|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح اسم الله التواب الشيخ وحيد عبدالسلام بالي الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْم (التَّوَّابِ)[1]: التَّوَّابُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغ المُبَالَغةِ، فِعْلُهُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وتَوْبَةً، والتَّوْبَةُ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيءِ إِلي غَيْرِهِ، وَتَرْكُ الذَّنْبِ عَلَى أَجْمَلِ الوُجُوهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وُجُوهِ الاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الاعْتِذَارَ عَلَى ثَلاثةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أنْ يَقُولَ الُمعْتَذِرُ لَمْ أَفْعَلْ، أَوْ يَقُولَ فَعَلْتُ لأَجْلِ كَذَا أَوْ يَقُولَ: فَعَلْتُ وَأَسَأْْتُ وَقَدْ أَقْلَعْتُ وَلاَ رابِعَ لِذَلِكَ، وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ التَّوْبَةُ[2]، وَالتَّائِبُ يُقَالُ لِبَاذِلِ التَّوْبَةِ وَلِقَابِل التَّوْبَةِ، فَالعَبْدُ تَائِبٌ إِلَى الله، والله تَائِبٌ عَلَى عَبْدِهِ[3]، وَالتَّوْبَةُ لاَزِمَةٌ لِجَمِيعِ المُذْنِبِينَ وَالعَاصِينَ صَغُرَ الذَّنْبُ أَوْ كَبُرَ، وَلَيْسَ لأِحَدٍ عُذْرٌ فِي تَرْكِ التَّوْبَةِ بَعْدَ ارْتِكَابِ المعصيةِ؛ لأنَّ المعاصِي كُلَّها تَوَعَّدَ اللهُ عليْهَا أهْلَهَا[4]. والتَّوَّابُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عَبادِهِ حاَلًا بَعْدَ حالٍ، فَمَا مِنْ عَبْدٍ عَصَاهُ وبَلَغَ عصيانهُ مَدَاهُ ثُمَّ رَغِب فِي التَّوْبَةِ إليهِ إلَّا فَتَحَ لَهُ أبْوَابَ رحمَتِهِ، وفَرِحَ بعودَتِه وتَوْبَتِهِ، مَا لَمْ تُغَرْغِرِ النفسُ أو تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَي رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "إن الله عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ اللَّيْلِ حَتي تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"[5]، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرغِرْ"[6]، ولو أَنَّ إنسَانًا اتَّبع هَوَاهُ أَوِ استَجَابَ لشيطانِهِ، وتَمادَى في جُرْمِهِ وَعِصْيَانِهِ، فَقَتَلَ مِائَةَ نَفَسٍ، وارْتَكَبَ كُلَّ إثْمٍ، وأرادَ التَّوْبَةَ والغُفْرَانَ تابَ عليهِ التَّوَّابُ، وبدَّلَ لهُ عَدَدَ مَا فَاتَ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِنَفْسِ أعدَادِهَا حَسَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، ورَوَي الترمذيُّ، وَحَسَّنَهُ الألبانِيُّ منْ حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ الله: يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاء ثُمَّ اسْتَغْفَرتَني غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرةً"[7]. هَذَا فَضْلًا عَنْ فَرَحِ التَّوَّابِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ وَعَوْدَتهِ إِلَى رَبِّهِ، فَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "لله أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَة أَحَدكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إذَا وَجَدَهَا"[8]، إنَّ المُذْنِبَ مُخْطِئٌ فِي جَنْبِ الله وعِظَمُ الذَّنْبِ يُقَاسُ بِعظَمِ مَنْ أَخطَأْتَ فِي حَقِّهِ، فَلَوْ قَبِلَ الله تَوْبَةَ المُذْنِبِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ القَبُولِ فَقَطْ كَرَمٌ بَالِغٌ ومِنَّةٌ مِنَ الله عَلَى عَبْدِهِ، فَمَا بالُنَا وَهُوَ يَقْبَلُ توبَةَ المُذْنِبِ بِعَفْوٍ جَدِيدٍ وَفَرَحٍ شَدِيدٍ، وَيَجْعَلُ فِي مُقَابِلِ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ أَجْرًا كَبِيرًا. وَيَذْكُرُ ابْنُ الْقَيِّمِ أنَّ تَوْبَةَ العَبْدِ إِلى رَبِّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ الله عَلَيْهِ قَبْلَهَا وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنَ الله: سَابِقَةٍ وَلاَحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ العَبْدُ فَتَابَ الله عَلَيْهِ ثَانِيًا قَبُولاً وَإِثَابَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جعَلَتْهُم تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضًى لِتَوْبَتِهِم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا تَابُوا حَتَّى تَابَ الله عَلَيْهِمْ، وَالحُكْمُ يَنْتَفِي لاِنْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، فَالعَبْدُ تَوَّابٌ، فَتَوْبَةُ العَبْدِ رُجُوعُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الإِبَاقِ، وَتَوْبَةُ الله نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وَإِمْدَادٌ [9]، قَالَ ابْنُ القَيَّمِ: وكَذَلِكَ التَّوَّابُ مِنْ أَوْصَافِهِ ![]() وَالتَّوْبُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ ![]() إِذْنٌ بِتوْبَةِ عَبْدِهِ وَقَبُولُها ![]() بَعْدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المَنَانِ ![]() قَالَ أَبُو حَامِدٍ[10]: "التَّوَّابُ هُوَ الذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ تَيْسِيرُ أَسْبَابِ التَّوْبَةِ لِعِبَادِه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى بِمَا يُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمْ مِنْ تَنْبِيهَاتِهِ، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَخْوِيفَاتِهِ وَتَحْذِيرَاتِهِ، حَتَّى إِذَا اطَّلَعُوا بِتَعْرِيفِهِ عَلَى غَوَائِلِ الذُّنُوبِ اسْتَشْعَرُوا الخَوْفَ بِتَخْوِيفِهِ فَرَجَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ". وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكريمِ: وَرَدَ الاسْمُ فِي القُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 160]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 10]. وَقَوْلُهُ: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]. مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى[11]: قَالَ قَتَادَةُ: "﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: إِنَّ الله هُوَ الوَهَّابُ لِعِبَادِهِ الإِنَابَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، المُوَفِّقُ مَنْ أَحبَّ تَوْفِيقَهُ مِنْهُمْ لِمَا يُرضِيهِ عَنْهُ"[12]. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: أَيْ يَتُوبُ عَلَى العِبَادِ، والتَّوَّابُ مِنَ النَّاسِ الذِي يَتُوبُ مِنَ الذَّنْبِ"[13]. وَقَالَ ابنُ جَرَيرٍ: "﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: إِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ (التَّوَّابُ) عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ المُذْنِبِينَ مِنْ ذُنُوبِهِ، التَّارِكُ مُجَازَاتِهِ بِإِنَابَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ بَعْدَ مَعْصِيَتِهِ بِمَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أنَّ مَعْنَى (التَّوْبَةِ) مِنَ العَبْدِ إِلَى رَبِّهِ إِنَابَتُهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَوْبَتُهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ بِتَرْكِهِ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُقِيمًا مِمَّا يَكْرَهُهُ ربُّهُ، فَكَذَلِكَ تَوْبَةُ الله عَلَى عَبْدِهِ هُوَ أَنْ يَرْزُقَهُ ذَلِكَ ويؤُوُبُ مِنْ غَضَبِهِ عَلَيْهِ إِلَى الرِّضَا عَنْهُ، وَمِنَ العُقُوبَةِ إِلَى العَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ"[14]. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: "قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3]. أَيْ: يَقْبَلُ رُجُوع عَبْدِهِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ: التَّوْبَةُ كَأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الطَّاعَةِ، وَتركُ المَعْصِيَةِ"[15]. وَبِنَحْوِهِ قَالَ الزَّجَّاجِيُّ، ثُمَّ قَالَ: "فَجَاءَ تَوَّابٌ عَلَى أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ، وَتكْرِيرِ الفِعْلِ مِنْهُم دُفْعَةً بَعْدَ دُفْعَةٍ، وَوَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَقَبُولِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَشَاءُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ. فَالعَبْدُ يَتُوبُ إِلَى الله عز وجل ويُقْلِعُ عَنْ ذُنُوبِهِ، وَاللهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَالعَبْدُ تَائِبٌ، وَاللهُ تَوَّابٌ"[16]. وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: "(التَّوَّابُ): هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ تَكَرَّرَ القَبُولُ، وَهُوَ حَرْفٌ يَكُونُ لاَزِمًا وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى العَبْدِ بِمَعْنَى وفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ فَتَابَ العَبْدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]. وَمَعْنَى التَّوْبَةِ: عَوْدُ العَبْدِ إِلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ المَعْصِيَةِ"[17]. وَقَالَ الحُلَيمِيُّ: "(التَّوَّابُ) وَهُوَ المُعِيدُ إِلَى عَبْدِهِ فَضْلَ رَحْمَتِهِ إِذَا هُوَ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَلاَ يُحْبِطُ بِمَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا وَعَدَ المُطِيعِينَ مِنَ الإِحْسَانِ"[18]. وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: "هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبِيدِهِ"[19]. وَفِي المقَصِدِ الأَسَنْى: "(التَّوَّابُ) هُوَ الذِي يَرْجِعُ إِلَى تَيْسِيرِ أَسْبَابِ التَّوْبَةِ لِعِبَادِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِمَا يُظهِر لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِم مِنْ تَنْبِيهَاتِهِ، وَيُطْلِعُهم عَلَيْهِ مِنْ تَخْوِيفَاتِهِ وَتَحْذِيرَاتِهِ، حَتَّى إِذَا اطَّلَعُوا بِتَعْرِيفِهِ عَلَى غَوَائِلِ الذُّنُوبِ، اسْتَشْعَرُوا الخَوْفَ بِتَخُوِيفِهِ فَرَجَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِم فَضْلُ الله تَعَالَى بِالقَبُولِ"[20]. ثمرة الإيمان باسم الله التواب: 1- اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَوَ (التَّوَّابُ) الذِي لَمْ يَزَلْ يَتُوبُ عَلَى التَّائِبِينَ، وَيَغْفِرُ ذنوبَ المُنِيبِينَ، فَكُلُّ مَنْ تَابَ إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا تَابَ الله عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ. فَهُوَ التَّائِبُ عَلَى التَّائِبِينَ أَوَّلًا بِتَوْفِيقِهِم للِتَّوْبَةِ، وَالإِقْبَالِ بِقُلُوبِهِم إِلَيْهِ. وَهُوَ التَّائِبُ عَلَى التَّائِبِينَ بَعْدَ تَوْبَتِهِم قَبُولًا لَهَا وَعَفْوًا عَنْ خَطَايَاهُم[21]. فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُ عِبَادَهُ للِتَّوْبَةِ، وَيَقْبَلُهَا مِنْهُم وَيُثِيبَهُم عَلَيْهَا، فَسُبْحَانَ التَّوَّابِ الرَّحِيمِ، الجَوَادِ الكريمِ. قَالَ الأُقْلِيشيُّ: "سَمَّي الله سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ تَوَّابًا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ التَّوْبَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَمُيَسِّرُ أَسْبَابَهَا لَهُم، وَالرَّاجِعُ بِهِم مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي يَكْرَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يَرْضَى. وَسَمَّي نَفْسَهُ أَيْضًا (تَوَّابًا) لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَمِنَ القِسْمِ الأَوَّلِ قَوْلُه تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]. وَمِنَ القِسْمِ الثَّانِي قَوْلُه تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 39]. فَبِهَذَيْنِ القِسْمَينِ سَمَّي نَفْسَهُ تَوَّابًا. وَلَقَدْ جَهِلَ المُعْتَزِلِيُّ الحَقِيقَةَ فَأَنْكَرَ القِسْمَ الأَوَّلَ، وَهُوَ خَلْقُ التَّوْبَةِ فِي قَلْب العَبْدِ، وَهَذَا مَطْمُوسُ القَلْبِ عَنْ طَرِيقِ القَصْدِ. وَلَمَّا كَانَت المَعَاصِي مُتَكَرَّرَةً مِنْ عِبَادِهِ، جَاءَ بِصِيغَةِ المُبَالَغَةِ، لِيُقَابِلَ الخَطَايَا الكَبِيرَةَ بِالتَّوْبَةِ الوَاسِعَةِ"[22]. وَقَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: "قَالَ الله العَظِيمُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ [التوبة: 117]. فَقَالَ فِي الآيَةِ الأُولَي: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117]. تَصْرِيحٌ بِتَوْبَتِهِ عَلَى الإِطْلاَقِ عَلَى مَنْ وَاقَعَ الذَّنْبَ، أَوْ كَانَتْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ وَعِصْيَانٌ. فَتَوْبَةُ الله عَلَى العَبْدِ قَدْ يُرَادُ بِهَا تَجْدِيدُ التَّوْبَةِ وَتَوَالِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136]. مَعْنَاهُ جَدِّدُوا الإِيمَانَ وَاسْتَدِيمُوهُ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]. وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ (التَّوَّابُ) مُبَالَغَةٌ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَلِتَكْرِيرِهِ ذَلِكَ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَصْفَهُ سُبْحَانَهُ ب (التَّوَّابِ) خَلْقُهُ التَّوْبَةَ للِعَبْدِ وَقَبُولُهَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُم، كَمَا قيِلَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ تَوَّابٌ"[23]. 2- اللهُ تَعَالَى هُوَ المُتَفَرِّدُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِهِ، لاَ يُشْرِكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَالخَطَايَا إِلَّا هُوَ. قَالَ القُرْطُبيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ كَلاَمَ الأُقْلِيشِيِّ وَابْنِ الحَصَّارِ: "وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ قُدْرةٌ عَلَى خلْقِ التَّوْبَةِ فِي قَلْبِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُنْفَرِدُ بِخَلْقِ الأَعْمَالِ وَحْدَهُ[24] خِلاَفًا للِمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ قَالَ بقَوْلِهِم. وَكَذَلِكَ لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ مَنْ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: "وَقَدْ كَفَرَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى بِهَذَا الأَصلِ العَظِيمِ فِي الدِّينِ، اتَّخَذَوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله عز وجل، وَجَعَلُوا لِمَنْ أَذْنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الحَبْرَ أَوِ الرَّاهِبَ فَيُعْطِيهِ شَيْئًا، وَيَحطُّ عَنْهُ الذَّنْبَ!! ﴿ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 140]"[25]. وَهُوَ مَا يُسَمَّي ب (صُكُوكِ الغُفْرانِ)!! وَهِي مِنْ ضَلَالَاتِهم الكَثِيرَةِ الَّتِي أَضَلُّوا بِهَا النَّاسَ وَأَكَلُوا بِهَا أَمْوَالَهُم بِالبَاطِلِ دُهُورًا طَوِيلَةً كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34]. فَلَيْسَ لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ الله تَعَالَى - مَلَكًا كَانَ أَوْ رَسُولًا - سُلْطَانٌ فِي مَحْوِ الذَّنْبِ أَوْ سَتْرِهِ، أَوْ تَلَقِّي الاعْتِرَافَ بِالذَّنْبِ، سِوَي الرَّبِّ التَّوَّابِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إلَّا الشَّفَاعَةَ وَهِيَ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى مِنْ عِبَادِهِ. وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا يَقَولُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]. وَفِي الدُّعَاءِ الذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي بَكْرٍ: "اللَّهُمَّ إِنَّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا - أَوْ كَثِيرًا - وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكِ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"[26]. وَفِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ وَهَذَا الدُّعَاءِ إِقْرَارُ الوَحْدَانِيَةِ لَهُ فِي التَّوْبَةِ، إِذْ مَعْنَاهُمَا أَنَّهُ لاَ يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا أَنْتَ فَافْعَلْهُ لِي. اقتران اسم الله التواب بأسمائه الأخرى سبحانه: اقْتِرَانُ اسْمِهِ (التَّوَّابِ) بِ (الَّرحِيمِ): قَالَ قَتَادَةُ: "﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]: إِنَّ الله هُوَ الوَهَّابُ لِعِبَادِهِ الإِنَابَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، المُوَفِّقُ مَنْ أَحبَّ تَوْفِيقَهُ مِنْهُمْ لِمَا يُرضِيهِ عَنْهُ (الرَّحِيمُ) بِهِم أَنْ يُعَاقِبَهُم بَعْدَ التَّوْبَةِ، أَوْ يَخْذُلَ مَنْ أَرَادَ مِنْهُم التَّوْبَةَ وَالإِنَابَةَ، وَلاَ يَتُوبُ عَلَيْهِ"[27]. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَعْنَى (التَّوَّابِ) الذِي تَقَدَّمَ: "وَأَمَّا قَوْلُهُ (الرَّحِيمُ) فَإِنَّهُ يَعْنِى: أَنَّهُ المُتفَضِّلُ عَلَيْهِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالرَّحْمَةِ وَرَحْمَتُهُ إِيَّاهُ إِقَالَةُ عَثْرَتِهِ، وَصَفْحُهُ عَنْ عُقُوبَةِ جُرْمِهِ"[28]. وَقَالَ شِهَابُ الدِّينِ الأَلُوسِيُّ: "وَجَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيِ كَوْنِهِ تَوَّابًا وَكَوْنِهِ رَحِيَمًا، إِشَارَةً إِلَى مَزِيدِ الفَضْلِ، وَقَدَّمَ (التَّوَّابَ) لِظُهُورِ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ. وَقِيلَ: فِي ذِكْرِ (الرَّحِيمِ) بَعْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْس عَلَى سَبِيلِ الوُجُوبِ - كَمَا زَعَمَتْ المُعْتَزِلَةُ - بَلْ عَلَى سَبيِلِ التَّرَحُم وَالتَّفَضُلِ، وَأَنَّهُ الذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، فَيَرْحَمُ عَبْدَهُ فِي عَيْنِ غَضَبِهِ، كَمَا جَعَلَ هُبوطَ آدَمَ سَبَبَ ارْتِفَاعِهِ، وَبُعْدَهُ سَبَبَ قُرْبِهِ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ تَوَّابٍ مَا أَكْرَمَهُ وَمَنْ رَحِيمٍ مَا أَعْظَمَهُ"[29]. فَيَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ: أ- أَنَّ الله تَعَالَى رَحِيمٌ بِعِبادِهِ فَلاَ يُعَاقِبُهم بَعْدَ التَّوْبَةِ. ب- أَنَّهُ تَعَالَى لاَ يَخْذُلُ وَلاَ يَرُدُّ مَنْ جَاءَ مِنْهُم تَائِبًا، وَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ عَنَانَ السَّمَاءِ وَمِلءَ الأَرْضِ. ج- أَنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ عَبْدَهُ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي عَيْنِ غَضَبِهِ؛ لأَِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى تَسْبِقُ غَضَبَهُ. د- أَنَّ قَبُولَهُ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْهِم، وَهُوَ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِهِم. اقْتِرَانُ (التَّوَّابِ) بـ (الحَكِيمِ): فَيَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 10]: "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم أَيُهَا النَّاسُ وَرَحْمَتُهُ بِكُم، وَأَنَّهُ عَوَّادٌ عَلَى خَلْقِهِ بِلُطْفِهِ وَطَوْلِهِ (حَكِيمٌ) فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ وَسِيَاسَتِهِ لَهُم، لَعَاجَلَكُم بِالعُقُوبَةِ عَلَى مَعَاصِيكُم، وَفَضَحَ أَهْلَ الذُّنُوبِ مِنْكُم بِذُنُوبِهِم، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُم ذُنُوبَكُم وَتَرَكَ فَضِيحَتَكُم بِهَا عَاجِلًا؛ رَحْمَةً مِنْهُ بِكُم وَتَفَضُّلًا عَلَيْكُم. فَاشْكُرُوا نِعَمَهُ، وَانْتَهُوا عَنِ التَّقدُّمِ عَمَّا عَنْهُ نَهَاكُم عَنْ مَعَاصِيهِ وَتَرَكَ الجَوَابَ فِي ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ المُرَادَ مِنْهُ"[30]. وَقَالَ البَغَوِيُّ فِي الآيَةِ نَفْسِهَا: "جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، يَعْنِى: لَعَاجَلَكُم بِالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُم وَرَفَعَ عَنْكُمُ الحَدَّ بِاللِّعَانِ، وَأَنَّ الله تَوَّابٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ يَرْجِعُ عَنِ المَعَاصِي بِالرَّحْمَةِ، حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ مِنَ الحُدُودِ"[31]. وَقَالَ الأَلُوسِيُّ: "جَوَابُ "لَوْلَا" مَحْذُوفٌ لِتَهْوِيلِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا تُوجَدُ عِبَارَةٌ تُحِيطُ بِبَيَانِهِ، وَهَذَا الحَذْفُ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِم، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْلَا تَفَضُّلُهُ تَعَالَى عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُبَالِغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ (حَكِيمٌ) فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا شَرَعَ لَكُم مِنْ حُكْمِ اللِّعَانِ، لَكَانَ مِمَّا لَا يُحِيطُ بِهِ نِطَاقُ البَيَانِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَشْرَعْ لَهُم ذَلِكَ، لَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ حَدُّ القَذْفِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ؛ لأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ زَوْجَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْتَرِي عَلَيْهَا لاشْتِرَاكِهِمَا فِي الفَضَاحَةِ، وَبَعْدَ مَا شَرَعَ لَهُم لَوْ جَعَلَ شَهَادَاتِهِ مُوجِبَةً لِحَدِّ الزنَا عَلَيْهَا لَفَاتَ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَلَوْ جَعَلَ شَهَادَاتِهَا مُوجِبَةً لِحَدِّ القَذْفِ عَلَيْهِ لَفَاتَ النَّظَرُ لَهُ، وَلَا رَيْبَ فِي خُرُوجِ الكُلِّ عَنْ سُنَنِ الحِكْمَةِ وَالفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، فَجَعَلَ شَهَادَاتِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ الجَزْمِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا حَتْمًا دَارِئَةً لِمَا تَوَجَّهَ إِليْهِ مِنَ الغَائِلَةِ الدُّنْيَويَّةِ، وَقَدِ ابْتُلِيَ الكَاذِبُ مِنْهُمَا فِي تَضَاعِيفِ شَهَادَاتِهِ مِنَ العَذَابِ بِمَا هُوَ أَتَمُّ مِمَّا دَرَأتْهُ عِنْهَا وَأَطَمُّ. وَفِي ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الحِكَمِ البَالِغَةِ وَأَثَارِ التَفَضُّلِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَا يَخْفى، أَمَّا عَلَى الصَّادِقِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الكَاذِبِ فَهُوَ إِمْهَالُهُ وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَدَرْءُ الحَدِّ عَنْهُ وَتَعْرِيضُهُ للِتَّوْبَةِ حَسْبَمَا يُنَبِئُ عَنْهُ التَّعَرُّضُ لِعُنْوَانِ تَوَّابِيَّتِهِ تَعَالَى. فَسُبْحَانَهُ مَا أَعَظْمَ شَأْنَهُ، وَأَوْسَعَ رَحْمَتَهُ، وَأَدَقَّ حِكْمَتَهُ، قَالهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ"[32]. فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا سَبَقَ: أ- أَنَّ الله عز وجل لَا يُعَاجِلُ أَهْلَ المَعَاصِي بِالعُقُوبَةِ، بَلْ يُمهِلُهُم الفُرْصَةَ للِتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ، وَهَذَا مِنْ حِكْمَتِهِ. ب- أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْضَحُ أَهْلَ الذُّنُوبِ ابْتِدَاءً، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُم عَلَى تَوْبَتِهم. ج- أَنَّهُ شَرَعَ مِنَ الحُدُودِ وَالكَفَّارَاتِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْ عِبَادِهِ الذُّنُوبَ وَالسَّيِّئَاتِ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. هل يصح تسمية الله تعالى بـ (التائب): لاَ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ اللهِ تَعَالَى بـ (التَّائِبِ): لأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الله تَعَالَى بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لُغَةً. قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الله عَزَّ وَجَلَّ (تَائِبٌ) عَلَى عِبَادِهِ، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُم، كَمَا قِيلَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ (تَوَّابٌ)؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّفَاتِ إِلَّا مَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةُ المُسْلِمِينَ، وَجَاءَ فِي الكِتَابِ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمَلًا. وَقَدْ قَالَ الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]؛ فَقَدْ جَاءَ الفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ. وَمَا نُطِقَ منهُ بِفَعَلَ يَفْعَلُ، فَاسْمُ الفَاعِلِ مِنْهُ قِيَاسًا فَاعِلٌ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ يَضَرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ، وَذَهَبَ يَذْهَبُ فَهُوَ ذَاهِبٌ، فَكَذَلِكَ يُقَالَ قِيَاسًا: تَابَ زَيْدٌ يَتُوبُ فَهُوَ تَائِبٌ. فَإِنْ كَانَتِ الأُمَّةُ تُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فَقِيَاسُهُ فِي اللُّغَةِ مُسْتَقيِمٌ، وَإِنْ لَمْ تُطْلِقْ ذَلِكَ عَلَى الله عز وجل فَلاَ يَجُوزُ الإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ جَائِزًا. عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لله عَزَّ وَجَلَّ (تَوَّابٌ) لِمُبَالَغَةِ الفِعْلِ، وَكَثْرَةِ قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ، وَلِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَتَرَدُّدُ هَذَا الفِعْلِ وَتَكْرَارُهُ وَقَبُولُهُ مِنْهُم لَيَدُلَّ عَلَى هَذَا المَعْنَى، فَلَا يُجَاوِزُ هَذَا. وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ عز وجل مَا لا يُنْطَقُ بِاسْمِ الفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وَقَوْلِهِ: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، وَلَمْ يَقُلْ: مُتَبَارِكٌ! كَمَا قِيلَ: تَعَالَى فَهُوَ مُتَعَالٍ، وَالوَزْنُ وَالتَّقْدِيرُ فِي العَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا نُطِقَ بِاسْمِ الفَاعِلِ، كَقَوْلِكَ: اللهُ المُؤمِنُ المُهَيْمِنُ، وَلَا تَقُولُ: آمَنَ الله وَلَا هَيْمَنَ، وَإِنَّمَا نَسْعَى فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مَا أَطْلَقَتْهُ الأُمَّةُ وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَنُمْسِكُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ"[33]. وَهَذَا كَلَامٌ سَلِيمٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مُقَدِّمةِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ بِتَفْصِيلٍ. أَمَّا مَا جَاءَ فِي "مُفْرَدَاتِ" الرَّاغِبِ: فَالعَبْدُ تَائِبٌ إِلَى الله، وَاللهُ تَائِبٌ عَلَى عَبْدِهِ[34]. فَهُوَ مِنْ بَابِ الإِخْبَارِ، لَا مِنْ بَابِ التَّسْمِيَةِ. مع التوبة: التَّوْبَةُ هِيَ تَرْكُ الذَّنْبِ عَلَى أَجْمَلِ الوُجُوهِ: وَهُوَ أَبْلَغُ وُجُوهِ الاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الاعْتِذَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ المُعْتَذِرُ: لَمْ أَفْعَلْ. أَوْ يَقُولَ: فَعَلْتُ لِأَجْلِ كَذَا. أَوْ: فَعَلْتُ وَأَسَأْتُ وَقَدْ أَقْلَعْتُ، وَلاَ رَابِعَ لِذَلِكَ. وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ "التَّوْبَةُ". وَالتَّوْبَةُ فِي الشَّرْعِ: تَرْكُ الذَّنْبِ لِقُبْحِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُ، وَالعَزِيمَةُ عَلَى تَرْكِ المُعَاوَدَةِ، وَتَدَارُكِ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُتَدَارَكَ مِنَ الأَعْمَالِ بِالإِعَادَةِ. فَمَتَي اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الأَرْبَعُ فَقَدْ كَمُلَ شَرَائِطُ التَّوْبَةِ[35]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |