|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() المفاتن الدنيوية وأثرها على النفس في القرآن الكريم عبدالعزيز سالم شامان الرويلي المقدمة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد: تعريف الفتنة في اللغة والاصطلاح: الفتنة في اللغة: مصدر كالفتن والفتون، وكل ذلك مأخوذ من مادة ((فتن)) التي تدل على الابتلاء والاختبار، يُقال: فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته[1]. أما الفتنة في الاصطلاح: فقد عرفها الجرجاني بقوله: ((الفتنة: هي ما يُبيَّن به حال الإنسان في الخير والشر))[2]، وقال المناوي: ((الفتنة : البلية وهي معاملة تُظهر الأمور الباطنة))[3]. وقد خلق الله تعالى الدنيا وخلق فيها الإنسان، وجعل فيها من الفتن والمغريات الكثيرة ليمتحن الإنسان ويبتليه، فإما أن يسلك طريق الشهوات والفتن ويتبع خطوات الشيطان خطوة تلو خطوة وهو مسلوب الهمة، فليس له همٌ إلا اتباع رغباته، وإما أن يتحدى نفسه، ويغلب نفسه الأمارة بالسوء، والله -سبحانه وتعالى- قد بين في كتابه العزيز أن الدنيا بما فيها ما هي إلا فتنة، قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 28]، فالله تعالى في هذه الآية يقول للمؤمنين: اعلموا أن أموالكم وأولادكم التي خولكموها الله تعالى ما هي إلا اختبار وبلاء، أعطاكموها، ليمتحنكم ويبتليكم لينظر كيف أنتم عاملون في أداء حق الله عليكم فيها، والانتهاء إلى أمر الله ونهيه فيها، والفتنة هنا هي الاختبار والامتحان[4]، والسبب في ذلك كما ذكر أبو السعود في تفسيره أنها سبب في الوقوع في الإثم والعقاب، أو محنة من محن الله تعالى، ويكون الأجر العظيم لمن آثر رضا الله تعالى عليها وراعى حدوده فيهما فنيطوا[5] همتكم مما يؤدكم إليه[6]. وقد بين الله تعالى لعبادة المفاتن الدنيوية وحذر من الاشتغال بها في خطابات قرآنية كثيرة، وقد أجملها الله تعالى في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]. فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن هذه المصالح الدنيوية في حب المال والأولاد وغيرها من المفاتن، إن كانت أولى من طاعة الله ورسوله، وطغى هذا الحب على حب الله ورسوله فتربصوا مما يحبونه حتى يأمر الله بعقوبة عاجلة وآجلة لهم [7]. وكل هذه المفاتن تجرد العبد من همته إن اتبعها، وإن سار خلفها، فالدنيا ما هي إلا لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]، فهذه هي الحياة الدنيا، وهذه هي مفرداتها وجميعها تصرف الإنسان عن المبادرة إلى الخيرات والاتصاف بعلو الهمة. واللعب: هو اسم لقول أو فعل لا يقصد به فاعله تحصيل النفع أو دفع ضرر، وغالباً ما يطلق على أفعال الصغار والصبيان في مرحلة الطفولة، وغير ذلك. أما اللهو: فهو الفعل الذي يقصد به جلب المتعة ودفع المفسدة، ويتضمن ذلك كل ما يحقق المتعة للإنسان من لعب وطرب وغيره[8]. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: ((اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل، ولهو فرح، ثم ينقضي، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على مالا ينبغي))[9]. ويقول السعدي في تفسير هذه الآية: ((يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب ... ثم ضرب للدنيا مثلا بغيث نزل على الأرض، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأعجب نباته الكفار، الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا جاءها من أمر الله ما أتلفها فهاجت ويبست، فعادت على حالها الأولى، كأنه لم ينبت فيها خضراء، ولا رؤي لها مرأى أنيق، كذلك الدنيا ... فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولهذا قال: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ ﴾أي: إلا متاع يتمتع به وينتفع به، ويستدفع به الحاجات، لا يغتر به ويطمئن إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور)) [10]. فانظر إلى ما قاله المفسرون -رحمهم الله- عن هذه المفاتن الدنيوية بالعموم وأنها لعب ولهو وفرح سوف ينقضي. وفيما يلي ذكرٌ لأهم المفاتن الدنيوية بشيء من التفصيل: أولاً: حب الدنيا[11]: إن من ظواهر خلق علو الهمة الترفع عن محقرات الأمور وصغائرها، وطلب معالي الأمور وكمالاتها، فالتعلق بسفاسف الأمور من دناءة النفس وانحطاط همتها، لا يفعله كبار القلوب والنفوس؛ لأن هؤلاء تكون نظراتهم آخذة في طريق صاعد، ومنطلقة إلى آفاق المعالي. يقول تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16] ، أي: أن الله تعالى توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها، فهؤلاء الذين يريدون الحياة الدنيا، مستمرون على إرادتها بأعمالهم ولا يكادون يريدون الآخرة، لأنهم جردوا هممهم ومقصدهم إلى الدنيا، ولم يعملوا للآخرة[12]. قال القرطبي في تفسير هذه الآيات: ((المراد بالآية المؤمنون؛ أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب؛ لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))[13] فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة ولهذا جزم بالجواب فقال: ﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾ [14]. ويقول ابن كثير: ((فلا يقتَصِرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة))[15]. فالآية تشير إلى أن الانغماس في حب الدنيا وشهواتها يؤدي إلى صرف المرء عن علو الهمة والمسارعة للخيرات، ويؤدي إلى إحباط العمل والخسران في الآخرة؛ ذلك لأن دنياه هي جل همه واهتمامه. فالدنيا بمغرياتها وشهواتها ومفاتنها وملذاتها إذا أقبل عليها العبد إقبالاً لا ضابط له قطعت عليه الطريق إلى الله وإلى رضاه -سبحانه وتعالى- وأصبح دني الهمة لا يفكر إلا فيها. يقول السعدي في تفسير هذه الآيات: ((أي: كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا، وعلى زينتها من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة، من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث. قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء، ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا، فهذا لا يكون إلا كافرا، لأنه لو كان مؤمنا، لكان ما معه من الإيمان يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة))[16]. هذه هي الدنيا فمن أحبها، وشغف بها، واستراح إليها، وسعى لها سعيها ضر نفسه، وضعف إيـمانه، ودنت همته، فتراه يمشي وراءها، ويدفع الغالي والنفيس لكي يحصل عليها، وكل ذلك حتى لا يفقدها، معتقداً في قرارة نفسه أنها هي الباقية، ولكنه في النهاية يكتشف قبح فعله، فهو قد آثر الرخيص على الغالي، وباع الكنوز بأبخس الأثمان. فتباين موقف الناس في الحياة الدنيا، فمن منكب عليها ولهث وراء ملذاتها وشهواتها والنتيجة دنو همته، وانشغاله بسفاسف الأمور، ومن منصرف عنها زاهد فيها، لا يقيم لها وزناً ولا يلقي لها بالاً، وهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، فعلت همته وانشغل بمعالي الأمور، وأصبح لا يفكر إلا بالوصول إلى السمو والرقي في هذه الحياة الدنيا؛ في الدين أولاً ثم في الدنيا. والمتأمل في حديث القرآن عن الدنيا يجد أن القرآن قد تضمن عدداً من الآيات تبلغ نحو خمس وعشرين آية تحذر العبد المؤمن من مغريات الدنيا وتصفها بأنها متاع الغرور. ومن الآيات التي تبين حقيقة الدنيا قوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]، فالحياة في حقيقتها ـ بحسب المثل القرآني ـ أشبه بالدورة الزراعية، تبدأ بقطرات من الماء، ثم تنتهي بالهشيم من الزرع، الذي تطير به الرياح، فتذروه هنا وهناك، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً. يقول السعدي: ((قوله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أصلا ولمن قام بوراثته بعده تبعا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار، وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، ... وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام، وفارق شبابه وقوته وماله، هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدِّري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه))[17]. ويقول تعالى ـ مبيناً دنو همة من سعى وراءها، وأهتم بها ـ: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29]. يقول أبو السعود في تفسير هذه الآية: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ أي عنْهم، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتوسلِ بهِ، أي وصفُهم بما في حيزِ صلتِه من الأوصافِ القبيحةِ وتعليلِ الحكمِ بهَا أيْ فأعرضْ عمَّن أعرضَ عن ذكرِنا المفيدِ للعلمِ اليقينيِّ وهو القُرآنُ المُنطوي عَلى علومِ الأولينَ والآخرينَ المذكرِ لأمورِ الآخرةِ أو عن ذكرِنا كما ينبغِي فإنَّ ذلكَ مستتبعٌ لذكرِ الآخرة وما فيها من الأمور المرغوبِ فيها والمرهوبِ عنَها : ﴿ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾راضياً بها قاصراً نظرَهُ عليها، والمرادُ النهيُ عن دعوتِه والاعتناءُ بشأنِه فإنَّ من أعرضَ عمَّا ذُكرَ وانهمكَ في الدُّنيا بحيثُ كانتْ هي مُنتهَى همتِه وقُصارَى سعيِه لا تزيدُه الدعوةُ إلى خلافِها إلا عناداً وإصراراً على الباطلِ))[18]. والدنيا ما هي إلا منتهاه، فهو أعمى لا يبصر ولو كان عنده بصر، لأننا لا نراه إلا شديد التعلق بها فنسي يوم اللقاء بربه العظيم، يقول تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20، 21]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ((أي:إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله -عز وجل- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الحق والقرآن العظيم: أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة))[19]. فمن اشتغل قلبه وعقله في تحصيل الدنيا، فأحبها أكثر من كل شيء، فما نراه إلا أشد الناس بعداً عن الله، وهذه المرتبة من حب الدنيا تتنافى مع الإيمان بالله واليوم الآخر، فالله تعالى ما خلق الدنيا إلا وهي سريعة الزوال، كذلك أمر الله أصحاب الهمم العالية أن يعتبروها محطة وليست مقراً، وللأسف لم يع هذا الأمر صنف من الناس، وهم أصحاب الهمم الدنيئة الذين يكرسون هممهم للوصول إلى الدنيا فحسب، لم يعوا هذه الحقيقة فاستعظموا الدنيا ونسو الآخرة. وحال المؤمن عالي الهمة، والذي يسعى لأن تبقى همته عالية، أن يأخذ نصيبه من الحياة الدنيا ضمن الحدود التي أذن الله بها، وقلبه وحبه وشوقه، ومطالبه السامية معلقة بما أعد الله تعالى للمتقين في الدار الآخرة من خيرات حسان، وهذا هو الزهد المطلوب من المؤمنين ليكونوا من أصحاب الهمم العالية، إنه زهد القلوب واستصغار الحياة الدنيا بالنسبة إلى الدار الآخرة، وهذا التصور الصحيح لكون أثره في النفوس واضحًا فيجعل المؤمن صاحب همة عالية، يوجه معظم طاقاته وإمكاناته إلى ما يحقق له يوم القيامة مطمعًا أجلّ وأعظم. بخلاف التعلق الكلي بالدنيا ومتاعها ولذاتها فإنه ينمي الجسد فقط ولا ينمي الروح، لذلك فإنَّ من جعل كل همه مرتبطاً بالحياة الدنيا وزينتها فإن الله يعطيه منها على مقدار عمله وما قسم له. يقول تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 16]. قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: ((المقصود من الآية تخليق المسلمين بخلق استضعاف الحياة الدنيا، وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيرا وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملكية))[20]. وفي آية أخرى ذمَّ الله تعالى من كان همه إرادة الدنيا فقال: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 134]. يقول السعدي في تفسير هذه الآية: ((ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء، الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليُطلبا منه ويستعان به عليهما، فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام))[21]. ثانياً حب المال: إن حب المال والتعلق به من أكثر المفاتن التي تؤدي بصاحبها إلى دنو الهمة، والتعلق بسفاسف الأمور، علماً بأن حب المال متأصلٌ في النفس الإنسانية، فالإنسان مقصور على ذلك، وإن كان الناس يتفاوتون في هذا الأمر، يقول تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]. قال البغوي: ((أي: كثيراً، يعني: يحبون جمع المال ويولعون به))[22]، فهذا الحب الشديد والحرص العظيم يمنع الإنسان المسلم من المشاركة والمبادرة وإعلاء الهمة في البذل والعطاء، ومما بُبيِّنُ لنا أن المال محبوب للنفوس قوله تعالى: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ [البقرة: 177]، وقوله تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]. يقول السعدي في تفسير هذه الآية: ((﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ ﴾وهو كل ما ينمو له الإنسان من مال، قليلاً كان أو كثيراً، أي: أعطى المال ﴿ حُبًّا جَمًّا ﴾ أي: حب المال، بين به أن المال محبوب للنفوس، فلا يكاد يخرجه العبد، فمن أخرجه مع حبه له تقرباً إلى الله تعالى، كان هذا برهاناً لإيمانه))[23]. فالحرص على المال من أسباب دنو الهمة والعزيمة، فالحريص على ماله لا ينفق في سبيل الله ولا يتصدق حتى إنه لا يكاد يخرج زكاة ماله، وقد يحتال على شرع الله ولا يخرجها، فهذه الصفة ذميمة في النفس البشرية لا ينجو منها إلا من أراد أن يعلي همته، ويكون اهتمامه لا ينصب إلا في معالي الأمور وأشرفها. ومن أحب المال أصبح المال شغله الشاغل، وأصبح لا يفكر إلا كيف يجمع المال؟ ومن أي طريق يحصل عليه؟ فيستخدم كل الطرق للوصول إلى المال سواء، أكانت طرق الحصول على المال حلالاً أم حرامًا؟ يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ((يقول تعالى آمرًا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ومخبرًا لهم بأنه من التَهَى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خُلِقَ له من طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة))[24]. ومن المعلوم أن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف، لكن الأموال أعظم فتنها، وأعظم فتنة فيها أنها لا غنى لأحد عنها، فإن وجد المال حصل منه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسراً، وإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، ورغم ذلك فإنه ليس مذموماً ومرفوضاً البتة، بل إن الله قد جعل المال مدداً في مواضع في كتابه، لقوله تعالى: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 12]، والأصل أن الإنسان يجعل هذا المال وسيلة للوصول إلى الكمال في الدنيا والآخرة، فيجعل المال سبباً من أسباب علو همته ورقيه للمعالي، فالانهماك في هذا الأمر وهو حب المال الحب الذي يقود إلى دنو الهمة فإنه ينقل الإنسان المسلم عن طاعة ربه، ويجعله يؤثر العاجلة على الآجلة، ويورثه الخور والكسل، ويجره إلى الاسترسال في الدعة واطراح الجد. فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ المُنَى، وَمَنْ ![]() أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّات عَضَّ عَلَى اليَد[25] ![]() ومن الأمثلة التي ذكرها لنا القرآن مبيناً فيها حقيقة المال، وأنه من المفاتن التي تقود الإنسان إلى دنو الهمة وسفاسف الأمور قصة أصحاب الجنتين. المثال الأول: قال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33]. وخلاصة القصة: تدور حول رجلين جعل الله لأحدهما جنتين[26]، أي بستانين من أعناب محفوفتين بالنخل، المحدق جنباتهما الزرع، وكل من الأشجار والزرع مثمر في غاية الجودة، والأنهار متفرقة منها هاهنا وهاهنا، ودخل جنته مغروراً ومعجباً بها، فقال: ما أظن أن تهلك هذه الجنة، وما أظن الساعة أي: يوم القيامة كائنة، ولئن كان هناك حياة بعد الموت ورجوع إلى الله، ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، فقال له صاحبه ـ وكان رجلاً مؤمناً ـ وهو منكر عليه إنكاره يوم البعث ـ: لقد كفرت بالذي خلقك، وأنا الآن الفقير، ولكن أرجو الله أن يعطيني في الآخرة خيراً من جنتك، ويرسل على جنتك ما يهلك شجرها وثمرها، أو يجعل ماء أنهارها غائراً في الأرض، وقد وقع الهلاك بثمرة صاحبه، وأحس بأن الذي وقع بجنته إنما هو نتيجة كفره وغروره، فقال: ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 35][27]. إنه مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة , وليس بخبر عن حال متقدمة , ليزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة , وجعله زجراً وإنذاراً[28]. فتبدأ القصة بعرض نعمة أنعم الله بها على رجلٍ صاحبِ تفكير مادي يهتم ويحرص على المال كل الحرص، ولم يدرك ذلك الرجل المصدر الحقيقي لتلك النعمة، فانحرف تفكيره عن التفكير السليم تجاه النعم التي أُعطي إياها فدنت همته وأصبح يرى المال كل شيء. وجاءت الأفعال الأربعة: ((جعلنا))، و ((حففنا))، و ((جعلنا))، و ((فجرنا))، على هذه الصفة دلالة على أن المصدر الحقيقي لهذه النعم هو الله تعالى. وبالنظر إلى المحاورة التي كانت بين صاحب الهمة العالية ذلك المؤمن، وصاحب الهمة الدنيئة صاحب الجنتين يبين لنا من هو الذي يهتم بمعالي الأمور ويعطي الأمور حقوقها وحقيقتها، فصاحب الجنتين فكر التفكير المادي البحت ﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 35]، معتمداً في تفكيره على منطقه ومنطلقه المادي وهو أساس المفاخرة عنده[29]، أما المسلم فكان يحاوره محاورة الوعظ والدعاء منطلقاً في فكره بالإيمان بالله والبعث [30]. يقول سيد قطب ![]() يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |