضائية - مِن آخر الآية نفسها، وهو قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، فلا يبعُدُ أن يتخابرا ويجتمعَا فكرًا، إذا لم يجتمعَا جسمًا،فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن،وليعلَم المعجبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحًا عن العلوم الإسلامية: ما في كتاب الله مِن الحكمة والبيان". وقال: "والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيحٌ؛لأن الله - تعالى - يقول في كتابه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، ويقول: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]"[11]. الأمر الرابع: اجتماع الإنسان بتلكم المخلوقات الفضائية إما أن يكون بذَهاب الإنسان إليهم، أو بمجيئها هي إلى الإنسان، وكِلا الأمرين واردٌ ممكنٌ، وليس مستحيلًا. الأمر الخامس: لا داعيَ للخوف من الاتصال بتلكم الكائنات الفضائية إن أعمل الإنسان عقله ولم يهمله، واستطاع أن يستفيد من السنن التي أودعها الله - عز وجل - في هذا الكون؛ لأن الكون بأَسْره مخلوق للإنسان، ومسخَّرٌ له، فإن استطاع أن يستفيد منهم استفاد، وإن استطاع أن يسخرهم لصالحه، لسُخِّروا له، وإن أهمل الإنسان عقله، ولم يستفد من سنن الله - تعالى - في كونه، لغلب غيره عليه كما يغلِب عليه الفيروس الصغير. والقرآن الكريم قد نص في أكثر من موضع على أن الكون بأسره مسخرٌ للإنسان الذي أكرمه الله تعالى وجعَله سيد مخلوقاته. ثم إنه "كما تثمر الشجرة، فكذلك الإنسان لا بد أن يكون مثمرًا، ومن هنا كان الإنسان هو حقًّا أكرم ثمرةٍ لشجرة الكون"[12]. وإليك - أيها القارئ اللبيب - جملةً من الآيات التي تؤكد على تسخير الكون للإنسان: قال تعالى في الآيات الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين والرابعة والثلاثين من سورة إبراهيم: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 32 - 34]. وقال في الآيتين الثانية عشرة والثالثة عشرة من سورة الجاثية: ﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 12، 13]. وعندما يقرأ اللبيبُ هاتِه الآياتِ الكريمات يستشعر مدى إكرام الله لهذا الإنسان، ومدى تسخير هذا الكون العظيم بجميع ذراته لهذا الكائن الضعيف. فما أعظم إنسانًا كانت الشموسُ والأقمار والنجوم والكواكب والجبال الرواسي والرياح والبحار والفُلْك الجارية وبقية العناصر والمخلوقات مجردَ خدَمٍ مسخَّرين له! وما أجهلَ هذا الإنسانَ الذي جعَل مِن خدَمِه أسيادًا له! يقول الأستاذ سعيد النورسي - رحمه الله تعالى -: "وهذه الآيات تبيِّن كيف أن الله تعالى قد خلق هذا الكون للإنسان في حكم قصر، وأرسل ماء الحياة من السماء إلى الأرض، فجعل السماء والأرض مسخَّرتين كأنهما خادمانِ عاملان على إيصال الرزق إلى الناس كافة، كما سخر له السفينةَ ليمنح الفرصة لكل أحد، ليستفيد من ثمار الأرض كافة، ليضمن له العيش، فيتبادل الأفراد فيما بينهم ثمار سعيهم وأعمالهم؛أي: جعل لكلٍّ من البحر والشجر والريح أوضاعًا خاصة، بحيث تكون الريح كالسوط، والسفينة كالفَرَس، والبحر كالصحراء الواسعة تحتها،كما أنه سبحانه جعل الإنسان يرتبط مع كل ما في أنحاء المعمورة بالسفينة وبوسائطِ نقلٍ فطريةٍ في الأنهار والروافد، وسيَّر له الشمس والقمر وجعلهما ملاحين مأمورين لإدارة دولاب الكائنات الكبير، وإحضار الفصول المختلفة، وإعداد ما فيها من نعم إلهية، كما سخَّر الليل والنهار، جاعلًا الليلَ لباسًا وغطاءً؛ ليخلُدَ الإنسان إلى الراحة، والنهارَ معاشًا؛ ليتَّجِرَ فيه"[13]. وقد يقول قائل: لا يمكن للإنسان أن يخرج من كوكبنا؛ لأن حياة الإنسان مرتبطة بالأرض، فلا يحيا خارجها؛ كما قال تعالى في الآية الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين من سورة الأعراف: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 24، 25]، وقوله تعالى في الآية الخامسة والخمسين من سورة طه: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55]. والجواب عن هذا الاستدلال - إن شاء الله تعالى - نُرجئه ونؤجله إلى الحلقة الخامسة من سلسلة: نصوص وفهوم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين. وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري (المتوفى: 310هـ)، المحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م: 23/ 469 - 470، وتفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، المحقق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت، الطبعة: الأولى - 1419 هـ: 8/ 178 - 179. [2] جامع البيان: 23/ 470، وتفسير ابن كثير: 8/ 178 - 179. [3] الأسماء والصفات، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: عبدالله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1413 هـ - 1993 م: 2/ 267 - 268. [4] الجامع لأحكام القرآن، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م: 18/ 174 - 175. [5] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407 هـ: 4/ 225. [6] مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين، الملقب بفخر الدين الرازي (المتوفى: 606هـ)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1420 هـ: 7/ 599. [7] محاسن التأويل، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ)، المحقق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى - 1418 هـ: 8/ 369. [8] تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: 1354هـ)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة النشر: 1990م: 7/ 327. [9] التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم يونس الخطيب (المتوفى: بعد 1390هـ)، دار الفكر العربي - القاهرة: 13/ 57. [10] المفصل في صنعة الإعراب، أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)، المحقق: د. علي بو ملحم، مكتبة الهلال - بيروت - الطبعة: الأولى، 1993م: ص440. [11] محاسن التأويل: 8/ 370. [12] الكلمات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر، الطبعة الخامسة، 2008م، الكلمة الثلاثون - ص: 628. [13] الكلمات - الكلمة الخامسة والعشرون - ص: 482 - 493.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() نصوص وفهوم (5) {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} د. عثمان محمد غريب سلسلة نصوص وفهوم الحلقة الخامسة ﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ وقضية حياة الإنسان وموته خارجَ الأرض الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هَدْيِه، أما بعد: فقد سبق أن تكلمنا في الحلقة الرابعة من (سلسلة نصوص وفهوم) عن وجود الحياة لمخلوقات أخرى خارج كوكبنا، أما بالنسبة للإنسان فقد يقول قائل: لا يمكن للإنسان أن يخرج من كوكبنا؛ لأن حياة الإنسان وموته مرتبطانِ بالأرض؛ فلا يحيا ولا يموت إلا فيها؛ استدلالًا بقوله تعالى في الآية الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين من سورة الأعراف: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 24، 25]. وقد استعجَل البعض في تفسير الآية، وذهبوا إلى عدم إمكانية حياة الإنسان وموته خارج أرضنا هذه، وقالوا بأن الخطاب في الآية موجَّهٌ لبني البشرية جمعاء، وأن هذه الآية تؤكد ثلاثَ حقائق: الحقيقة الأولى: حياة الإنسان لا تكون إلا على الأرض، وقوله تعالى ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾ [الأعراف: 25]؛ أي: تحيَوْن في الأرض دون سواها مِن الأجرام السماوية، ولأن الله - تعالى - خصَّ الأرض بالذِّكر؛ لأنها هي المشتملة على أهم عناصر الحياة من أوكسجين وهيدروجين وماء. الحقيقة الثانية: الإنسان لا بد أن يموت على الأرض؛ ﴿ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ﴾ [الأعراف: 25]. الحقيقة الثالثة: سوف يُحْيي الله الموتى ويَبعثهم من الأرض، وليس من خارج الأرض؛ ﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25]. واتخذ الملحِدون والمعادون للقرآن الكريم هذا الرأي تكأة للطعن في القرآن، والقول بمخالفته للعلم والواقع، وقالوا: قد ثبَت صعود الإنسان إلى القمر، وثمة محاولات للوصول إلى المريخ، والبحث متواصل عن مكان مناسب لحياة الإنسان خارج الأرض. وقد أطلقت شركة هولندية مشروعًا باسم: مشروع "مارس ون"، الهادف للقيام بالسفر إلى المريخ بعيدًا عن الأرض، ما معدله 228 مليون كيلومتر تقريبًا في رحلة ستستغرق 7 أشهر، وقد تطوع أكثر من 100 ألف شخص من جميع القارات للقيام برحلة إلى المريخ بلا عودة، وستختار الشركة منهم أربعين متطوعًا، وبعدها ستختار منهم رجلين وامرأتين للقيام بالرحلة التي سيقيمون - بعد إتمامها - في بيئة مليئة بالأخطار على سطح المريخ، وداخل مسكن خاص يعمل بطاقة ستوفرها بطاريات شمسية. ويؤسِفني أن أجد بعض المنتسبين للعلم يقولون: إن هذه المسائل والموضوعات من فضول العلم، ويجب الإعراض عنها، أقول ذلك لأننا أمام نص قرآني حكيم، يجب التريُّث والتوقُّف عنده طويلًا؛ حتى لا نَزيغَ ولا نُزاغَ ولا نُزيغَ. وقد حاوَل بعض المشتغلين في قضية الإعجاز العلمي ردَّ هذه الشبهة المثارة بالقول: إن الإنسان عندما يموت يفنى جسده، إلا (عَجْب الذَّنَب)، فإن ماتَ شخصٌ خارجَ الأرض وتحلَّلَ جسدُه، فسيبقى من جسده عضوٌ واحدٌ فقط، وهو (عَجْب الذَّنَب)، وهذا العضو يبقى يدور حولَ الأرض، ولا بد أن يدخل الغلافَ الجوي ويعود إلى الأرض، وسوف يبعث اللهُ الإنسانَ من هذه البقايا من جديد، وهذا يعني أن نهاية أي جسد ستكون في الأرض، حتى لو قضى أجله خارجَ الغلافِ الجوي للأرض. ثم إن علماء الفلَك يرجِّحون مسألةَ انكماشِ الكون، وما يُسَمَّى بنظرية (Big Crunch)، وسيصبح الكون الفضائي وكواكبُه كتلةً واحدةً، وستكون هذه مِن باب الإعادة في الأرض؛ كما قال تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55]. وهذا الجواب في الحقيقة لا علاقة له بحصر الحياة والموت في الأرض - كما يُفهم من ظاهر النص - بل هو جوابٌ لفقرةٍ واحدةٍ من الآية، وهي المتعلقة بإحياء الإنسان بعد موته، وإخراجه من الأرض، لا من أي مكان آخر؛ كما دلَّ عليه - كما يقولون - قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25]، أما رفع الإشكال عن نفي حياة الإنسان وموته في قوله تعالى: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ﴾ [الأعراف: 25] فليس في الجواب أيُّ جوابٍ عنها. القول الراجح: الذي نفهَمه من سياق الآية وسباقها مع مراعاة القواعد اللغوية والبلاغية - بغض النظر عن قضية تحقُّقِ صعود الإنسان إلى القمر من عدمه، أو خروجه من الغلاف الجوي للأرض -: ما يأتي: أولًا: لا يوجد دليلٌ في القرآن الكريم على امتناع حياة الإنسان وموته خارجَ الغلاف الجوي. ثانيًا: قد سبق في الحلقة الرابعة من هاته السلسلة القرآنية أن ذكرنا تأكيد القرآن على وجود مخلوقات أخرى خارج كوكبنا، وذكرنا أيضًا أن القرآن الكريم في قوله تعالى في الآية التاسعة والعشرين من سورة الشورى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29] قد أكَّد على قضية اجتماع الإنسان بتلكم المخلوقات، وهذا قد يكون بنزول هؤلاء إلينا، أو صعودنا نحن إليهم؛ حيث قال - تعالى - بعد أن صرَّح بوجود دوابَّ في السموات والأرض: ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، والتعبير القرآني دقيقٌ في استعمال (إذا) دون (إنْ)، وثمةَ فرقٌ دقيقٌ بين (إنْ) و(إذا) - كما لا يخفى على الضليع باللغة العربية؛ إذ الأول - أي (إنْ) - للاحتمال؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ﴾ [الحجرات: 6]؛ لأن مجيء الفاسقِ محتملٌ وليس محقَّقًا، والثاني - أي (إذا) - للتحقيق؛ كما في الآية الخامسة مِن سورة الفلق: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]؛ لأن الحاسدَ لا يكون حاسدًا إلا إذا تحقَّق منه الحسد، ومن هنا قال علماء النحو: لا يحسُن أن تقول: إن طلعت الشمس، بل تقول: إذا طلعت الشمس؛ لأن طلوع الشمس محقَّقُ الوقوع، بخلاف قولك: إن جاء زيدٌ أكرمتُه؛ لأن مجيئَه غيرُ محقَّق. قال الزمخشري: "ولا يستعمل إنْ إلا في المعاني المحتملة المشكوك في كونها؛ ولذلك قبُح: إنِ احمَرَّ البُسْرُ كان كذا، وإنْ طلعت الشمس آتِك، إلا في اليوم المغيم"[1]. ونرى في الآية الجليلة استعمالًا دقيقًا لـــ (إذا) الدالة على التحقيق، وهذا يعني أن الجمعَ بين البشر وبين تلكم المخلوقات الأخرى الموجودة في السموات محقَّقُ الوقوع، وإن كان مجهولَ الوقت والكيفية لدينا الآن. قال القاسمي: "ويُستدَل على إمكانيته - أي إمكانية التخابر مع الكائنات الفضائية - مِن آخر الآية نفسها، وهو قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، فلا يبعُدُ أن يتخابرا ويجتمعا فِكْرًا، إذا لم يجتمعا جِسْمًا، فلينظرِ الفلَكيُّون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن، وليعلم المعجَبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحًا عن العلوم الإسلامية - ما في كتاب الله مِن الحكمة والبيان"[2]. وبهذا يظهر أن اجتماع الإنسان بتلكم المخلوقات الفضائية إما أن يكون بذَهاب الإنسان إليها، أو بمجيئها هي إلى الإنسان، وكلا الأمرين واردٌ ممكنٌ، وليس مستحيلًا. ثالثًا: إن الآية التي استدلَّ البعضُ بها على عدم إمكانية حياة الإنسان وموته خارج الغلاف الجوي ليس لها أية علاقة ببني آدم على الإطلاق، بل هي خاصة بآدم وحواء وإبليس، أو بهما فقط. فلو رجعنا إلى بداية السورة من الآية الحادية عشرة، لوجدناها تتكلم عن قضية خَلْق آدم وحواء، وأمرِ الملائكة بالسجود لآدم، وامتناعِ إبليس عن ذلك، ووسوستِهِ لهما بالأكل من الشجرة، وطاعتهما له، إلى أن يقول المولى - عز وجل -: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 22، 23]. والكلام في جميع هاته الآيات الجليلة هو عن آدمَ وحواء وإبليس. ثم بعد ذلك يقول المولى - تعالى -: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 24، 25]. وبهذا نعلَم أن هاتِه الآيات الجليلة كانت تخاطب أبوَيْنا آدم وحواء مع عدونا إبليس، وليس فيها ما يتعلق بذرية آدم، ثم بعد ذلك كله يتحول الكلام فيها إلى مخاطبة بني آدم، بقوله - تعالى -: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 26، 27]. وقد تنبَّه الطبري - رحمه الله - لهذا، وذكر أن قوله تعالى: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25] كان خطابًا موجهًا لِمَن أُمِرَ بالهبوط من السموات إلى الأرض، ومعلوم أن المأمورَ بالهبوط هو هؤلاء الثلاثة - آدم وحواء وإبليس - وليس ذرية آدم. قال في تفسيره: "قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾ [الأعراف: 25]، يقول: في الأرض تحيَوْن، يقول: تكونون فيها أيام حياتكم، ﴿ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ﴾ [الأعراف: 25]، يقول: في الأرض تكون وفاتُكم، ﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25]، يقول: ومِن الأرض يُخرجكم ربُّكم، ويحشركم إليه لبَعْثِ القيامة أحياءً"[3]. وقال الزمخشري: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ [الأعراف: 24] الخطاب لآدم وحواء وإبليس، و﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [الأعراف: 24] في موضع الحال؛ أي: متعادِين، يُعاديهما إبليسُ ويُعادِيانِه، ﴿ مُسْتَقَرٌّ ﴾ [الأعراف: 24] استقرار، أو موضع استقرار، ﴿ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [الأعراف: 24]، وانتفاع بعيشٍ إلى انقضاء آجالِكم[4]. وقال الرازي: "اعلَمْ أن هذا الذي تقدم ذِكره هو آدم، وحواء، وإبليس، وإذا كان كذلك فقوله: ﴿ اهْبِطُوا ﴾ [الأعراف: 24] يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة"[5]. وردَّ الإمام ابن عطية على مَن قال بشمول الآية لذرية كلٍّ مِن آدم وإبليس، ويقول: "وهذا ضعيف؛ لعدمِهم في ذلك الوقت، فإن قيل: خاطَبهم وأمرهم بشرط الوجود، فذلك يبعُدُ في هذه النازلة؛ لأن الأمر بشرط الوجود إنما يصح إذا ترتب على المأمور بعد وجوده، وصحَّ معناه عليه؛ كالصلاة والصوم ونحو ذلك، وأما هنا فإن معنى الهبوط لا يتصور في بني آدم بعد وجودهم، ولا يتعلق بهم من الأمر به شيء، وأما قوله في آية أخرى: ﴿ اهْبِطَا ﴾ [طه: 123] فهي مخاطبة لآدم وإبليس، بدليل بيانه العداوةَ بينهما"[6]. وبعد هذه الآيات مباشرةً جاء الخطاب صريحًا لبني آدم: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 26، 27]. فيكون قوله تعالى: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25] على هذا التقريرِ خطابًا لآدمَ وحواءَ دون ذريتهم. رابعًا: الذي سبَّب هذا الإشكالَ هو ما وجدوه مِن تقديم المعمول على عامله ثلاث مرات: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25]، ولم يقل: "تحيون فيها، وتموتون فيها، وتخرجون منها"، وقالوا بأن مِثلَ هذا التقديم يفيد الحصر، وهذا يدلُّ على امتناع وجود الحياة والموت للإنسان خارجَ الأرض. وهذا الكلام ليس صحيحًا؛ لأن التقديم قد يفيد الحصر، وقد لا يفيده، وإفادتُه للحصر ليست على الدوام وفي جميع الحالات، بل كثيرًا ما يكونُ التقديم لأغراض أخرى غير الحصر، مثل: العناية، والاهتمام، والتشويق، وغيرها، وإليك جملةً مِن النصوص القرآنية التي لم يكن التقديمُ فيها للحصر: النص الأول: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأنعام: 84]؛ فتقديم ﴿ نُوحًا ﴾ على ﴿ هَدَيْنَا ﴾ ليس للحصر، ولا يدل على أن الأنبياءَ قبل سيدنا نوح - عليه السلام - مثل سيدنا آدم وسيدنا إدريس - عليهم السلام - لم يكونوا مَهْديِّين! النص الثاني: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [النحل: 5، 6]. النص الثالث: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 32، 33]. النص الرابع: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ [الحج: 36]، والمنافعُ - كما هو معلومٌ - ليسَتْ محصورةً في البُدْنِ التي جعلها اللهُ مِن شعائره - تعالى. ولا أتصوَّر عاقلًا يقول بحصر الدفء والمنافع والأكل والجَمال في الأنعام، مع أن كل ذلك ورَد بصيغةِ تقديمِ ما حقُّه التأخير؛ أليست الطاقة سببًا للدفء؟! وألسنا نأكل من غير الأنعام كالطيور والنباتات؟! أوَليس في الكون كلِّه جمالٌ خلَّابٌ؟! النص الخامس: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ [الضحى: 9، 10]، وهل يجوز لنا أن نقهَرَ غيرَ اليتيم، وننهَرَ غيرَ السائل؟! خامسًا: لو فرَضْنا - جدلًا - عدم وجود الحياة خارج الأرض، فلا بد أن يكون الموت موجودًا، فكيف يقال بأن الإنسان لا يحيا ولا يموت إلا في الأرض؟! فبما أنه يخرج من الغلاف الجوي، فإما أن يحيا أو يموت، وفي كلتا الحالتين لا يكون تعميمُ الآية حتى تشمل ذرية آدم صحيحًا، فلم يبقَ إلا القول بتخصيص الخطاب في الآية بآدمَ وحواء، أو بهما ومعهما الشيطان. وقد يقال: إن قوله تعالى: ﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25] خرج مخرَجَ الغالب الكثير، وهو أن الله تعالى جعَل هذه الأرض مستقرًّا للإنسان، وفيها يموت ومنها يبعث، وإذا اتفق أنْ ماتَ أحد خارجها، فلا اعتبارَ للقليل النادر الذي هو شِبهُ لاشيءَ. هذا ما أفهَمه مِن الآيتين الجليلتين، وأسأل الله أن يرزقَنا صواب الفهم، وصواب القولِ والعمل؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم [1] المفصل في صنعة الإعراب، أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد، الزمخشري، جار الله، (المتوفى: 538 هـ)، المحقق: د. علي بو ملحم، مكتبة الهلال - بيروت - الطبعة: الأولى، 1993م، ص440. [2] محاسن التأويل: 8/ 370. [3] جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)، المحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، 12/ 360. [4] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم، محمود بن عمر بن أحمد، الزمخشري، جار الله (المتوفى: 538هـ)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة - 1407 هـ، 2/ 97. [5] مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسن، الملقَّب بفخر الدين الرازي (المتوفى: 606هـ)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1420 هـ، 14/ 221. [6] المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبدالحق بن غالب بن عبدالرحمن بن عطية الأندلسي (المتوفى: 542هـ)، المحقق: عبدالسلام عبدالشافي محمد، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى - 1422 هـ، 2/ 387.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |