|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() احتضار ذبابة حسن كشاف في ليلة باردةٍ بعد يوم متقلب المزاج، جلس "عبيدة" على سريره المعتاد والمفضَّل، وهو يحمل جريدة قديمة جدًّا لم يتمم قراءتها، رغم أنه امتلكها منذ فترة ليست بالقصيرة! لم يكن هذا التفضيل اعتباطيًّا أو عفويًّا؛ فقد كان هذا السرير مقابلًا لنافذة مهترئة تطل على أرض واسعة، كثيرًا ما زرعت، لكنها لم تنتج غلة يومًا، ولن تنتجها، ليس لأن لعنة أصابتها، بل لأنها كانت تتجاور مع مزبلة كبيرة تتموقع مباشرة مع النافذة، فصارت مع مرور الوقت مطرحًا للحي بأكمله؛ مما أدى إلى انتشار كل أنواع الحشرات، وعلى رأسها الذباب، وخصوصًا "ذبان الجيفة"؛ كما تسميه زوجة أخيه البدينة، التي تتكلف بطرد عدد هائل منها كل يوم، لا سيما إذا ظلت النافذة مفتوحة لاستقبال أشعة الشمس. أحسَّ ببعض البرد، فرمى الجريدة من يده دون سابق إنذار، وانتفض مِن مكانه نحو النافذة ليغلقها بسرعة البرق، وكأن أفعى لسعته، شعر بعدها بتحسن طفيف، والتقط الجريدة من الأرض وأكمل القراءة لكن بتوتر وانفعال كبيرين، رغم أنه أوصد النافذة أمام البرد، بدأ يتزايد هذا الانزعاجُ والضجيج حتى صار يشكل له نوعًا غريبًا من الأرق. قرر أن يستقصي الأمر لإدراك السبب، أنصت بكل جوارحه، وإن كانت مكلومة من تجارب الحياة، التي كثيرًا ما قسَتْ عليه، كاد هذا الاستقصاء أن يقوده إلى النوم، وأخيرًا أدرك أن ما شكل له أرقًا لم يكن سوى صوت استغاثةِ ذبابة أوصد النافذة عليها! قرَّر أن يتجاهل الأمر ومضى يقرأ دون اكتراث لهذا الصوت والخربشة التي يُحدِثها، بدا وكأنه يسمع أنينها وصراخها وهي تتوسل إليه لكي يطلق سراحها، أصبح سمعه حادًّا ويفوق قدرات الناس العاديين، حتى استغرب هو نفسه من الأمر؛ فكثيرًا ما كان يجد صعوبة كبيرة لسماع صراخ زوجة أخيه أو أمه احتجاجًا على فتح النافذة! وفي لحظة اختفى الصوت نهائيًّا، فزاد من تركيزه وكأنه يريد أن يطوِّر قدرته على تحسس صوت الذبابة، وكأنه افتقدها، أو بالأحرى افتقد تلك المتعة التي استلذها حينما كانت تتألم وتتعذب وتصدر حشرجة تمثلها كأنغام موسيقية حزينة، لم يكن كل ذلك إلا استعراضًا للعضلات، كان يريد أن يدرك الشعور الذي يخالج مَن يعامله كحشرة دنيئة، أحس بشعور عظيم امتزج بالسلطة والقدرة على إخضاع الآخرين وإخراسهم، لطالما كان هذا حلمه، لقد فاق ذلك كلَّ توقعاته، لنَقُلْ: إنه كان يتمنى أن يعامَل باحترام لا أكثر ولا أقل، وألا يُنظر إليه على أنه ذبابة. سادت لحظات من الهدوء الذي كاد يسمع أثناءه هدير أذنيه، بدأ يتسرب إلى نفسه نوعٌ من الشعور بالذنب وتأنيب الضمير جراء فعلته؛ لكونه كان سببًا مباشرًا في خاتمة مأساوية لكائن حي. كل ذلك الغم زال بعد هنيهات وجيزة، بعد أن تردد ذلك الصوت مرة أخرى، إنه صوت الذبابة التي باشرت تستغيث من جديد، وكأنها أخذت مهلة لتستجمع قواها في محاولة أخيرة للفت انتباه أحدهم إلى وضعيتها، شعر بفرح وغبطة كبيرين بعد أن تلقى هذا النبأَ السار، وانتفاء صفة الذنب عنه، وبدأ يفكر جديًّا في تخليص الذبابة من هذا الكابوس الذي وقعت فيه، نتيجة تصرف طائش وغير محسوب، والذي لم يمنحها فرصة للإفلات من هذه الورطة، هكذا كان يعتقد جازمًا. صار يفكر جديًّا في مساعدتها لكنه متعب، وقد أخذ النومُ منه كل مأخذ، بعد أن وضع نفسه عديد المرات مكانَها، ولماذا يضع نفسه مكانها؟ فوضعيَّته تشبهها، أو لنقل: تتطابق مع وضعيتها إلى حدِّ التماثل، كثيرًا ما كان يعامَل على أنه ذبابة من طرف موظفي الملحقة الإدارية، أو مِن الذين هم أعلى منه مرتبة عمومًا، فقبل أسبوع، بينما هو ينتظر استلام شهادة سكنى أمام مكتب موظف في الملحقة الإدارية التابع لها، دخل رجل يبدو أنه محترم، استشف ذلك من خلال هندامه المرتب ومظهره الأنيق، فلم يعر هذا الأخير اهتمامًا لـ"عبيدة" الذي كان جالسًا القرفصاء، بينما كان الرجل المحترم يهم بالدخول عند الموظف ليقضي حاجته دون اكتراث لمن هم قبله من المواطنين، جعل هذا الأمر ثائرة "عبيدة" تثور لأول مرة في حياته وخاطب الرجل المحترم بغلظة: أرجوك يا سيدي التزم النظام، أنا قبلَك! حملق فيه الرجل المحترم بنظرات تحمل في طياتها نوعًا من الاحتقار والاستهزاء: اعذرني لم أرك، هل كنت تقف هنا؟ أحس كالعادة أنه مبتذل ولا قيمة له، كيف يُعقل ألا يراه وهو بهذا الحجم الضخم؟ كان يريد أن يصدق موهمًا نفسه أن الرجل المحترم لم يرَه فعلًا، وأن هذا التصرف لم يكن متعمَّدًا. جعلته كل هذه الخواطر يتثاءب، ثم استسلم للنوم، في الصباح الباكر، وعلى غير عادته أفاق "عبيدة" من نومه مفجوعًا مصدومًا، وكأنه سمع خبر نهاية العالم، فتذكَّر على الفور حادثة ليلة أمس، ونهض من سريره، وكأن إناءً من الماء البارد قد صُبَّ عليه، فتح النافذة بسرعة وهو يرتعد هلعًا، فوجد الذبابة جثة هامدة، لم يحس بالدموع إلا وهي تنهمر على وجنتيه، تبادر إلى ذهنه أنه مجرم ولا يستحق الحياة بعد فَعلتِه الشنيعة، نظر إلى أسفل وكان العلو شاهقًا بين النافذة والأرض، كان يفكر جديًّا في الخلاص من تأنيب الضمير.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |