الدين وإصلاح الإدارة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فشل الكبار.. تساقط للصغار! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          أعراض نقص اليود وعلاماته المحتملة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أمراض الكبد وانتفاخ البطن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أعراض انخفاض هرمون التستوستيرون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أسباب كثرة التجشؤ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          هل يمكن علاج الإفراط في ممارسة العادة السرية عند مرضى التوحد باستخدام الأدوية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          4 استراتيجيات لعلاج مشاكل التواصل الاجتماعي عند مرضى التوحد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          الفرق بين اضطراب التواصل الاجتماعي والتوحد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          ما الفرق بين البرص والبهاق؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          كل ما يهمك حول مكملات المغنيسيوم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-10-2025, 07:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,956
الدولة : Egypt
افتراضي الدين وإصلاح الإدارة

الدين وإصلاح الإدارة -1-


محمد أبو زهرة



1 – قد يعجبُ القارئ غير المؤمن من هذا العنوان، فيقول: وما للدين والإدارة والإداريين؟ أيتدخَّل الدين فيبين أي الحكمين أصلح المركزي أم ضده، وكيف تُوزَّع الكفايات، وكيف تُدار الإدارات، وكيف تُحدَّد التبعات، وكيف تكون علاقةُ الرئيس بالمرؤوس، والتابع والمتبوع، أو الحاجب والمحجوب! إنَّ هذا لشيءٌ عُجاب.
تلك نظرات غير المؤمنين الذين لا يُدركون من الأمور إلا أعراضها، ولا يستطيعون أن يَغوصوا ليعرفوا جواهرها، فهم يَفهمون أنَّ الإدارة دولاب يتحرك، وآلات تَدور، ومكاتب تُكدَّس فيها الأوراق ثم تلقى في الأضبار، ومرتبات ودرجات. ومنهم من يفهم المناصب أسلاباً تُختطف، أو على الأقل مَغانم تُغنم، أو جزاء على خدمات أُدِّيت، فهي مُتعة يَستمتع بها، وليست تَكليفاً كلّفه، وهكذا.. ولا شك أنَّ هؤلاء وأولئك يُباعدون بين الدين والمناصب، ولا يَفهمون بينهما ارتباطاً واهياً، أو وَثيقاً، والدين في نظرهم للصوامع والمعابد، أما الإدارة فهي سلطانهم وقوَّتهم.
2 – ولقد أتى على الناس عهدٌ كانوا يَفهمون الإدارة تَسلُّطاً، والحكم تحكُّماً، والرياسة تسيطراً، والتنظيم إرهاقاً، وكان نظرهم إلى الناس على أنَّهم آلات تُستخدم للغايات والمآرب، وأن إرادة الحاكم هي الفيصل بين الحق والباطل، والصحيح والسقيم، والصالح والطالح.
ولكن أخذت النظرات إلى الحكم والحكام، والإدارة والإداريين تتغيَّر من بعد ذلك، ومهما تكن تلك النظرات، فالأمور كانت تجري في أعنَّتها، والمحكومون أحياناً يَرضون، وأحياناً يسخطون، وفي الحالين كان الأذى نفسياً، والإرهاق كان للإحساس والشعور، والفوضى لا تتعدَّى دولاب الحكم، والناس يسيرون، والأعمال تدور، والعمل في ظلِّ هذه النظم قد يكون نَاقصاً، وقد يكون كاملاً، وكل امرئ بما كسب رهين، ومن النَّاس من يتحكَّمون في الناس فوق تحكُّم الحاكمين، ومن الناس من يَرحمون، كما أنَّ من الولاة من يعدلون الفينة بعد الفينة، والدنيا لا تخلو من صالح يَفْرض إرادته المصلحة، وقد وصف الله تعالى النوعين من الولاة، فقال تعالت كلماته: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {البقرة:204-207}.
3– كانت الإدارة الحكمية لا تتجاوز تنظيمَ أساليب الحكم، وتوزيع السلطات، والقيام بقليل من الخدمات العامَّة في دائرة كانت تضيق أولاً، ثم اتسعت آخراً كالتعليم بشتى ضروبه وكبعض التنظيمات الاجتماعيَّة، وما كانت الإدارة تتجه إلى ينابيع الإنتاج تُديرها، إلا إذا اتصلت بأمر له صلة وثيقة بالخدمة العامَّة، ولذلك لم يكن خطرُ الفساد جَسيماً، وأثره عميقاً، وكان الأذى نفسياً، والتعطيلُ موضعياً.
أما الآن فإنَّ الإدارة تتولَّى أكثر يَنابيع الإنتاج، وما لم تبسط يدها فيه مما يسمى القطاع الخاص، فإنَّه تحت سلطان الإدارة الحكومية بالتوجيه والإشراف والمعاملة فإنَّ الصلة بين القطاعين الخاص والعام وثيقة، كلاهما يُغذِّي الآخر، ويتغذَّى منه، وكلاهما تحت رقابة حكوميَّة مُبصرة وموجَّهة، بيد أنَّ الأولى كقطعة منها، و الثاني جزء زائد، ولكنه مُتمِّم للجزء الآخر، لا ينفصم عنه، ولا يتركه.
وحيث اتسع نطاق الأعمال الإدارية ذلك الاتساع كان لابد من تنظيم مُحكم، وتوزيع للجهود لتكون الثمرة، وكان لابدَّ مع التنظيم من رجال يتولَّون، فإنَّ الأعمال العظيمة لا تكون إلا بالتنظيم المحكم، والتوزيع الجيد، بل لا تكون إلا برجال مُنفذين مُخلصين مُرشدين وموجِّهين، وإصلاح الرجال في هذه الحال أجدى من إصلاح التنظيم؛ لأنَّ الرجال يستطيعون وحدَهم أن يأتوا بالخير العميم.
ويستطيعون أن يحولوا النظام الفاسد إلى صالح أو يخففوا من مَظَاهر الفساد، أو يمنعوا تعويقه للعمل الصالح.
4 – إنَّنا إذا اتجهنا إلى التنظيم من غير التفكير فيمن تُوسد إليهم الأعمال، والعمل على اختبارهم وتعرفهم والبحث عنهم، فإنَّ النتيجة أن توجد هيكلاً ورسوماً من غير أن ننشئ بناءً قائماً على دعائمَ ثابتة، إنَّ دعائم الأعمال المحكمة هم الرجال الأكفاء المخلصون الذين لا يَعملون لأنفسهم، ولكن يعملون للنفع، لا يهمُّهم أشخاصهم بمقدار ما يهمُّهم نجاحُ العمل الذي يتولَّونه ليؤتي أُكله، وينتج ثمراته.
إنَّ مظهراً صغيراً تستطيع أن تَعرف منه من يعمل لنفسه، ومن يعمل لإنجاح عمله، ذلك المظهر هو في مكتب المدير وحُجَّابه، والقائمين حوله، فمن تراه يكثر من الطنافس والمظاهر والأبَّهة في مكتبه، ويحيطُ نفسَه بثلَّة من الحُجَّاب (السكرتاريين) ذكوراً وإناثاً يَبدون في حُلل ومَظَاهر، فاعلم أنَّ ذلك المدير تولى الإدارة ليعمل لنفسه، وليظهر سلطانه، لا لينجح ما تحت يده. وإن رأيتَه لا يكثر من الحُجَّاب بل لا يحجزُ نفسَه عن الناس، ولا يكثر من زينة مَكتبه إلا بالمقدار الضروري، فاعلم أنَّه يعمل لينجح عمله إلا أن تتأشب نفسه بسوء المقصد، وخُبث الغاية، ورجس اليد.
5 – إنَّنا ما دمنا قد جعلنا الإنتاج من أعمال الدولة، ووسَّعنا دائرة الإدارة، ومكَّنا المديرين من التوجيه المادي في شتى نواحيه، والتحكم في الأرزاق والأقوات، فلابد أن نُعنى بالرجال الذين يُختارون لتحقيق الغاية التي لا تُنال إلا بأولي العزم من الرجال، وذوي الإخلاص من الأتقياء.
وإني أرى أنَّه لابد من توافر أمورٍ أربعة في الإدارة المستقيمة الحكيمة، وكلها يتعلَّق بالرجال، ولا يتعلَّق شيء منها بالتنظيم والتقسيم.
أول هذه الأمور: أن يُختار الرجال من ذوي الضمائر والوجدان الاجتماعي الذي يجعلُ صاحبه يحسُّ بحقِّ الناس عليه، ولا يفرضُ أنَّ له حقوقاً على الذين يتولى رياستهم إلا بمقدار التمكُّن من العمل الصالح، وذلك يقتضي:
أولاً: ألا يكون التعيين في الأعمال الخطيرة التي تدرُّ الدر الوفير منحة تعطى، ولكن يكون توسيد الأمر لأهله وتكليف القادر لتحمل الأعباء.
وثانياً: ألا يختار الذين قد امتلأت نفوسُهم بالأطماع، وليست لهم إرادات مُوجِّهة، بل هم من الإمَّعات الطائعة التي لا رأي لها، لا يهمُّها أن تبحثَ عن أعظم وسائل النجاح والفلاح، بمقدارِ ما يهمُّها الإرضاء.
وإنَّ الرجال الذين يكونون على هذه الشاكلة لابدَّ أن يكون لهم دين زاجر، ونفس لوَّامة توجههم نحو الخير، وتجنبهم الشرَّ والأذى، وتمنعهم من التحكم الفردي، إذ يعلمون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ» [أخرجه مسلم].
ويؤمن بأنَّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مُستجابة لا حجابَ دونها، وأنَّه إن فاتته مشقَّة الدنيا لا تفوته مشقَّة الآخرة بعذاب مقيم، دائم أليم، وهو يستحضر ذلك في كلِّ عمل يعمله، فإن لم يكن عليه رقيبٌ من الناس فعليه من الله رقيب مُحاسِب، وأنَّه إن خفي عن أعين المشرفين شرُّه لا يخفى عن عين الله تعالى الذي لا يخفى عليه مثقالُ ذرَّة في السماء ولا في الأرض، ويعلم أنَّه إن غلَّ في مال الأمَّة الذي أشرف على جزءٍ منه أتى مَغْلولاً به يوم القيامة، تحقيقاً لقوله تعالى: [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ] {آل عمران:161}.
وإنَّ الدين الذي يربي الضمير تلك التربية لا يغني عنه نظام، وهو الذي يربي روحَ الإخلاص في العمل ومُراعاة حقِّ الله تعالى وحقِّ الناس عليه، وهو الذي يعرفه أنَّه ما دام قَائماً على ما فيه نفع للناس فهو كالمجاهد في سبيل الله.
إنَّ الإخلاص هو النور الذي يَهدي ويُرشد، ويجعل العامل يسير في طريق مُستقيم هو طريق الحق والخير.
6 – الأمر الثاني من الأمور الأربعة التي يجب أن تتوافر في الرجل الذي يُعهد إليه إدارة أمر إنتاجي هو الكفاية والخبرة، وإنَّ هذا أمر بدهي، ولكن لاحظنا أنَّ بعض الذين توسد إليهم أمر من الأمور الإنتاجية فيهم كفاية ولكن في غير ما يَستدعيه العملُ الذي عُهِد إليهم، وقد يكون المبرر لتوسيد هذا الأمر إليهم خدمات أدَّوها للدولة، أو لرؤسائها، وظُنَّ لهذا فيهم الخير، وكان ما وُسِّد إليهم جزءاً من جزاء هذه الخدمات التي أدَّوها بإخلاص، ولكن كان يجب أن تكون المكافأة بشيء آخر، ولا نناقش في استحقاقها، ولكن نناقش في نوع المكافأة.
وإنَّ أولئك الذين يحسون بأنَّهم ينالون المناصب لخدمات أدَّوها تمتلئ نفوسهم بأنهم يجلسون لينالوا حظاً لا ليقدِّموا خدماتٍ أجلَّ وأوفى، وجزاءً أغزرَ وأعظم، وثمرات أدر خيراً، وأوفر وأكرم، فلا يكونون في تَوفيق مُستمر، وخير موصول.
وإنَّ الشعور بأنَّهم يجلسون جزاء ما قدموا لا يجعل ضعفاء النفوس منهم وكثير ما هم يحرصون على المصلحة من كل وجوهها، فيفرضون لأنفسهم سلطاناً، وقد يكونون بذلك عُنصراً مُعَوِّقاً، ولا يكونون عُنصراً فعالاً دافعاً للإنتاج، لا يهمهم إلا أن يَأمروا فيُطاعوا، وأن تُنَفَّذ كلمتهم، و تعلو سلطتهم؛ لأنَّ الإحساس بالباعث على اختبارهم يُسيِّرهم، إن لم يكون فيهم ذو نفس قويَّة، وضمير مُستيقظ، وإرادة عاملة.
وإنَّه أحياناً يَتعارض أمران أحدهما: ضعف مع إيمان وإخلاص، وإنَّ هذه مشكلة حقاً تقف أمام ولي الأمر الذي يَنشد الصلاح ويريد الإصلاح، وقد كان عمر رضي الله عنه، وهو أعظم إداري عادل في التاريخ يستعين بالله تعالى، ويتعوَّذ من ضعف التقي، وقوَّة الفاجر، فكان رضي الله عنه يُسدِّد ويقارب ولا يُمَكِّن الفجَّار من رقاب الناس ولو كانوا أقوياء في إدارتهم أكْفَاء في أعمالهم، فكان إذا اضطرَّ إلى تولية واحد وتبيَّن أنَّه ليس من الأبرار كان على صماخ أذنه يَجذبه إلى الحقِّ جذباً، فإن لم يرتدعْ عَزَله، ولا يُبالي أن يَعْزِل كل يوم والياً ما دامَ يُريد الخير ويبتغيه، فكان الضعفاءُ يَعتزلون، والأقوياء يتولَّون، ويحسُّون بشخص عُمِّر فوق رؤوسهم، يهابون العزل الذي لا يتأباه، وهو يترقبهم، فهم منه في خوف، وكثيرون منهم من الله في وَجَل، وبذلك استقامت الإدارة وصلحت الأمور.
7 – الأمر الثالث من الأمور الأربعة التي يجبُ مُراعاتها في شؤون الإدارة، بعد أن اتسعت وشملت ما لم يكن في دائرتها من قبل، الإشراف الدقيق المستمر غير المتواني، وذلك بوضع رقابة قوية إداريَّة يتَّسع عَمَلها، وينفَّذ قولها، وتمكن من أن تستقرئ.
لقد كان عمر يَعزل الولاة بالشبهة، ويكفُّ أيديهم عند الشكِّ ليستمرَّ المحسن في إحسانه، ويرعوي المسيء عن إساءاته، وعمر رضي الله عنه كان في ذلك مُسدَّداً مُوفَّقاً، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ) [أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما]، وقال عليه الصلاة والسلام فيه: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» [أخرجه البخاري ومسلم].
8 – والأمر الرابع الذي يجبُ الأخذ به تمكين رقابة الشعب، وليس ذلك بهيئات منه تُفرض عليها الرقابة فقط، بل يجعل الشعب يتقدَّم بالشكاوى وتُنظر فورَ تَقديمها، ولا تهمل شكوى لتفاهتها، أو لصغر قيمتها، فإنَّ صغائر هذه الشكاوى هي التي تُنبئ عن كبارها، إنَّه يجب أن يكون صوتُ الشعب ذاته مَسموعاً لولاة الأمور، وأن يفتح الباب للصحافة النزيهة والندوات من أن تتكلم وترفع أصوات الجماهير.
وإنَّه في سبيل رفع معنويَّات الشعب يجب حمل المديرين على أن لا يقيموا حواجزَ بينهم وبين الجماهير، فإنَّه بمقدار هذه الحواجز تكون الاستهانة بالناس، وبمقدار الاستهانة بالناس تكون الاستهانة بالمصلحة العامَّة، والنفع الاجتماعي العام، وأنَّه بمقدار محبَّة الجماهير، والالتقاء بهم تكون محبَّة الخير لهم، وبمقدار نزعة الخير يكون الاهتمامُ بصالح الأعمال.
لقد كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه ينهى وُلاته عن أن يحتجبوا عن الرعيَّة، بل يكونون دائماً على مَقْرُبة منهم، فهم على مقربة منهم في أوقات الصلوات المفروضة، وهم على مقربة منهم بفتح باب الدواوين لهم، وهم على مقربة منهم بالإقامة بينهم، فقد كان رضي الله عنه ينهى ولاته عن أن يبنوا مَنازلَهم في الجبال أو بعيداً عن العُمْران حتى يكونوا دائماً في وسط غِمار الناس يَستمعون إلى أنَّات المنكوبين، وصرخات المظلومين.
9 – ولقد أقام الخلفاءُ الراشدون ديوان المظالم، وكان عمله يتجه إلى ثلاث نواحٍ،
أولاها: إقامة العدل بين العاملين في الدولة، فلا يُحرم ذو وظيفة من وظيفة بغير حقِّ، ولا يُبخس أحد حظَّه، ولا يوسد أمرٌ لغير أهله، ويجري ديوان المظالم التناصف بين العاملين في الدولة.
والناحية الثانية: إنصاف الرعيَّة من المديرين الظالمين، وردُّ المظالم على أصحابها، فإن اغتصبوا حقاً أو منعوا حقاً لأربابه أنصف الديوانُ الشُّكاة.
الناحية الثالثة: إنصاف الرعايا فيما بينهم، فلا يتغلَّب قوي ويغتصب حق ضعيف، بل ديوان المظالم يتدخَّل ولو كان هذا الديوان قَائماً ما حدث ما يقال أنَّه حدث في ريف مصر الخصيب، والله ولي الضعفاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-10-2025, 07:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,956
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدين وإصلاح الإدارة

الدين وإصلاح الإدارة -2-


محمد أبو زهرة


1 – أشرنا في مَقَالنا السابق إلى أنَّ إصلاح الإدارة يكون بصلاح القلوب، فإن استقامت استقامَ العمل وسارت الإدارةُ في طريق مُعبَّد، وإن فسدت القلوب، وماتت الضمائر ذهب كلُّ إصلاح كصرخةٍ في وادٍ مهما تكن النيَّات الطيبة عند الذين يشرفون على نظام الدولة، فإنَّ نياتهم وحدَها لا تكفي ما لم تكن عزائم قوية ممن يعملون ويُنفِّذون، وما لم تكن عزمات صادقة لاختيار الأمثل من الرجال، وليس الأمثل هم الذين يُردِّدون رغبات الرئيس المباشر وغير المباشر من غير تفكير، أو يرددون الرغبات قبل أن يُبديها، ولهم في ذلك إدراك دقيق، إذ خَصَّصوا أنفسهم للإدهان في القول والعمل، فأصبح فيهم كالسجيَّة، وإن لم تكن الفطرة؛ لأنَّ الفطرة مُستقيمة بطبيعتها إلا عند من دنَّسها بالشر، ودسَّاها فيه.
ولا يكون الأمثل إلا من الرجال ذوي القلوب التقيَّة، والضمائر المستيقظة المحسَّة بحقِّ الله تعالى وحقِّ المجتمع، بل إنَّ حقَّ الله في الحقيقة هو حق المجتمع، ولا يَفترقان، وإنَّ فقهاء المسلمين يُسَمُّون حقَّ المجتمع حقَّ الله تعالى؛ لأنَّه حماية للخلق، والله سبحانه وتعالى هو الذي تولَّى هذه الرعاية، وكل حق لا يقبل الإسقاط من الأشخاص يكون حقاً لله تعالى؛ لأنَّ حقوق المجتمع لا تقبل الإسقاط من الآحاد، أو كما يعبر القانونيون في هذا الزمان، إذ أنه لو ضاعت تلك الحقوق لانتثر عِقْدُ النظام، وإذا انتثر لا يَجتمع أبداً إلا أن يُغيِّر الله تعالى النفوس تبعاً لما سَنَّه سبحانه من نُظُم في التغيير المتعلِّق بالأعمال والنفوس، أو بالنفوس أولاً، والأعمال تتبعها، والله تعالى يقول: [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الرعد:11}.
2 – وقد ذكرنا في مَقَالنا السابق أنَّ الإدارة الإسلاميَّة عندما ساد الدين كانت على أتمِّ نظام يُحقِّق العدالة وإن لم يكن له تنسيق الأنظمة القائمة، ونقول أيضاً: إنه أتم نظام يُحقِّق الكفالة الاجتماعيَّة، والعدالة في شتَّى ضُروبها، لأن الاعتبار عندنا للنظم ليس بتنسيقها بين الرؤساء والمرؤوسين، ولكن بتحقيقها للعدالة فحيث كانت العدالة قائمة ثابتة تَنْفُذ في الأعمال نفاذَ النور يُبدِّد الظلمات، وتسير في أجزاء الدولة كما تَسير الدماء النقيَّة في شرايين الجسم فتغذيه وتُنميه وتقويه، وتمنع عنه الآفات، أو تُقاومها، فالعدالة هي التي تعطي الحكمَ حياةً وقوة، وهي بالنسبة للنظم، كعناصر الحياة بالنسبة للأحياء.
وقد تكلمنا في مقالنا السابق أيضاً بإشارات موجزة إلى ديوان المظالم الذي أنشئ في ظلِّ الدين، فطلب إلينا بعض الذين يقرءون ما نكتب أن نُوضِّح قليلاً ما كان لهذا الديوان من شأن، وما كان عليه من نظام:
ونقول موجزين القول غير مُطنبين:

3 – إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم منذ أنشأ الدولة الإسلامية بمدينة النور يثرب كان قَوام هذه الدولة القلوب التي كانت بين جوانح رجال يحبهم الله ويحبونه أذلَّة على المؤمنين أعزَّة على الكافرين، يُجاهدون في الله ولا يَخافون لومةَ لائم، فلم تكن مَظالم إلا بعدَ أن أيفت بعض القلوب، إذ دخل في صفوف المسلمين ناسٌ يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمنْ قُلوبهم، فكانوا رِجْساً دخل وعاءً طاهراً، ولابد أن يصيبَ جدرانَ الإناء، وإن كان طهور الإيمان يدحضه ويزيله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَستمع إلى شكاة المظلومين ويُنصفهم، وكان هو بنور الهداية الربانية بصيراً يهدي ويرشد، ويُقَوِّم ويُهذِّب، إن شئت فقل: إن الاعتماد في عَصْر النبي صلى الله عليه وسلم كانَ على إيمانِ القلوب، ولم يكن تدبير إلا في إدارة الحروب وشؤون السياسة ومُعاملة الأقوام، ولم تكن الإدارة قد اتسعت، وتشعَّبت.
ولكن مع ذلك كان في كلام النبي صلى الله عليه وسلم قبسات هادية فكان يعلم ما سيحدث بما آتاه الله تعالى من الحكمة وفَصْل الخطاب، وكان يحثُّ الأقوياء من الناس على أن يُبلغوا إليه حاجات الضعفاء، وكان يرى أن ولاة الولايات يجب أن ينزِّهوا أنفسهم عن قبول الهدايا، وأن يكونوا في كل أعمالهم لنفع الناس، لا لنيلِ غايةٍ أو مأرب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في اتباع ما يجب للإدارة الحكيمة:
(... وأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا إِيَّايَ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا إِيَّاهُ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...) [رواه الطبراني في الكبير].
وإنَّ العناية بتبليغ أولي الأمر حاجات الناس تكون بطريقين، إحداهما بيان ما يقع من عيوب الولاة لمن ولوهم من غير مواناة ولا تَقصير، وإن ذلك حسبة دينية تجب رعايتها، وهي التعاون الاجتماعي، وإذا مُنعت الألسنة من أن تُعْلِمَ ولاة الأمور عن المظالم التي تقع ممن وَلَّوهم فإن ذلك ابتداء فساد الإدارة، إذ يعمل الذين لا ضمائر عندهم من غير رَقيب من الناس، وقد فقدتْ ضمائرُهم رقابةَ الله تعالى، (والطريق الثانية) لتبليغ حاجات الضعفاء إلى أولي الأمر، توصيل الشكاوى التي ينطق بها الضعفاء ولا وزرَ لهم ولا حامي.
4 – ولقد انتقلَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن وضَّح المحجَّة التي لا يضلُّ سالكها، وجاء من بعده الراشدون من أصحابه الذين ولوا الأمر فطبقوا ما دعا إليه عندما اتسعتْ إدارةُ الدولة، وتفرَّق المسلمونَ في الأقاليم، وكان أول ما اتجهوا إليه في إصلاح الإدارة ومنع الظلم؛ لأن كل حكم لا يقوم على العدل فاسد مهما تنتظم الأمور فيه؛ لأن انتظام الأمور على مبادئ غير عادلة فساد مآله الانهيار مهما يكن مُنسَّقاً مُحكماً في مَظْهره.
وأبرز مسلك إداري لإقامة العدل ما كان في عهد عمر رضي الله عنه إذ اتسعت رقعةُ الدولة وتباعدتْ أطرافها، وحمَّل نَفسَه عبءَ الأمانة الكاملة، وحمَل التبعات من غير فرار مما حمل من أمر في أقصى العراق لسئل عنه عمر لماذا لم تعبد الطرق للرعيَّة وقد وليت أمرها... وقد سلك في منع المظالم - لتقوم الإدارة على أقوم مثال للعدل وليكون العدلُ ميزانها - مسلكين أحدهما وقائي، والآخر علاجي.
أما المسلك الوقائي: فهو حَمْلُ وُلاته على الإحساس برقابته عليهم، وتحذيرهم من الظلم لأنَّه يعلم أنَّ أشد الظلم ما يكون من الولاة، وأنَّ الرعيَّة ترتع في الظلم إذا رتع الولاة، ولا يهمه تنسيق الإدارة ولكن يهمه العدل، وقد وقف خطيباً في مَوسم الحج في ولاة الأقاليم الذين يلزمهم بالحضور للقائه في ذلك الموسم فقال رضي الله عنه: (ما أرسلتكم لتضربوا أبشار الناس والله لا أوتى بعامل ضرب أبشار الناس من غير حد إلا اقتصصت منه)، وكان حريصاً على تنفيذ ذلك لا يخشى فيه لومة لائم، ولا يتوانى ولا يُقَصِّر.
أما الطريق العلاجي: فهو فتح باب الشكوى والإنصات إليها، بل كان لا يكتفي بالشكاة يَجيئون إليها، بل يتحرى من وراء الولاة بنفسه ليعرف حالهم، فكان يختلطُ بالناس في وفود المدينة، وفي وفود الحج، ويسألهم عن أحوال ولاتهم، ويوجه إليهم أسئلة الإجابة عنها مُبينة معرفة، فيسألهم عن مُعاملة الولاة لغير المسلمين أهي عادلة فيها تنفيذ حكم الله أم فيها انحراف عن الصراط السوي صراط العدل والإنصاف؟، ويسألهم أيحتجبُ الولاةُ عن الرعيَّة؟، ويسألهم أيُقيمون بينهم، أم يُقيمون في أطم بعيدين عنهم؟ وهكذا تتولى الأسئلة المنقِّبَة الباحثة الهادية إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
وكان هو يجلس للمظالم بنفسه تجيء إليه من القريب والبعيد، وينظر فيها من غير مَلل ولا سآمة، يَستمع إلى الشكوى من ظلم الولاة، وإلى شكوى الضعيف من القوي، وشكوى المنتفع بماله انتفاعاً يضرُّ غيرَه وشكوى من يتحكَّم في غيره بماله، وهكذا.
5– وكذلك كان الراشدون جميعاً، على حسب استمكانهم من الأمر، وعلى حسب طاقاتهم النفسيَّة، وانتهى عهد الراشدين، وهو حجَّة على العالمين في إقامة العدل، وتثبيت دعائمه، وجاء من بعدهم ملوك بني أمية، وكان منهم من جلس للمظالم يتولاها بنفسه، وخصَّص لها يوماً يلتقي فيه بالشاكين من كل مكان، ومهما يكن نوع حكمه، فإنَّ جلوسه لمظالم الناس أمر حسن.
وإنَّ التاريخ يحفظ لنا نوراً قد ظهر في ديجور الظلام، وهو عهد: عمر بن عبد العزيز الأموي الذي كان يجري فيه من بعض نواحي القرابة دم عادل الدنيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنَّ الله تعالى قد اختارَ ذلك الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز فأحسنَ البلاء، إذ كان بين يديه أكداس من المظالم تولاها بيته الأموي، وكان بين يديه أنَّ الناس يَئِسُوا من العدل، وألفوا الظلم الواقع، واستسلموا للظلم المتوقَّع.
وقد حمل العبء كاملاً، ونشر لواءَ العدل، فجاء إلى أهل بيته الأموي، وردَّ المظالم التي ارتكبوها واتجه إلى الرعية وطلب إليها أن يُبين كل ذي حق حقه المغصوب من والٍ أو حاكمٍ أو ذي صلة بالحكام، بقرابة أو مودَّة.
ولم يقف أمره عند الشكاوى ينظر فيها، بل كان يتحرَّى أن يصل الحق إلى أهله من غير شكوى، فالشكوى في ذاتها تدلُّ على قصور الحكم عن أن يصل إلى الرعيَّة كلها، جاء وفد من إقليم يشكو إليه ظلماً فقال لهم: لا تُجَشِّموا أنفسكم مشقَّة السفر لطلب الحق، بل اطلبوه وأنتم مُقيمون في بلدكم، وأعلن الحاكم العادل في الأقاليم الإسلامية أنَّه لا يكون عادلاً إذا تجشَّم الناس مشقَّة الوصول إليه، بل إن الحق سيصل إليهم وهم آمنون، وتقدم خطوة نحو إقامة نظام للمظالم، فأوصى من يثق به في كل إقليم أن يجلس لسماع شكوى الناس من ذوي السلطان فيه، ومن الناس بعضهم من بعض.
6 – وفي عهدِ مُلوك بني العباس الذين استمكنوا في الأرض بعد الأمويين تمت فكرة إقامة ديوان للمظالم والجلوس للاستماع إلى شكوى الناس ليتحقَّق العدل في دائرة حكم الملوك المستبدين، وهي دائرة ضيِّقة بذاتها، ولكنها إصلاح إداري قويم.
وأول من جلس للمظالم: المهدي بن المنصور، ثالث ملوك بني العباس، وأعقبه في ذلك الرشيد، ثم المأمون بعد أن استقرَّ الأمر له.
وكانوا يُعيدون الأملاك إلى أهلها إذا غَصبها غاصبٌ من حَاكم أو قوي من ضعيف، ومنهم من كان يَنتصف من نفسه مُحاكياً الراشدين، ولكن على حسب طاقته، وطاقة عصره، ويحكى في ذلك أن المأمون قد شكت إليه امرأة ضعيفة من ابنه إذ اغتصب منها أرضاً تملكها، فحوَّل أمر هذه المرأة إلى القاضي خشية أن يُتَّهم بمحاباته لابنه، وقد حكم القضاء لها، ولم يخشَ من سطوة الحكم.
وإنَّه عند عجز الملوك عن تولي المظالم بأنفسهم كان لهم نُوَّاب يتولَّون بالنيابة، ومن هنا جاء ديوان المظالم، وكان له قضاة يصدرون أحكاماً وينفذون، وقد استنبطَ الفقهاء من مَصَادر الشريعة أحكاماً تناسب الأمر الخطير الذي يقوم به والي المظالم، وقد جاء في كتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي في عمل والي المظالم:
(إنَّ ناظر المظالم يَستعمل كلَّ الطرق في سبيل كشفِ الأسبابِ والأمارات الدالَّة وشواهد الأحوال اللائحة مما يَضيق على الحكام، فيصل إلى ظهور الحق، ومعرفة المبطل من المحق... وإنَّه يسمع شهادات من لم تثبت عدالتهم ولم يثبت فسقهم، وذلك يخرج عن عُرف القضاة من أنهم لا يَقبلون إلا شهادة المعدَّلين، ولأن نظرهم أحياناً يكون في مَسائل الحسبة يجوز أن يبتدئ الوالي للمظالم باستدعاء الشهود، ويسألهم عما عندهم في تنازع الخصوم بينما القضاء لابدَّ أن يَسبق الإثباتُ عندهم الدعوى.
7– وإنَّ والي المظالم كما يبدو من هذا الكلام، ومما يقرره الفقهاء أنَّ له سلطاناً وَاسعاً، أساسه رفع الظلم، وهو يمتازُ في سَيره عن القضاء بأنَّه لا يَتقيَّد بطرق الإثبات القضائيَّة، يسير وراء الأمارات الدالَّة اللائحة التي تومئ بالإجرام من بعض الناس، أو بعض الولاة، وإنَّه في سبيل ذلك سُوِّغ له أن يقضي بعلمه، بينما القاضي الذي يَفْصل في الخصومات فَصْلاً مُجرَّداً لا يقضي بعلمه، وإنَّه في سبيل رفع المظالم، لا ينظر الدعاوى تقام فعسى أن تكون رهبة الحكام أو الأقوياء أو فرط ضعف الضعفاء فيها ما يمنع من رفع الدعوى فيكون رفع الظلم مُتعذِّراً، ولذلك جاز له إذا علم الظلم أن يتعرَّف الإثبات بطرقه من غير دعوى قائمة أو شكوى ثابتة، فهو يعمل على توصيل الحقِّ إلى الضعفاء في أماكنهم غير مرهقين ولا مقهورين، ووالي المظالم في ظلم الأقوياء للضعفاء يكتفي بتظاهر الأخبار، وتواترها التي تمنع التواطؤ على الكذب، ويتعرَّف الأمر من غير أن يقول الذين قالوا إنَّهم شاهدوا وعاينوا، ولكنه يتحرى صدق هذه الأقوال عملاً.
ووالي المظالم مع أنَّه يحكم ويثبت وينفذ، يكون له من الأعوان الأقوياء من ينفذون الأحكام التي يصدرها والأوامر التي يقررها، والاحتياطات التي يَصون بها الحقوق ويتخذ منها طريقاً للإثبات.
8 – ووالي المظالم ونوابه ينظرون في أمور ثلاثة كما أشرنا من قبل، فينظرون في ظُلم الحكام للرعيَّة، وفي عدم توزيع العدل بين القائمين، وفي النظر في مَظالم الناس بعضهم لينتصف للضعفاء الذين لا يستطيعون الوصول بشكواهم إلى القضاء أو لا يستطيعون تنفيذ الأحكام إذا حكم لهم، و ذلك كله سواء أكان موضوع الظلم أذى بدنياً أو كان إرهاقاً مالياً، أم كان حرماناً من حقوق ثابتة.
وقد تكلَّم الفقهاء في الغصوب التي تكون من الولاة، فأوجبوا على والي المظالم أن يستردَّها قَسْراً ممن اغتصبها، ولهم أن يُشيروا على الحاكم الأعظم بعزله، بل عليه أن يعزله، ومهما يكن فإنَّ والي المظالم يسترد ما غصب من غير تلكؤ ولا تردد، بل على الفور، وبطريقة عاجلة متى ثبت ذلك.
وهذا إذا كان الغصب من الوالي، وأضيفَ إلى ماله، وإذا كان الغصب قد أضيف إلى بيت المال، فإنَّ والي المظالم يستردُّ المغصوب منه من غير مواناة ولا تقصير، وفي هذه الحال يذكر الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: إنَّ على والي المظالم أن يتعرَّف بكل الطرق التي يمكنه أن يسلم بها تلك الغصوب التي آلت إلى بيت المال، ويتصفَّح أحوال والي بيت المال، وما آل إليه من مال، ويرجع إلى سجلات ديوان بيت المال، فيعرف متى دخل ذلك إلى بيت المال.
وإنَّ هذا الذي يذكره الماوردي وغيره من فقهاء المسلمين، هو التفكير المنطقي فإن شكَّ أن تنفيذه يحتاج إلى تنظيم يتولى رجال ذوو ضمائر، وقلوب مؤمنة، والله سبحانه ولي التوفيق
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 76.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 74.42 كيلو بايت... تم توفير 2.09 كيلو بايت...بمعدل (2.73%)]