|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() وصية أهل الإيمان فتحي عيساوي سلامُ الله عليكم ورحمته وبركاته. الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، ولا إله إلا اللهُ إله الأوَّلين والآخِرين، وقيوم السماوات والأرَضين، ومالك يوم الدِّين، الذي لا فوزَ إلا في طاعته، ولا عزَّ إلا في التذلُّل لعَظَمته، ولا غِنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هُدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياةَ إلا في رِضاه، ولا نعيمَ إلا في قُرْبه، ولا صلاح للقلْب ولا فلاح إلا في الإخلاص له، وتوحيد حبِّه، الذي إذا أُطيع شكَر، وإذا عُصي تاب وغفَر، وإذا دُعي أجاب، وإذا عُومل أثاب، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، له المُلْك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحْبه وسلَّم تسليمًا. أما بعد: فما أعلمُ وصيةً أعظم ولا أنفع مِن وصية الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمن عَقَلها واتَّبَعها لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131]، وقال بعضُ العارفين: هذه الآية هي رَحَى آي القرآن؛ لأنَّ جميعه يدور عليها، والتقوى فيها جماعُ الخير كله، وهي وصيةُ الله في الأوَّلين والآخِرين، وهي خيرُ ما يَستفيدُه الإنسان وأعظمُ رأس ماله، كما قال أبو الدرداء، وقد قيل له: إنَّ أصحابك يقولون الشِّعر وأنت ما حُفِظ عنك شيء، فقال: يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ![]() وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ مَا أَرَادَا ![]() يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ![]() وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا ![]() وقد وصَّى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - معاذًا - وكان أعلمَ الأمَّة بالحلال والحرام - لما بعثَه إلى اليمَن، فقال: ((يا معاذُ، اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناس بخُلُق حسن))، وهذه نصيحةٌ مِن محبٍّ لحبيبه، فقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمعاذ - رضي الله عنه -: ((يا معاذ، واللهِ إني لأحبُّك))، وهي كلمةٌ جامعة لأمرين، أحدهما يتعلَّق بحقِّ الله - عزَّ وجلَّ - والآخَر بحق عباده، فللعبدِ ستْر بينه وبين الله، وستْر بينه وبين الناس، فمَن هتَك الستر الذي بينه وبيْن الله، هتَك الله السترَ الذي بينه وبين الناس. فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اتَّقِ اللهَ حيثما كنت)) تحقيقٌ لحاجة العبد إلى التقوى في السرِّ والعلانية وحيثما كان، والتقوى في الحقيقةِ تقوى القلوب لا تَقوى الجوارح؛ قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، وقال سبحانه: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((التقوى ها هنا، وأشار إلى صَدْره))، وتمام الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَحاسَدوا ولا تَناجشوا، ولا تَباغَضوا ولا تَدابَروا، ولا يبعْ بعضُكم على بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلِم؛ لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التَّقْوى ها هنا - ويشير إلى صدْره ثلاثَ مرات - بحسب امرئٍ مِن الشر أن يحقِر أخاه المسلِم، كلُّ المسلم على المسلِم حرامٌ: دمُه ومالُه وعِرْضه)). واللهُ تعالى أمَر العباد بأن يَقوموا بشرائعِ الإسلام على ظواهِرهم، مِن صلاة وصيام وحجٍّ وزكاة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وغيرها، وحقائِق الإيمان على بواطِنهم، من حبٍّ وتعظيم، وخوف ورجاء، وخشية وإنابة وتوكل، ونحوها، ولا يَقبل واحدًا منهما إلا بصاحبه وقرينه، ففي المسند مرفوعًا: ((الإسلامُ علانية، والإيمان في القلب)). وهذه الأعمال الباطنيَّة كمحبَّة الله والإخلاص له، والتوكُّل عليه، والرِّضا عنه، وغيرها كثيرٌ مما هو مأمورٌ به في حقِّ الخاصَّة والعامَّة، ولا يكون تركُها محمودًا في حال أحد، وإنِ ارْتَقى مقامه، ولا يخرُج عنها إلا كافرٌ أو منافِق. قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "يا حبَّذا نومُ الأكياس وفِطرهم! كيف يغبنون به قيامَ الحمْقَى وصومهم، والذَّرَّة مِن صاحب تقوى أفضلُ مِن أمثال الجِبال عبادةً من المغترِّين"، وهذا مِن جواهر الكلام، وأدلِّه على كمال فِقه الصحابة، وتقدُّمهم على مَن بَعْدهم في كلِّ خير وفضْل - رضي الله عنهم. فالكيِّس يقطَع من المسافة في سيره إلى الله بصحَّة العزيمة وعلوِّ الهِمَّة، وتجريد القصد وصحَّة النية مع العمل القليلِ - أضعافَ ما يقطعه الفارغُ مِن ذلك مع التَّعب الكثير والسَّفَر الشاق، والسبق إلى الله سبحانه إنَّما هو بالهِمم وصِدق الرغبة والعزيمة، فيتقدَّم صاحبُ الهِمَّة مع سكونه صاحبَ العمل الكثير بمراحل، فإنْ ساواه في همته تقدَّم عليه بعمله، وأفضلهم مَن كانت له همَّة عالية وأعمال عظيمة. وأكْمل الهَدي هدْي رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد كان موفيًا كل واحد منهما حقَّه، فكان مع كماله وإرادتِه وأحواله مع الله يقوم حتى تورَّمتْ قدماه، ويصوم حتى يُقال: لا يفطر، ويجاهِد في سبيلِ الله، ويخالِط أصحابَه ولا يحتجب عنهم، ولا يترُك شيئًا من النوافل والأوراد لتلك الوارداتِ التي تعجز عن حملها قُوَى البشَر. وفي الصحيحين عن معاذ - رضي الله عنه - قال: كنتُ رديفًا للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على حمار، فقال: ((يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله على العباد؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حقُّ الله على العباد أن يَعْبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فَعَلوا ذلك؟)) قلت: الله ورسولُه أعلم، قال: ((حقُّهم عليه ألاَّ يُعذِّبَهم)). فالعبادة هي الغايةُ التي خَلَق لها الله العباد، كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وبها أرْسل الرُّسل، وأنزل الكتب، وهي اسمٌ يجمع كمالَ الحب ونهايته، وكمال الذلِّ ونهايته، وإذا تخلَّف أحدهما فلا تكون عبادة. ثم قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها))، فإنَّ الطبيب متى تناوَل المريض شيئًا مضرًّا أمَرَه بما يُصلِحه، فكذلك العبدُ إذا ارتكب سيئةً فقدْ أمره النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يمحوَها بحسنة مِن جنسها، فإنَّه أبلغُ في المحو. واعلم أنَّ الناس دخَلوا النارَ مِن ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثتْ شكًّا في دِين الله، مما جرَّ إلى البدَع والضلال، وباب شهْوة أورثتْ تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، مما جرَّ إلى الفِسق والفجور، وباب غضَب أورَث العدوان على خَلْقه، ممَّا جرَّ إلى الظلم والجور، وأصول الخَطايا كلها ثلاثة: الكِبر وهو الذي فعَل بإبليس ما فعَل مِن اللعن والطرد والتخليد في النار، والحرْص وهو الذي أخْرَج آدم مِن الجنة، وبسببه أُهْبِط إلى الأرْض، والحسَد وهو الذي جرَّ أحد ابني آدم إلى قتْل أخيه بغيًا بغير حقٍّ. وقال ثابتُ بن قرَّة: راحةُ الجِسم في قلَّة الطعام، وراحة الرُّوح في قلَّة الآثام، وراحة اللِّسان في قلَّة الكلام، والذنوب للقلْب بمنزلة السموم إن لم تُهْلكْه أضعفَتْه ولا بدَّ، وإذا ضعفت قوتُه لم يقدِرْ على مقاومة الأمراض، قال عبدُالله بن المبارك: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ![]() وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا ![]() وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ ![]() وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا ![]() والذنوب والمعاصي سببٌ لهوان العبد على ربِّه وسقوطه مِن عينه؛ قال الحسن البصري: هانوا عليه فعَصَوْه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبدُ على الله لم يكرِمْه أحد، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18]، وإنَّ عظَّمهم الناس في الظاهِر لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرِّهم، فهم في قلوبهم أحقرُ شيء وأهونه، والعبدُ لا يزال يرتكب الذنوبَ، حتى يهونَ عليه ويصغُر في قلبه، وذلك علامة الخذلان والهلاك، فإنَّ الذنب كلَّما صغُر في عين العبد عظُم عندَ الله، وقد ذكَر البخاريُّ في صحيحه عن ابنِ مسعود قال: "إنَّ المؤمن يرَى ذنوبه كأنَّها في أصل جبَل يخاف أن يقَع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبَه كذُباب وقَع على أنْفِه، فقال به هكَذا فطار". والذُّنوب والمعاصي تُورِث الذلَّ ولا بد، فإنَّ العِز كل العز في طاعةِ الله تعالى؛ قال - تعالى -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]؛ أي: فليطلبها بطاعةِ الله، فإنَّه لا يجدُها إلاَّ في طاعته، وكان مِن دُعاء بعضِ السَّلَف: اللهمَّ أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك، قال الحسن البصري: "إنَّهم وإن طَقْطَقَتْ بهم البغال، وهَمْلَجتْ بهم البراذين، إنَّ ذُلَّ المعصية لا يفارق قلوبهم، أبَى الله إلا أن يُذِلَّ مَن عصاه"، فمَن عصى الله تعالى أذلَّه الله ولا بدَّ، ولن تعزه لا المجلاَّت المنحطة، ولا الأفلام الساقِطة، ولا السيارات الفاخِرة، ولا المغنية الفاجِرة. ومِن آثار الذنوب والمعاصي: ما تُحدِثه في الأرض من أنواع الفساد في المياه والهواء والزَّرْع والثمار، والمساكن والمجتمعات والسياسات، والأموال والأنفس، كما قال - تعالى -: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، قال مجاهد: إذا ولي الظالِم سعَى بالظلم والفساد، فيحبس بذلك القَطْر، فيهلك الحرْثُ والنسل، والله لا يحب الفساد، وهذا نراه ونجده كلَّ يوم، فالله المستعان. فالذنوبُ والمعاصي تُزيل النعم، وتحل النِّقم، فما زالتْ عن العبد نِعمة إلا بسبب ذنب، ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب، كما قال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "ما نَزَل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِع بلاء إلا بتوبة"، وقدْ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53]، فأخْبر الله تعالى أنَّه لا يُغيِّر نعمتَه التي أنعم بها على أحد حتى يكونَ هو الذي يغيِّر ما بنَفْسِه، فيغيِّر طاعةَ الله بمعصيته، وشُكْرَه بكفره، وأسباب رِضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر، غيّر عليه جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلام للعبيد، وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]. واعلم أنَّ الذنوب يزول موجبُها بأشياء: أحدها التوبة: فإنَّه ليس في الوجود شرٌّ إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عُوفي من الذنوب عوفي مِن موجباتها، فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي وتَسلَّط عليه خصومُه شيء أنفع له مِن التوبة النَّصوح، وعلامة سعادته أن يَعكِس فِكره ونظرَه على نفسه وذنوبه وعيوبه، فينشغل بها وبإصلاحِها وبالتوبة منها، فلا يبقَى فيه فراغٌ لتدبر ما نزَل به، بل يتولَّى هو التوبة ومحاسَبة نفْسه وإصلاح عيوبه، والله يتولَّى نُصرتَه وحفظَه والدَّفْع عنه ولا بدَّ. وشرائط التوبة ثلاثة: النَّدم والإقلاع والاعتِذار، فأمَّا الندم فإنَّه لا تتحقَّق التوبة إلا به؛ إذ من لم يندمْ على القبيح فذلك دليلٌ على رِضاه به وإصراره عليه، وفي المسند: ((النَّدمُ توبة))، وأمَّا الإقلاع فتستحيل التوبةُ مع مباشرةِ الذنب، وأما الاعتذار فعلَى الأرجح إظهارُ الضعف والمسكنة، وغلبة العدوِّ، وقوة سلطان النفْس، وأنه لم يكن مِن العبد ما كان عن استهانةٍ بحقِّ الله - عزَّ وجلَّ - ولا جهلاً به سبحانه، ولا إنكارًا لاطلاعه، ولا استهانة بوعيده، وإنَّما كان مِن غلبة الهوى، وضعْف القوَّة عن مقاومة مرَض الشهوة، وطمعًا في مغفرة الله تعالى، واتكالاً على عفوه، وحسن ظنٍّ به، ورجاءً لكرمه، وطمعًا في سَعة حلمه ورحمته، ويجب مع ذلك كله ألاَّ يعتذر بالقَدَر، وألا يحتجَّ به، فإنَّه منافٍ للتوبة، والمقصود الاعتذارُ بما يتضمَّن الاستعطافَ والتذلُّل والافتقار، والاعتراف بالعجْز والإقرار بالعبوديَّة. وهذا الذي ذُكِر بعض مسمى التوبة، فهي شروطها، وإلا فالتوبة في كلامِ الله ورسوله كما تتضمَّن ذلك، تتضمن العزمَ على فِعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرَّد الإقلاع والعزْم والندم تائبًا، حتى يوجد منه العزمُ الجازم على فِعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة؛ إذ هي الرجوعُ إلى الله بالتزام فِعل ما يحب وترْك ما يكره، فهي رجوعٌ من مكروه إلى محبوب؛ ولهذا علَّق سبحانه الفلاحَ المطلَق على فعْل المأمور وترْك المحظور بها، فقال: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، فكلُّ تائب مفلِح، ولا يكون مفلحًا إلا مَن فعَل ما أُمر به وترَك ما نُهي عنه، وقال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]. وتارك المأمور ظالِم، كما أنَّ فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظُّلم عنه إنَّما يكون بالتوبة الجامِعة للأمرين، فإذًا التوبة هي حقيقةُ دِين الإسلام، والدين كله داخلٌ في مسمَّى التوبة، وبهذا استحقَّ التائب أن يكونَ حبيبَ الله، فإنَّ الله يحب التوَّابين ويحب المتطهِّرين، وهي الغاية التي وُجِد لأجلها الخَلْق والأمر، والتوحيد جزءٌ منها، بل هو جزؤها الأعظمُ الذي عليه بناؤها، وأكثر الناس لا يَعرِفون قدْرَ التوبة ولا حقيقتها، فضلاً عن القيام بها علمًا وعملاً وحالاً. الثاني الاستغفار من غير توبة: فإن الله تعالى قد يستجيب لدُعاء العبد فيغفر له دون أن يتوب، ولكن الكمال في اجتماع التوبة والاستغفار، وعليه فالاستغفار نوعان: مفرَد ومقرون بالتوبة، فالمفرَد كقول نوح - عليه السلام - لقومه: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10 - 11]، وكقول صالح لقومه: ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النمل: 46]، وكقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20]. والمَقْرُون، كقوله تعالى: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3]، وقول هود لقومه: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [هود: 52]. فالاستغفارُ المفرَد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها مع تضمُّنه طلبَ المغفرة من الله، وهو محوُ الذنب وإزالة أثره ووقاية شرِّه، لا كما ظنَّه بعضُ الناس أنها الستر فقط، فإنَّ الله يستر على مَن يغفر له ومَن لا يغفر له، ولكن الستر لازمٌ للتوبة، والمقصود أنَّ الاستِغفار يتضمَّن التوبة، والتوبة تتضمَّن الاستغفار، وكلاًّ منهما يدخُل في مسمَّى الآخَر عندَ الإطلاق، وأما عندَ الاقتران فالاستغفار طلَبُ وقاية شرِّ ما مضى، والتوبة الرجوعُ وطلب وقاية شرِّ ما يخافه في المستقبل مِن سيئات أعماله. الثالث: الأعمال الصالِحة المكفِّرة؛ إما الكفَّارات المقدرة، وهي أربعة أجناس: هدْي وعِتق، وصدقة وصيام، وإما الكفَّارات المطلقة، كما قال حذيفة لعمر: "فِتنة الرجل في أهلِه ومالِه وولده يُكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وإنَّ العناية بهذا مِن أشد ما بالإنسان الحاجة إليه؛ كي يقومَ الإنسان وتقوم الأمَّة، فإنَّ هذا الزمن هو زمنُ الفترات التي تشبِه الجاهلية مِن كثير من الوجوه، والإنسان الذي ينشأ بين أهلِ عِلم ودِين قد يَتَلَطَّخ بأمور الجاهلية بعدَّة أشياء، فكَيْف بغير هذا؟! وخاصَّة ممَّن يعيش بيْن ظهراني اليهود والنصارى والمشركين، فإنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لتتَّبِعنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم حذوَ القُذَّة بالقُذة، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه))، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))، وهذا خبرٌ صدَّقه الله تعالى في قوله: ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾ [التوبة: 69]. وهذا أمرٌ قد يَسْري في المنتسبين إلى الدِّين مِن الخاصة، فإنه مَن فسد مِن المنتسبين إلى العلم فيه شبهٌ من اليهود، ومَن فسد مِن المنتسبين إلى العبادة فيه شبهٌ مِن النصارى، كما يُبصر ذلك مَن فهِم دين الإسلام الذي بعَث الله به محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم أسْقَطه على أحوال الناس. والمقصود: أنَّ أنفع ما للخاصة والعامَّة العلم بما يخلِّص النفوس مِن هذه الورطات، وهو أن يُتبِع العبدُ السيئة الحسنةَ فتمحوها، والحسنة ما نَدَب الله إليه على لسان خاتم النبيِّين، مِن الأقوال والأعمال والأخلاق والصفات. ففي صحيح ابن حبَّان أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الشِّرْك في هذه الأمة أخْفَى مِن دبيب النمل))، فقال أبو بكر: فكيف الخلاصُ منه يا رسول الله؟ قال: ((أن تقول: اللهمَّ إني أعوذُ بك من أن أُشرِك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم))، وهذا طلبُ الاستغفار ممَّا يعلمه الله أنه ذنبٌ ولا يعلمه العبد. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |