|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() من رجال الآخرة النحوي الزاهد أبو البركات الأنباري د. عبدالسميع الأنيس إنَّ دراسة اللغة العربية، والتعمق فيها، والاطلاع على أسرارها: أعظم أداة يستطيع المرء من خلالها أن يفهم كتاب الله عز وجل. وكلما زادت معرفته، زاد فهمه، وحسُنت إحاطته واستيعابه، وعظُم تأثُّره بآيات الله البينات. ولقد أدرَك سلفنا الصالح هذه الحقيقة بوضوح، فأقبَلوا على هذه اللغة بكل شوق ومحبة، وتبحروا فيها، وخدموها خدمات تستحق الإجلال والتقدير. وإن واحدًا من هؤلاء الرجال: الإمام القدوة، الفقيه النظَّار، الأديب النحوي، الزاهد العابد: كمال الدين أبو البركات عبدالرحمن بن محمد الأنباري، المتوفى في بغداد سنة (577هـ). رحل من الأنبار - على عادة طلبة العلم بالأخذ عن شيوخ بلدهم، ثم الرحلة إلى الآفاق للتزود من العلم، والتوسع فيه - ونزل بغداد، وكانت آنذاك تعج بالعلماء العاملين، فقهاء ومحدثين، وأدباء ونحويين، يوم أن كانت تشمخ على الدنيا بمدارسها العلمية الكبرى، وحلقات مساجدها المباركة، فدرس على أساتذة النظامية أكبر جامعة علمية في بغداد وأشهرها، ولازَم حلقات الشيوخ؛ حتى شهد له الكبار بالبراعة والإمامة. وحسبك لتعلم مدى تبحره في اللغة، والتوسع فيها: أنه صاحب كتاب: "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين"، إضافة إلى كتاب: "نزهة الألباء، في طبقات الأدباء"، و"إعراب القرآن"، و"أسرار العربية"، كما أن له كتبًا في الفقه والتوحيد، منها: "هداية الذاهب، إلى معرفة المذاهب"، و"النور اللامح، في اعتقاد السلف الصالح"، وغيره من الكتب النافعة المجوّدة المفيدة. ولقد عاد عليه هذا التبحر في اللغة والتوسع فيها بالخير العميم، وقاده هذا التغلغل في أسرار العربية إلى الفهم العميق، والعمل بما توصل إليه فهمه، وأيقن به قلبه. واستمع إلى أحد تلاميذه - وهو الإمام الموفق عبداللطيف البغدادي - ليحدثنا عن أوصافه وشمائله، يقول: "الكمال شيخنا لم أر في العُبَّاد المنقطعين أقوى منه في طريقه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جدّ محض لا يعتريه تصنع". وقال عنه مؤرخ بغداد ابن النجار: "كان إمامًا في النحو، ثقة، عفيفًا، مناظرًا، غزير العلم، ورعًا، زاهدًا، عابدًا، تقيًّا، لا يقبل من أحد شيئًا، وكان خشن العيش، جَشِبَ المأكلِ والملبس، لم يتلبَّس من الدنيا بشيء، مضى على أسدِّ طريقة". لقد رأى بعين بصيرته أن الدنيا ليست دار مقام وبقاء؛ وإنما هي دار عبور وفناء، يمرُّ الإنسان فيها، ثم يمضي ويتركها، فلم يتلبّس منها بشيء. وهل تراه يغفل عن وصف الله - عز وجل - لها: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ﴾ [الكهف: 45]؟ وكان فهمه للزهد فهمًا صحيحًا، فهو لا يأخذ من الدنيا إلا بقدر حاجته منها؛ ولهذا اكتفى منها بدار يسكنها، وأجرة حانوت ودار يتقوَّت بهما. ولما علم الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله - ذلك الخليفة الصالح، الذي شمل أهل العلم والخير برعايته وإفضاله - بأمره، ووصلتْه أخبارُ نبوغه، أرسل إليه خمسمائة دينار فردّها، ولم يقبلها، راضيًا بالفقر، واعتقادًا منه بأن ما عند الله خير وأبقى. إننا نَشَم ونحن نقرأ هذه الخلال عطر العفة، والورع، والزهادة، والثقة بما عند الله. إنها النزاهة التي ترفع من قيمة العالم، وتُعلي منزلته عند الله تبارك وتعالى، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لذلك الرجل الذي سأله عن سبب محبة الله للعبد: ((وازهد في الدنيا، يحبك الله...)). وبعد حياة عامرة بجلائل الأعمال، لبَّى نداء ربه راضيًا مرضيًّا، وترك ثروة تقدر بـ "مائة وثلاثين" ليست ألف دينار؛ وإنما مائة وثلاثون مصنفًا في مختلف العلوم ينتفع بها المسلمون، ومواقف مباركة يرددها الزمان على مرِّ العصور.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |