|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() لطائف من زاد المعاد في هدي خير العباد (1) سائد بن جمال دياربكرلي فإن من أنفس المراجع وأكثرها شمولًا لأدق تفاصيل حياة سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد"، الذي حرص مؤلفه العلامة ابن القيِّم -رحمه الله - أن يجعل منه موسوعة في الهدي النبوي، مقتفيًا في ذلك نهج السلف الصالح بتتبع الآثار الواردة عن رسول الله من قول أو فعل، فأكَّد منها وضعَّف، وشرح ووصَّف، فكان كتابه زادًا لا غنى عنه لكل من أراد الاقتداء بهدي خير العباد. وقد أفاض العلماء وطلبة العلم في سبر هذا الكتاب القَيِّم واستخراج ما فيه من فوائد، واختصار ما حوى من فصول، فعمَّ نفعه وذاع، واستفاد به خلقٌ كثير. وفي هذه المقالة جمع وتلخيص لما حواه هذا الكتاب من لطائف ربما قَلَّ تداولها بين الناس، سائلًا المولى النفع والتوفيق والسداد. فصل في شرح معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم: الماحي: الذي محا الله به الكفر، ولم يُمحَ الكفر بأحد من الخلق ما مُحِي بالنبي صلى الله عليه وسلم. وأما الحاشر، فالحشر هو الضَّمُّ والجمع، فهو الذي يُحشَر الناسُ على قدمه، فكأنه بُعِث ليحشُر الناس. والعاقب: الذي جاء عقيب الأنبياء، فليس بعده نبي، فإن العاقب هو الآخر، فهو بمنزلة الخاتم. وأما المقفِّي فكذلك، وهو الذي قفَّى على آثار من تقدَّمه من الرسل، فقفَّى الله به على آثار من سبقه من الرسل. وأما نبي التوبة، فهو الذي فتح الله به بابَ التوبة على أهل الأرض، فتاب الله به عليهم توبةً لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله. وأما نبي الملحمة، فهو الذي بُعِث بجهاد أعداء الله، فلم يجاهد نبيٌّ وأمتُه قطُّ ما جاهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمته. وأما نبيُّ الرحمة، فهو الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، فرحم به أهلَ الأرض كلَّهم مؤمنهم وكافرهم. وأما الفاتح، فهو الذي فتح الله به بابَ الهدى بعد أن كان مُرْتَجًا، وفتحَ به الأعينَ العُمْيَ والآذانَ الصُّمَّ والقلوبَ الغُلْفَ، وفتح به أمصارَ الكفر، وفتح به أبوابَ الجنة، وفتح به طرقَ العلم النافع والعمل الصالح، ففتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار، والأمصار. وأما الضحوك القتَّال، فاسمان مزدوجان لا ينفرد أحدُهما عن الآخر، فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين غير عابس ولا مقطِّب ولا غضوب ولا فظٍّ، قتَّال لأعداء الله، لا تأخذه فيهم لومة لائم. وأما البشير، فهو المبشِّر لمن أطاعه بالثواب، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب. وسمَّاه الله ﴿ سِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٤٦]، وسمَّى الشمس ﴿ سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾ [النبأ: ١٣]، والمنير: هو الذي يُنِير من غير إحراق، بخلاف «الوهَّاج» فإنَّ فيه نوع إحراق وتوهُّج. فصل في مؤذِّنيه صلى الله عليه وسلم: وكانوا أربعةً: اثنان بالمدينة: بلال بن رباح، وهو أول من أذَّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن أمِّ مكتوم القرشي العامري الأعمى، وبقباء: سعدُ القَرَظ مولى عمَّار بن ياسر، وبمكة: أبو محذورة، واسمه أوس بن مِعْيَر الجُمَحي. وكان أبو محذورة منهم يرجِّع الأذان ويثنِّي الإقامة، وبلال لا يرجِّع، ويُفرد الإقامة؛ فأخذ الشافعيُّ وأهل مكة بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ الإمام أحمد في أهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير وتثنية لفظة الإقامة، فإنه لا يكررها. فصل في حَرَسه صلى الله عليه وسلم: فمنهم: سعد بن معاذ، حرَسه يوم بدر حين نام في العريش، ومنهم محمد بن مَسْلَمة حرَسه يوم أحد، والزبير بن العوام حرَسه يوم الخندق، ومنهم: عبَّاد بن بشر، وهو الذي كان على حَرَسه، وحرَسه جماعة آخرون غير هؤلاء. فلما نزل قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: ٦٧] خرج على الناس، فأخبرهم بها، وصرَف الحرَس. فصل في ملابسه صلى الله عليه وسلم: كانت له عِمامة تسمى: السَّحاب، كساها عليًّا، وكان يلبسها تحت القلنسوة[1]، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتمَّ أرخى عمامته بين كتفيه، كما روى مسلم في صحيحه. ولبس القميص وكان أحبَّ الثياب إليه، وكان كمُّه إلى الرُّسْغ. ولبِس الجُبَّةَ[2]، والفَرُّوجَ وهو شبه القَباء[3] (قالوا: هو القباء المشقوق من خلفه)، والفَرَجيَّة[4]، ولبِس القَباء أيضًا، ولبِس في السفر جبّةً ضيقة الكمَّين. ولبِس الإزار والرداء، قال الواقدي: كان رداؤه بُرْدةً طول ست أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عُمَان طول أربع أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر. ولبِس حُلَّةً حمراء، والحُلَّة: إزار ورداء، ولا تكون الحُلَّة إلا اسمًا للثوبين معًا، وغلِط من ظنَّ أنها كانت حمراء بحتًا لا يخالطها غيرها، وإنما الحُلَّة الحمراء: بردان يمانيان منسوجان بخطوط حُمْر مع الأسود. ولبِس الخَميصة[5] المُعْلَمة والساذجة[6]، ولبِس ثوبًا أسود، ولبِس الفروة المكفوفة بالسُّندُس[7]. ولبس الخفَّين، ولبس النعل الذي يسمَّى: التاسُومة[8]. ولبس الخاتم، واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يسراه، وكلُّها صحيحة السند. ولبس البيضة التي تسمَّى: الخُوذة، ولبس الدِّرع الذي يُسمَّى: الزَّرْديَّة، وظاهَرَ يوم أحد بين درعين. وكان له صلى الله عليه وسلم بُردان أخضران، وكساء أسود، وكساء أحمر ملبَّد، وكساء من شَعْر. وكان قميصه من قطن، وكان قصيرَ الطول قصيرَ الكُمِّ، وأما هذه الأكمام الواسعة الطِّوال التي هي كالأخراج، فلم يلبَسها هو ولا أحدٌ من أصحابه البتة، وهي مخالفة لسنَّته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء. وكان أحبَّ الثياب إليه القميصُ، والحِبرَةُ وهي ضرب من البرود فيه حمرة. وكان أحبَّ الألوان إليه البياض، وقال: «هي من خير ثيابكم، فالبسوها وكفِّنوا فيها موتاكم». وكان أغلب ما يلبس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما نُسِج من القطن، وربما لبسوا ما نُسِج من الصوف والكتَّان. فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب: كان هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في الطعام: لا يرُدُّ موجودًا، ولا يتكلَّف مفقودًا، فما قُرِّب إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه فيتركه من غير تحريم، وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لما لم يعتَدْه، ولم يحرِّمه على الأمة، بل أُكِل على مائدته وهو ينظر. وأكَلَ الحلوى والعسل وكان يحبُّهما، وأكل لحم الجَزور والضَّأن والدَّجاج، ولحم الحُبارى، ولحم حمار الوحش والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشِّواء، وأكل الرُّطَب والتمر. وشرب اللبن خالصًا ومَشُوبًا، والسَّويق، والعسل بالماء، وشرب نقيعَ التمر. وأكل الخَزيرة[9]، وأكل القِثَّاء بالرُّطَب، وأكل الأَقِط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز والخلَّ، وأكل الثريد، وهو الخبز باللحم، وأكل الخبز بالإهالة، وهي الودك، وهو الشحم المُذاب، وأكل من الكبد المشويَّة، وأكل القَدِيد، وأكل الدُّبَّاء[10] المطبوخة وكان يحبُّها، وأكل المسلوقة، وأكل الثَّريد بالسَّمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطِّيخ بالرُّطَب، وأكل التمر بالزُّبْد، وكان يحبه. فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في نومه وانتباهه: كان صلى الله عليه وسلم ينام على الفراش تارةً، وعلى النِّطع تارةً[11]، وعلى الحصير تارةً، وعلى الأرض تارةً؛ وعلى السَّرير تارةً برماله، وتارةً عليه كساء أسود، وكان فراشه صلى الله عليه وسلم أَدَمًا حشوُه لِيف[12]. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الركوب: ركِبَ صلى الله عليه وسلم الخيلَ، والإبل، والبغال، والحمير، وركب الفرسَ مسرَّجةً تارةً وعُرْيًا أخرى، وكان يجريها في بعض الأحيان، وكان يركب وحده وهو الأكثر، وربما أردف خلفه على البعير، وربما أردف خلفه وأركب أمامه فكانوا ثلاثةً على البعير، وأردف الرجال، وأردف بعض نسائه. وكان أكثر مراكبه الخيل والإبل، وأما البغال فالمعروف أنه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعضُ الملوك، ولم تكن البغال مشهورةً بأرض العرب. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه: كان إذا مشى تكفَّى تكفِّيًا[13]، وكان أسرع الناس مِشْيةً وأحسنَها وأسكنَها. وأما مشيه مع أصحابه فكانوا يمشون بين يديه، وهو خلفهم، ويقول: «دَعُوا ظهري للملائكة». ولهذا في الحديث: وكان يسوق أصحابه، وكان يمشي حافيًا ومنتعلًا، وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعةً. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الفطرة وتوابعها: وكان هديه في حلق الرأس تركَه كله أو أخذَه كله، ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه، ولم يُحفَظ عنه حلقُه إلا في نُسُك. وكان أولًا يَسْدُل شَعره، ثم فَرَقه، والفرق: أن يجعل شَعره فِرقتين وكلُّ فرقة ذؤابة، والسَّدْل أن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين. وكان له مُكحُلة يكتحل منها كلَّ ليلة ثلاثًا في كلِّ عين. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُكَّة[14] يتطيَّب منها، وكان أحبَّ الطِّيب إليه المسكُ. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن: كان صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد، وربما قال في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته»، وربما قال: «اللهمَّ احطُطْ عنِّي بها وزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذُخْرًا، وتقبَّلْها منِّي كما تقبَّلتَها من عبدك داود». ذكرهما أهل «السنن». ولم ينقَل عنه أنه كان يكبِّر للرفع من هذا السجود؛ ولذلك لم يذكره الخِرَقي ومتقدِّمو الأصحاب، ولا نُقِل عنه فيه تشهُّد ولا سلام البتة. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته فيه: كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرةً بين أربعة أسفار: سفر لهجرته، وسفر للجهاد وهو أكثرها، وسفر للعمرة، وسفر للحج. وكان إذا أراد سفرًا أقرَعَ بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمُها سافر بها معه، ولما حجَّ سافر بهنَّ جميعًا. وكان إذا سافر خرج من أول النهار، وكان يستحِبُّ الخروجَ يوم الخميس، ودعا الله أن يبارك لأمته في بكورها، وكان إذا بعث سريَّةً أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثةً أن يؤمِّروا أحدهم. ونهى أن يسافر الرجل وحده، وأخبر أنَّ الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب. وكان هو وأصحابه إذا علَوا الثَّنايا كبَّروا، وإذا هبطوا الأودية سبَّحوا. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في عيادة المرضى: كان يعود مَن مرِضَ من أصحابه، وعاد غلامًا كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمَّه وهو مشرك، فعرض عليهما الإسلام، فأسلم اليهودي، ولم يُسلم عمُّه. وكان يمسح بيده اليمنى على المريض، ويقول: «اللهمَّ ربَّ الناس، أذهِبِ البأسَ، اشْفِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا». وكان يدعو للمريض ثلاثًا، كما قال لسعد: «اللهمَّ اشْفِ سعدًا، اللهمَّ اشْفِ سعدًا، اللهمَّ اشْفِ سعدًا». وكان يرقي مَن به قُرْحة أو جُرْح أو شكوى، فيضع سبَّابته بالأرض، ثم يرفعها، ويقول: «بسم الله، تربةُ أرضنا بريقةِ بعضنا، يُشْفَى سقيمُنا بإذن ربِّنا» هذا في «الصحيحين». فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الطفل: وكان من هديه: الصلاة على الطفل، فصحَّ عنه أنه قال: «الطفل يصلَّى عليه». وفي «سنن ابن ماجه» مرفوعًا: «صلُّوا على أطفالكم، فإنَّهم من أفراطكم»[15]. قال أحمد بن أبي عَبْدة: سألتُ أحمد: متى يجب أن يصلَّى على السِّقْط؟ قال: إذا أتى عليه أربعة أشهر؛ لأنه ينفخ فيه الروح، قلت: فحديث المغيرة بن شعبة: «الطفل يصلَّى عليه»؟ قال: صحيح مرفوع، قلت: ليس في هذا بيان الأربعة الأشهر ولا غيره؟ قال: قد قاله سعيد بن المسيِّب. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في اتباع الجنازة والإسراع بها: وكان إذا صلَّى عليه تبعه إلى المقابر ماشيًا أمامه، وهذه كانت سنَّة خلفائه الراشدين من بعده. وسَنّ لمن تبعها إن كان راكبًا أن يكون وراءها، وإن كان ماشيًا أن يكون قريبًا منها إما خلفها أو أمامها أو عن يمينها أو عن شمالها. وكان يأمر بالإسراع بها حتى إن كانوا ليرمُلون بها رمَلًا، وأما دبيب الناس اليوم خطوةً خطوةً، فبدعة مكروهة مخالفة للسنة، متضمِّنة للتشبُّه بأهل الكتاب اليهود، وكان أبو بكرة يرفع السوط على من يفعل ذلك، ويقول: لقد رأيتُنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمُل رمَلًا. وكان إذا تبعها لم يجلس حتى توضع، وقال: «إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع». فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الغائب: ولم يكن من هديه وسنَّته الصلاةُ على كلِّ غائب ميِّت، فقد مات خلق كثير من المسلمين، وهم غُيَّب، فلم يصلِّ عليهم، وصحَّ عنه أنه صلَّى على النجاشي صلاته على الميِّت. فاختلف الناس في ذلك على ثلاث طرق: إحداها: أنَّ هذا تشريع منه وسنَّة للأمة: الصلاة على كلِّ غائب، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاصٌّ به، وليس ذلك لغيره، قال أصحابهما: ومن الجائز أن يكون رُفِعَ له سريرُه، فصلَّى عليه وهو يراه صلاتَه على الحاضر المشاهَد وإن كان على مسافة من البعد. والصحابة وإن لم يروه فهم تابعون للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. قالوا: ويدل على هذا أنه لم ينقل عنه أنه كان يصلِّي على كلِّ الغائبين غيره، وتركُه سنَّة كما أنَّ فعلَه سنة، ولا سبيل لأحد بعده إلى أن يعاين سرير الميت من المسافة البعيدة، ويُرفَع له حتى يصلِّي عليه، فعُلِم أنَّ ذلك مخصوص به. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أنَّ الغائب إن مات ببلد لم يصلَّ عليه فيه صُلِّي عليه صلاة الغائب، كما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ لأنه مات بين الكفار، فلم يصلَّ عليه، وإن صُلِّي عليه حيث مات لم يصلَّ عليه صلاة الغائب؛ لأنَّ الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على الغائب وترك. وفعلُه سنَّة، وتركُه سنَّة، وهذا له موضع، وهذا له موضع، والله أعلم. فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وأصحُّها هذا التفصيل، والمشهور عند أصحابه الصلاة عليه مطلقًا. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أوقات الدفن واللحد وما يُقال عند الدفن والتثبيت وكان من هديه: ألَّا يُدفن الميِّت عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا حين يقوم قائم الظهيرة. وكان من هديه: اللَّحد، وتعميق القبر، وتوسيعه من عند رأس الميِّت ورجليه. ويذكر عنه أنه كان إذا وضع الميِّت في القبر قال: «بسم الله، وبالله، وعلى ملَّة رسول الله»، وفي رواية: «بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملَّة رسول الله». ويذكر عنه أيضًا أنه كان يحثو على الميِّت إذا دُفِن التُّراب من قبل رأسه ثلاثًا. وكان إذا فرغ من دفن الميِّت قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر ولا يلقِّن الميِّتَ، كما يفعله الناس اليوم. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تعزية أهل الميت وصنع الطعام لهم: وكان من هديه تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يُجتمَع للعَزاء، ويُقرأ له القرآن لا عند القبر ولا غيره، وكلُّ هذا بدعة حادثة بعده مكروهة. وكان من هديه: السكونُ، والرِّضى بقضاء الله، والحمدُ لله، والاسترجاع، وبرِئ ممن خرَق لأجل المصيبة ثيابه، أو رفع صوته بالنَّدْب والنِّياحة، أو حلَق لها شعره. وكان من هديه: أنَّ أهل الميت لا يتكلَّفون الطعام للناس؛ بل أمَر أن يصنع النَّاسُ لهم طعامًا يرسلونه إليهم، وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشِّيَم والحملِ عن أهل الميت؛ فإنَّهم في شغلٍ بمصابهم عن إطعام الناس. [1] القلنسوة: الطاقية، أو غطاء الرأس. [2] الجُبَّة: ثوب سابغ، واسع الكمين، مشقوق المقدم، يلبس فوق الثياب. [3] القَباء: ثوب يشبه القميص، ويلبس فوق الثياب أو القميص ويتمنطق عليه. [4] الفَرَجيَّة: ثوب واسع مفرج من قدامه من أعلاه إلى أسفله، يلبس فوق سائر الثياب. [5] الخَميصة: ثياب من خزٍّ أو صوف معلَم، وهي سود، كانت من لباس الناس. [6] الساذجة: غير المنقوشة. [7] المكفوفة بالسُّندُس: في أطرافها الديباج الرقيق، قال الأصمعي: المساتق: فِراءٌ طوال الأكمام. قال الخطَّابي: يشبه أن تكون هذه المُسْتقة مكفوفةً (وكفَّف القميص بالحرير: عمل على ذيله وأكمامه وجيبه كِفافًا من حرير. وكِفاف الثوب: حاشيته وأطرافه) بالسندس؛ لأن الفروة لا تكون سندسًا. [8] التاسُومة: ويقال أيضًا: «تَسْمَة»، وتعني: الجلد غير المدبوغ، والسَّير الذي يُقَدُّ من الجلد. [9] الخَزيرة: حِساء يُتَّخَذ من اللبن والدقيق. [10] الدُّبَّاء: القرع واليقطين. [11] النِّطع: بساط من جلد. [12] أَدَمًا حشوُه لِيف: جلد مدبوغ محشو بقشر النخيل. [13] التَّكفُّؤُ: التَّمايُل في المشي إلى الأمام. [14] السُّكَّة: الطيب المركَّب. [15] أفراطكم: جمع فَرَط: وهو من يتقدم القوم ويسبقهم.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() لطائف من زاد المعاد في هدي خير العباد (2) سائد بن جمال دياربكرلي فصل فيمن هو أهْلٌ لأخْذِ الزكاة: كان إذا عَلِم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحَدٌ من الزكاة ولم يعرف حاله أعطاه، بَعْدَ أن يُخبِره أنه لا حَظَّ فيها لغَنِيٍّ ولا لقَوِيٍّ مكتسب. فصل في نهي المتصدِّق أن يشتري صدقته: كان ينهى المتصدِّقَ أن يشتري صدقتَه، وكان يُبِيح للغنيِّ أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير، وأكل صلى الله عليه وسلم من لحمٍ تُصدِّقَ به على بَرِيرة، وقال: «هو عليها صدقةٌ، ولنا منها هديَّة». فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوُّع: كان يتنوَّع في أصناف عطائه وصدقته، فتارةً بالهبة، وتارةً بالصدقة، وتارةً بالهدية، وتارةً يَشتري الشيء، ثمَّ يُعطي البائع الثمنَ والسِّلْعةَ جميعًا، كما فعل بجابر، وتارةً كان يقترض الشيءَ فيردُّ أكثرَ منه وأفضلَ، ويشتري الشيءَ فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهديةَ، ويكافئ عليها بأكثَر منها أو بأضعافها، تلطُّفًا وتنوُّعًا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع: كان يصوم حتَّى يُقال: لا يُفطِر، ويُفطِر حتَّى يُقال: لا يصوم، وما استكمل صيام شهرٍ غير رمضان، وما كان يصوم في شهرٍ أكثرَ ممَّا يصوم في شعبان،ولم يكن يخرج عنه شهرٌ حتَّى يصوم منه. ولم يصم الثَّلاثة الأشهر سردًا كما يفعله بعض النَّاس، ولا صام رجبًا قطُّ، ولا استحبَّ صيامه، بل روي عنه النَّهي عن صيامه؛ ذكره ابن ماجه. وكان يتحرَّى صيام يوم الاثنين والخميس، وقال ابن عبَّاسٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفطِر أيَّام البيض في حَضَرٍ ولا سفرٍ، ذكره النَّسائيُّ، وكان يحضُّ على صيامها. وقال ابن مسعودٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غُرَّة كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ ذكره أبو داود والنَّسائي. وقالت عائشة: لم يكن يُبالي من أيِّ الشَّهر يصومها؛ ذكره مسلم. ولا تناقضَ بين هذه الآثار. وكان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيقول: «هل عندكم شيءٌ؟»، فإن قالوا: لا، قال: «إنِّي إذًا صائمٌ»، فينشئ النيَّة للتَّطوُّع من النَّهار، وكان أحيانًا ينوي صوم التَّطوُّع ثمَّ يفطر بعدُ، أخبرت عائشة عنه بهذا وهذا، فالأوَّل في «صحيح مسلم»، والثَّاني في «كتاب النَّسائي». وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان صائمًا ونزل على قومٍ أتمَّ صيامه ولم يفطر، كما دخل على أم سُليم، فأتتْه بتمرٍ وسَمْنٍ، فقال: «أعيدوا سَمْنَكم في سِقائه، وتمرَكم في وعائه، فإنِّي صائمٌ»، ولكنَّ أُمَّ سليم كانت عنده بمنزلة أهل بيته، وقد ثبت عنه في «الصَّحيح»: «إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ وهو صائمٌ فليقل: إنِّي صائمٌ». فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف: شُرِع الاعتكاف في أفضل أيَّام الصَّوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه اعتكف مفطرًا قطُّ، بل قد قالت عائشة: «لا اعتكافَ إلا بصومٍ»، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصَّوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصَّوم، فالقول الرَّاجح في الدَّليل الذي عليه جمهور السَّلف: أنَّ الصَّوم شرطٌ في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجِّحه شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحَه. كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتَّى توفَّاه الله عزَّ وجلَّ، وتركه مرَّةً، فقضاه في شوَّالٍ. واعتكف مرَّةً العشرَ الأوَّل ثمَّ الأوسط ثمَّ العشر الأخير، يلتمس ليلة القدر، ثمَّ تبيَّن له أنَّها في العشر الأخير، فداومَ على اعتكافه حتَّى لحق بربِّه عزَّ وجلَّ. وكان يأمر بخِبَاءٍ فيُضرَب له في المسجد، يخلو فيه بربِّه عزَّ وجلَّ. وكان إذا أراد الاعتكاف صلَّى الفجر ثمَّ دخله، فأمر به مرَّةً فضُرِب له، فأمر أزواجه بأخبيتهنَّ فضُرِبت، فلمَّا صلَّى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه فقُوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتَّى اعتكف في العشر الأوَّل من شوَّال. وكان يعتكف كلَّ سنةٍ عشرة أيَّامٍ، فلمَّا كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان يعارضه جبريل بالقرآن كلَّ سنةٍ مرَّةً، فلمَّا كان ذلك العام عارضه به مرَّتين، وكان يعرض عليه القرآن أيضًا في كلِّ سنةٍ مرَّةً فعرض عليه تلك السَّنة مرَّتين. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره: في «الصَّحيحين» عن أنس بن مالكٍ قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عُمَرٍ، كلُّهنَّ في ذي القعدة، إلا الَّتي مع حجَّته: عمرةٌ من الحديبية أو زمنَ الحديبية في ذي القعدة، وعمرةٌ من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرةٌ من الجِعرانة حيث قَسَم غنائم حنينٍ في ذي القعدة، وعمرةٌ مع حجَّته. ولم يكن في عُمَره عمرةٌ واحدةٌ خارجًا من مكَّة كما يفعله كثيرٌ من النَّاس اليوم، وإنَّما كانت عُمَره كلُّها داخلًا إلى مكَّة، وقد أقام بعد الوحي بمكَّة ثلاث عشرة سنةً لم يُنقَل عنه أنَّه اعتمر خارجًا من مكَّة في تلك المدَّة أصلًا، فالعمرة الَّتي فعلَها وشَرعَها هي عمرة الدَّاخل إلى مكَّة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحلِّ ليعتمر. والمقصود أنَّ عُمَره كلَّها كانت في أشهر الحجِّ مخالفةً لهدي المشركين، فإنَّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحجِّ ويقولون: هي من أفجر الفجور، وهذا دليلٌ على أنَّ الاعتمار في أشهر الحجِّ أفضل منه في رجبٍ بلا شكٍّ. وأمَّا التفضيل بينه وبين الاعتمار في رمضان فموضع نظرٍ، فقد صحَّ عنه أنَّه أمر أمَّ مَعْقِلٍ لمَّا فاتها الحجُّ معه أن تعتمر في رمضان، وأخبرها أنَّ عمرةً في رمضان تعدل حجَّةً. وأيضًا فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضلُ الزَّمان وأفضلُ البقاع، ولكن لم يكن الله ليختار لنبيِّه في عُمَره إلا أوْلى الأوقات وأحقَّها بها، فكانت العمرة في أشهر الحجِّ نظيرَ وقوع الحجِّ في أشهره، وهذه الأشهر قد خصَّها الله بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها، والعمرة حجٌّ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحجِّ، وذو القعدة أوسطها، وهذا ممَّا يُستخار الله فيه، فمن كان عنده فضلُ علمٍ فليرشد إليه. وقد يقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهمُّ من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمعُ بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخَّر العمرة إلى أشهر الحجِّ، ووفَّر نفسَه على تلك العبادات في رمضان، مع ما في ترك ذلك من الرَّحمة بأمَّته والرَّأفة بهم، فإنَّه لو اعتمر في رمضان لبادرت الأمَّة إلى ذلك، وكان يشقُّ عليها الجمع بين العمرة والصَّوم، وربَّما لا تسمح أكثر النُّفوس بالفطر في هذه العبادة حرصًا على تحصيل العمرة وصوم رمضان، فتحصل المشقَّة، فأخَّرها إلى أشهر الحجِّ، وقد كان يترك كثيرًا من العمل وهو يحبُّ أن يعمله خشيةَ المشقَّة عليهم. ولم يُحفَظ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه اعتمر في السَّنة إلا مرَّةً واحدةً، ولم يعتمر في سنةٍ مرَّتين، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة» دليلٌ على التَّفريق بين الحجِّ والعمرة في التَّكرار، وتنبيهٌ على ذلك؛ إذ لو كانت العمرة كالحجِّ لا تُفعل في السَّنة إلا مرَّةً لسوَّى بينهما ولم يفرِّق. ولا خلاف أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يحجَّ بعد هجرته إلى المدينة سوى حجَّةٍ واحدةٍ وهي حجَّة الوداع، ولا خلافَ أنَّها كانت سنة عشرٍ. ولمَّا عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجِّ أعلمَ النَّاسَ أنَّه حاجٌّ، فتجهَّزوا للخروج معه، وسمع بذلك مَن حول المدينة، فقدموا يريدون الحجَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطَّريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مدَّ البصر، وخرج من المدينة نهارًا بعد الظُّهر لستٍّ بقين من ذي القعدة بعد أن صلَّى الظُّهر بها أربعًا، وخطبَهم قبل ذلك خطبةً علَّمهم فيها الإحرامَ وواجباتِه وسننَه. في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى: ثبت عنه أنَّه قال: «إنَّ أخنعَ اسمٍ عند الله رجلٌ تسمَّى مَلِكَ الأملاك، لا مَلِكَ إلا اللَّه». وثبت عنه أنَّه قال: «أحبُّ الأسماء إلى الله عبداللَّه وعبدالرَّحمن، وأصدقها حارثٌ وهمَّامٌ، وأقبحها حربٌ ومرَّة». وثبت عنه أنَّه قال: «لا تُسمِّينَّ غلامك يسارًا ولا رباحًا ولا نجيحًا ولا أفلح؛ فإنَّك تقول: أَثَمَّ هو؟ فلا يكون، فيقول: لا»[1]. وثبت عنه أنَّه غيَّر اسم عاصية، وقال: «أنتِ جميلةٌ»، وكان اسم جُويرية بَرَّة، فغيَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم جويرية. وقالت زينب بنت أم سلمة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمَّى بهذا الاسم، وقال: «لا تُزكُّوا أنفسَكم، الله أعلمُ بأهل البرِّ منكم». فصل في النهي عن تسمية العنب كرمًا: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب كَرْمًا، وقال: «الكَرْم قلبُ المؤمن»، وهذا لأنَّ هذه اللَّفظة تدلُّ على كثرة الخير والمنافع في المسمَّى بها، وقلب المؤمن هو المستحقُّ لذلك دون شجرة العنب، ولكن: هل المراد النَّهي عن تخصيص شجر العنب بهذا الاسم، وأنَّ قلب المؤمن أوْلَى به منه، فلا يُمنَع من تسميته بالكرم، كما قال في المسكين والرَّقوب[2] والمفلس، أو المراد أنَّ تسميته بهذا مع اتِّخاذ الخمر المحرَّم منه وصفٌ بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشَّراب الخبيث المحرَّم، وذلك ذريعةٌ إلى مدْحِ ما حرَّم الله وتهييجِ النُّفوس عليه! هذا محتملٌ، والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والأولى ألا يُسمَّى شجر العنب كَرْمًا. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ: كان يتخيَّر في خطابه، ويختار لأُمَّته أحسنَ الألفاظ وأجملَها وألطفَها، وأبعدَها من ألفاظ أهل الجفاء والغِلْظة والفُحْش، فلم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا ولا فظًّا. وكان يكره أن يستعمل اللَّفظ الشَّريف المَصُون في حقِّ من ليس كذلك، وأن يستعمل اللَّفظ المَهِين المكروه في حقِّ من ليس من أهله. ومن ذلك قوله: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلانٌ، ولكن قولوا: ما شاء الله ثمَّ شاء فلانٌ». ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الدَّهر، وقال: «إنَّ الله هو الدَّهر»، وفي حديثٍ آخر: «يقول الله عزَّ وجلَّ: يُؤذِيني ابنُ آدم فيسبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهر، بيدي الأمرُ، أُقلِّب اللَّيلَ والنَّهار»، وفي حديثٍ آخر: «لا يقولنَّ أحدكم: يا خيبةَ الدَّهر». ونهيُهُ صلى الله عليه وسلم أن يقول الرَّجل: «خَبُثَتْ نفسي»، ولكن يقول: «لَقِسَتْ نفسي»، ومعناهما واحدٌ؛ أي: غَثَتْ وساء خُلُقها، فكره لهم لفظ الخبث؛ لما فيه من القبح والشَّناعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدال اللَّفظ المكروه بأحسنَ منه. ونهيهُ صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر: «لَو أنِّي فعلتُ كذا وكذا»، وقال: «إنَّها تفتح عملَ الشَّيطان»، وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: «قَدَّر الله وما شاء فعل». فصل في السلام على الصبيان والنساء: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه مرَّ بصبيانٍ فسلَّم عليهم، ذكره مسلم. وفي «صحيح البخاريِّ»: أنَّ الصَّحابة كانوا ينصرفون من الجمعة فيمرُّون على عجوزٍ في طريقهم فيسلِّمون عليها، فتُقدِّم لهم طعامًا من أصول السِّلْق والشَّعير. وهذا هو الصَّواب في مسألة السَّلام على النِّساء، يُسلَّم على العجوز وذواتِ المحارم دونَ غيرهنَّ. فصل في تسليم الصغير على الكبير والماشي على القاعد: وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في «صحيح البخاريِّ» وغيره تسليمُ الصَّغير على الكبير، والمارِّ على القاعد، والرَّاكبِ على الماشي، والقليلِ على الكثير. وكان من هديه السَّلامُ عند المجيء إلى القوم، والسَّلام عند الانصراف عنهم، وثبت عنه أنَّه قال: «إذا قعدَ أحدُكم فلْيُسلِّم، وإذا قام فليسلِّم، فليست الأولى بأحقَّ من الآخرة». وذكر أبو داود عنه: «إذا لقي أحدُكم صاحبَه فلْيُسَلِّم عليه، فإن حال بينهما شجرةٌ أو جِدارٌ ثمَّ لقيه فليسلِّم عليه أيضًا». وقال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشَون، فإذا لَقِيَتْهم شجرةٌ أو أَكَمةٌ تفرَّقوا يمينًا وشمالًا، وإذا التقَوا من ورائها سلَّم بعضُهم على بعضٍ. ويُسَنُّ لداخل المسجد إذا كان فيه جماعةٌ ثلاث تحيَّاتٍ مترتِّبةٍ: أحدها أن يقول عند دخوله: «بسم الله والصَّلاة على رسول اللَّه»، ثمَّ يصلِّي ركعتين تحيَّة المسجد، ثمَّ يسلِّم على القوم. فصل في التسليم على من يواجهه وتحمله السلام للغائب: وكان يُسلِّم بنفسه على من يواجهه، ويُحمِّل السَّلام لمن يريد السَّلام عليه من الغائبين عنه، ويتحمَّل السَّلام لمن يبلِّغه إليه، كما تحمَّل السَّلام من الله عزَّ وجلَّ على صدِّيقة النِّساء خديجة بنت خُويلدٍ لمَّا قال له جبريل: «هذه خديجة قد أتتك بطعامٍ، فاقرأْها السَّلام من ربِّها، وبشِّرها ببيتٍ في الجنَّة». وقال للصِّدِّيقة الثَّانية بنت الصِّدِّيق عائشة: «هذا جبريل يقرأ عليكِ السَّلام»، فقالت: وعليه السَّلام ورحمة الله وبركاته، يرى ما لا نرى. فصل في بدء من لقيه بالسلام، ورد التحية بمثلها أو أفضل منها: وكان يبدأ من لقيه بالسَّلام، وإذا سلَّم عليه أحدٌ ردَّ عليه مثلَ تحيَّته أو أفضلَ منها على الفور من غير تأخيرٍ، إلا لعذرٍ مثل حالة الصَّلاة، أو حالة قضاء الحاجة. وكان يُسمِع المسلمَ ردَّه عليه، ولم يكن يردُّ بيده ولا رأسه ولا إصبعه إلا في الصَّلاة، فإنَّه كان يردُّ على من سلَّم عليه إشارةً، ثبت ذلك عنه في عدَّة أحاديث. وكان من هديه تركُ السَّلام ابتداءً وردًّا على من أحدث حدثًا حتَّى يتوب منه، كما هجر كعبَ بن مالكٍ وصاحبيه، وكان كعب يسلِّم عليه ولا يدري هل حرَّك شفتيه بردِّ السَّلام عليه أم لا؟[3]. [1] النهي محمول على التنزيه، وتركه أوْلى من فعله، وسبب النهي أن التسمية بتلك الأسماء تؤدي إلى أن يسمع المسلم ما يكرهه إذا سأل عمَّن كان هذا اسمه وهو غير موجود، فينفي المسؤول عنه، فيكون في رَدِّه شؤم بفقدان اليسر والربح والنجاح والفلاح، وفي ذلك بشاعة في الجواب واحتمال الوقوع في الطِّيَرَة. [2] الذي لا يعيش له ولد؛ كما في الحديث في صحيح مسلم 2608. [3] يُنظَر للفائدة: "شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلُّفه عن غزوة تبوك" للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله. شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (1) شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (2)
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() لطائف من زاد المعاد في هدي خير العباد (3) سائد بن جمال دياربكرليإسلام أبي بكر وخديجة في مبتدأ الدعوة: ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل استجاب له عبادُ الله من كل قبيلة، فكان حائزَ قصبِ سَبْقِهم صدِّيقُ الأمة وأسبقُها إلى الإسلام أبو بكر -رضي الله عنه- فآزره في دين الله ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجاب لأبي بكر: عثمانُ بن عفَّان، وطلحةُ بن عبيد الله، وسعدُ بن أبي وقَّاص. وبادر إلى الاستجابة له صلى الله عليه وسلم صدِّيقةُ النساء خديجةُ بنت خُوَيلد، وقامت بأعباء الصدِّيقيَّة، وقال لها: «لقد خشيتُ على عقلي»، فقالت: أبشِر، فوالله لا يُخزِيك الله أبدًا، ثم استدلَّتْ بما فيه من الصفات والأخلاق والشِّيَم على أن من كان كذلك لا يَخْزى أبدًا؛ فعَلِمت بكمال عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة والأخلاقَ الفاضلةَ والشِّيَم الشريفةَ تُناسِبُ أشكالَها من كرامة الله وتأييده وإحسانه، لا تناسب الخِزْيَ والخِذلان، وإنما يناسبه أضدادُها، فمن ركَّبه الله على أحسن الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليق به كرامتُه وإتمامُ نعمته عليه، ومن ركَّبه على أقبح الصفات وأسوأ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبها، وبهذا العقل والصديقية استحقَّتْ أن يُرسِل إليها ربُّها السلامَ منه مع رسولَيه جبريلَ ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم. محاولة قريش أن يرد النجاشي عليهم المهاجرين: انحاز المهاجرون إلى مملكة أَصْحَمة النجاشي آمنين، فلما علمت قريش بذلك بعثت في أثرهم عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا وتُحَف من بلادهم إلى النجاشي ليردَّهم عليهم، فأبى ذلك عليهم، وتشفَّعُوا إليه بعظماء جُنده فلم يُجِبْهم إلى ما طلبوا، فوَشَوا إليه أن هؤلاء يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، يقولون: إنه عبدٌ، فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه ومقدَّمهم جعفر بن أبي طالب، فلما أرادوا الدخول عليه قال جعفر: يستأذن عليك حزبُ الله، فقال للآذن: قل له: يعيد استئذانَه، فأعاده، فلما دخلوا عليه قال: ما تقولون في عيسى؟ فتلا عليه جعفر صدرًا من سورة كهيعص، فأخذ النجاشي عُودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى على هذا، ولا هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله، فقال: وإن نخرتم، وإن نخرتم! ثم قال: اذهبوا فأنتم سُيُوم بأرضي، من سبَّكم غُرِّم. و«السيوم» بلسانهم: الآمنون. وقال للرسولين: لو أعطيتموني دَبْرًا من ذهب ــ يقول: جبلًا من ذهب ــ ما أسلمتهم إليكما، ثم أمر فرُدَّت عليهما هداياهما ورجعا مقبوحَين. الإسراء والمعراج: اختلاف الصحابة؛ هل رأى صلى الله عليه وسلم ربَّه تلك الليلة أم لا؟ واختلف الصحابة: هل رأى ربَّه تلك الليلة أم لا؟ فصحَّ عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده. وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ [النجم: 13] إنما هو جبريل. وصحَّ عن أبي ذرٍّ أنه سأله: هل رأيت ربَّك؟ فقال: «نور أنَّى أراه؟»، أي: حال بيني وبين رؤيته النورُ، كما قال في اللفظ الآخر: «رأيت نورًا». وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله روحه -: وليس قول ابن عباس: «إنه رآه» مناقضًا لهذا، ولا قوله «رآه بفؤاده»؛ وقد صحَّ عنه أنه قال: «رأيت ربي تبارك وتعالى»، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان بالمدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ثم أخبرهم عن رؤية ربِّه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بُدَّ، ولكن لم يقل أحمد: إنه رآه بعينَي رأسه يقظةً، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن مرةً قال: رآه، ومرةً قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه: أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك. وأما قول ابن عباس: إنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله تعالى: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]، ثم قال: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ [النجم: 13]، والظاهر أنه مستنده، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خُلِق عليها، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم. وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة واستقبال الأنصار له: وبلغ الأنصارَ مخرجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وقصدُه المدينة، فكانوا يخرجون كلَّ يومٍ إلى الحرَّة ينتظرونه أولَ النهار، فإذا اشتدَّ حرُّ الشمس رجعوا إلى منازلهم، فلما كان يومُ الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاثَ عشرةَ سنةً من نبوَّته خرجوا على عادتهم فلما حَمِي حرُّ الشمس رجعوا، فصعد رجل من اليهود على أُطُمٍ من آطام المدينة لبعض شأنه فرأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبيِّضين يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قَيْلَةَ! هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدُّكم[1]الذي تنتظرونه؛ فثار الأنصار إلى السلاح ليتلقَّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُمِعت الوَجْبَة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحًا بقدومه وخرجوا للقائه، فتلقَّوه وحيَّوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مُطِيفِين حولَه، والسكينةُ تغشاه، والوحيُ ينزل عليه، واللهُ مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف فنزل على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلةً وأسَّس مسجد قباء، وهو أول مسجدٍ أُسِّس بعد النبوة. فلما كان يومُ الجمعة ركب بأمر الله له فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمَّع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي. بناء المسجد: قال الزهري: بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجده، وهو يومئذٍ يُصلِّي فيه رجال من المسلمين، وكان مِرْبدًا لسهلٍ وسهيلٍ غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا في حِجر أسعد بن زرارة، فساوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نَهَبُه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وكان جدارًا ليس له سقف وقبلته إلى بيت المقدس، وكان يصلي فيه ويجمِّع أسعدُ بن زرارة قبل مَقْدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيه شجرُ غرقدٍ ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فنُبِشت، وبالنخل والشجر فقطعت وصُفَّت في قبلة المسجد، وجُعِل طولُه مما يلي القبلة إلى مؤخَّره مائةَ ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجُعِل أساسُه قريبًا من ثلاث أذرع، ثم بنوه باللَّبِن، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم وينقل اللبن والحجارة بنفسه ويقول: اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرهْ ![]() فاغفر للأنصار والمهاجرهْ ![]() ![]() ![]() وكان يقول: هذا الحِمال لا حِمالُ خيبر ![]() هذا أبرُّ ربَّنا وأطهر ![]() ![]() ![]() وجَعَل قبلتَه إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثةَ أبواب: بابًا في مؤخَّره، وبابًا يقال له باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجَعل عُمُدَه الجذوع، وسُقِف بالجريد، وقيل له: ألا نَسْقُفُه؟ فقال: «لا، عريش كعريش موسى»، وبنى بيوتًا إلى جانبه بيوتَ الحُجَر باللَّبِن، وسَقَفها بالجذوع والجريد، فلمَّا فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقيَّ المسجدِ يليه، وهو مكان حجرته اليوم، وجعل لسودة بنت زمعة بيتًا آخر. مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار: ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلًا: نصفُهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار؛ آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: ٧٥] ردَّ التوارثَ إلى الرَّحِم دون عقد الأخوة. والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقَرابة النسب عن عقد مواخاةٍ، بخلاف المهاجرين مع الأنصار. ولو واخى بين المهاجرين لكان أحقَّ الناس بأخوته أحبُّ الخلق إليه ورفيقُه في الهجرة، وأنيسُه في الغار، وأفضل الصحابة، وأكرمُهم عليه: أبو بكر الصديق، وقد قال: «لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخوة الإسلام أفضل»، وفي لفظ: «ولكن أخي وصاحبي». وهذه الأخوة في الإسلام وإن كانت عامةً كما قال: «وددت أنَّا قد رأينا إخواننا»، قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يَرَوني»؛ فلِلصِّديق من هذه الأخوة أعلى مراتبها، كما له من الصحبة أعلى مراتبها، فالصحابة لهم الأخوة ومزيَّةُ الصحبة، ولأتباعه بعدَهم الأخوة دون الصحبة. تحويل القبلة: وكان يصلي إلى قبلة بيت المقدس ويحبُّ أن يُصْرَف إلى الكعبة، وقال لجبريل: «وددتُ أن الله صرف وجهي عن قبلة اليهود»، فقال: إنما أنا عبد، فادعُ ربك وسَلْه؛ فجعل يُقلِّب وجهَه في السماء يرجو ذلك، حتى أنزل الله عليه: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: ١٤٤]، وذلك بعد ستة عشر شهرًا من مقدمه المدينةَ، قبلَ وقعةِ بدرٍ بشهرين. وكان في جَعْل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلِها إلى الكعبة حِكَمٌ عظيمة، ومحنةٌ للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين. فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا، وقالوا: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾، وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم. وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا لأنها الحق. وأما اليهود فقالوا: خالف قبلةَ الأنبياء قبله، ولو كان نبيًّا لكان يصلي إلى قِبلة الأنبياء. وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجَّه؛ إن كانت القبلة الأولى حقًّا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحقَّ فقد كان على باطل. وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت ــ كما قال الله ــ كبيرةً إلا على الذين هدى الله، وكانت محنةً من الله امتحن بها عبادَه ليرى من يتَّبع الرسولَ منهم ممن ينقلب على عقبَيه. هَدْيه في الأمان والصلح، ومعاملة رسل الكفار، وأخذ الجزية، ومعاملة أهل الكتاب والمنافقين: لمَّا قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: • قسم صالحهم ووادعهم على ألَّا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يُمالِئُوا عليه عدوَّه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. • وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. • وقسم تارَكوه فلم يُصالِحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمرُه وأمرُ أعدائه. ثم مِن هؤلاء من كان يحب ظهورَه وانتصاره في الباطن، ومنهم: من كان يحب ظهور عدوِّه عليه وانتصارَهم، ومنهم: من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كلَّ طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربُّه تبارك وتعالى. وكان هديه أنه إذا صالح قومًا، فنقض بعضُهم عهدَه وصُلْحَه، وأقَرَّهم الباقون ورَضُوا به، غزا الجميعَ وجعلهم كلَّهم ناقضين، كما فعل بقريظة والنضير وبني قينقاع، وكما فعل بأهل مكة. فهذه سنته في أهل العهد، وعلى هذا ينبغي أن يُجرى أهلُ الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرِهم. وخالفهم أصحاب الشافعي فخصُّوا نقضَ العهد بمن نقضه خاصةً دون من رضي به وأقرَّ عليه، وفرَّقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد، ولهذا كان موضوعًا على التأبيد بخلاف عقد الهدنة والصلح. وكان هديه وسنته أنه إذا صالح قومًا وعاهدهم فانضاف إليهم عدو له سواهم فدخلوا معهم في عقدهم، وانضاف إليه قوم آخرون فدخلوا معه في عقده، صار حكمُ من حارب من دخل معه في عقده من الكفار حكمَ من حاربه. وبهذا السبب غزا أهلَ مكة، فإنه لما صالحهم على وضع الحرب بينه وبينهم عشرَ سنين تواثَبَتْ بنو بكر بن وائل فدخلت في عهد قريش وعقدِها، وتواثبت خزاعةُ فدخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، ثم عَدَتْ بنو بكرٍ على خزاعةَ فبيَّتَتْهم وقتلت منهم، وأعانتهم قريش في الباطن بالسلاح، فعَدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا ناقضين للعهد بذلك واستجاز غزوَ بني بكر بن وائل لتعدِّيهم على حلفائه. وكانت تَقْدَم عليه رسلُ أعدائه وهم على عداوته فلا يهيجهم ولا يقتلهم، ولما قدم عليه رسولا مسيلمةَ الكذاب ــ وهما: عبدالله بن النواحة، وابن أثال ــ قال لهما: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واللهِ لولا أن الرسل لا تُقتَل لضربتُ أعناقكما»، فجرت سنته ألَّا يُقتَل رسول. وكان هديه أيضًا ألَّا يحبسَ الرسولَ عنده إذا اختار دينه ويمنعَه من اللِّحاق بقومه، بل يردُّه إليهم كما قال أبو رافع: بعثتني قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتيتُه وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، لا أرجع إليهم، قال: «إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرُد، ارجِعْ إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجِعْ». قال أبو داود: كان هذا في المدة التي شرط لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردَّ إليهم مَن جاءَه منهم وإن كان مسلمًا، وأما اليوم فلا يصلح هذا؛ انتهى. وفي قوله: «لا أحبس البُرُد» إشعار بأنَّ هذا حكم يختصُّ بالرسل مطلقًا، وأما ردُّه مَن جاء إليه منهم وإن كان مسلمًا، فهذا إنما يكون مع الشرط كما قال أبو داود، وأما الرسل فلهم حكم آخر، ألا تراه لم يتعرض لرسولَي مسيلمة وقد قالا له في وجهه: نشهد أن مسيلمة رسول الله. وكان من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحدًا من أصحابه على عهدٍ لا يضرُّ بالمسلمين بغير رضاه أمضاه لهم، كما عاهدوا حذيفةَ وأباه ألَّا يقاتلاهم معه صلى الله عليه وسلم، فأمضى لهم ذلك وقال لهما: «انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم ونستعين اللهَ عليهم». وأما هديه في عقد الذمة وأهلِ الجزية، فإنه لم يأخذ من أحد من الكفار جزيةً إلا بعد نزول (براءة) في السنة الثامنة من الهجرة، فلما نزلت آية الجزية أخذها من المجوس، وأخذها من أهل الكتاب، فأخذها من النصارى، وبعث معاذًا إلى اليمن فعقد لمن لم يُسْلِم مِن يهودها الذمةَ وضرب عليهم الجزية. ولم يأخذها من يهود خيبر، فظنَّ بعضُ الغالطين المخطئين أن هذا حكم مختصٌّ بأهل خيبر، وأنه لا تؤخذ منهم جزية وإن أُخِذت من سائر أهل الكتاب. وهذا من عدم فقهه في السير والمغازي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم وصالحهم على أن يُقرَّهم في الأرض ما شاء ولم تكن الجزية نزلت بعدُ، فسبق عقدُ صلحهم وإقرارِهم في أرض خيبر نزولَ الجزية، ثم أمره الله سبحانه أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فلم يدخل في هذا يهود خيبر إذ ذاك؛ لأن العقد كان قد تمَّ بينه وبينهم على إقرارهم وأن يكونوا عُمَّالًا في الأرض بالشطر، فلم يطالبهم بشيءٍ غيرِ ذلك، وطالب سواهم من أهل الكتاب مِمَّن لم يكن بينه وبينهم عقد كعقدهم بالجزية، كنصارى نجران ويهودِ اليمن وغيرهم، فلمَّا أجلاهم عمر إلى الشام تغير ذلك العقد الذي تضمَّن إقرارَهم في أرض خيبر، وصار لهم حكم غيرهم من أهل الكتاب. وأما سيرته في المنافقين، فإنه أُمِر أن يقبل منهم علانيتهم وَيكِلَ سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأُمر أن يُعرِض عنهم ويغلُظَ عليهم، وأن يبلُغَ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونُهِي أن يُصلِّي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأُخبِر أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم؛ فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين. شواهد قتال الملائكة ببدر: وكانت الملائكة يومئذٍ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم؛ قال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يومئذٍ يشتدُّ في أثر رجلٍ من المشركين أمامَه إذ سمع ضربةً بالسَّوط فوقَه وصوتَ الفارس فوقَه يقول: «أَقدِمْ حَيْزُوم»، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِم أنفه وشُقَّ وجهه كضربة السوط فاخضرَّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة». وقال أبو داود المازني: إني لأَتْبَع رجلًا من المشركين لِأضربَه إذ وقع رأسُه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفتُ أنه قد قتله غيري. وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلحُ[2]من أحسن الناس وجهًا على فرسٍ أبلقَ[3]، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسَرْتُه يا رسول الله، فقال: «اسكت، فقد أيَّدَك اللهُ بمَلَكٍ كريم». إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث من السبي وتزوجها: كان من جملة السبي جويريةُ بنت الحارث سيدِ القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوَّجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائةَ أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم[4]. حادثة الإفك: تأملات في قول عائشة «والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله». ومن تأمل قولَ الصديقة وقد نزلت براءتُها، وقال لها أبواها: قُومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله» عَلِم معرفتها وقوةَ إيمانها، وتوليتها النعمةَ ربَّها وإفرادَها له بالحمد في ذلك المقام، وتجريدَها التوحيد، وقوةَ جأشِها وإدلالَها ببراءةِ ساحتها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامَها في مقام الراغب في الصلح الطالب له، ولِثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قالت ما قالت إدلالًا للحبيب على حبيبه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو مِن أحسن مقامات الإدلال، فوضعتْه في موضعه. ولله ما كان أحبَّها إليه حين قالت: «لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي»! ولله ذلك الثباتُ والرزانة منها وهو أحب شيء إليها ولا صبر لها عنه! وقد تنكَّر قلبُ حبيبها لها شهرًا ثم صادفت الرِّضا منه والإقبال، فلم تبادر إلى القيام إليه والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له، وهذا غاية الثبات والقوة. سبي النبي صلى الله عليه وسلم صفية ثم تزوجه إياها: وسبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب وابنة عمِّها، وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق وكانت عَروسًا حديثة عهدٍ بالدخول. وعرض عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فاصطفاها لنفسه وأعتقها وجعل عِتقها صداقَها، وبنى بها في الطريق وأولم عليها، ورأى بوجهها خُضرةً فقال: «ما هذا؟» قالت: يا رسول الله، رأيتُ قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه فسقط في حجري ــ ولا واللهِ ما أذكر من شأنك شيئًا ــ فقصصتُها على زوجي فلطم وجهي وقال: تَمَنَّينَ هذا المَلِك الذي بالمدينة؟! وشكَّ الصحابة هل اتخذها سُرِّيَّةً أو زوجةً؟ فقالوا: انظروا إن حجبها فهي إحدى نسائه وإلا فهي مما ملكت يمينه، فلما ركب جعل ثوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها ثم شدَّ طرفه تحته، فتأخَّروا عنه في المسير وعلموا أنها إحدى نسائه. ولما قدَّم فخذه ليحملها على الرحل أجَلَّتْ أن تضع قدمها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه ثم ركبت. سم اليهودية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية امرأةُ سلام بن مشكم شاةً مشويَّةً قد سمَّتها، وسألت: أيُّ اللحم أحب إليه؟ فقالوا: الذراع، فأكثرت من السمِّ في الذراع، فلمَّا انتهش من ذراعها أخبره الذراع بأنه مسموم فلفظ الأكلة، ثم قال: «اجمعوا لي مَن ها هنا مِن اليهود»، فجُمِعوا له فقال لهم: «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقيَّ فيه؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أبوكم؟» قالوا: أبونا فلان، قال: «كذبتم، أبوكم فلان»، قالوا: صدقت وبررت، قال: «هل أنتم صادقيَّ عن شيءٍ إن سألتكم عنه؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهل النار؟» فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلُفُوننا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسؤوا فيها! فوالله لا نَخلُفكم فيها أبدًا»، ثم قال: «هل أنتم صادقيَّ عن شيءٍ إن سألتكم عنه؟» قالوا: نعم، قال: «أجعلتم في هذه الشاة سمًّا؟» قالوا: نعم، قال: «فما حملكم على ذلك؟» قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريحُ منك، وإن كنتَ نبيًّا لم يضرَّك. وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أردت قتلك، فقال: «ما كان الله ليسلِّطكِ عليَّ»، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا». ولم يَعرِض لها ولم يعاقبها. اختصام علي وزيد وجعفر في حضانة ابنة حمزة: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة تبعتهم ابنةُ حمزةَ تنادي: يا عمِّ يا عمِّ، فتناولها عليٌّ فأخذ بيدها وقال لفاطمة: «دونكِ ابنةَ عمك» فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أخذتُها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم»، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وقال لجعفر: «أشبهتَ خَلقي وخُلُقي»، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا»؛ متفق على صحته. وفي هذه القصة من الفقه: أن الخالة مقدَّمة في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين. وأن تزوُّج الحاضنة بقريب من الطفل لا يسقط حضانتها. ونص أحمد في روايةٍ عنه على أن تزويجها لا يسقط حضانتها للجارية خاصةً، واحتج بقصة بنت حمزة هذه، ولمَّا كان ابنُ العم ليس محرمًا لم يفرق بينه وبين الأجنبي في ذلك وقال: تزوُّج الحاضنة لا يسقط حضانتها للجارية. وقال الحسن البصري: لا يكون تزوُّجها مسقطًا لحضانتها بحال، ذكرًا كان الولد أو أنثى. تصاول قوة الإحسان مع مرض العصيان في قلب المسلم: وبالجملة فقوة الإحسان ومرض العصيان يتصاولان ويتحاربان، ولهذا المرض مع هذه القوة حالةُ تزايدٍ وترامٍ إلى الهلاك، وحالةُ انحطاطٍ وتناقصٍ ــ وهي خير حالات المريض ــ وحالةُ وقوفٍ وتقابُلٍ إلى أن يقهر أحدهما الآخر. وإذا حلَّ وقت البُحران[5] ــ وهو ساعة المناجزة ــ فحظ القلب إحدى الخُطَّتين: إما السلامة وإما العطب، وهذا البحران يكون وقت فعل الموجِبات التي توجب رِضا الرب تعالى ومغفرتَه أو توجب سخطه وعقوبته. وفي الحديث الصحيح: «أتدرون ما المُوجِبتان؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار». يريد أن التوحيد والشرك رأس الموجبات وأصلها، فهما بمنزلة السم القاتل قطعًا والتِّرياق المُنجي قطعًا. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مروره بديار ثمود: في «صحيح مسلم» من حديث أبي حُمَيد: انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستهُبُّ عليكم الليلةَ ريحٌ شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشدَّ عقاله»، فهبَّت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقَتْه بجبلي طيئ. قال ابن هشام: بلغني عن الزهري أنه قال: لما مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر سجَّى ثوبه على وجهه واستحثَّ راحلته، ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفًا أن يصيبكم ما أصابهم». قلت: في «الصحيحين» من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبُكم مثلُ ما أصابهم». وفي «صحيح البخاري»: أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه. وفي «صحيح مسلم» أنه أمرهم أن يعلِفوا الإبل العجينَ، وأن يُهَرِيقوا الماء، ويستقوا من البئر التي كانت تَرِدها الناقة، ورواه البخاري أيضًا، وقد حفظ راويه ما لم يحفظه من روى الطَّرْح. فوران عين تبوك ماءً ببركة النبي صلى الله عليه وسلم: في «صحيح مسلم» أنه قال قبل وصوله إليها: «إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عينَ تبوكَ وإنكم لن تأتوها حتَّى يُضْحِيَ النهار، فمن جاءها فلا يَمَسَّ من مائها شيئًا حتى آتي»، قال: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعينُ مثلُ الشِّراك تبضُّ بشيءٍ من مائها[6]، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل مَسِسْتما من مائها شيئًا؟» قالا: نعم، فسبَّهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غَرَفوا من العين قليلًا قليلًا حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهَه ويديه ثم أعاده فيها فجَرَت العينُ بماء كثير فاستقى الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد مُلئ جِنانًا». [1]حظُّكم ودولتكم. وبنو قَيلة: هم الأوس والخزرج، نَسَبَهما إلى أمِّهما؛ وهي قيلة بنتُ كاهل بن عُذْرة القُضاعيَّة. [2] الأجلح: من انحسر شعره عن جانبي رأسه. [3] الأبلق: ما فيه سواد وبياض. [4] قالت عائشة - رضي الله عنها -: «فما أعلم امرأة كانت أعظمَ بركةً على قومها منها». [5] وقت البُحران: هو ساعة الفصل في التدافع الحاصل بين طبيعة الإنسان والمرض، وعندئذٍ تتغير حال المريض دَفعةً إما إلى الصحة وإما إلى العطب، وإذا كان البُحران في الحمَّى إلى الصحة فكثيرًا ما يصحبه عرق غزير وانخفاض سريع في درجة الحرارة، وهي كلمة سُريانية الأصل. [6] أي: تسيل وترشح بشيء يسير من الماء كأنه شراكُ نعلٍ.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() لطائف من زاد المعاد في هدي خير العباد (4) سائد بن جمال دياربكرليفصل في الطب النبوي: كان من هَدْيه صلى الله عليه وسلم فعلُ التَّداوي في نفسه، والأمرُ به لمن أصابه مرضٌ من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمالُ هذه الأدوية المركَّبة الَّتي تسمَّى "أَقْراباذين"[1]، بل كان غالب أدويتهم بالمفردات، وربَّما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسِر سَورته. وهذا غالب طبِّ الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والتُّرك وأهل البوادي قاطبةً، وإنَّما عُنِي بالمركَّبات الرُّومُ واليونانيُّون، وأكثرُ طبِّ الهند بالمفردات. وقد اتَّفق الأطبَّاء على أنَّه متى أمكن التَّداوي بالغذاء لا يُعدَل إلى الدَّواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يُعدَل إلى المركَّب، قالوا: وكلُّ داءٍ قُدِرَ على دفعه بالأغذية والحِمْية لم يُحاوَل دفعه بالأدوية. والتَّحقيق في ذلك أنَّ الأدوية من جنس الأغذية، فالأُمَّة والطَّائفة الَّتي غالبُ أغذيتها المفردات فأمراضها قليلةٌ جدًّا، وطبُّها بالمفردات، وأهلُ المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركَّبة يحتاجون إلى الأدوية المركَّبة، وسببُ ذلك أنَّ أمراضهم في الغالب مركَّبةٌ، فالأدوية المركَّبة أنفع لها، وأمراض أهل البوادي والصَّحاري مفردةٌ، فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة، فهذا برهان بحسب الصِّناعة الطِّبِّيَّة. وفي الصَّحيحين عن عطاء عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له شفاءً)). وفي المسند وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسب ابن آدم لُقَيماتٌ يُقِمْنَ صلبَه، فإن كان لا بدَّ فاعلًا فثُلُثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لشرابه، وثُلُثٌ لنَفَسِه)). ومراتب الغذاء ثلاثةٌ: أحدها: مرتبة الحاجة. والثَّانية: مرتبة الكفاية. والثَّالثة: مرتبة الفضلة. فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يكفيه لقيماتٌ يُقِمْنَ صلبَه، فلا تسقط قوَّته ولا تضعف معها، فإن تجاوزها فليأكل في ثُلُثِ بطنه، ويَدَعِ الثُّلث الآخر للماء، والثَّالث للنَّفس. وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواعٍ: أحدها: بالأدوية الطَّبيعيَّة. والثَّاني: بالأدوية الإلهيَّة. والثَّالث: بالمركَّب من الأمرين. فصل في هديه في علاج استطلاق البطن: في الصَّحيحين من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، ((أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ أخي يشتكي بطنه، وفي روايةٍ: استطلق[2] بطنه، فقال: اسقِه عسَلًا، فذهب، ثمَّ رجع فقال: قد سقيته، فلم يُغْنِ عنه شيئًا - وفي لفظٍ: فلم يزده إلا استطلاقًا - مرَّتين أو ثلاثًا، كلَّ ذلك يقول له: اسقِه عسلًا، فقال له في الثَّالثة أو الرَّابعة: صدَق اللَّه، وكذَب بطنُ أخيك)). وفي صحيح مسلم في لفظٍ له: ((إنَّ أخي عَرِبَ بطنه))؛ أي: فسد هضمُه واعتلَّت معدتُه. والعسل فيه منافع عظيمةٌ؛ فإنَّه جِلاءٌ للأوساخ الَّتي في العروق والأمعاء وغيرها، محلِّلٌ للرُّطوبات أكلًا وطِلاءً، نافعٌ للمشايخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه باردًا رطبًا، وهو مغذٍّ، مليِّنٌ للطَّبيعة، حافظٌ لقوى المعاجين ولما استُودع فيه، مُذْهِبٌ لكيفيَّات الأدوية الكريهة، منقٍّ للكبد والصَّدر، مدرٌّ للبول، موافقٌ للسُّعال الكائن عن البلغم. وإذا شُرِب حارًّا بدهن الورد نفَع من نَهْشِ الهوامِّ وشُرْبِ الأفيون، وإن شُرِب وحده ممزوجًا بماءٍ نفَع من عضَّةِ الكَلْب الكَلِب، وأكلِ الفُطْر القتَّال. وإذا لُطِّخ به البدنُ المقمَلُ والشَّعرُ قتلَ قملَه وصِئْبانَه، وطوَّل الشَّعر وحسَّنه ونعَّمه، وإن اكتُحِلَ به جلا ظلمةَ البصر، وإن استنَّ به بيَّض الأسنانَ وصقَلَها، وحفِظ صحَّتها وصحَّة اللَّثة، ويفتح أفواه العروق، ويُدِرُّ الطَّمْثَ، ولعقُه على الرِّيق يُذيبُ البلغم، ويغسل خَمْلَ المعدة، ويدفع الفضلات عنها، ويسخِّنها تسخينًا معتدلًا، ويفتح سُدَدَها، ويفعل ذلك بالكبد والكُلى والمثانة، وهو أقلُّ ضررًا لسُدَد الكبد والطِّحال من كلِّ حلوٍ. وهو مع هذا كلِّه مأمون الغائلة، قليل المضارِّ، مضرٌّ بالعرَض للصَّفراويِّين ودفعُها بالخلِّ ونحوه، فيعود حينئذٍ نافعًا لهم جدًّا. وهو غذاءٌ مع الأغذية، ودواءٌ مع الأدوية، وشرابٌ مع الأشربة، وحلوى مع الحلوى، وطِلاءٌ مع الأطلية، ومفرِّحٌ مع المفرِّحات، فما خُلِق لنا شيءٌ في معناه أفضلَ منه، ولا مثلَه، ولا قريبًا، ولم يكن معوَّل القدماء إلا عليه، وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسُّكَّر ألبتَّة، ولا يعرفونه فإنَّه حديث العهد حدَث قريبًا. فصل في هديه في العلاج بشرب العسل والحِجامة والكَي: في صحيح البخاريِّ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الشِّفاء في ثلاثٍ: شَرْبة عسلٍ، وشَرْطة مِحْجَمٍ، وكيَّة نارٍ، وأنا أنهى أمَّتي عن الكيِّ)). فصل في منافع الحجامة ومواضعها وأوقاتها: في الصَّحيحين من حديث طاوس عن ابن عبَّاسٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجَم، وأعطى الحجَّام أجرَه)). أما منافع الحجامة، فإنَّها تنقِّي سطح البدن أكثر من الفَصْدِ[3]، والفصدُ لأعماق البدن أفضل، والحجامة تستخرج الدَّم من نواحي الجلد، قلت: والتَّحقيق في أمرها وأمر الفصد أنَّهما يختلفان باختلاف الزَّمان والمكان، والأسنان والأمزجة؛ فالبلاد الحارَّة والأزمنة الحارَّة والأمزجة الحارَّة الَّتي دمُ أصحابها في غاية النُّضج، الحجامةُ فيها أنفَعُ من الفصد بكثيرٍ؛ فإنَّ الدَّم ينضَج ويرِقُّ ويخرج إلى سطح الجسد الدَّاخل، فتُخْرِجه الحجامةُ ما لا يُخرجه الفصد؛ ولذلك كانت أنفع للصِّبيان من الفصد، ولمن لا يقوى على الفصد. وقد نصَّ الأطبَّاء على أنَّ البلاد الحارَّة الحجامةُ فيها أنفَعُ، وأفضلُ من الفصد، وتستحبُّ في وسط الشَّهر وبعد وسطه، وبالجملة في الرُّبُع الثَّالث من أرباع الشَّهر؛ لأنَّ الدَّم في أوَّل الشَّهر لم يكن بعدُ قد هاجَ وتبيَّغ، وفي آخره يكون قد سكن، وأمَّا في وسطه وبُعَيدَه، فيكون في نهاية التَّزيُّد. وفي الصَّحيحين: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم ثلاثًا: واحدةً على كاهله، واثنتين على الأخدعين))[4]. وفي الصَّحيح عنه أنَّه احتجم - وهو محرِمٌ - في رأسه، لصداعٍ كان به. والحِجامة تحت الذَّقَن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم إذا استُعملت في وقتها، وتنقِّي الرَّأس والفكَّين. والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فَصْد الصَّافِن - وهو عرقٌ عظيمٌ عند الكعب - وتنفع من قروح الفخذين والسَّاقين، وانقطاع الطَّمث، والحِكَّة العارضة في الأُنْثَيَين. والحجامة على أسفل الصَّدر نافعةٌ من دماميل الفخذ وجرَبه وبُثُورِهِ، ومن النِّقْرِس[5] والبواسير والفيل[6] وحِكَّة الظَّهر. وفي سنن أبي داود، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((من احتجم لسبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين، كانت شفاءً من كلِّ داءٍ))، وهذا معناه: من كلِّ داءٍ سببُه غلبةُ الدَّم. وقال صاحب (القانون): "أوقاتها في النَّهار السَّاعة الثَّانية أو الثَّالثة، ويجب توقِّيها بعد الحمَّام، إلا فيمن دمه غليظٌ فيجب أن يستحمَّ، ثمَّ يُجِمَّ ساعةً، ثمَّ يحتجم"؛ [انتهى]. وتُكرَه عندهم الحجامة على الشِّبَع، فإنِّها ربَّما أورثت سُدَدًا وأمراضًا رديَّةً، لا سيَّما إذا كان الغذاء رديًّا غليظًا. واختيار هذه الأوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط والتَّحرُّز من الأذى، وحفظًا للصِّحَّة، وأمَّا في مداواة الأمراض فحيثما وُجِد الاحتياجُ إليها، وجَب استعمالُها. فصل في هديه في علاج عرق النِّسا: روى ابن ماجه في سننه، من حديث محمَّد بن سيرين عن أنس بن مالكٍ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((دواءُ عِرق النَّسا[7] أَلْيةُ شاةٍ أعرابيَّةٍ تُذاب، ثمُّ تجزَّأ ثلاثة أجزاءٍ، ثمَّ يُشْرَب على الرِّيق في كلِّ يومٍ جزءٌ)). وفي تعيين الشَّاة الأعرابيَّة قلَّةُ فضولها، وصغرُ مقدارها، ولطفُ جوهرها، وخاصِّيَّة مرعاها لأنَّها ترعى أعشاب البرِّ الحارَّة كالشِّيح والقَيصُوم ونحوهما، وهذه النَّباتات إذا تغذَّى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها، بعد أن يلطِّفها تغذِّيه بها ويُكسِبَها مزاجًا ألطفَ منها، ولا سيَّما الألْية، وظهورُ فعل هذه النَّباتات في اللَّبن أقوى منه في اللَّحم، ولكنَّ الخاصَّة الَّتي في الألية من الإنضاج والتَّليين لا توجد في اللَّبن. فصل في خواص الحِنَّاء ومنافعه: أنَّه محلِّلٌ نافعٌ من حرق النَّار، وفيه قوَّةٌ موافقةٌ للعصَب إذا ضُمِّد به، وينفع إذا مُضِغ من قروح الفم والسُّلاق العارض فيه، ويُبرئ القُلاعَ الحادث في أفواه الصِّبيان، والضِّمادُ به ينفع من الأورام الحارَّة الملهبة، ويفعل في الجراحات فعلَ دم الأخَوين، وإذا خُلِط نَورُه مع الشَّمع المصفَّى ودُهن الورد ينفع من أوجاع الجنب. ومن خواصِّه: أنَّه إذا بدأ الجُدَريُّ يخرج بصبيٍّ، فخُضِبت أسافل رجليه بحنَّاءٍ، فإنَّه يؤمَن على عينيه أن يخرج فيها شيءٌ منه، وهذا صحيحٌ مجرَّبٌ لا شكَّ فيه، وإذا جُعِل نَورُه بين طيِّ ثياب الصُّوف طيَّبَها ومنَع السُّوسَ عنها، وإذا نُقِع ورقه في ماءٍ عذبٍ يغمُره، ثمَّ عُصِرَ وشُرِب من صفوه أربعون درهمًا كلَّ يومٍ - عشرين يومًا - مع عشرة دراهم سكَّرٍ، ويُغذَّى عليه بلحم الضَّأن الصَّغير، فإنَّه ينفع من ابتداء الجُذام بخاصِّيَّةٍ فيه عجيبةٍ. وحكي أنَّ رجلًا تعقَّفت أظافيرُ أصابع يديه، وأنَّه بذل لمن يبرئه مالًا فلم يجد، فوصفت له امرأةٌ أن يشرب عشرة أيَّامٍ حنَّاء، فلم يُقْدِم عليه، ثمَّ نقعه بماءٍ وشربه، فبرأ، ورجعت أظافيره إلى حسنها. والحنَّاء إذا ألزمت به الأظفار معجونًا حسَّنها ونفَعها، وإذا عُجِن بالسَّمْن وضُمِّد به بقايا الأورام الحارَّة الَّتي ترشَح ماءً أصفرَ، نفعَها، ونفَع من الجرَب المتقرِّح المُزْمِن منفعةً بليغةً، وهو يُنبت الشَّعرَ ويقوِّيه ويحسِّنه، ويقوِّي الرَّأس، وينفع من النَّفَّاطات والبثور العارضة في السَّاقين والرِّجلين وسائر البدن. من خواص التمر ومنافعه: في الصَّحيحين من حديث عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تصبَّح بسبع تمراتٍ من تمر العالية، لم يضُرَّه ذلك اليومَ سَمٌّ ولا سحرٌ)). وفي لفظٍ: ((من أكل سبع تمراتٍ ممَّا بين لابتيها حين يصبح لم يضرَّه سَمٌّ حتَّى يمسي)). وأمَّا أهل المدينة، فالتَّمر لهم يكاد أن يكون بمنزلة الحنطة لغيرهم، وهو قوتهم ومادَّتهم، وتمر العالية من أجود أصناف تمرهم؛ فإنَّه متين الجسم، لذيذ الطَّعم، صادق الحلاوة. والتَّمر يدخل في الأدوية والأغذية والفاكهة، وهو يوافق أكثر الأبدان، مقوٍّ للحارِّ الغريزيِّ، ولا يتولَّد عنه من الفضلات الرَّديئة ما يتولَّد عن غيره من الأغذية والفاكهة، بل يمنع لمن اعتاده من تعفُّن الأخلاط وفسادها. وهذا الحديث من الخطاب الذي أُريد به الخاصُّ كأهل المدينة ومن جاورهم، ولا ريب أنَّ للأمكنة اختصاصًا بنفع كثيرٍ من الأدوية في ذلك المكان دون غيره، فيكون الدَّواءُ الذي ينبت في هذا المكان نافعًا من الدَّاء، ولا يوجد فيه ذلك النَّفع إذا نبت في مكانٍ غيره، لتأثير نفس التُّربة أو الهواء أو هما جميعًا؛ فإنَّ في الأرض خواصَّ وطبائعَ يقارب اختلافها اختلافَ طبائع الإنسان. من شرط انتفاع العليل بالدواء: من شرط انتفاع العليل بالدَّواء قبولَه واعتقادَ النَّفع به، فتقبله الطَّبيعة، فتستعين به على دفع العلَّة، حتَّى إنَّ كثيرًا من المعالجات تنفع بالاعتقاد وحسن القبول وكمال التَّلقِّي، وقد شاهد النَّاس من ذلك عجائبَ، وهذا لأنَّ الطَّبيعة يشتدُّ قبولُها له، وتفرح النَّفس به، فتنتعش القوَّة، ويقوى سلطانُ الطَّبيعة، وينبعث الحارُّ الغريزيُّ، فيتساعد على دفع المؤذي، وبالعكس يكون كثيرٌ من الأدوية نافعًا لتلك العلَّة، فيقطع عملَه سوءُ اعتقاد العليل فيه، وعدمُ أخذ الطَّبيعة له بالقَبول، فلا يجدي عليها شيئًا. واعتبِرْ هذا بأعظم الأدوية والأشفية، وأنفعِها للقلوب والأبدان، والمعاش والمعاد، والدُّنيا والآخرة؛ وهو القرآن الذي هو شفاءٌ من كلِّ داءٍ: كيف لا ينفع القلوبَ الَّتي لا تعتقد فيه الشِّفاءَ والنَّفعَ، بل لا يزيدها إلا مرضًا إلى مرضها؟ فصل في هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في إصلاح الطَّعام الذي يقع فيه الذُّباب، وإرشاده إلى دفع مضرَّات السُّموم بأضدادها: في الصَّحيحين من حديث أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وقع الذُّباب في إناء أحدكم فامقُلوه؛ فإنَّ في أحد جناحيه داءً، وفي الآخر شفاءً)). وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحدُ جناحي الذُّباب سَمٌّ والآخر شفاءٌ، فإذا وقع في الطَّعام فامقُلوه؛ فإنَّه يقدِّم السَّمَّ ويؤخِّر الشِّفاء)). واعلم أنَّ في الذُّباب عندهم قوَّةً سمِّيَّةً يدلُّ عليها الورم والحِكَّة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه اتَّقاه بسلاحه، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تقابَل تلك السَّمِّيَّةُ بما أودعه الله سبحانه في جانبه الآخر من الشِّفاء، فيُغمَس كلُّه في الماء والطَّعام، فتقابل مادَّةَ السَّمِّيَّةِ المادَّةُ النَّافعةُ، فيزول ضررها، وهذا طبٌّ لا يهتدي إليه كبار الأطبَّاء وأئمَّتهم، بل هو خارجٌ من مشكاة النُّبوَّة، ومع هذا فالطَّبيب العالم العارف الموفَّق يخضع لهذا العلاج ويُقرُّ لمن جاء به بأنَّه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنَّه مؤيَّدٌ بوحيٍ إلهيٍّ خارجٍ عن قوى البشر. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تَعْتَدْه: هذا أصلٌ عظيمٌ من أصول العلاج وأنفع شيءٍ فيه، وإذا أخطأه الطَّبيب ضرَّ المريضَ من حيث يظنُّ أنَّه ينفعه، ولا يُعدِل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الأطبَّاء إلا طبيبٌ جاهلٌ، فإنَّ ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها، وهؤلاء أهل البوادي والأكَّارون وغيرهم لا ينجع فيهم شرابُ النَّيلَوفَر والورد الطَّريِّ ولا المغالي، ولا يؤثِّر في طباعهم شيئًا، بل عامَّة أدوية أهل الحضر وأهل الرَّفاهة لا تجدي عليهم، والتَّجرِبة شاهدةٌ بذلك. ومن تأمَّل ما ذكرناه من العلاج النَّبويِّ رآه كلَّه موافقًا لعادة العليل وأرضه وما نشأ عليه؛ فهذا أصلٌ عظيمٌ من أصول العلاج يجب الاعتناء به، وقد صرَّح به أفاضل أهل الطِّبِّ حتَّى قال طبيب العرب بل أطبُّهم الحارث بن كَلَدة، وكان فيهم كأبقراط في قومه: "الحِمْيَة رأس الدَّواء، والمَعِدةُ بيت الدَّاء، وعوِّدوا كلَّ بدنٍ ما اعتاد"، وفي لفظٍ عنه: "الأَزْم دواءٌ"، والأَزْم: الإمساك عن الأكل؛ يعني به الجوع، وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائيَّة كلِّها، بحيث إنَّه أفضل في علاجها من المستفرِغات، إذا لم يخَفْ من كثرة الامتلاء، وهيجان الأخلاط، وحِدَّتها وغليانها. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية: في الصَّحيحين من حديث عروة عن عائشة ((أنَّها كانت إذا مات الميِّت من أهلها اجتمع لذلك النِّساء، ثمَّ تفرَّقن إلى أهلهنَّ أمرَتْ ببُرْمَةِ تلبينةٍ، فطُبخت، وصَنعت ثريدًا، ثمَّ صبَّت التَّلبينةَ عليه، ثمَّ قالت: كلوا منها، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: التَّلبينة مَجَمَّةٌ لفؤاد المريض، تَذهب ببعض الحزن)). فصل في أن من أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية: ومن أنفع علاجات السِّحر: الأدوية الإلهيَّة، بل هي أدويته النَّافعة بالذَّات، فإنَّه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السُّفليَّة، ودفعُ تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدَّعوات الَّتي تُبطل فعلها وتأثيرها، وكلَّما كانت أقوى وأشدَّ، كانت أبلغ في النُّشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كلٍّ منهما عُدَّته وسلاحه، فأيُّهما غلب الآخرَ قهَرَه، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله مغمورًا بذكره، وله من التَّوجُّهات والدَّعوات، والأذكار والتَّعوُّذات وِرْدٌ لا يخلُّ به يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب الَّتي تمنع إصابة السِّحر له، ومن أعظم العلاجات له بعدما يصيبه. وعند السَّحرة: أنَّ سحرهم إنَّما يتمُّ تأثيره في القلوب الضَّعيفة المنفعِلة، والنُّفوس الشَّهوانيَّة الَّتي هي معلَّقةٌ بالسُّفليَّات؛ ولهذا غالبُ ما يؤثِّر في النِّساء والصِّبيان والجهَّال وأهل البوادي، ومَن ضعُف حظُّه من الدِّين والتَّوكُّل والتَّوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهيَّة، والدَّعوات، والتَّعوُّذات النَّبويَّة، وبالجملة، فسلطان تأثيره في القلوب الضَّعيفة المنفعلة الَّتي يكون مَيلها إلى السُّفليَّات. قالوا: والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنَّا نجد قلبه متعلِّقًا بشيءٍ كثيرَ الالتفات إليه، فيتسلَّط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح الخبيثة إنَّما تتسلَّط على أرواحٍ تَلقَاها مستعدَّةً لتسلُّطها عليها، بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوَّة الإلهيَّة، وعدم أخذها للعُدَّة الَّتي تحاربها بها؛ فتجدها فارغةً لا عدَّة معها، وفيها ميلٌ إلى ما يناسبها، فتتسلَّط عليها، ويتمكَّن تأثيرها فيها بالسِّحر وغيره، والله أعلم. ليس لشفاء القلوب قطُّ دواءٌ أنفعُ من القرآن: فإنَّه شفاؤها التَّامُّ الكامل الذي لا يغادر فيها سقمًا إلا أبرأه، ويحفظ عليها صحَّتها المطلقة، ويحميها الحِمْيَةَ التَّامَّة من كلِّ مؤذٍ ومضرٍّ، ومع هذا فإعراضُ أكثر القلوب عنه، وعدمُ اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنَّه كذلك، وعدمُ استعماله، والعدولُ إلى الأدوية الَّتي ركَّبها بنو جنسها، حال بينها وبين الشِّفاء به، وغلبت العوائد، واشتدَّ الإعراض، وتمكَّنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب، وتربَّى المرضى والأطبَّاء على علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم ومن يعظِّمونه، ويُحسِنون به ظنونهم، فعظُم المصاب، واستحكم الدَّاء، وتركَّبت أمراضٌ وعللٌ أعيا عليهم علاجها. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين: روى مسلم في صحيحه عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العين حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابَقَ القدَرَ لَسَبَقَتْهُ العينُ)). وفي صحيحه أيضًا عن أنس: ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّص في الرُّقية من الحُمَة والعين والنَّملة)). وفي الصَّحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العين حقٌّ)). وفي الصَّحيحين عن عائشة قالت: ((أمرني النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم – أو أمر – أن نسترقي من العين)). وذكر الترمذي من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزُّرَقي أنَّ أسماء بنت عُمَيس قالت: ((يا رسول الله، إنَّ بني جعفرٍ تصيبهم العين، أفأسترقي لهم؟ فقال: نعم، فلو كان شيءٌ يسبِق القضاءَ لسبقته العينُ))؛ [قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ]. والعين عينان: عينٌ إنسيَّةٌ، وعينٌ جنِّيَّةٌ؛ فقد صحَّ عن أم سلمة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جاريةً، في وجهها سَفْعةٌ، فقال: ((استرقُوا لها؛ فإنَّ بها النَّظرة)). قال الحسين بن مسعود الفرَّاء: وقوله: (سفعةٌ)؛ أي نظرةٌ، يعني: من الجنِّ؛ يقول: بها عينٌ أصابتها من نظر الجنِّ، وقيل: عيون الجنّ أنفَذُ من أسنَّة الرِّماح. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية: في صحيح مسلم عن أبي سعيدٍ ((أنَّ جبريل أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمَّد اشتكيتَ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: باسم الله أرقيك، من كلِّ داءٍ يؤذيك، ومن كلِّ نفسٍ وعينِ حاسدٍ، اللهُ يشفيك، باسم الله أرقيك)). فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة: أخرجا في الصَّحيحين من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: ((انطلق نفرٌ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافروها، حتَّى نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبَوا أن يضيِّفوهم، فلُدِغ سيِّدُ ذلك الحيِّ، فسَعوا له بكلِّ شيءٍ، لا ينفعه شيءٌ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرَّهطَ الذين نزلوا، لعلَّه أن يكون عند بعضهم شيءٌ، فأتَوهم، فقالوا: يا أيُّها الرَّهط، إنَّ سيَّدنا لُدِغَ، وسعينا له بكلِّ شيءٍ لا ينفعه، فهل عند أحدٍ منكم من شيءٍ؟ فقال بعضهم: نعم، واللهِ إنِّي لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيِّفونا، فما أنا براقٍ حتَّى تجعلوا لنا جُعْلًا، فصالحوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلق يتفِل عليه، ويقرأ: الحمد لله ربِّ العالمين، فكأنَّما نُشِطَ من عِقالٍ، فانطلق يمشي وما به قَلَبةٌ، قال: فأوفَوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسِمُوا، فقال الذي رقى: لا نفعل حتَّى نأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يُدريك أنَّها رقيةٌ؟ ثمَّ قال: قد أصبتم، اقتسِمُوا واضربوا لي معكم سهمًا)). فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رُقية القَرْحَة والجرح: أخرجا في الصَّحيحين عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسانُ أو كانت به قَرحةٌ أو جُرحٌ، قال بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبَّابته بالأرض، ثمَّ رفعها، وقال: باسم الله، تربةُ أرضنا، بريقة بعضِنا، لَيُشْفَى سقيمُنا، بإذن ربِّنا)). ومعنى الحديث: أنَّه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السَّبَّابة، ثمَّ يضعُها على التُّراب، فيعلَق بها منه شيءٌ، فيمسح به على الجرح، ويقول هذا الكلام، لما فيه من بركة ذكرِ اسم اللَّه، وتفويض الأمرِ إليه، والتَّوكُّلِ عليه، فينضمُّ أحد العلاجين إلى الآخر، فيقوى التَّأثير. هذا من العلاج السهل الميسَّر النَّافع المركَّب، وهي معالجةٌ لطيفةٌ تعاَلج بها القروح والجراحات الطَّريَّة، لا سيَّما عند عدم غيرها من الأدوية، إذ كانت موجودةً بكلِّ أرضٍ، وقد عُلِم أنَّ طبيعة التُّراب الخالص باردةٌ يابسةٌ مجفِّفةٌ لرطوبات القروح والجراحات الَّتي تمنع الطَّبيعةَ من جودة فعلها وسرعة اندمالها، لا سيَّما في البلاد الحارَّة، وأصحاب الأمزجة الحارَّة، فإنَّ القروح والجراحات يتبعها في أكثر الأمر سوءُ مزاجٍ حارٍّ فتجتمع حرارةُ البلد والمزاج والجراح. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرُّقية: روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن أبي العاص: ((أنَّه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ضَعْ يدَك على الذي تألَّم من جسدك، وقل: باسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرَّاتٍ: أعوذ بعزَّة الله وقدرته من شرِّ ما أجد وأحاذر))، ففي هذا العلاج من ذكرِ اسم اللَّه والتَّفويضِ إليه، والاستعاذةِ بعزَّته وقدرته من شرِّ الألم ما يذهب به، وتكرارُه ليكون أنجع وأبلغ كتكرار الدَّواء لإخراج المادَّة، وفي السَّبْعِ خاصِّيَّةٌ لا توجد في غيرها. وفي الصَّحيحين: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذ بعضَ أهله، يمسح عليه يده اليمنى ويقول: ((اللَّهمَّ ربَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الباسَ، واشفِ أنت الشَّافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سَقَمًا))، ففي هذه الرُّقية توسُّلٌ إلى الله بكمال ربوبيَّته، وكمال رحمته بالشِّفاء، وأنَّه وحده الشَّافي، وأنَّه لا شفاء إلا شفاؤه، فتضمَّنت التَّوسُّلَ إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيَّته. فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهمِّ والغمِّ والحزن: أخرجا في الصَّحيحين من حديث ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السَّماوات والأرض، ربُّ العرش الكريم)). وفي جامع الترمذي عن أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبه أمرٌ قال: ((يا حيُّ يا قيُّوم، برحمتك أستغيث)). وفيه عن أبي هريرة: ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أهَّمه الأمرُ رفع طرفه إلى السَّماء، فقال: سبحان الله العظيم، وإذا اجتهد في الدُّعاء قال: يا حيُّ، يا قيُّوم)). فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصِّحَّة: لمَّا كان اعتدال البدن وصحَّته وبقاؤه إنَّما هو بواسطة الرُّطوبة المقاومة للحرارة، فالرُّطوبة مادَّته، والحرارةُ تُنضجها وتَدفع فضلاتها، وتُصلحها وتُلطِّفها، وإلَّا أفسدت البدن، ولم يمكن قيامُه، وكذلك الرُّطوبة هي غذاء الحرارة، فلولا الرُّطوبة لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته، فقِوامُ كلِّ واحدةٍ منهما بصاحبتها، وقِوامُ البدن بهما جميعًا. وهذا كلُّه مستفادٌ من قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31]، فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطَّعام والشَّراب عوضَ ما تحلَّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمِّيَّة والكيفيَّة، فمتى جاوز ذلك كان إسرافًا، وكلاهما مانعٌ من الصِّحَّة، جالبٌ للمرض؛ أعني: عدمَ الأكل والشُّرب، أو الإسراف فيه، فحفظُ الصِّحَّة كلُّه في هاتين الكلمتين الإلهيَّتين. ومن تأمَّل هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وجده أفضلَ هديٍ يمكن حفظُ الصِّحَّة به، فإنَّ حفظها موقوفٌ على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس، والمسكن والهواء والنَّوم واليقظة، والحركة والسُّكون، والمنكح والاستفراغ والاحتباس، فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد، والسِّنِّ والعادة، كان أقرب إلى دوام الصِّحَّة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل. وقد روى البخاريُّ في صحيحه، من حديث ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصِّحَّة والفراغ)). وفي مسند الإمام أحمد: ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للعباس: يا عباسُ، يا عمَّ رسول اللَّه، سَلِ الله العافية في الدُّنيا والآخرة)). وفيه عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سَلُوا الله اليقين والمعافاة، فما أُوتِيَ أحدٌ بعد اليقين خيرًا من العافية))، فجمع بين عافيتي الدِّين والدُّنيا، ولا يتمُّ صلاح العبد في الدَّارين إلا باليقين والعافية. فاليقين يدفع عنه عقوباتِ الآخرة، والعافيةُ تدفع عنه أمراض الدُّنيا في قلبه وبدنه. وفي سنن النَّسائيِّ من حديث أبي هريرة يرفعه: ((سَلُوا الله العفو والعافية والمعافاة، فما أُوتِيَ أحدٌ بعد يقينٍ خيرًا من معافاةٍ))، وهذه الثَّلاثة تتضمَّن إزالة الشُّرورِ الماضيةِ بالعفو، والحاضرةِ بالعافية، والمستقبَلةِ بالمعافاة؛ فإنَّها تتضمَّن المداومة والاستمرار على العافية. فصل في أكله بالأصابع الثلاث: وكان يأكل بأصابعه الثَّلاث، وهذا أنفع ما يكون من الأَكَلات، فإنَّ الأكل بإصبعٍ أو إصبعين لا يستلذُّ به الآكِل، ولا يُمرئه، ولا يُشْبعه إلا بعد طولٍ، ولا تفرح آلات الطَّعام والمعدة بما ينالها في كلِّ أكلةٍ، فيأخذها على إغماضٍ، كما يأخذ الرَّجل حقَّه حبَّةً أو حبَّتين أو نحو ذلك، فلا يلتذُّ بأخذه، ولا يُسرُّ به، والأكلُ بالخمسة والرَّاحة يوجب ازدحام الطَّعام على آلاته وعلى المعدة – وربَّما استدَّت الآلات، فمات – وتُغْصَب الآلاتُ على دفعه، والمعدةُ على احتماله؛ ولا يجد له لذَّةً ولا استمراءً، فأنفعُ الأكل أكلُه صلى الله عليه وسلم وأكلُ من اقتدى به بالأصابع الثَّلاث. فصل في تغطية الإناء وإيكاء السقاء: وقد روى مسلم في صحيحه، من حديث جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((غطُّوا الإناءَ، وأَوكُوا السِّقاءَ؛ فإنَّ في السَّنة ليلةً ينزل فيها وباءٌ، لا يمرُّ بإناءٍ ليس عليه غطاءٌ، وسقاءٍ ليس عليه وكاءٌ، إلا وقع فيه من ذلك الدَّاء))، وهذا ممَّا لا يناله علوم الأطبَّاء ومعارفهم، وقد عرَفه من عرفه من عقلاء النَّاس بالتَّجربة؛ قال اللَّيث بن سعدٍ أحد رواة الحديث: "الأعاجم عندنا يتَّقون تلك اللَّيلة في السَّنة في كانون الأوَّل منها". وصحَّ عنه أنَّه أمر بتخمير الإناء ولو أن يعرض عليه عودًا، وفي عرض العود عليه من الحكمة أنَّه لا يُنسى تخميره، بل يعتاده حتَّى بالعود، وفيه: أنَّه ربَّما أراد الدَّبيبُ[8] أن يسقط فيه، فيمرُّ على العود، فيكون العود جسرًا له يمنعه من السُّقوط فيه. وصحَّ عنه: أنَّه أمر عند إيكاء الإناء بذكر اسم اللَّه، فإنَّ ذكر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشَّيطان، وإيكاؤه يطرد عنه الهوامَّ؛ ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين الموضعين لهذين المعنيين. وروى البخاريُّ في صحيحه من حديث ابن عبَّاسٍ ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشُّرب مِن في السِّقاء)). فصل في صفة نبيذه صلى الله عليه وسلم: وثبت في صحيح مسلم ((أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُنْبَذ له أوَّلَ اللَّيل، ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك، واللَّيلةَ الَّتي تجيء، والغدَ واللَّيلة الأخرى، والغدَ إلى العصر، فإن بقي منه شيءٌ سقاه الخادمَ أو أمرَ به فصُبَّ)). وهذا النَّبيذ هو ماءٌ يُطرَح فيه تمرٌ يحلِّيه، وهو يدخل في الغذاء والشَّراب، وله نفعٌ عظيمٌ في زيادة القوَّة وحفظ الصِّحَّة، ولم يكن يشربه بعد ثلاثٍ خوفًا من تغيُّره إلى الإسكار. [1] ويقال: أَقْرباذين، تخفيفًا، وتعني مركبات الأدوية، وبيان أجزائها وتركيبها، ويطلق أيضًا على الكتاب الذي يعالج هذا الفرع من الطب. [2] استطلق بطنه: أصابه الإسهال. [3] الفَصْد: شق العرق لإخراج الدم الفاسد. [4] الأخدعان: عرقان في جانبي العنق يُحجَم منه، والكاهل ما بين الكتفين وهو مُقدِّم الظهر. [5] النِّقْرِس: هو وجع شديد في مفاصل القدم ولا سيما في الإبهام. [6] داء الفيل: هو زيادة ورمية سمجة في الساق والقدم مع غلظ وتغيُّر لون. [7] عِرْق النَّساء: وجعٌ يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلفٍ على الفخذ وربَّما امتدَّ على الكعب، وكلَّما طالت مدَّته زاد نزوله، وتهزل معه الرِّجل والفخذ. [8] الدبيبُ: كلُّ ما يدِبُّ.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() لطائف من زاد المعاد في هدي خير العباد (5) سائد بن جمال دياربكرليفصول في هديه صلى الله عليه وسلم في أقضيته وأحكامه وليس الغرض من ذلك ذكر التشريع العام، وإن كانت أقضيته الخاصة تشريعًا عامًّا، وإنما الغرض ذكر هديه في الحكومات الجزئية التي فصل بها بين الخصوم، وكيف كان هديه في الحكم بين الناس، ونذكر مع ذلك قضايا من أحكامه الكلية. فصل في حكمه بالقود على من قتل جارية، وأنه يفعل به كما فعل: ثبت في «الصحيحين»: أن يهوديًّا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها؛ أي: حلي، فأخذ، فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين. وفي هذا الحكم دليل على قتل الرجل بالمرأة، وعلى أن الجاني يفعل به كما فعل، وأن القتل غيلة حد لا يُشترَط فيه إذن الولي؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل: إن شئتم فاقتلوه وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتمًا، وهذا مذهب مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم بالقصاص في كسر السن: في «الصحيحين» من حديث أنس: أن ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية، فكسرت سنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بالقصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله، أيقتص من فلانة؟ لا والله لا يقتص منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص»، قالت: لا والله لا يقتص منها أبدًا، فعفا القوم، وقبلوا الدية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَرَّه». فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثنية العاض بإهدارها: ثبت في «الصحيحين»: أن رجلًا عض يد رجل، فنزع يده مِن فيه، فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟! لا دية لك». وقد تضمنت هذه الحكومة أن من خلَّص نفسه من يد ظالم له، فتلفت نفسُ الظالم، أو شيء من أطرافه أو ماله بذلك، فهو هدر غير مضمون. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيما كان يهدى إليه: كان أصحابه يهدون إليه الطعام وغيره، فيقبل منهم ويكافئهم أضعافها، وكانت الملوك تهدي إليه فيقبل هداياهم، ويقسمها بين أصحابه، ويأخذ منها لنفسه ما يختاره، فيكون كالصفي الذي له من المغنم. وفي «صحيح البخاري»: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه أقبية ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدًا لمخرمة بن نوفل، فجاء ومعه المسور ابنه، فقام على الباب فقال: ادعه لي، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فتلقاه به فاستقبله، وقال: «يا أبا المسور خبأت هذا لك». وأهدى له المقوقس مارية أم ولده، وسيرين التي وهبها لحسان، وبغلة شهباء، وحمارًا. وأهدى له فروة بن نفاثة الجذامي بغلة بيضاء ركبها يوم حنين؛ ذكره مسلم. وذكر البخاري: «أن ملك أيلة أهدى له بغلة بيضاء، فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة، وكتب له ببحرهم». فصل حكم هدايا الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: وأما حكم هدايا الأئمة بعده، فقال سحنون -من أصحاب مالك-: إذا أهدى أمير الروم هدية إلى الإمام فلا بأس بقبولها، وتكون له خاصة، وقال الأوزاعي: تكون للمسلمين، ويكافئه بمثلها من بيت المال. وقال الإمام أحمد وأصحابه: ما أهداه الكفار للإمام أو لأمير الجيش أو قواده فهو غنيمة حكمها حكم الغنائم. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالعهد لعدوه، وفي رسلهم ألَّا يقتلوا ولا يحبسوا، وفي النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خاف منه نقض العهد: ثبت عنه أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب -لما قالا: نقول إنه رسول الله-: «لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما». وثبت عنه أنه قال لأبي رافع، وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقام عنده، وألَّا يرجع إليهم، فقال: «إني لا أخيسُ بالعهد، ولا أحبس البُرُد، ولكن ارجع، فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع». وثبت عنه أنه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم: أن يرد إليهم من جاءه منهم مسلمًا، ولم يرد النساء. ولما أسرت قريش حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما ألَّا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجين إلى بَدْر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم». فصل في حكمه في الأمان الصادر من الرجال والنساء: ثبت عنه أنه قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم». وثبت عنه أنه «أجار رجلين أجارتهما أم هانئ ابنة عمه». فصل في صلحه لأهل مكة: وكان في صلحه لأهل مكة أن من أحب أن يدخل في عهده وعقده دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل، وأن من جاءهم من عنده لا يردونه إليه، ومن جاءه منهم رده إليهم، وأنه يدخل العام القابل إلى مكة فيخلوها له ثلاثًا، ولا يدخلها إلا بجُلُبَّان[1]السلاح. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في النكاح بلا وليٍّ: في «السنن» عنه من حديث عائشة: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطِلٌ، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها مهرها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ مَن لا وليَّ له»، قال الترمذي: حديث حسن. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في نكاح الشغار، والمحلل والمتعة، ونكاح المحرم، ونكاح الزانية: أما الشغار، فصحَّ النهي عنه من حديث ابن عمر وأبي هريرة ومعاوية، وفي «صحيح مسلم» عن ابن عمر مرفوعًا: «لا شِغار في الإسلام». وفي حديث ابن عمر: «والشِّغار: أن يزوِّج الرجل ابنته على أن يزوِّجه ابنته وليس بينهما صداق». وفي حديث أبي هريرة: «والشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوِّجْني ابنتك، وأزوِّجك ابنتي، وزوِّجْني أختك، وأزوِّجك أختي». وأما نكاح المحلل: ففي «المسند» والترمذي من حديث ابن مسعود قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحلِّل والمُحلَّل له»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي «المسند»: من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لعن الله المُحلِّل والمُحلَّل له»، وإسناده حسن. وأما نكاح المتعة: فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أحلَّها عام الفتح، وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح. في «الصحيحين» عنه: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [المائدة: 87]، ولكن في «الصحيحين» عن علي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّم متعة النساء» وهذا التحريم إنما كان بعد الإباحة. وأما نكاح المحرم: فثبت عنه في «صحيح مسلم» من رواية عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، ولا يُنْكِحُ». وأما نكاح الزانية: فقد صرح سبحانه بالحكم بتحريمه في سورة النور، وأخبر أن من نكحها فهو إمَّا زانٍ أو مُشرِك، فإنه إمَّا أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه أو لا، فإن لم يلتزمه ولم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زانٍ، ثم صرَّح بتحريمه فقال: ﴿ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 3]. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم على أكثر من أربعة نسوة أو على أختين: في الترمذي عن ابن عمر: «أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذ منهن أربعًا». وفي طريق أخرى: «وفارق سائرهن». وأسلم فيروز الديلمي وتحته أختان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اختر أيتهما شئت». فتضمن هذا الحكم صحة نكاح الكفار، وأنه له أن يختار من شاء من السوابق واللواحق؛ لأنه جعل الخيرة إليه، وهذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: إن تزوجهن في عقد واحد فسد نكاح الجميع، وإن تزوجهن مترتبات ثبت نكاح الأربع، وفسد نكاح من بعدهن ولا تخيير. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر: قال ابن عباس: «ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئًا»؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وفي لفظ: «بعد ست سنين ولم يحدث نكاحًا»، قال الترمذي: ليس بإسناده بأس، وفي لفظ: «وكان إسلامها قبل إسلامه بستِّ سنين، ولم يحدث شهادة ولا صداقًا». وقال أيضًا: «إن رجلًا جاء مسلمًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت امرأته مسلمة بعده، فقال: يا رسول الله، إنها أسلمت معي، فردها عليه»، قال الترمذي: حديث صحيح. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الغيل وهو وطء المرضعة: ثبت عنه في «صحيح مسلم»: أنه قال: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم». وفي «سنن أبي داود» عنه من حديث أسماء بنت يزيد: «لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فوالذي نفسي بيده، إنه ليدرك الفارس فيُدَعْثِرُهُ»، قال: قلت: ما يعني؟ قالت: الغيلة يأتي الرجل امرأته وهي ترضع. ولا ريب أن وطء المراضع مما تعمُّ به البلوى، ويتعذر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع، ولو كان وطؤهن حرامًا لكان معلومًا من الدين، وكان بيانه من أهم الأمور، ولم تهمله الأمة وخير القرون، ولا يصرح أحد منهم بتحريمه، فعلم أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وألَّا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارئ عليه، ولهذا كان عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم غير أمهاتهم. فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسم الابتداء والدوام بين الزوجات: ثبت في «الصحيحين»: عن أنس أنه قال: «من السنة إذا تزوَّج الرجل البكر على الثيِّب، أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوَّج الثيِّب، أقام عندها ثلاثًا، ثم قسم»، قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي «صحيح مسلم»: أن أم سلمة لما تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها أقام عندها ثلاثًا، ثم قال: «إنه ليس بك على أهلك هوان، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وإنْ سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسَائِي». فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح: قال صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب». وقال صلى الله عليه وسلم: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا». وزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه، وزوَّج فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة ابنه. وتزوج بلال بن رباح بأخت عبدالرحمن بن عوف، وقد قال تعالى: ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ [النور: 26]، وقال تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 3]. فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلًا وكمالًا، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرًا وراء ذلك، فإنه حرَّم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسبًا ولا صناعة ولا غنى ولا حرية، فجوَّز للعبد القنِّ نكاح الحُرَّة النسيبة الغنية، إذا كان عفيفًا مسلمًا، وجوَّز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات. فصل في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة لزوجها: وفي «الصحيحين»: أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله خادمًا، فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته. قال علي: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: مكانكما، فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني، فقال: «ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما فسبِّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم». قال علي: فما تركتها بعد، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين. وصحَّ عن أسماء أنها قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله، وكان له فرس وكنت أسوسه، كنت أحش له وأقوم عليه. وصحَّ عنها أنها كانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ. فاختلف الفقهاء في ذلك، فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت، وقال أبو ثور: عليها أن تخدم زوجها في كل شيء. ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء، وممن ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر، قالوا: لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدل على التطوع ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟ فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثًا بكلمة واحدة: في «سنن النسائي» وغيره من حديث محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، فقال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!» حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، أفلا أقتله. حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخيير أزواجه بين المقام معه وبين مفارقتهن له: ثبت في «الصحيحين» عن عائشة قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: «إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك». قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، ثم قرأ ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29]، فقلت: في هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت عائشة: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت، فلم يكن ذلك طلاقًا. [1] الجلبان: شبه الجراب، يوضع فيه السيف مغمودًا والسوط ونحوه. وفي ضبطه وجهان: جُلُبَّان بضمتين وتشديد الباء، وجُلْبان بضم الجيم وسكون اللام والتخفيف.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() لطائف من زاد المعاد في هدي خير العباد (6) سائد بن جمال دياربكرليذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الولد من أحق به في الحضانة: روى أبو داود في سُنَنِهِ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبدالله بن عمرو بن العاص: ((أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سِقاء، وحِجري له حِواء، وإن أباه طلَّقني، وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحقُّ به ما لم تُنكَحي)). وفي الصحيحين من حديث البراء بن عازب: أن ابنة حمزة اختصم فيها عليٌّ وجعفر وزيد، فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: بنت عمي وخالتها عندي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: ((الخالة بمنزلة الأم)). وروى أهل السنن من حديث أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيَّر غلامًا بين أبيه وأمه))؛ [قال الترمذي: حديث صحيح]. وروى أهل السنن أيضًا عنه: ((أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استَهِما عليه، فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك، وهذه أمك، فخُذْ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به))؛ [قال الترمذي: حديث حسن صحيح]. ذِكْرُ حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات: وأنه لم يقدِّرها، ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها، وإنما ردَّ الأزواج فيها إلى العُرف. ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال في خطبة حجة الوداع بمحضِرِ الجمع العظيم، قبل وفاته ببضعة وثمانين يومًا: ((واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستَحْلَلْتُم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)). وثبت عنه في الصحيحين أن هندًا امرأة أبي سفيان قالت له: ((إن أبا سفيان رجل شحيح، ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خُذِي ما يكفيك وولدك بالمعروف)). وفي سنن أبي داود من حديث حكيم بن معاوية عن أبيه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ما تقول في نسائنا؟ قال: أطْعِمُوهن مما تأكلون، واكْسُوهن مما تلبسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن)). ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في الرضاعة، وما يحرم بها وما لا يحرم، وحكمه في القدر المحرَّم منها، وحكمه في رضاع الكبير، هل له تأثير أم لا؟ ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عنه، صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الرضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة)). وثبت فيهما: من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيد على ابنة حمزة، فقال: ((إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرُم من الرضاعة ما يحرُم من النسب)). وثبت فيهما أنه قال لعائشة: ((ائذني لأفلح أخي أبي القعيس، فإنه عمُّك، وكانت امرأته أرضعت عائشة)). وثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُحرِّم الْمَصَّة والمصتان)). وفي رواية: ((لا تحرم الإملاجة والإملاجتان))، وفي لفظ له: ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: لا)). وثبت في صحيحه أيضًا عن عائشة قالت: ((كان فيما نزل من القرآن عشرُ رضعات معلومات يحرِّمْنَ، ثم نُسِخْنَ بخمس معلومات، فتُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن)). وثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الرضاعة من المجاعة)). وثبت في جامع الترمذي من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام))؛ [قال الترمذي: حديث صحيح]. وثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت: ((جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه تحرُمين عليه)). حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسِّنَّوْرِ: في الصحيحين عن ابن مسعود: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومَهْرِ البغي، وحُلوان الكاهن)). وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير قال: ((سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسِّنَّور، فقال: زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)). وفي سنن أبي داود عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور)). وفي صحيح مسلم من حديث رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((شرُّ الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجَّام)). فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عَسَبِ الفحل وضِرَابِهِ: في صحيح البخاري عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل))[1]. وفي صحيح مسلم عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ضراب الجمل)). وهذا الثاني تفسير للأول، وسمى أجرة ضرابه بيعًا؛ إما لكون المقصود هو الماء الذي له، فالثمن مبذول في مقابلة عين مائه، وهو حقيقة البيع، وإما أنه سمى إجارته لذلك بيعًا؛ إذ هي عقد معاوضة وهي بيع المنافع، والعادة أنهم يستأجرون الفحل للضراب، وهذا هو الذي نُهِيَ عنه، والعقد الوارد عليه باطل، سواء كان بيعًا أو إجارة؛ وهذا قول جمهور العلماء، منهم أحمد والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحَصَاة والغَرَر والملامسة والمنابذة: في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر)). وفي الصحيحين عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة))، زاد مسلم: ((أما الملامسة: فأن يلمس كل منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه)). وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ولِبْسَتَين؛ نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ)). وفُسِّر بيع الحصاة بأن يقول: ارمِ هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت، فهو لك بدرهم، وفُسِّر بأن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة، وفُسِّر بأن يقبض على كف من حصًا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من حصًا، ويقول: لي بكل حصاة درهم، وفُسِّر بأن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع، وفُسِّر بأن يتبايعا، ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، وفُسِّر بأن يعترض القطيع من الغنم، فيأخذ حصاة، ويقول: أي شاة أصبتها فهي لك بكذا، وهذه الصور كلها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومن الغرر والخطر الذي هو شبيه بالقِمار. فصل في بيع المغيَّبات في الأرض: وليس من بيع الغرر بيع المغيبات في الأرض، كاللفت والجزر، والفجل والقلقاس، والبصل ونحوها، فإنها معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها، وظاهرها عنوان باطنها، فهو كظاهر الصُّبْرة مع باطنها، ولو قُدِّر أن في ذلك غررًا، فهو غرر يسير يُغتفَر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها، فإن ذلك غرر لا يكون موجبًا للمنع، فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت مساناة[2] لا تخلو عن غرر؛ لأنه يعرض موت الحيوان، وانهدام الدار، وكذا دخول الحمام، وكذا الشرب من إناء السقاء، فإنه غير مقدَّر مع اختلاف الناس في قدرِه، وكذا بيوع السلم، وكذا بيع الصُّبْرة العظيمة التي لا يُعلَم مَكيلها، وكذا بيع البيض والرمان والبِطِّيخ، والجوز واللوز والفستق، وأمثال ذلك مما لا يخلو من الغرر، فليس كل غرر سببًا للتحريم. [1] والمراد النهي عن أخذ أجرة في مقابل مائه ونزوه على الأنثى. [2] المُسَاناة: المصانعة، وهي المداراة، وساناهُ مُسَانَاةً وسِنَاءً: استأجره السنة، وعامله مساناة، واستأجره مساناة كقوله مسانهة؛ [انظر: لسان العرب لابن منظور، ج: 14، ص: 405].
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |