فقه التعامل مع الفتن - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1249 - عددالزوار : 136604 )           »          إنه ينادينا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 24 - عددالزوار : 5543 )           »          السَّدَاد فيما اتفقا عليه البخاري ومسلم في المتن والإسناد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 8175 )           »          ميزة جديدة لمتصفح كروم بنظام أندرويد 15 تتيح إخفاء البيانات الحساسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كل ما تحتاج معرفته عن ميزة الصورة المستطيلة بإنستجرام.. اعرف التفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          إيه الفرق؟.. تعرف على أبرز الاختلافات بين هاتفى iPhone 14 Plus وGoogle Pixel 9 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          احمِ أطفالك من الإنترنت.. احذر ألعاب الفيديو لحماية أبنائك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          أبل تعمل على جهاز بشاشة تشبه شاشة الآيباد مع ذراع آلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          طفلك يستخدم تطبيقات الموبايل سرا دون علمك.. كيف تكتشف ذلك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أدوات مهمة هتساعدك للحد من استخدام طفلك للإنترنت.. جربها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 02-01-2021, 05:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,985
الدولة : Egypt
افتراضي فقه التعامل مع الفتن

فقه التعامل مع الفتن
د. أنور أبو زيد



تمهيد بين يدي البحث
إن من تأمل قواعد الفقه الإسلامي يجد سريانها في حياة الناس العامة؛ لما يحويه منصوص بعض هذه القواعد من الأحكام العامة التي من شأنها الحفاظ على وحدة كيان الأمة والتصدي للمخاطر المهدِّدة لاجتماعهم من التنازع والتناحر والفتن والقلاقل.
وسيتمحور هذا البحث حول القواعد التي تنص على المصلحة والمفسدة، إذ هذا النوع من القواعد ذو صلة وثيقة بموضوع الفتن؛ كون الفتنة مفسدة، ويتطلب الأمر دفعها أو اتقاءها بقدر ما يحقق المصلحة للفرد والأمة.



وأغلب هذا النوع من القواعد يندرج ضمن فقه الأولويات[1]، وهذا الضرب من الفقه تشتد الحاجة إليه عند تداخل الأمور وإقبال الفتن وتحديق الأخطار والشرور بالأمة.



وما فقه الفتن إلا الدراية بالأعمال التي تدفع البلايا والرزايا، والبصيرة بالأحكام المنجية منها عند إقبالها أو حال وقوعها.



كما أن اختلال الترتيب والموازنة بين الأعمال من شأنه أن يزيد من البلاء على الإنسان.



والذين يخطئون في سلّم الأولويات كثيرون، وهم بخطئهم هذا يفوتون مصالح كثيرة على الأمة.



ومما ينبغي أن يُعرف أن الأولويات تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، فما يكون مقدماً في وقت قد لا يناسب تقديمه في وقت آخر، وما يكون أولى في حق فرد قد لا يكون مطلوباً في حق غيره.



وإنما يعرف هذا أهل الخبرة والدراية من أهل العلم والبصيرة والفقه في الدين.



قال ابن القيم: الأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه[2].



فمعنى هذا أنه لا يوجد عمل هو الأفضل على الإطلاق، وإنما لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له.



وقد وصف ابن تيمية فقه مراتب الأعمال بأنه حقيقة الدين، وحقيقة العمل بما جاءت به الرسل، وبأنه خاصة العلماء بهذا الدين.. يقول: فتفطّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسّر كثيراً؛ فأما مراتب المنكر ومراتب الدليل بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين، وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين[3].



وقد اعتبر ابن القيم انشغال الإنسان بالأعمال المفضولة عن الفاضلة من عقبات الشيطان التي لا يتجاوزها المسلم إلا بفقه في الأعمال ومراتبها، حيث يُحَسّن الشيطان له الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، ويريه ما فيها من الفضل والربح؛ ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسباً وربحاً، فقال في توجيه ذلك: لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له... إلى أن قال: فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيداً ومسوداً، ورئيساً ومرؤوساً، وذروة وما دونها... ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه[4].



إن عدم فقه الأولويات يؤدي إلى الإغراق في الجزئيات على حساب المحافظة على الكليات؛ فعند النظر في حال العمل الإسلامي نجد أن الأماني واسعة في حين أن الأهداف غامضة، ونجد أن المبادئ بارزة في حين أن البرامج غائبة، والسبب هو عدم وجود دراسات جادة تتولى معالجة مثل هذه القضايا الكلية، وإذا وُجدت فهي دراسات محدودة ومتدنية في مستواها، بينما تقاس اهتمامات الأمم بقضيةٍ ما بإنتاجها الثقافي ونضجها الفكري، فأين تسخير طاقات شباب الأمة وهم كثير ممن يمكن توجيهه وتدريبه للقيام ببحوث ودراسات حول قضايا الأمة الكبرى والمصيرية[5]؟



ومن هنا لا نعجب عندما تنسى الأمة أبجديات وتتوه عن بدهيات لأجل أنها صرفت النظر بعيداً حول بعض المفردات والجزئيات، ما فوت أصولاً لا يتم النجاح وتجاوز الأزمات إلا بتحققها.



إننا ونحن نواجه التحديات المعاصرة لا بد لنا من اصطحاب هذا النوع من الفقه، وإلا كان ما نفسد أكثر مما نصلح.



وأضرب لك على ذلك مثالاً دعوياً: إن أول واجب على الداعية هو إصلاح النفوس بالإيمان وتطويعها لشرع الله، وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يمكث تلك المدة الطويلة بمكة لتحقيق هذا الأمر، فمخالفة هذا المنهج لدى بعض من يمكنه الله على العباد بتشريعه قوانين العقوبات الرادعة قبل إصلاح البواطن لا تنشئ مجتمعاً صالحاً[6].



فانظر كيف عجزت أمريكا في وقت من الأوقات عن منع الخمر مع كونها وضعت العقوبات وشرعت الأنظمة في سبيل ذلك وخسرت الأموال الطائلة، ولم يكن منها بعد ذلك إلا أنها ألغت تلك القوانين وأعلنت فشلها في الحد من هذه المشكلة.



وقارن ذلك بما حدث مع الصحابة حين جاءهم الخبر باجتناب الخمر فأقلعوا عنه بمجرد سماعهم النهي.



وهذا المثال ليس قاصراً على المتمكن من الكفار، بل حتى المتمكن من المسلمين قد يقع في ذلك، وحينها يفاجأ بعدم التوفيق وربما أساء الظن بربه وهو لا يشعر أنه قد تخلف عن سنة إلهية وقانون رباني في قياد البشرية، ولك أن تعتبر ذلك من الممارسات الخاطئة التي لدى بعض التيارات الدعوية والجهادية على حد سواء في الساحة، وعلامات الاستفهام في عدم التمكين أحياناً، وعدم استمراره أحياناً أخرى.



فالتدرج لدى النفوس التي ألفت الاعوجاج دهراً طويلاً هو خاصة الحكمة، تقول عائشة رضي الله عنها: “إنما نزل أول ما نزل من القرآن سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً..”[7].



وسأجعل الحديث عن هذا الموضوع في ثلاثة اتجاهات:



الاتجاه الأول: أدلة مراعاة الأولويات في الشريعة الإسلامية.



الاتجاه الثاني: قواعد في فقه الفتن.



الاتجاه الثالث: واجب المسلم وموقفه عند الفتن.



الاتجاه الأول:



أدلة مراعاة الأولويات في الشريعة الإسلامية



أولاً: من القرآن الكريم



ونجد ذلك في الآيات التي تشهد لقاعدة المصالح والمفاسد، نحو:



1- قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْـحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].



ففي الآية دليل على أن دفع المفسدة العليا مقدم على دفع المفسدة الدنيا، وضرر فتنة الكفر أشد من ضرر قتل النفس.



2- وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْـحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [التوبة: 19].



بيَّن الله تعالى درجات الفريقين عنده، وأن أهل الإيمان والهجرة والجهاد أعظم درجة، ومن هنا نص أهل العلم على أن المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة؛ لأن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج[8].



ومن هنا أيضاً أفتى من أفتى من أهل العلم في مسألة المكان الأفضل لإقامة الشخص فيه؟ فأجاب: بأن الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أنشط له، أفضل من الإقامة في مكان يكون حاله فيه دون ذلك[9].



3-وقال تعالى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ظ£ظ£].



في هذه الآية ترتيب للمحرمات بحسب الأسهل ثم الأشد، فكانت على أربع مراتب: الفواحش ثم الظلم ثم الشرك ثم القول على الله بغير علم[10].



4 - وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ فَإن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19].



5 - وقال تعالى: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ...} [البقرة: 271].



قال ابن كثير: فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية[11].



والآيات التي يمكن أن يستنبط منها هذا المعنى كثيرة في القرآن.



ثانياً: من السنة النبوية



1- حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: “إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...“ الحديث[12].



في الحديث بيان أولويات الدعوة إلى الله
.

2- وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”[13].



ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان مراتب بعضها فوق بعض.



3- وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “قالوا يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده”[14].



دل الحديث على الأولويات في باب الأخلاق والمعاملة.



4- وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء”[15].



دل الحديث على أولوية الإكثار من العمل الصالح في هذه الأيام على غيرها من الأزمنة.



5- وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: “أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم! قلت: ثم أي؟ قال: وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك”[16].



في الحديث بيان مراتب الكبائر وأن بعضها أقبح من بعض.



6- وحديث (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه...) الحديث[17].



الاتجاه الثاني:



قواعد في فقه الفتن
قبل أن أسرد هذه القواعد وأفصّل فيها، لا بد من معرفة معنى مصطلح (الفتن).



(الفتن): بكسر الفاء وفتح التاء، جمع فتنة، ومعناها الابتلاء والامتحان، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد.



ومن معانيها: الإمالة، ومنه قوله تعالى: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]، أي: يميلونك. ومنه: فتنت الرجل عن رأيه أي أزلته عما كان عليه.



ومن معانيها: الإثم، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49].



ومن معانيها: القتل والحروب والاختلاف الذي يكون بين فرق المسلمين إذا تحزبوا، ومنه قوله في الحديث (إني أرى الفتن خلال بيوتكم)[18].



وللفتنة معان كثيرة يجمعها في كلام العرب: الابتلاء والامتحان[19].



وقد ذكر ابن حجر نقولات عن أهل العلم واللغة في معاني الفتنة[20]، ومن أجمعها قول من قال: أصل الفتنة الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه، كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك[21].



وبالجملة، فقد جرى العرف في إطلاق لفظ الفتنة أن يراد به إحداث ما من شأنه أن يؤدي إلى اقتتال المسلمين، وأن يسفك بعضهم دماء بعض، وهذا هو أكبر أنواع الفتن، وهو ما أشار إليه عمر رضي الله عنه لما سأل الصحابة عمن يحفظ منهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ وأجابه حذيفة رضي الله عنه حول فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، وأنه تكفرها الصلاة والصوم والصدقة... إلخ، قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج موج البحر[22].



وهذا المعنى هو المراد ببحثنا هنا.



إذن تبيَّن لنا أن الفتنة على نوعين[23]:



النوع الأول: خاص، وهو ما يتعلق بفتنة الرجل في أهله وماله وولده.



والنوع الثاني: عام، وهو الفتنة التي تموج موج البحر، وهذا النوع هو المراد في كلامنا هنا.



وفيما يلي بيان لجملة من القواعد في فقه الفتن:



القاعدة الأولى: عند تعارض المصالح يقدم أعظم المصلحتين



جاءت الشريعة بتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة – بحسب الإمكان -، وإن تزاحمت قُدم أهمها وأجلها، وإن فاتت أدناهما[24].



والمصالح منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو تحسيني.



فإذا تزاحمت المصالح يُنظر في الضروري ويقدم على الحاجي، أو الحاجي فيُقدم على التحسيني.



فإن كان التزاحم في الضروريات نفسها، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ فيقدم حفظ الدين على النفس، وهكذا على الترتيب المذكور.



فالجهاد وإن كان فيه إتلاف النفس لكنه مقدم عليها لما فيه من حفظ الدين.



فإذا تزاحمت مصالح متعلقة بواحدة من هذه الكليات الخمس، ينظر في نوعية المصلحة من العموم والخصوص، والتعدي وعدمه؛ فتقدم المصلحة العامة على الخاصة، والمصلحة المتعدية على القاصرة.



ولو فقه العاملون في حقل الدعوة هذه القاعدة لانحسر كثير من الاختلاف الواقع بينهم، فإنه كثيراً ما يحدث بين فصائل العمل الإسلامي خلاف في تحديد أولويات المرحلة التي يمرون بها.



فمنهم من يرى تقديم المواجهة وإعلاء راية الجهاد، ومنهم من يفضل الخوض في العمل السياسي والمجالس البرلمانية، ومنهم من يفضل التربية وإصلاح المجتمع، ومنهم من يميل إلى العمل الإغاثي والخيري، ومنهم من يؤيد الانصراف إلى العلم الشرعي وتحقيق التراث.



وكثيراً ما ينتج عن هذا الاختلاف بغي وتعدٍّ على الآخر، مع العلم أن تحديد هذه المصلحة أو تلك واعتبارها أولى من غيرها هو أمر اجتهادي يخضع لأحوال الزمان والمكان وتضبطها قواعد المصلحة، فما يكون أولوياً في بلد قد لا يكون كذلك في بلد آخر، وما يكون أولوياً في زمن الفتنة قد لا يكون كذلك في وقت السعة[25].



وكثير من الاختلاف في هذه المسائل هو من اختلاف التنوع الذي يصوب فيه المختلفون، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر[26].



القاعدة الثانية: إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدم دفع المفسدة غالباً



وتُعرف هذه القاعدة بصيغة أخرى، وهي: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، وعلاقتها بالفتن أن الفتن مفاسد وأضرار يتحتم دفعها، ذلك أنه مع وجودها لا يمكن الاستفادة من المصالح؛ إذ لا استقرار للمصلحة مع وجود فتنة تعارضها.



وينبغي أن يُعلم أن تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة إنما هو في حال كانت المفسدة أعظم، أو كانت مساوية للمصلحة على قول[27].



كما أن ضابط المصلحة المجتلبة أو المفسدة المدفوعة هو ما كان موافقاً لمقصود الشارع، فما دل الشرع على نفعه فهو المصلحة، وما دل على قبحه وفساده فهو المفسدة، فالعبرة بقصد الخالق لا بقصد المخلوق؛ ولهذا ميز أهل العلم بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين، وبيَّنوا أن المحافظة على مقاصد الشارع هي المصلحة ولو خالفت مقاصد المخلوقين.



والحكم على الشيء بأنه مصلحة إنما هو بإذن الشارع فيه، فإذا نهى عنه الشارع فهو مفسدة لاشتماله على الضرر.



فالفتنة وما يوصل إليها من الوسائل مطلوب الترك، ولو كان في اتقائها تفويت مصلحة مساوية أو أقل منها.



ويمكننا أن نقف على تطبيقات لهذه القاعدة في موضوع الفتن من خلال بعض النصوص فيما يلي:



1- الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوذي بالسحر، ثم عافاه الله منه، فقيل له: أفلا أحرقته؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً[28].



قال الشوكاني: هذا من باب ترك مصلحة لخوف مفسدة أعظم منها، وذلك من أهم قواعد الإسلام[29].



وذلك أن درء مفسدة إشاعة الضرر والشر على المسلمين، أعظم من جلب مصلحة إخراج السحر أو قتل الساحر التي هي مصلحة خاصة[30].



2- ومثل ذلك امتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع أنه مصلحة خشية مفسدة أعظم وهي تحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه[31].



القاعدة الثالثة:دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما



“هذه قاعدة كبرى عليها مدار الشرع والقدر، وإليها مرجع الخلق والأمر”[32]، فتحتمل المفسدة الأخف إذا تعيّنت طريقاً لدفع المفسدة الأشد؛ ذلك أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتقديم أهمها عند التزاحم، وإن فات أدناها، وتعطيل المفاسد، فإن تزاحمت عطل أعظمها باحتمال أدناها[33].



ويقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين[34].



قال ابن القيم: هذه أصول من رزق فهمها والعمل بها فهو من العالمين بالله وبأمره[35].



ويشهد لهذه القاعدة:



1- قصة صلح الحديبية، ففي ظاهرها إدخال الضيم على المسلمين، وهذه مفسدة جعلت عمر رضي الله عنه يستشكل ذلك، لكنها احتملت لدفع مفسدة أعظم منها وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة ولا يعرفهم أكثر الصحابة.



قال الطاهر بن عاشور: إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لما صدوا عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يعلمونهم، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب جراء إتلاف إخوانهم[36].



2-قصة غناء الجاريتين يوم العيد في بيت عائشة[37]، واحتمال النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المفسدة ترخيصاً منه لضعفاء العقول من النساء والصبيان، لئلا يدعوهم الشيطان إلى ما يفسد عليهم دينهم، إذ لا يمكن صرفهم عن كل ما تتقاضاه الطباع من الباطل[38].

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 126.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 124.97 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]