|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() اغتنام العشر الأواخر من رمضان في زمن إغلاق المساجد بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله r، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ثم أمَّا بعد؛ إنَّ من نعم الله تعالى على عباده، أن يوالي مواسم الخيرات عليهم؛ ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، ويُضاعِف لهم الحسنات ويُكفِّر عنهم السيئات ويَرفع لهم الدرجات، ومن هذه المواسم: (العشر الأواخر من رمضان)، فلقد أكرمنا الله بهذه الليالي المباركات؛ فهي خير ليالي العام، وشرع لنا فيها عباداتٍ جليلة ترفع قدرنا ودرجاتنا، وتغفر ذنوبنا وخطايانا، ورزقنا فيها بليلةٍ مباركةٍ هي خير من ألف شهر، من قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. ومن أبرز العبادات التي اختص الله فيها العشر الأواخر من رمضان (عبادة الاعتكاف). والاعتكاف شرعاً هو المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله تعالى، ومن شروطه أن يكون في مسجد، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه اعتكف في غير مسجد، قال تعالى: "وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" (البقرة:187)، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ –يعني أُمَشِّط شَعْرَه- وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا" (رواه البخاري ومسلم). ولقد ابتلانا الله عز وجل بانتشار وباء فيروس كورونا المستجد؛ مما أدى إلى إغلاق المساجد، وبالتالي لم يعد بالإمكان أداء عبادة الاعتكاف كما يفعلها المسلمون كل عام. ومن هنا جاء هذا المقال ليوضح للمسلمين كيفية اغتنام العشر الأواخر من رمضان في البيوت في زمن إغلاق المساجد، وذلك من خلال بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام العشر الأواخر من رمضان، ومن ثم اقتراح بعض أوجه العبادات؛ ليحافظ المسلمون عليها في هذه الليالي المباركات، وبيان ذلك على النحو الآتي: أولاً: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان:
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ» " (رواه البخاري ومسلم). قال الإمام النووي رحمه الله: "اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى (شَدَّ الْمِئْزَرَ)، فَقِيلَ: هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَاتِ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهِ r فِي غَيْرِهِ، وَمَعْنَاهُ: التَّشْمِيرُ فِي الْعِبَادَاتِ، يُقَالُ: شَدَدْتُ لِهَذَا الْأَمْرِ مِئْزَرِي، أَيْ: تَشَمَّرْتُ لَهُ وَتَفَرَّغْتُ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَاتِ. وَقَوْلُهَا: (أَحْيَا اللَّيْلَ) أَيِ: اسْتَغْرَقَهُ بِالسَّهَرِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ... فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُزَادَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَاسْتِحْبَابُ إِحْيَاءِ لَيَالِيهِ بِالْعِبَادَاتِ" (شرح النووي على مسلم: 8/250). وقد رجح الحافظ ابن حجر رحمه الله أنَّ معنى (شَدَّ مِئْزَرَهُ): اعتزل النساء، فقال: "قَوْلُهُ: (شَدَّ مِئْزَرَهُ)، أَيِ: اعْتَزَلَ النِّسَاءَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِر: قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ عَنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ نَحْوَهُ ... قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ الْمَذْكُورَةِ: "شَدَّ مِئْزَرَهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ" فَعَطَفَهُ بِالْوَاوِ فَيَتَقَوَّى الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ" (فتح الباري: 4/316). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "والصحيح أنَّ المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، منهم: سفيان الثوري" (لطائف المعارف: ص342). وإحياء الليل يكون باستغراقه في أداء الطاعات، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وقَوْلُهُ: (وَأَحْيَا لَيْلَهُ) أَيْ: سَهِرَهُ فَأَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ وَأَحْيَا نَفْسَهُ بِسَهَرِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَضَافَهُ إِلَى اللَّيْلِ اتِّسَاعًا؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ إِذَا حَيِيَ بِالْيَقِظَةِ أَحْيَا لَيْلَهُ بِحَيَاتِهِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا أَيْ: لَا تَنَامُوا فَتَكُونُوا كَالْأَمْوَاتِ فَتَكُونَ بُيُوتُكُمْ كَالْقُبُورِ" (فتح الباري: 4/316). واختلف العلماء في المقصود بإحياء الليل، هل المقصود كامل الليل أو معظمه وأكثره؟ قال الإمام العيني رحمه الله في شرح البخاري: "وَالظَّاهِر -وَالله أعلم- مُعظم اللَّيْل، بِدَلِيل قَوْلهَا –يعني أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (مَا عَلمته قَامَ لَيْلَة حَتَّى الصَّباح)" (عمدة القاري: 8/264). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله. وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ: "وأحيا الليل كله". وفي المسند من وجه آخر عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر -يعني الأخير- شمر وشد المئزر. وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعاً وعشرين لم يذق غمضاً" (لطائف المعارف: ص339). ومما يُبيِّن فضيلة قيام العشر الأواخر من رمضان، حديث أَبي هُرَيرَة t، أنَّ النَّبِيِّ r قال: "مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِه" (رواه البخاري ومسلم). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: "قَوْلُهُ: (إِيمَانًا) أَيْ: تَصْدِيقًا بِوَعْدِ اللَّهِ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ (وَاحْتِسَابًا) أَيْ: طَلَبًا لِلْأَجْرِ لَا لِقَصْدٍ آخَرَ مِنْ رِيَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ" (فتح الباري: 4/296). وقد بيَّن الحافظ ابن رجب رحمه الله أنَّ الاجتهاد في العشر الأواخر يكون في ليلها ونهارها، فقال: "وقد قال الشعبيُّ في ليلة القدر: ليلها كنهارها. وقال الشافعيُّ في القديم: أستَحِبُّ أن يكونَ اجتهادُه في نهارها كاجتهادِه في ليلِها. وهذا يقتضي استحباب الاجتهادِ في جميع زمان العشر الأواخر، ليلِه ونهارِه، والله أعلم" (لطائف المعارف: ص368).
وعن عليُّ بنُ أبِي طالب رضي الله عنه قال: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوقِظ أهلَه في العشْر الأواخر من رمضان" (رواه الترمذي وصححه الألباني). وفي رواية الطبراني في المعجم الأوسط: "كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوقِظُ أهلَه في العَشْرِ الأواخِرِ مِن شهرِ رمَضان، وكلَّ صغيرٍ وكبيرٍ يُطيقُ الصَّلاةَ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: "لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا يُطِيقُ الْقِيَامَ إِلَّا أَقَامَهُ". ومن أدلة إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم لأهله لقيام الليل: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يطرق باب علي بن أبي طالب وابنته فاطمة ليلاً فيقول لهما: "ألا تقومان فتصليان"، فعن عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِب رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام لَيْلَةً، فَقَال: "أَلَا تُصَلِّيَانِ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَ، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا " (رواه البخاري ومسلم). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: (أَلَا تُصَلِّيَانِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَإِيقَاظُ النَّائِمِينَ مِنَ الْأَهْلِ وَالْقَرَابَةِ لِذَلِكَ" (فتح الباري: 3/14). وقال سفيان الثوري رحمه الله: "أَحَبُّ إليّ إذا دخلَ العشرُ الأواخرُ أن يَتهجَّدَ بالليل، ويجتهدَ فيه، ويُنهِضَ أهلَه وولدَه إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك" (ابن رجب، لطائف المعارف: ص342). ويتأكد إيقاظ الأهل في ليالي الوتر من العشر الأواخر التي تُرجَى فيها ليلة القدر، والدليل: ما رواه أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُمْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِهِمْ، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ بِهِمْ فِي لَيْلَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، حَتَّى كَانَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَجَمَعَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، قَالَ: فَقَامَ بِهِمْ حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ -يَعْنِي السُّحُورَ-" (رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الألباني). ومن الأدلة العامة التي تُبَيِّن فضائل إيقاظ الأهل لقيام الليل، حديث أبي هرَيْرَةَ tقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاء" (رواه أبو داود، وقال عنه الألباني: حسن صحيح). وحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ" (رواه أبو داود وصححه الألباني). وقال تعالى: "وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب:35).
ومن خصائص ليلة القدر أن الله جل جلاله أنزل فيها القرآن الكريم، قال تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"] القدر:1 [، وقال أيضاً: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ" ] الدخان:3[. وفي هذه الليلة تُقدَّر مقادير الخلائق على مدار العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والسعداء والأشقياء، والآجال والأرزاق، وكل ما رأده الله جل جلاله في السنة المقبلة (تفسير ابن كثير: 7/246)، فقال تعالى: "فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ"] الدخان:4[. ومن خصائص ليلة القدر أنَّ جبريل عليه وسلام والملائكة يتنزلون فيها بالخير والبركة، قال تعالى: "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ"] القدر:4[. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يَكْثُرُ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُحِيطُونَ بِحِلَقِ الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِصِدْقٍ تَعْظِيمًا لَهُ. وَأَمَّا الرُّوحُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقِيلَ : هُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (تفسير ابن كثير: 8/444). وقد بيَّن الله Y فضيلة ليلة القدر، فقال سبحانه: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" (القدر:3). وقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية أنَّ العبادة في ليلة القدر أفضل عند الله جل جلاله من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ففي تلك الليلةِ يُقسَمُ الخيرُ الكثيرُ الذي لا يُوجَدُ مِثلُه في ألفِ شَهرٍ، وألفُ شَهرٍ تَعدِلُ: ثلاثًا وثمانينَ سَنَةً وأربعةَ أشهُرٍ (تفسير القرطبي: 20/116 ؛ وتفسير ابن كثير: 8/443). وقد بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المحروم من حُرِم أجرَ ليلة القدر، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني). وقيام ليلة القدر من أسباب مغفرة الذنوب بشرطين: أن يكون إيماناً وتصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، واحتساباً وإخلاصاً لله تعالى لا بقصد الرياء، فعَنْ أَبي هُرَيرَة t، أنَّ النَّبِيِّ r قال: "مَن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِه" (رواه البخاري ومسلم). وإنَّ السنة لمن أدرك ليلة القدر الإكثار من دعاء: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، فعن عائِشةَ رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إنْ عَلِمْتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القَدرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: قُولي: "اللَّهُمَّ إنِكَّ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فاعْفُ عَنِّي" (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني). ثانياً: توصيات لاغتنام العشر الأواخر من رمضان في البيوت:
وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَام، وأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني). وقال الإمام المباركفوري رحمه الله: "قِيعان: بكسر القاف، جمع قاع، وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر" (تُحفة الأَحْوَذِي بشرح جامع الترمذي: 9/431).
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى شَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ، فَضَرَبَهَا بِعَصَاهُ، فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ، فَقَالَ: "إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، تُسَاقِطُ ذُنُوبَ الْعَبْدِ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحسنه الألباني). عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (رواه مسلم).
وأفضل صيغة للاستغفار لمن أراد أن يستغفر ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بـــــ"سيد الاستغفار"، فعن شَدَّاد بْن أَوْسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " (رواه البخاري).
والخلاصة إنَّ المطلوب من المسلمين في العشر الأواخر من رمضان الاجتهاد في بيوتهم، وإحياء الليل بالصلاة وتلاوة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وغيرها من أوجه الطاعات؛ اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعاً في الأجر والثواب، وتحرياً وطلباً لأجر ليلة القدر التي أخفاها الله جل جلاله عنا؛ ليحصل الاجتهاد في التماسها. فليجتهد كل مسلم في إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان، فمن استطاع أن يقوم الليل كله، فهذا أعلى الدرجات، وكلٌ يجتهد قدر استطاعته، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والأجر على قدر الجهد والمشقة. وما كان أكثر فعلًا واجتهاداً؛ كان أكثر فضلًا وأجراً. والمُعَوَّل على القبول، ربنا تقبل منَّا إنك أنت السميع العليم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه أجمعين كتبه راجي رحمة الغفور/ د. محمد رفيق مؤمن الشوبكي
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |