نظرات في سورة الأنعام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 859 - عددالزوار : 118807 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 40193 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 366975 )           »          تحريم الاستعانة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          فوائد ترك التنشيف بعد الغسل والوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 28-01-2020, 12:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي نظرات في سورة الأنعام

نظرات في سورة الأنعام

سورة الأنعام جذع مشترك ومرجع لفهم أحكام العقيدة


الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي


اهتزت الأرض ليلاً وارتجَّت أطرافها، ثم أشرقت إذ بدا في الآفاق وافدٌ جديد غير مرتقب، ما لبثت به أن خشعت واطمأنت، لِما عمها من مواكب النور تترى بالرحمة والنصرة، ونسائم الأمن والأمان تنسكب رخاءً من أعالي السماء، فتعطر الوجود بأعذب الآمال وأحلى الأماني، وتملأ أرجاءه بفوح أزاهير الجنة عبقةً تحملها ملائكة سدوا الأفق، يقودهم جبريل عليه السلام، يجأرون بالتسبيح والتقديس، كأنهم يزفون عروسًا هي ملء القلب والعقل والروح، إلى عريس ما فتئ مبهورًا بهدية السماء للأرض يردد: (سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم)، حتى غشيه من نورها ما غشيه، وانسكب في صدره من أمر ربه فيها ما استقر استقرار الماء الزلال في الأرض الطيبة العطشى.

إن الهدية سورة الأنعام، أما القلب الذي وسعها وأقرت فيه، فقلب سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال لأصحابه فيما رواه أنس رضي الله عنه: ((ما نزل عليَّ سورة من القرآن جملةً غير سورة الأنعام، وما اجتمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها، وقد بعث بها إليَّ مع جبريل مع خمسين ملكًا أو خمسين ألف ملك، يزفونها ويحفونها، حتى أقَرُّوها في صدري كما أقر الماء في الحوض، ولقد أعزني الله وإياكم بها عزًّا لا يذلُّنا بعده أبدًا، فيها دحض حجج المشركين، ووعد من الله لا يخلفه)).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت الأنعام جملة واحدة، وتنزلت معها من الملائكة سبعون ألف ملك، فملؤوا ما بين الأخشبين، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتَّاب فكتبوها من ليلتهم، سوى آيات معدودات)، وهي بذلك أول سورة من الطوال[1] نزلت جملة واحدة في الفترة المكية على أرجح الروايات[2]، أما ثانية ما نزل من الطوال جملة واحدة، فهي المائدة، ولكنها مدنية كلها، نزلت في حجة الوداع قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم بنيف وثمانين ليلة.

ولئن ذهب بعض المشتغلين بعلوم القرآن إلى أن بضع آيات من سورة الأنعام مدنية، هي الآيات: 20، 23، 91، 93، 104، 141، 151، 152، 153؛ لورود بعض الروايات بذلك، ولأنها في نظرهم أنسبُ بالمدينة؛ لاشتمال بعضها على ذكر لأهل الكتاب، والخطاب القرآني كان في مكة للمشركين، ولتعلق بعضها بالتكاليف الشرعية العملية حلالاً وحرامًا؛ كما في الآيات: 151 - 152 - 153، بدءًا من قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151] - فإن ما عليه المحققون من المفسرين، وما تطمئن إليه النفس، أن سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة؛ لكثرة الآثار الواردة في ذلك، ولتجاهل جهابذةِ المفسرين رأيَ القائلين بأن فيها آيات مدنية، مثل ابن كثير الذي ساق الروايات التي تثبت أنها مكية، ولم يذكر رواية واحدة حول نزول أيِّ آية منها بالمدينة، ولأن ما ورد من روايات حول مدنيَّة تلك الآيات لم يصحَّ به نقل، كما ذكر ذلك السيوطي، ولأن ذكر أهل الكتاب في الفترة المكية غيرُ مستغرب، وكانت لهم علاقات وتزاور وتقارب وتنافر وحوار ومتاجرة مع مشركي قريش، أما ورود بعض الأحكام الشرعية القليلة في تلك الآيات، فهو تهيئة نفسية، وإعداد أخلاقي واجتماعي هادئ، للانتقال إلى مرحلة الأحكام الشرعية المتكاملة في دولة المدينة، قبيل الهجرة بحوالي ثلاث سنوات تقريبًا، على عادة القرآن الكريم في التربية والتعليم، والتدرج والسير بالناس من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المركب.

ولعل في نزول سورة الأنعام جملة واحدة، واشتمالها على سائر أركان الإيمان: إشارةً ربانية إلى وجوب المبادرة بمعرفة أصول العقيدة ودراستها، واتخاذها قاعدة ومدخلاً وأرضية لدراسة الأحكام الشرعية التي نزلت بعدها في الفترة المدنية مفرَّقة حسب النوازل والحوادث، كما قد يكون من الحكمة أن نزولَها جملةً واحدة في موكبٍ من الملائكة يسد الأفقَ والأرضُ ترتجُّ بتقديسهم وتسبيحهم، جوابٌ على قول المشركين: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]، وقولهم: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴾ [الأنعام: 8].

عدد آيات هذه السورة: مائة وسبع وستون في العدد المدني والمكي؛ أي: في قراءة نافع بن أبي نعيم، وعبدالله بن كثير، ومائة وخمس وستون في العدد الكوفي؛ أي: في قراءة عاصم بن أبي النَّجود، وحمزة بن حبيب الزيات، والكسائي، ومائة وأربع وستون في العدد البصري؛ أي: في قراءة أبي عمرو بن العلاء البَصري، وعبدالله بن عامر الدمشقي.

ولئن سميت "سورةَ الأنعام"؛ لِما تكرر فيها من ذكر "الأنعام" ست مرات بتفصيل وشرح لم يرِدْ في غيرها، فإن تسميتها "الحُجَّة" أيضًا كان لما اشتملت عليه من دلائل التوحيد، وأحكام العقيدة، وأركان الإيمان موجزةً ومفصلة؛ إثباتًا لوحدانية الله تعالى وقدرته، واستحقاقه العبادة، ولصِدق النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان وظيفته، وحقيقة الموت والحياة، والبعث والحساب والجزاء المخلد في الجنة أو النار؛ لذلك قال عنها عمر بن الخطاب: (الأنعام من نواجِبِ القرآن)؛ أي: من عِتاقِه، وفي رواية: (من نجائبِ القرآن)؛ أي: من أفاضل سورِه.

كما ورد في فضلها: أنها نزلت مشيَّعة بملأ من الملائكة عظيم، وُصف في رواية أنه سبعون ألفًا، وفي رواية أنه موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتقديس والتسبيح والأرض ترتج، وأخرج الحاكم والبيهقي من حديث جابر قال: "لما نزلت سورة الأنعام سبَّح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((شيَّع هذه السورةَ ما سد الأفق))"؛ قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأخرج البيهقي في الشُّعب بسند فيه مَن لا يُعرَف، عن عليٍّ موقوفًا: (سورة الأنعام ما قرئت على عليلٍ إلا شفاه الله)، وفي رواية لا تصح: (أن من قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له سبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يومًا وليلة).

ومن خصائص فضلها: أنها بُدِئت بما بُدِئت به الفاتحة، وهو الحمد لله ثناءً عليه تعالى، بإثبات جميع صفات المدح والكمال له عز وجل، وتنزيهه عن جميع صفات النقص، ولم يبدأ به إلا خمس سور، هن: الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، أول أرباع القرآن، كان البدءُ بالحمد في الفاتحة، وثانيها الحمد في الأنعام، وثالثها الحمد في الكهف، ورابعها في سبأ وفاطر.

ولئن كانت الفاتحة أم القرآن ومطلعه، وقد ناسَب فيها الإتيان بأبلغ الصفات، وأشمل قواعد العقيدة وأعمها مجملة، وكانت الأنعام أشد مطابقة لها - فقد ناسب فيها التوسع بشرح إجمال الفاتحة، وتوضيح مقاصدها وأهدافها، والتفصيل في محاججة منكري أحكامها ومعترضيها، ومجادلة المشركين والمكذِّبين بالبعث والنشور والرسالة، والمعرِضين عن النبوة، المغالِين في محاربتها.

ولئن اشتملت الفاتحة على أحكام التوحيد والنبوة والمعاد، والتحذير من طرق الضلال وموجبات غضب الله شركًا وإلحادًا - فإن الأنعام قد تولت التوسع في ذلك بمنهجين تربويين ناجعين؛ أولهما: تقرير أدلة أركان التوحيد بأسلوب مقنع مفحم؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 3]، وقوله عز وجل: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 164]، وثانيهما: تقرير حجج إثبات النبوة، مع تأكيد بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم تنافي ذلك مع طبيعة دعوته ورسالته؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 8، 9]، وقوله عز وجل: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 19]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ [الأنعام: 50]، وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].

وكأنما كانت الأنعام بمحتواها العقديِّ ومحاججتها للمشركين، ونزولها جملةً في موكب من الملائكة يحفُّون بها، ويشيعونها كالعروس إلى خِدرها - قمةَ التحدي في معركة الإيمان والكفر، منذ نزلت سورة الفاتحة وتلاها الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش فقالت: "رضَّ الله فاك"، في مسار طويل شاقٍّ رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عَنَتِ قومه أذًى كثيرًا، وأراهم فيه من معتقداتهم وتصوراتهم ما يكرهون، وأسمعهم فيه من الآيات القرآنية ما عجزوا عن تكذيبه ومعارضته، وأَشْهَدَهم فيه من الآيات الكونية ما أبهرهم وأفحمهم.

ولئن لم يصلنا توثيق دقيق لزمن نزول هذه السورة الكريمة، فإن استقراء ما نزل قبلها كفيلٌ بتقريبنا منه، وتسليط الضوء عليه، ومعرفة مدى ما عاناه الرسولُ صلى الله عليه وسلم من قومه فيه.

لقد كانت هذه السورة في ترتيبها النزولي الخامسةَ والخمسين، ومما سبَقها في النزول سورة القمر، التي هي السابعة والثلاثون؛ إذ سأل كفارُ مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية تكون حُجة على صِدق قوله، وحقيقة نبوته، فلما أراهم انشقاق القمر شقين[3]: شقًّا على الصفا، وشقًّا على المروة، أعرضوا وكذَّبوا، وقالوا: هذا سحرٌ مستمرٌّ، سحَرَنا محمد، فنزل قوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ﴾ [القمر: 1، 2]، وسبقتها نزولاً سورة الأعراف، وهي السورة التاسعة والثلاثون، وفيها عرض الوحي لمسيرة دعوات الأنبياء، وتفاعل أقوامهم معها، واعتراضهم عليها، وما لاقاه المؤمنون بها، ثم كانت سورة الإسراء، وهي الخمسون نزولاً؛ إذ أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً إلى المسجد الأقصى، وعُرِج به منه إلى السماء، مع ما صاحَبَها من عناد قريشٍ وتكذيبهم، ونزول قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، ثم كانت سورة الحجر، وهي الرابعة والخمسون نزولاً، وقد اشتدت المحنة برسول الله صلى الله عليه وسلم، تكذيبًا لدعوته، واستهزاءً بما نزل عليه، وفيها أمره عز وجل بالإصرارِ على تحدي المشركين بالوحي، ومواصلة الصدع بدعوة الإيمان، مستعليًا بالحق النازل والنهج الرباني القويم والصراط المستقيم، وإذ قال له المشركون: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الحجر: 6، 7]، قال له تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 94 - 96].

وفي هذه الفترة اشتدت محنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة الصديقة رضي الله عنها، وموت أبي طالب، قال ابن إسحاق‏: ‏"ثم إن خديجة وأبا طالب هلَكَا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهُلْكِ خديجة، وكانت له وزيرَ صدقٍ على الابتلاء، يسكن إليها، وبهُلْكِ عمه أبي طالب، وكان عضدًا وحِرزًا في أمره، ومَنَعة وناصرًا على قومه‏، وذلك قبل مهاجَره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلَك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش فنثَر على رأسه ترابًا،‏ فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال‏: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: (‏(‏لا تبكي يا بنيَّة؛ فإن الله مانعٌ أباك‏))‏‏، ويقول بين ذلك‏: (‏‏‏(‏ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب‏))‏‏،‏ وذكر ابن إسحاق قبل ذلك‏: أن أحدهم ربما طرح الأذى في بُرْمتِه إذا نُصِبت له‏،‏ قال‏: فكان إذا فعلوا ذلك - كما حدثني عمر بن عبدالله عن عروة - يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه، ثم يقول‏: (‏(‏يا بَني عبدمناف، أيُّ جوار هذا؟!))، ثم يلقيه في الطريق‏.‏

في هذه الظروف القاسية نزلت سورة الأنعام، بحشدها الملائكي الذي سدت كثرتُه الأفق، وملأته نورًا وعطرًا وصدحًا بالتسبيح والتقديس، وبمحتواها العقدي المتكامل الذي فصَّل أركان العقيدة: ألوهية وربوبية، ونُبوة وحشرًا وجزاءً، فكانت بلسمًا لجراح نفسه صلى الله عليه وسلم، وتخفيفًا لحزنه، وتقوية لعزيمته، وتثبيتًا له على الحق بقوله تعالى له فيها: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 33، 34].

وكانت بذلك إيذانًا بقرب مرحلة جديدة، ونقلة نوعية نحو أفق أكثر شساعة، وأوسع مجالاً؛ أفق الهجرة إلى أرض طيبة، وقوم كِرام بررة، عقب ذلك بحوالي ثلاث سنوات، مرحلة تنزيل الأحكام الشرعية مفرَّقة بحسب الحوادث والنوازل، وعلى قدر الحاجة، بعد أن نزلت العقيدة جملة واحدة مكتملة في سورة الأنعام بمكة، واستوفت كفايتها من البيان والتوضيح، وتمكنت من قلوب الجيل الأول من المؤمنين، وأعدَّته للتفاعل مع مرحلة الهجرة إلى المدينة، وإعادة صياغة المجتمع الجاهلي بها صياغة تعيده إلى سَوَاءِ فِطْرته التي خُلق عليها، وعُبِّد بها، وإقامة أول نظام إسلامي على أرض الواقع، تتجلى فيه عدالة الإسلام ورحمته، وتُضمَن به حقوق الناس وحرياتهم وكرامتهم وأمنهم، وتُحمَى به دماؤهم وأعراضهم وأموالهم.

وكما كانت سورة الأنعام في الترتيب النزولي مع ما سبقها وما تلاها بناءً متماسكًا متكاملاً، فإنها أيضًا مع ما سبقها وما تلاها في الترتيب المصحفي مبنًى ومعنًى وَحْدةٌ متكاملة متراصة، يعضد بعضها بعضًا، ويكمل بعضها بعضًا في عِقدٍ منتظم، كما هي طبيعة الوحي الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يبدو ذلك فيما خُتمت به سورة المائدة من فصل القضاء بين الخلق يوم القيامة، والإشادة بملكية الله تعالى للسموات والأرض وما فيهن، مما يقتضي حمدَه على جميل فِعله، وبديع صُنعه، وعادل أحكامه، في قوله تعالى: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 119، 120]، وما افتتحت به سورة الأنعام من حمدٍ لله على ما خلَق من السموات والأرض، وما جعَل فيهما من الظلمات والنور، تدبيرًا حكيمًا، وهداية إلى وحدانيته وتوحيده، في قوله عز وجل: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، فكانت عدالةُ فصل القضاء وما تقتضيه من حمد لله تعالى في الأولى، والحمد على بديع الخَلق في الثانية - رابطًا بين السورتين.

وكما ذكر عز وجل في آخر المائدة مجملاً أن: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ﴾ [المائدة: 120]، فصَّل ذلك في أول الأنعام بقوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 1، 2]، فبيَّن ما تضمنته السمواتُ والأرض من الظلمات، ما خفِي منها وما لم يَخْفَ، ومن النور ما انكشف منه وما ينكشف، ومن الطين ما خُلق منه ويُخلَق، والكائنات ما سكن منها وما تحرك، والآجال ما قُضي منها وما يقضى، فكان بذلك الرابط بين السورتين أمتَنَ وأقوى.

ولئن كان الغالب في سورة المائدة تقريرَ الأحكام الشرعية وإتمامَ ما نزل منها بعضُه في غيرها، فإن سورة الأنعام وقد سبقتها نزولاً في الفترة المكية قد قررت أصول العقيدة التي بُنِيت عليها الأحكامُ الشرعية، فكان تقدُّمها على المائدة نزولاً وترتيبها بعدها مصحفيًّا أبلغَ تعليمًا، وأتم تربية وترشيدًا، ثم جاءت بعدهما سورة الأعراف ترتيبًا مصحفيًّا وقبلهما نزولاً؛ لتعطي المنهج القرآني تمام صورته على صعيد الواقع الإنساني، تجلى ذلك في تفاعل سورة المائدة وأحكامها الشرعية التفصيلية، بمحتوى سورة الأنعام وقد طوفت بالعقل البشري والنفس الإنسانية في أرجاء الكون الفسيح، تستدل به على وحدانية الله تعالى؛ ألوهية وربوبية، وهداية وخلقًا، وإنعامًا واجتباءً، ودحضًا لكل ظواهر الشِّرك وبواطنه، وتحذيرًا من جميع مزالقِ الإلحاد ومكامنه، مع منهج سورة الأعراف بعدها وهي تخوض بالعقيدة معاركَ الحق ضد الباطل، والتوحيد ضد الشرك، في المجال الواقعي: شعوبًا وأعراقًا وأقوامًا على مدار التاريخ، خطابًا لآدم عليه السلام بالملأ الأعلى في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 11]، ودعوة بِشارة ونِذارة له ولأبنائه بقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الأعراف: 35، 36]، وعطفًا على تجرِبة أجيال الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم: نوح وما ردَّ به قومه على دعوة التوحيد، وهودٍ وتسفيهِ قومه عادٍ له، وتكذيبهم دعوته، وصالح والمستكبرين من ثمود، ولوط والمتفحشين في قريته، وشعيب وأصحاب الرجفة من مَدْين، وموسى في مواجهة المتألهة من فراعنة مصر، تتويجًا بتجرِبة محمد صلى الله عليه ويسلم وخير القرون من أتباعه، وورثة دعوته المسترشدين بتجرِبته في نصرة الحق، وتسفيه حجج المبطلين إلى يوم القيامة.

بذلك اتضح أن المنهج الإسلامي الرباني كي يؤتيَ ثماره المرجوة في كل عصر، لا بد أن يحياه المشتغلون به وله، تصورًا عقديًّا واضحًا مجردًا لا لَبْسَ فيه، وأحكامًا شرعية لا خلل فيها بالزيادة أو النقص أو التحريف، ونظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وتربويًّا متكاملاً، وتفاعلاً إيجابيًّا حركيًّا على أرض الواقع بما يستلزمه ذلك من صبر ومعاناة، وتوطين للنفس على تحمُّل مشاقِّ اعتراض المعترضين، ومحاججة المنكرين، وعدوانية الجاهلين.

لقد كان القرآنُ المكي كله ذا طابع عقدي، تنزل السورة وفيها الشرح والتوضيح لحكم عقدي واحد أو حكمين، أو تصور إيماني للألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، أو الغيب والمبدأ والمعاد والحشر والحساب والجزاء، إلا أن سورة الأنعام قد جمعت مفرداتِ العقيدة كاملة، وقررتها تصورًا قلبيًّا وعقليًّا وسلوكيًّا واضحًا لا غبَش فيه ولا عَماء ولا غموض، واستوعبتها توحيدًا خالصًا لا تشُوبه شائبةُ شركٍ أو إلحاد، كل ذلك تعرضه سورة الأنعام عرضًا حيًّا متحركًا وجدانيًّا، يُعيد صياغة النفس البشرية والعقل الإنساني صياغة تحررهما من ركام الجاهلية، ورعونات التراث الفاسد والعادات والتقاليد المنحرفة، وتضعهما أمام قدرهما في الحياة، ومسؤوليتهما بعد الممات، لا تدع مجالاً في الكون الفسيح والغيب المكنون إلا ارتادته، وأنارَتْ معالم التوحيد فيه، ولا خلجة من خلجات النفس أو مظهرًا من مظاهر حياة السابقين واللاحقين في نَعمائهم وضرَّائهم إلا كشفت به آثار التوحيد؛ تحققًا أو انتفاءً أو اعتبارًا، في المعتقد والسلوك، والحال والمآل، كل ذلك من غير أن تتطرق لأي هدفٍ خارج إطار العقيدة، سواءٌ كان تنظيمًا اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو مدَنيًّا أو سياسيًّا، أو عبادات أو عقوبات وحدودًا، أو قتالاً أو جهادًا، أو خطابًا لأهل الكتاب، أو نداءً للمسلمين بصفتهم تكتُّلاً واحدًا وجماعة موحدة، كما خوطبوا به في السور المدنية بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 121.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 119.48 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]