|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الكفاية اللغوية والأداء اللغوي بين ابن جني وتشومسكي أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن لقد وجدنا أنَّ اللسانيين[1] قد بحثوا في مفهوم الكفاية، فظهرت مجموعة من التَّوجهات النظرية والمنهجية التي توصَّلت إلى صياغة قوالب؛ يمكن القول إنَّها استقرت اليوم في وضعها النَّظري النَّهائي أو تكاد. وقد تدرَّجت هذه المناهج من الوصف إلى التفسير، ممَّا أدَّى إلى صقل الأدوات العلمية التي تلامس ظاهرة المعرفة اللغوية على الأقل في بعض من جوانبها المتعلقة ببعض أوجه الظاهرة اللسانية الإبداعية عامة. ولذا كان البحث في الآليات التي توظفها كفاية المتكلمين، لإنتاج العلامة في شكل أداء لغوي قادر على إنجاز عملية التَّواصل بين البشر، مع ممارسة الرقابة القاعدية عليها، أو ما يسمى المعرفة اللسانية. وبعد فقد ميَّز دوسوسير بين ثنائية اللغة والكلام، فاللغة اجتماعية وليست عملاً للمتكلم بل إنتاج تمثله بطريقة مجهولة. أمَّا الكلام فهو فردي، وهو الجانب الأدائي التنفيذي الذي ينتجه الفرد[2]. وقد التقى تشومسكي في مفهومه (للكفاية) و(الأداء) مع دوسوسير في مفهومه (للغة) و(الكلام) [3]، وبخاصة لدى التحول من المستوى الثابت في اللغة إلى المستوى المتحرك منها. فعرفت اللغة عنده بالكفاية (Competence) وهي معرفة المُتكلم بلغته، والكلام بالأداء والإنجاز الكلامي (Performance) وهو ما ينتج عن هذه المعرفة من كلام متحقق في مواقف ملموسة[4]. وفرّق تشومسكي بالتالي بين الكفاية والأداء، وعدّ الفرق بينهما فرقًا أساسيًا، فلا يعدّ الأداء عنده انعكاسًا مباشرا للقابلية بل يعكسها تحت جملة من الشروط المثالية التي ترتبط بالمتكلم والسامع[5]. فالكفاية عنده قدرة المتكلم - المستمع - المثالي على أن ينتج - انطلاقًا من قواعد ضمنية - عددًا غير متناهٍ من الجمل تقود عملية التَّكلُّم[6].... وهذه القواعد الضمنية" التي تتسم بالكفاءة (adequacy ) الكاملة يجب أن تعطي كل جملة من المدى اللانهائي من الجمل وصفًا بنيويًا (structural description) يشير إلى كيفية فهمها من قبل المتكلم - السامع المثالي"[7]. وتكون هذه القواعد التوليدية "نظام قوانين يمكن أن يعاد استعمالها باستمرار للحصول على عدد غير محدود من البنى"[8]، ونظام القوانين هذا يقسم" إلى المكونات الرئيسة الثلاث في القواعد التوليدية وهي - المكونات النحوية والفنولوجية والدلالية"[9]. أمَّا الأداء الكلامي، فهو الاستعمال الآني للغة ضمن سياق معين... فهو إذن انعكاس للكفاية اللغوية، وبه تنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. ومن هنا نجد أنَّ هذه الثنائية قد شغلت اللغويين منذ أن أدخلها تشومسكي إلى الآن[10]، ولذا فإن ثمة فرقًا بين معارف المتكلم الذهنية، وهو ما يسميه تشومسكي بكفايته (His competence) وما ينجزه من أداء وكلام، وهو ما يسميه بأدائه (His performance)[11]. فمفهوم الكفاية عند تشومسكي لا يحاذي محاذاة تامة مفهوم اللغة عند دوسوسير، ذلك أنَّ اللغة عند دوسوسير ليست إلا مخزنًا ونظامًا نحويًا يوجد بالقوة في كل عقل[12]. غير أنَّ الكفاية اللغوية التي نادى بها تشومسكي وأتباعه مقصورة كما ذكر بعضهم على الكفاية النحوية (Grammatical Competence). في حين يعرف الأداء الكلامي باستعمال الفرد هذه المعرفة في عملية التَّكلم[13]. فهو انعكاس - كما يذكر ميشال زكريا[14]- للكفاية اللغوية، فيه بعض الانحرافات عن قوانين اللغة، وبإمكانه أن يكشفها في أدائه بناء على معرفته الضمنية بقواعد اللغة، أي: بالعودة إلى كفايته اللغوية بالذَّات. ومن هنا وجدت البنية العميقة والبنية السطحية، وحجة تشومسكي في ذلك أنَّه من المُستحيل الإتيان بقواعد تُطابق أو تُماثل كفاية المُتحدِّث الأصلي للغة، في علاقات المعنى، بالنَّظر فقط إلى البنية السطحية للجمل، أي: الترتيب الذي تظهر به الكلمات في الجملة [15]. وباختصار شديد عرفنا أنَّ شومسكي ميَّز بين الكفاية اللغوية والأداء اللغوي، وهما من أهم الآراء لدى البنيويين التحويليين أوالمدرسة التوليدية التحويلية، فالكفاية تعني: قدرة ابن اللغة على فهم تراكيب لغته وقواعدها وقدرته من الناحية النظرية، على أن يُركِّب ويفهم عددًا غير محدودٍ من الجُمل، ويُدرك الصَّواب منها أو الخطأ. وأمَّا الأداء: فهو الأداء اللُّغوي الفعلي لفظًا أو كتابة. والنحو عند البنيويين التحويليين يتمثل في مجموع المحصول اللساني الذي تراكم في ذهن المتكلم باللغة يعني الكفاءة اللسانية (compétence). والاستعمال الخاص الذي ينجزه المتكلم في حال من الأحوال الخاصة عند التخاطب والذي يرجع إلى القدرة الكلامية (performence) [16]. وما نظريتا الكفاءة والأداء المعروفتان لدى النحويين التوليديين التحويليين في العصر الحديث في بعض مدلولاتها إلا تعبيرٌ حديثٌ عمَّا دار في دراسات نحاة العربية وقواعدهم، الذين كانوا قد قرّروا أنَّ الأصل في المسند إليه الرفع وأنَّ التعريفَ فرعُ التَّنكيرِ، وأنَّ البناء أصلٌ في الأفعال... ممَّا يضيق به الحصر.[17] وممَّا تقرَّر لديهم: " أنَّ الألفاظ تحمل على أوضاعها الأول، إلا إذا ضامّها طارئ عليها "[18]. وبعد فقد أكَّد ابن جني أنَّ العربي مدركٌ لعملية التحول من البنية العميقة إلى البنية السطحية وكذلك النحاة العرب؛ حيث يقول: "باب في أنَّ العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها" [19]، ويقول: " اعلم أنَّ هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة، وللنفس به مسكة وعصمة؛ لأنَّ فيه تصحيح ما ندَّعيه على العرب من أنَّها أرادت كذا لكذا، وفعلت كذا لكذا، وهو أحزم لها وأجمل بها، وأدلُّ على الحكمة المنسوبة إليها، من أن تكون تكلفت ما تكلفته من استمرارها على وتيرة واحدة، وتقريها منهجًا واحدًا، تراعيه وتلاحظه، وتتحمل لذلك مشاقه وكلفه، وتعتذر من تقصير إن جرى وقتًا منها في شيء منه، وليس يجوز أن يكون ذلك كله في كل لغة لهم، وعند كل قوم منهم حتى لا يختلف ولا ينتقض ولا يتهاجر، على كثرتهم وسعة بلادهم، وطول عهد زمان هذه اللغة لهم، وتصرُّفها على ألسنتهم اتفاقًا ".[20] ويقول ابن جني: " وذلك أنَّ العرب إذا حذفت من الكلمة حرفًا، إمَّا ضرورة أو إيثارًا، فإنَّها تصور تلك الكلمة بعد الحذف منها تصويرًا تقبله أمثلة كلامها؛ ولا تعافه وتمجُّه لخروجه عنها، سواءً كان ذلك الحرف المحذوف أصلاً أم زائدًا، فإن كان ما يبقى بعد ذلك الحرف مثالاً تقبله مثلهم أقروه عليه، وإن نافرها وخالف ما عليها أوضاع كلمتها، نقض عن تلك الصورة، وأصير إلى احتذاء رسومها"[21]، وقد ذكرنا أمثلة كثيرة عند ابن جني؛ كحديثه عن الحذف والزيادة والتقديم والتأخير، وغير ذلك، وكان ابن جني في كُلٍّ يدرس الكفاءة اللغوية والأداء اللغوي لدى المتكلِّم العربي، وأكد أنَّ المتكلم هو الذي يُحدِّد المعنى وترتيب الجملة، ولا داعي لإعادة النصوص. وممَّا سبق نفهم أنَّ العربي - في رأي ابن جني - قد أدرك قوانين لغته وهي (الكفاية اللغوية) ثم قام بالكلام مُتصرفًا في هذه اللغة بحرية تامة أو منضبطة، وهو ما يقصد به (الأداء اللغوي). ويقول: " العرب إذا غيَّرت كلمة عن صورة إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مُشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم ".[22] ويورد ابن جني قول سيبويه حيث يقول: "وقد قال سيبويه: وليس شئ ممَّا يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا ". [23] ومن ذلك حديث ابن جني في (باب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول) حيث يقول: "اعلم أنَّ هذا الباب وإنْ ألانه عندك ظاهر ترجمته، وغضّ منه في نفسك بذاذة سمته، فإنَّ فيه ومن ورائه تحصينًا للمعاني، وتحريرًا للألفاظ، وتشجيعًا على مزاولة الأغراض، والكلام فيه من موضعين: أحدهما: ذكر استقامة المعنى من استحالته، والآخر: الاستطالة على اللفظ بتحريفه والتَّلعب به؛ ليكون ذلك مدرجة للفكر، ومشجعة للنفس، وارتياضًا لما يرد من ذلك الطرز، وليس لك أن تقول فما في الاشتغال بإنشاء فروع كاذبة عن أصول فاسدة، وقد كان في التَّشاغل بالصحيح مُغن عن التَّكلُّف للسقيم، هذا خطأٌ من القول، من قِبَلِ أنَّه إذا أصلح الفكر وشحذ البصر وفتق النظر، كان ذلك عونًا لك، وسيفًا ماضيًا في يدك، ألا ترى إلى ما كان نحو هذا من الحساب، وما فيه من التَّصرُّف والاعتمال".[24] ويقول: "وهذا يدلُّك على أنَّهم قد يستعملون من الكلام ما غيره آثر في نفوسهم منه؛ سعةً في التَّفسح وإرخاءً للتنفس، وشُحًّا على ما جشموه فتواضعوه أن يتكارهوه، فيلغوه ويطرحوه، فاعرف ذلك مذهبًا لهم ولا تطعن عليهم، متى ورد عنهم شيء منه باب في جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه، هذا غورٌ من اللغة بطينٌ؛ يحتاج مُجتابه إلى فقاهة في النفس ونصاعة من الفكر، ومساءلة خاصية ليست بمبتذلة ولا ذات هجنة ".[25] يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |