|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() صور إضاعة المال الشيخ نشأت كمال بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرَفِ المرسلين، محمدٍ وعلى آله وصَحبِه أجمعين. وبعدُ: فيمكن إيجازُ عَناصِر هذا البحث في ثلاثة مَطالِب: المطلب الأول: الأدلة من الكتاب والسنة في النهي عن إضاعة المال (الإسراف والتبذير)، وفيه: هل في الصدقة إضاعة مال؟ ما معنى إضاعة المال؟ حرص الفُقَهاء في أحكامهم على صيانة المال. المطلب الثاني: الإسراف والتبذير لغة واصطلاحًا والفرق بينهما، ومظاهر الإسراف والتبذير وأنواعهما، وأسباب الإسراف والتبذير، وكيفية الوقاية منهما. المطلب الثالث: صور مختلفة لإضاعة المال. أولاً: الأدلة من الكتاب في النهي عن إضاعة المال الإسراف والتبذير: ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المال عصبُ الحياة؛ إذ به مَعاش الناس، وبه قِوام الأبدان والعُمران؛ لذا جاء الإسلام بتنظيمٍ دقيق ومُحكَم ووافٍ للمال؛ سواء فيما يتعلق بكسبه وجمعِه، أو باستهلاكه وإنفاقه، وقد جعَلَه الله - عزَّ وجلَّ - كذلك زينةَ الحياةِ وقرَنَه بالبنين؛ فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46]، ومن الطَّبَعِيِّ أنَّ الناس سيحرصون على جمعِه وكسْبه بجبلَّتهم المفطورين عليها؛ ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: 20]، وبالرغم من كونهم قد يَتْعَبون في تحصيلِه وكَسْبِه إلا أنهم قد يُضيِّعونه إسرافًا وتبذيرًا؛ فلذلك نهى الله - عزَّ وجلَّ - عن إضاعَتِه في كتابه الكريم فقال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]؛ حتى لا يُضيِّعوها ولا يُحسِنوا التصرُّف فيها، وقال: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]، وقال: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 26، 27]. وأمَر بالاعتدال في النَّفقة حِفاظًا على المال من الضَّياع؛ فقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]، وقال ممتدحًا أهل الوسطيَّة في النَّفقة، الذين لا يبخَلُون ولا يُسرِفون: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]. ونظَرًا لأهميَّة المال في حَياة الناس فقد حرَّم الله الاعتِداءَ على الأموال بأيِّ صورةٍ من الصُّوَرِ؛ فقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، كما حرَّم السَّرِقَةَ ووضَع حدًّا للسارق يُقام عليه بعدَ ثُبوت ارتِكابه السرقةَ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38]. ثانيًا: الأدلَّة من السُّنَّة في النَّهي عن إضاعة المال بالإسراف والتبذير: لم تخلُ سُنَّةُ النبيِّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - من توجيه المسلمين في هذا الباب للتي هي أنفع وأحسن لهم في مَعاشِهم ومَعادهم: ففي "صحيح البخاري" - رحمه الله - بابٌ مخصوصٌ فيما نحنُ بصدَدِه، قال - رحمه الله -: باب ما يُنهى عن إضاعة المال وقول الله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]، و﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 81]، وقوله: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ [هود: 87]، وقال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: 5]، والحَجْرِ في ذلك، وما يُنهَى عن الخِداع، ثم روَى بإسناده عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: قال رجلٌ للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنِّي أُخدَعُ في البُيوع، فقال: ((إذا بايَعتَ فقُل: لا خِلابةَ))، فكان الرجل يقولُه. وروى أيضًا عن المغيرة بن شُعبة، قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله حرَّم عليكم: عُقوقَ الأمَّهات، ووَأْدَ البنات، ومنْع وهات، وكَرِهَ لكم قِيل وقال، وكثْرة السُّؤال، وإضاعة المال)). وعن أبي بَرْزَةَ الأسْلمي - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عُمره فيم أفْناه، وعن عِلمه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسَبَه وفِيمَ أنفَقَه، وعن جِسمه فِيمَ أبلاه))؛ رواه الترمذيُّ في "سننه" (2417) وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضِي الله عنهما - أنَّه قال: إنَّ رجلاً أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنِّي فقيرٌ ليس لي شيءٌ، ولي يتيمٌ، قال: ((كُلْ من مال يَتِيمِك غيرَ مُسرفٍ ولا مُبذِّر ولا مُتأثِّل))؛ رواه أبو داود (2872) وصحَّحه الألباني. وقوله: ((مُتأثِّل))؛ يعني: لا تجمَع المال وتكنزه. ومن صُوَرِ حِرصه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على انتِفاع المسلمين بالمال وعدَم إضاعته أنَّه أقامَ بالجيش يبحَثُون عن عِقد أمِّ المؤمنين عائشة - رضِي الله عنها - كما قال ابن بطَّال في "شرح البخاري": وفيه: النهى عن إضاعة المال؛ لأنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقامَ على تفتيش العِقد بالعسكر ليلةً، وقد ذُكِرَ في غير هذا الحديث أنَّ العِقد كان لأختها، وكان ثمنه اثني عشر درهمًا. ومن صُوَرِ ذلك أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَر المحرم بنزْع ثِيابه ولم يأمُرْه بشقِّها؛ قال ابن بطال: وجميعُ فُقَهاء الأمصار يقولون: مَن نَسِيَ فأحرَم وعليه قميص أنَّه ينزعه ولا يشقُّه، واحتجُّوا بأنَّ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَر الرجل بأنْ ينزع الجبَّة ولم يأمُره بشقِّها، وقد ثبَت عنه - عليه السلام - أنَّه نهى عن إضاعة المال. ثالثًا: من الآثار وأقوال العُلَماء والمفسِّرين الواردة في ذمِّ الإسراف والتبذير: قال عمر بن الخطاب لجابر بن عبدالله - رضِي الله عنهم - لَمَّا مَرَّ عليه ومعه حامل لحم: "أمَا يريد أحدُكم أنْ يَطوِي بطنه لجاره وابن عمِّه؟ فأين تذهَبُ عنكم هذه الآية: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ [الأحقاف: 20]؟!". وقال ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - في تفسير قوله - تعالى -: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39]: يعني: في غير إسرافٍ ولا تقتير. وقال عَطاء بن أبي رَباح في معنى قوله - تعالى -: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]، نُهُوا عن الإسراف في كلِّ شيءٍ، وقال السُّدِيُّ - رحمه الله تعالى - فيها: ((لا تُعطوا أموالَكم فتَقعُدوا فقراء))، وقال ابن كثير - رحمه الله -: "لا تُسرِفُوا في الأكل؛ لما فيه من مَضَرَّةِ العقل والبدَن"، وقال إياس بن معاوية - رحمه الله -: "ما جاوَزتَ به أمرَ الله فهو سَرَفٌ". قال ابن القيِّم: "إنَّ مُجاوَزة الحدِّ في كلِّ أمرٍ يضرُّ بمصالح الدُّنيا والآخِرة، بل يُفسد البدن أيضًا؛ إذْ إنَّه متى زادت أخلاطه عن حدِّ العدل والوسط ذهَب من صحَّته وقوَّته بحسَب ذلك، وهذا مُطَّرِدٌ أيضًا في الأفعال الطبيعيَّة؛ كالنوم والسهر، والأكْل والشرب والجِماع، والحركة والرياضة، والخلوة والمخالطة، وغير ذلك". وقال أيضًا في قوله - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67]: أي: ليسوا بمبذِّرين في إنْفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بُخَلاء على أهْليهم فيُقصِّرون في حقِّهم فلا يكفونهم، بل عدلاً خيارًا، وخيرُ الأمور أوسَطُها، لا هذا ولا هذا. عن علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - قال: ما أنفَقت على نفسك وأهل بيتِك في غير سَرَفٍ ولا تبذير وما تصدَّقت به فهو لك، وما أنفقتَ رياءً وسُمعةً فذلك حظُّ الشيطان. وعن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قال: في قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 27]، قال: هم الذين يُنفِقون المالَ في غير حقِّه. وعن عَطاءٍ عن ابن عباس - رضِي الله عنه - قال: لا تُنفِق في الباطل؛ فإنَّ المبذر هو المُنفق في غير حقٍّ. وعن أبي العبيدين قال: سألت عبدَالله ابن مسعودٍ - رضِي الله عنه - عن المبذِّرين، فقال: الذين يُنفقون في غير حقٍّ. وقال عبدالله بن مسعود - رضِي الله عنه -: المران: الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت. وعنه - رضِي الله عنه - قال: كُنا أصحابَ محمدٍ نتحدَّث أنَّ التبذير: النَّفقة في غير حقٍّ قال قتادة: التبذيرُ: النفقة في معصية الله - تعالى - وفي غير الحقِّ وفي الفساد. وقال مجاهد: لو أنفَقَ إنسانٌ مالَه كلَّه في الحقِّ لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مُدًّا في غير حقٍّ كان مُبذرًا. وعن السُّدِيِّ قال في قوله - تعالى -: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26]: أي: لا تُعطِ مالَك كلَّه. وعن وهب بن مُنبِّه قال: من السَّرَفِ أنْ يلبس الإنسانُ ويأكلَ ويشربَ ممَّا ليس عندَه، وما جاوَز الكفاف فهو التبذيرُ. وعن شُعبة قال: كنت أمشي مع أبي إسحاقَ في طريق الكوفة، فأتى على دارٍ تُبنى بجصٍّ وآجُرٍّ، فقال: هذا التبذيرُ. وقال ابن زيد - رحمه الله تعالى - في قوله - تعالى -: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ...﴾ [الإسراء: 26] الآية، قال: قولُه ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26]؛ أي: لا تُعطِ في معاصي الله، وأمَّا قوله: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 27]، فإنَّه يعني أنَّ المفرِّقين أموالَهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته أولياء الشياطين. وكذلك تقولُ العرب لكلِّ مُلازم سُنَّةِ قومٍ وتابع أثرهم: هو أخوهم. وقال الطبري في تفسير قوله - تعالى -: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26]: المعنى: أي: لا تُفرِّق يا محمد ما أعطاكَ الله من مالٍ في معصيته تفريقًا. قال القرطبي: مَن أنفق مالَه في الشهوات زائدًا على قدر الحاجات وعرَّضه بذلك للنَّفاد فهو مُبذِّرٌ، ومَن أنفق رِبح ماله في شَهواته وحِفظ الرَّقبة (أي: الأصل) فليس بمبذِّر. وقال في تفسير قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 27] المعنى: أنهم في حُكمهم؛ إذ المبذِّر ساعٍ في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعَلُون ما تُسوِّل لهم أنفُسهم كما تُسوِّل الشياطين فِعل الشر، أو أنهم يُقرَنون بهم غدًا في النار. قال أبو حيَّان في قوله - تعالى -: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26] نهى الله - تعالى - عن التبذير، وكانت الجاهليَّة تنحر إبلَها وتتياسَرُ عليها وتُبذِّر أموالها في الفخر والسُّمعة وتذكُر ذلك في أشعارها، فنهى الله - تعالى - عن النَّفقة في غير وُجوه البرِّ، وما يُقرِّب منه - تعالى. وقال ابن الجوزيِّ: العاقل يُدبِّر بعقله معيشتَه في الدنيا، فإنْ كان فقيرًا اجتهَد في كَسْبٍ وصِناعةٍ تكفُّه عن الذلِّ للخلق، وقلَّل العلائق، واستعمل القناعة، فعاشَ سليمًا من مِنَنِ الناس عزيزًا بينهم، وإن كان غنيًّا فينبغي له أنْ يُدبِّر في نفقته خوف أنْ يفتقرَ فيَحتاج إلى الذُّلِّ للخلق، ومن البليَّة أنْ يُبذِّر في النَّفَقَةِ ويُباهي بها ليكمد الأعداء، كأنَّه يتعرَّض بذلك - إنْ أكثَرَ - لإصابَتِه بالعين، وينبَغِي التوسُّط في الأحوال، وكِتمان ما يصلح كِتمانه، ولقد وجَد بعض الغسَّالين مالاً، فأكثر النَّفَقةَ، فعلم به، فأُخِذَ منه المال، وعاد إلى الفقر، وإنما التدبير حِفظ المال، والتوسُّط في الإنفاق، وكِتمان ما لا يصلح إظهاره. هل في الصدقة إضاعةُ مالٍ؟ قال البخاري في "صحيحه": بابُ لا صدقةَ إلا عن ظهْر غنًى، ومَن تصدَّق وهو محتاجٌ، أو أهله محتاجٌ، أو عليه دَيْنٌ، فالدِّين أحقُّ أنْ يُقضى من الصَّدقة، والعِتق والهبة، وهو رد عليه ليس له أنْ يتلف أموالَ الناس، وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أخَذ أموالَ الناس يريدُ إتْلافها أتْلَفَهُ الله))، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيُؤثر على نفسه ولو كان به خَصاصةٌ؛ كفعل أبي بكر - رضِي الله عنه - حين تصدَّقَ بماله، وكذلك آثَر الأنصارُ المهاجرين ونهى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن إضاعة المال، فليس له أنْ يُضيِّع أموال الناس بعلَّة الصدقة. وقال كعب بن مالك - رضِي الله عنه -: قلت: يا رسول الله، إنَّ من توبتي أنْ أنخلِعَ من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أَمسِكْ عليك بعضَ مالك فهو خيرٌ لك))، قلت: فإنِّي أُمسِك سَهمِي الذي بخيبر. وعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((خيرُ الصدقة ما كان عن ظهْر غِنًى، وابدَأْ بِمَن تَعُول)). وكانت أمُّ المؤمنين عائشة - رضِي الله عنها - لا تُمسِكُ شيئًا ممَّا جاءها من رِزق الله إلا تصدَّقت به، فقال ابن الزبير: ينبغي أنْ يُؤخَذ على يديها، فقالت: "أيُؤخذ على يدي؟! عليَّ نذرٌ إنْ كلَّمته"، وهجرَتْه عائشة لذلك؛ لأنَّ صاحب الصدقة لا ينبغي الحجرُ عليه من أجل صدقته؛ لأنَّه ليس في الصَّدقة - وإنْ نفست - إضاعةُ مال، وقد روى البخاري قصَّة ذلك في "صحيحه" برقم (6073) عن عوف بن مالك بن الطفيل هو ابن الحارث - وهو ابن أخي عائشة زوج النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، لأمِّها - أنَّ عائشة - رضِي الله عنها - حدَّثت: أنَّ عبدالله بن الزُّبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتَنتهيَنَّ عائشة أو لأحجُرَنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عليَّ نذرٌ ألا أُكلِّم ابنَ الزبير أبدًا، فاستَشفَع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أُشفِّعُ فيه أبدًا، ولا أتحنَّث إلى نذري، فلمَّا طال ذلك على ابن الزبير، كلَّم المِسوَرَ بن مَخْرَمةَ، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبديغوث، وهما من بني زُهرة، وقال لهما: أنشدُكما بالله لما أدخَلتُماني على عائشة؛ فإنها لا يحلُّ لها أنْ تنذر قطيعتي، فأقبَل به المِسوَر وعبدالرحمن مُشتَمِلين بأرديتهما، حتى استَأذَنا على عائشة، فقالا: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته أندخُل؟ قالت عائشة: ادخُلوا، قالوا: كلُّنا؟ قالت: نعم، ادخُلوا كلُّكم، ولا تعلم أنَّ معهما ابن الزبير، فلمَّا دخَلوا دخَل ابن الزبير الحجابَ، فاعتنق عائشةَ وطَفِقَ يناشدها ويبكي، وطَفِقَ المِسوَرُ وعبدالرحمن يُناشِدانها إلا ما كلَّمته، وقبلت منه، ويقولان: إنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عمَّا قد عَلِمتِ من الهجرة، فإنَّه: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يَهجُرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ))، فلمَّا أكثروا على عائشة من التَّذكرة والتَّحريج، طَفِقت تُذكِّرهما نذرَها وتبكي وتقول: إنِّي نذرت، والنذر شديدٌ، فلم يَزالا بها حتى كلَّمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبةً، وكانت تَذكُر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تبلَّ دُموعها خمارَها. ما معنى إضاعة المال؟ قال النوويُّ: وأمَّا إضاعة المال فهو صرفُه في غير وُجوهه الشرعيَّة، وتعريضه للتلف، وسببُ النهي أنَّه إفسادٌ، والله لا يجبُّ المفسدين، ولأنَّه إذا أضاعَ مالَه تعرَّض لما في أيدي الناس. وسُئل سعيد بن جبير عن إضاعة المال فقال: أنْ ينفق الطيب في الخبيث. وقال أيضًا: من إضاعة المال أنْ يَرزُقَك الله حَلالاً فتنفقه في معصية الله. وقال ابن عليَّة: إضاعةُ المال إنفاقُه في غيرِ حقِّه. وقال البيهقيُّ في كتابه "الآداب" (ص 34): بابٌ في كراهية إضاعة المال؛ وهو الإنفاق في معصية الله أو في معروفٍ: روينا عن عبدِالله بن مسعودٍ - رضِي الله عنه - أنَّه قال: "النَّفقة في غير حقٍّ هو التبذير"، وروينا في معناه عن عبدالله بن عباس - رضِي الله عنهما -: "هو التبذير". حِرص الفُقَهاء في أحكامهم على صيانة المال: وقد حرَص الفُقَهاء في بعض الأبواب الفقهيَّة على صِيانة المال وعدم تعريضه للضَّياع: فمن ذلك ما ذكَروه في باب القسمة وأنَّ الشيء المشترك بين الجماعة إذا احتَمَل القسمة، كان له ذلك ما دام ينتفع بما يخصُّه منه وإنْ قلَّ، فأمَّا ما لا يَنتفِعُ بقسمته أحدٌ من الشُّرَكاء كاللؤلؤة، والشيء الذي إذا فُرِّقَ بين أجزائه بطلت منفَعتُه، فلا تجبُ المقاسمة فيه؛ لأنه إضاعةٌ للمال، قالوا: بل يبيعونه، ويقتسمون ثمنَه. وأمَّا أمرُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإراقة ما ولَغ فيه الكلب وكذا بإراقة القُدور يوم خيبر وكانت تغطُّ بلحم الحمر، فإنما ذلك بسبب نَجاسة ما ولَغ فيه الكلب ونجاسة لحم الحمر، وكذلك كان قد أمَر بكسْر القدور التي طُبِخت فيها لحومُ الحمر؛ فطلب بعضُ الصحابة تخفيفَ ذلك والاكتفاء بغسلها، فأجابهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لذلك، وكذلك أمره بإراقة الخمر ليس تضييعًا للمال؛ لأنَّ الخمر غير محترمةٍ شرعًا وفي نجاستها خلافٌ كبيرٌ. وكذلك باب الحجر إنما هو لصِيانة المال من الضَّياع؛ لأنَّ المحجور عليه قد يعرض ماله للضَّياع؛ لعدَم أهليَّته لإنْفاقه. وكذلك باب الضَّمان في المتلفات هو من هذا الصَّدد؛ فإنَّ مَن أتلف شيئًا وجَب عليه ضَمانه؛ حِفظًا لحقوق الناس من الضَّياع. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |