|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام أحمد بن حنبل (1/2) شريف عبدالعزيز (1) حياته وآراؤه ومذهبه ومحنته التَّعريف به هو الإمام حقَّاً, وشيخ الإسلام صدقاً, إمام أهل السنة, الفقيه المحدث, العلم الجبل, ركن الدين, وإمام المسلمين, وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة: الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني, يلتقي في نسبه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نزار, وُلد سنة 164 هـ بمرو من أعمال خراسان, وكان أبوه محمد والياً على مدينة سرخس, وقدمت به أمُّه إلى بغداد, فنشأ بها وترعرع. أما عن صفته الخُلقيَّة فقد كان طويلاً أسمر شديد السمرة, حسن الوجه, نحيفاً, يخضب بالحنَّاء, يتعاهد ثيابه وشاربه وشعر رأسه وبدنه كلَّه. رحلته العلمية نشأ الإمام يتيما ً، فقد مات أبوه وهو في الثلاثين من عمره, فبدأ فى طلب العلم وهو فى سن المراهقة, وكانت لوائح النَّجابة تظهر منه زمن الصِّبا, وقد كان شديد الحرص على طلب العلم وسماع الحديث, حتى إنَّه كان يخرج فى الغلَس لحضور الدرس, فتأخذ أمه بثيابه خوفاً عليه, وتقول: حتى يؤذِّن الناس –أي الصلاة– وكان وقتها ابن خمس عشرة سنة أي في نفس العام الذي مات فيه الإمام مالك وحماد بن زيد. خرج الإمام فى أول رحلة علمية له إلى واسط لسماع الحديث من هشيم, وطلب مجلس ابن المبارك فلم يدركه, ثم واصل بعدها رحلته العلميَّة فسافر أسفاراً كثيرة إلى غالب الأمصار الإسلامية، فدخل الكوفة والبصرة والحجاز ومكة والمدينة, واليمن والشَّام والثغور, والسواحل والمغرب, وفارس وخراسان والأطراف, وبالجملة لم يسمع بثقة من الثقات أو صاحب حديث إلا شدَّ إليه الرِّحال وسمع منه, وبعد رحلة طويلة استغرقت عدة سنوات عاد من رحلته العلمية إلى بغداد, ومن شدة اهتمامه وتفرُّغه لطلب العلم لم يتزوج حتى بلغ الأربعين. كان الإمام أحمد صبوراً فى طلب العلم، يطلبه من مظانِّه ومن كل سبيل, لا يبالي بالمشاقِّ والصعاب التي تلاقيه فى طلبه, حتى إنه كان يرهن حذاءه ليتقوَّتَ بثمنه عدة ليال, وأكرى نفسه باليمن مع الجمَّالين لما نفدت نفقته, وكان يمشي من الكوفة إلى البصرة على قدميه لسماع الحديث، حتى بلغ عدد شيوخه الذين روى عنهم في مسنده مائتين وثمانين ونيِّفاً. عاد الإمام من رحلته العلمية، وقد حاز فنوناً كثيرة وعلوماً واسعة، حتى صار أحفظ أهل زمانه, فقد قال أبوزُرعة الحافظ لعبد الله بن الإمام أحمد: "أبوك يحفظ ألف ألف حديث, فقال له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب, وقد سئل أبو زُرعة: أأنت أحفظ أم أحمد؟ قال: بل أحمد, فقيل له: كيف عرفت؟ قال: وجدت كتبه ليس فى أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه, فكان يحفظ كل جزء ممَّن سمعه, وأنا لا أقوى على هذا". ![]() ومن شدة حفظ الإمام أحمد صار مرجعاً معتمداً فى قبول الروايات والأحاديث, إليه كلمة الفصل فى هذا الفن, فقد قال إبراهيم بن شماس: "سألنا وكيعاً عن خارجة بن مصعب فقال: نهاني أحمد أن أحدِّث عنه", وقال عليُّ بن المديني: "أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحَدِّث إلا من كتاب", وقال شيخه الإمام الشافعي: "حضرت مجلساً في بغداد كلما تكلم فيه شابٌّ قال الناس كلهم: صدق, فقلت: من هو؟ قالوا: أحمد بن حنبل", وقد قال الحافظ الدَّارميُّ: "ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أعلم بفقهه, ومعانيه من أبي عبدالله أحمد بن حنبل". وكان من قوة حفظه يُلحق المتون بالأسانيد و العكس من ذاكرته, فقد قال لابنه عبد الله: "خذ أيَّ كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف, فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد, وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك بالكلام". وقد قال له الشافعي: "يا أبا عبدالله, إذا صحَّ عندكم الحديث, فأخبروني حتى نرجعَ إليه، أنت أعلم بالأخبار الصِّحاح منا, فإذا كان خبرٌ صحيح, فأعلمني حتى أذهب إليه". أخلاقه وعبادته الإمام أحمد كان فى الذُّروة السامقة فى الفضائل والشمائل, وكان عصره زاخراً بالعلماء والأئمة وكبار المحدثين، إلا أنه كان متفرداً من بينهم بمنتهى الكمال فى العلم والعمل, وكان الناس يتعلَّمون من أدبه وسمته وهديه وأخلاقه تماماً مثلما يتعلَّمون من علمه وفقه. فقد كان زاهداً فى أسمى درجات الزُّهد, يأتي عليه اليوم والاثنان والثلاثة، لا يجد ما يأكله, ومع ذلك يرد الأموال الجزيلة ولا يقبلها من أحد مطلقاً, عامَّة طعامه الخلُّ والخبز الجاف, قال عنه العليميُّ: "أتته الدنيا فأبَّدها, والرياسة فنفاها, وعُرضت عليه الأموال, وفُوِّضت إليه الأحوال, وهو يردُّ ذلك بتعفُّفٍ, وتعلُّل, وتقلُّل", ويقول: قليل الدنيا يُجزي, وكثيرها لا يُجزي, ويقول: أنا أفرح, إذا لم يكن عندي شيء, ويقول: إنما هو طعام دون طعام ولِباسٌ دون لباس, وأيامٌ قلائل". وقد حجَّ الإمام خمس مراتٍ منها ثلاثٌ راجلاً, وأنفق في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهماً, وكانت تنفد منه نفقتُه وهو فى رحلاته العلمية فلا يَقبل أيَّ مال يعرضه عليه شيوخه أو أقرانه, وقد سُرقت ثيابه وهو باليمن فجلس فى البيت ولم يخرج لسماع الحديث, ومع ذلك رفض أن يأخذ المال من زملائه واكتفى بدينار واحد أخذه كأجر نسخِ بعض الكتب, وكانت مجالسه كلها عامرةً بذكر الآخرة، لا يُذكر فيها شيءٌ من أمر الدُّنيا, وللإمام أحمد كتاب حافل عظيم، لم يُسبق الى مثله فى الزُّهد, قال عنه أهل العلم: إنَّ غالب الظن أنَّ الإمام أحمد كان يُطبِّق على نفسه ما ورد فى هذا الكتاب. ![]() قال إبراهيم الحربيُّ: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببتَ أن يدوم الله لك على ما تُحبُّ, قدِّم له ما يحب, والصبر على الفقر مرتبةٌ لا ينالها إلا الأكابر, والفقر أشرف من الغنى, فإنَّ للصبر عليه مرارةً, وكان الإمام أحمد مُستجابَ الدعوة له الكثير من المواقف المشهودة في ذلك, وكان مُحبًّا للوحدة يصبر عليها ما لا يطيقه أحد من الناس فى زمانه, وعُرض عليه القضاء عدَّة مرات فرفض بشدة". أمَّا عن عبادته فقد كانت فى الغاية, فقد كان يُصلِّي فى كل يوم وليلة ثلاثَ مائة ركعةٍ، فلمَّا مرض من أثر التَّعذيب والضرب بالسياط فى المحنة، كان يُصلِّي كلَّ يوم وليلةٍ مائة وخمسين ركعة, ويقرأ كلَّ يومٍ سُبعاً من القرآن, وينام نومة خفيفة بعد العشاء, ثم يقوم إلى الصباح يُصلِّي ويدعو, وكان إذا ذكر الموت, خنقته العبرة, وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب, وإذا ذكرتُ الموتَ, هان عليَّ كلُّ أمر الدنيا, وكان يخاف من الشُّهرة ويكرهها بشدة, وكان يقول:" أُريد أن أكون فى شعب بمكة حتى لا أُعرف, قد بُليتُ بالشُّهرة ", وكان يسرد الصيام, ومن عجيب أمره أنَّ ذروة تعرضه للتعذيب والضرب في المحنة كان فى شهر رمضان, بل في العشر الأواخر منه، ومع ذلك لم يفطر يوماً رغم قيام عذره فى ذلك, وكان مدمناً لصيام الإثنين والخميس والأيام البيض لا يتركها أبداً, وقد آلى على نفسه ألا يُحَدِّث بحديث إلا ويعمل به, وكان فى غاية الورع إذا اشتبه عليه شيءٌ تركه كله, وقد قاطع ولده صالحاً وسدَّ الباب الذي كان بين بيته وبيت صالح، لأنَّ صالحاً قد أخذ جائزة الخليفة المتوكِّل العبَّاسيِّ, وكان من شدَّة خوفه من الله -عزَّ وجلَّ- يبول دماً عبيطاً, وقال إبراهيم بن هانىء النيسابوري -وكان الإمام أحمد متخفِّياً عنده من الخليفة الواثق-: "كنتُ لا أقوى معه على العبادة، وقد رأيتُ منه أمراً عجباً فى الاجتهاد بالعبادة". ثناء الناس عليه وهذا باب مثل البحر الذي لا يدرك قعره, ولا تحصى درره, ولو أحببنا أن نستقصيَ ما ورد من كلام أهل العلم فى الثَّناء عليه لاحتجنا الى عدة مجلدات, فقد كان إماماً فى كل شيء, كمُل حالُه واستقام أمره فى العلم والعمل, فسارت بأخلاقه وفضائله وعلومه الركبان, وخضع له علماء الزمان، وأقرُّوا له بالإمامة والتقدم, وهذه طائفة منتقاة من أقوالهم: قال البخاريُّ: "لما ضُرب أحمد بن حنبل كنَّا بالبصرة، فسمعت أبا الوليد الطيالسيَّ يقول: "لو كان أحمد فى بني إسرائيل لكان أحدوثة", وقال إسماعيل بن الخليل: "لو كان أحمد فى بني إسرائيل لكان نبيًّا". قال الشافعيُّ شيخه: "خرجت من العراق، فما تركت رجلاً أفضلَ ولا أعلم ولا أورعَ ولا أتقى من أحمد بن حنبل". قال يحيى القطَّان شيخه: "ما قدم على بغدادَ أحبُّ إليَّ من أحمد بن حنبل". ![]() وقال قتيبة: "مات سفيان الثوري ومات الورع, ومات الشافعيُّ وماتت السُّنن, ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع, فإنَّ أحمد بن حنبل قام فى الأمَّة مقام النبوة". قال أبو عمير بن النحاس – وذُكِر أحمد يوماً – فقال: "رحمه الله؛ فى الدين ما كان أبصره, وعن الدنيا ما كان أصبره, وفى الزهد ما كان أخبره, وبالصالحين ما كان ألحقه, وبالماضين ما كان أشبهه, عُرضت عليه الدنيا فأباها, والبدع فنفاها". وقال بشرُ الحافي بعدما ضُرب أحمد بن حنبل: "أُدخِلَ أحمد الكيرَ فخرج ذهباً أحمر، أحمدُ قام في الأمة مقام الأنبياء في أقوامهم". قال المُزَنيُّ: "أحمد بن حنبل يوم المحنة, وأبو بكر يوم الردة, وعمر يوم السقيفة, وعثمان يوم الدار, وعليٌّ يوم الجمل وصفين". قال عليُّ بن المديني: "إذا ابتُليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل؛لم أُبالِ إذا لقيتُ ربِّي كيف كان, فإني اتخذت أحمد حجَّةً فيما بيني وبين الله –عزَّ وجلَّ-, وما قام أحدٌ فى الإسلام ما قام أحمد بن حنبل". قال يحيى بن معين: "كان فى أحمد بن حنبل خصالٌ ما رأيتها فى عالم قط, كان محدِّثاً, وكان حافظاً, وكان عالماً, وكان ورعاً, وكان زاهداً, وكان عاقلاً, وقد أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل, والله ما نقوى أن نكون مثله ولا نطيق سلوك طريقه" – يقصد الثبات فى المحنة -. قال أبو بكر أبي داود: "أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلماً ومحبرة في عصره", وقال إسحاق بن راهويه: "اتخذت أحمد حجَّةً بيني وبين الله عزَّ وجلَّ". وقد أفرط النَّاس فى الثَّناء على الإمام أحمد، حتى خرج الأمر إلى طور الغلو الذي لا يجوز ونشبت بسبب ذلك مشاحنات ومناظرات بين الحنابلة وأتباع المذاهب الأخرى. فصول محنته الكبرى السِّرُّ وراء ضخامة المحنة؟ وعلى الرغم من وجود العديد من المحن الشديدة والتي تعرض لها كبار علماء الأمة، إلا أن هذه المحنة تفرَّدت من بينهم بأمور جعلتها من أكبر المحن التي تعرضت لها الأمة الإسلامية وعلماؤها، وذلك لعدة أسباب: 1ـ أنَّ هذه المحنة كانت في باب العقيدة أي في صميم قلب الأمة، وفي أصل قوتها ومصدر عزتها، وكان أهل الاعتزال هم من وراء هذه المحنة والفتنة. 2ـ أن الدولة بكافة أجهزتها ورجالها وقوتها كانت تدعم هذه المحنة، حيث استطاع بعض أهل الاعتزال مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد وغيرهما خداعَ ثلاثة خلفاء عباسيِّين متتاليين وهم: المأمون ثم المعتصم ثم الواثق، وإقناعهم بتبنِّي عقيدة الاعتزال الضالة والمليئة بالبدع الغليظة، وليس فقط مجرد التبني والاعتناق، لكن وإجبار الناس على ذلك الضلال، ولو بالقوة وحدِّ السلطة التي لا تطيق عادة أن تُخالف أو يَتحدَّى سلطانها أيُّ أحد مهما كانت مكانته وعلمه. 3ـ أن هذه المحنة العاتية لم تكن خاصة بالإمام أحمد وحده، وإن كان قد تحمل عبئها الأكبر وحده، بل كانت محنة عامة وفتنة شاملة، طالت الكبير والصغير، العالم والعاميَّ، الأحرار والعبيد، حتى الأسرى عند الأعداء كانوا يمتحنون على القول بخلق القرآن، فإن أجابوا وإلا ترُكوا رهن الأسر عند العدوِّ ولم تفُكَّ أسرهم الدولة. ![]() 4ـ أنَّ هذه المحنة عندما وقعت لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها كرهًا، وبعضهم قد مات تحت وطأة التعذيب في سجن المبتدعة مثل البويطي ومحمد بن نوح ونعيم بن حماد، وكان صمود الإمام أحمد أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدمه وشهرته ورفع ذكره، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال: قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد، ولو قدر الله عز وجل ولم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضل خلق كثير وربما الأمة كلها والله أعلم، لذلك قال المزني رحمه الله: "عصم الله الأمَّة بأبي بكر يوم الرِّدَّة، وبأحمدَ بن حنبل يومَ المحنة". أصلُ المحنة كان المسلمون أمة واحدة وعقيدتهم صحيحة وصافية من معين النبوة، حتى وقعت الفتنة الكبرى وقُتل عثمان -رضي الله عنه- مظلومًا شهيدًا، فتفرقت الكلمة وظهرت الشرور وتمت وقعة الجمل ثم صفين وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها وعلى النقيض منها فرقة أخرى، الأولى تغالي والأخرى تعادي، فكما ظهرت الخوارج ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل وقالت إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم، وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب، وكما ظهرت فرقة القدرية نفاة القدر ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية نفاة الصفات ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق، ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع وقوة السنة وسلطان الدولة الأموية ثم العباسية، وكثير من رءوس البدعة قد قتل بسيف الحق مثل الجعد بن درهم رائد التعطيل والجهم بن صفوان رائد القدرية والمغيرة بن سعيد وغيرهم، وقد ظل المبتدعون في جحر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلالة حتى ولي المأمون العباسي وكان محبًا للعلوم العقلية وكلام الفلاسفة الأوائل، فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان وأسماها بيت الحكمة، فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون ثم التفت حول عقله ولعبت به ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة بشر المريسي الذي كان هاربًا أيام أبيه الرشيد الذي كان يطلبه ليقتله ببدعته، وأحمد بن أبي دؤاد رأس الفتنة ومسعرها، وأبي الهذيل العلاف وثمامة بن أشرس وغيرهم، حتى مال المأمون لقولهم واعتنق مذهب الاعتزال والذي يقوم على عدة أصول وهي: 1ـ نفي الصِّفات وتعطيلها، وأبرز معالم نفي الصفات: القول بأن القرآن مخلوق. 2 ـ نفي القدر، والقول بأنَّ العباد هم خالقو أفعالهم. 3 ـ القول بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة. ![]() 4ـ الوعد والوعيد، ومعناه تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وإيجاب دخول المؤمن الجنة على الله. 5ـ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ومعناه الخروج على ولاة الأمور بالسلاح. ظلَّ المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة ولا يجبر أحدًا على اعتناقها ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء والمحدثين وهو يخشى مكانتهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي نفس الوقت يحاول استمالة من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زين له أحمد بن أبي دؤاد وبشر المريسي أن يجبر العلماء وذلك بقوة الدولة وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ أمر المأمون العباسي قائد شرطة بغداد العاصمة إسحاق بن إبراهيم بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد وقطع الأرزاق والعزل من المناصب لمن يرفض القول بخلق القرآن، ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمل الإمام أحمد بن حنبل وحده عبأها والوقوف في وجه أربابها ودعاتها. الإمام أحمد والخلفاء الثلاثة الإمام والخليفة المأمون العباسي حُمل الإمام أحمد ومن معه من العلماء إلى دار السلطان، وأخذ إسحاق بن إبراهيم قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن، فلما رأى أحمد بن حنبل الناس يجيبون وكان من قبل رجلاً لينًا، انتفخت أوداجه واحمرَّت عيناه وذهب ذلك اللين وغضب لله -عزَّ وجلَّ- وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام أحمد بن حنبل إلى مسجده وقعد للدرس والتحديث، فالتف حوله الناس وسألوه عما جرى وألحوا في معرفة من أجاب من العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة وكره الإجابة على هذا السؤال، ولكن الأمر قد انتشر بسرعة بين الناس وعُرف من أجاب ممن رفض. ![]() وصلت أخبار الامتحان للخليفة المأمون وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية، فتغيظ بشدة ممن رفض القول بخلق القرآن وطلب من قائد الشرطة إسحاق بن إبراهيم أن يجمع العلماء مرة أخرى ويمتحنهم ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد إسحاق في التهديد حتى أجاب كل العلماء ما عدا أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجَّادة، فقام إسحاق بحبسهم وتهديدهم بالضرب والحبس، فأجاب سجَّادة والقواريري فخرجا من السجن وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسل بخبرهما إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي استشاط غضبًا وأمر بحملهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض. حُمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح من بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت عدة حوادث كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام أحمد ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فقد قابله بالرحبة -موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد- رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، قد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: "يا أحمد إن يقتلكَ الحقُّ مِتَّ شهيدًا، وإن عشتَ عشتَ حميدًا، وما عليك أن تُقتل هاهنا وتدخل الجنة"، فقوي قلب الإمام أحمد بهذه الكلمات، ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى واسمه أبو جعفر الأنباري، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر تعنَّيْتَ، -أي كلَّفتَ نفسك مشقة السفر وعبور الفرات- فقال له أبو جعفر: "يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فو الله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليُجيبنّ خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإنَّ الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب". فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله". وفي طريق السَّفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل، ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون وألا يجتمع معه أبدًا، ويلحَّ في الدُّعاء، وفي رجب سنة 218هـ وقبل أن يصل الإمام أحمد ورفيقه محمد بن نوح إلى طرسوس هلك المأمون فجأة بلا مرض ولا تعب، فراح ضحيَّة سهم من سهام الليل من قوس مظلوم بوتر مكلوم هو دعاء الإمام أحمد عليه. ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام أحمد بن حنبل (2/2) شريف عبدالعزيز (2) الإمام أحمد والخليفة المعتصم العباسيُّ هذا الفصل هو الأشدُّ والأروع في فصول هذه المحنة العظمى، وتجلى فيه صمود الإمام أحمد حيث أصبح وحده في الميدان بعد أن مات محمد بن نوح تحت وطأة الحبس والتنكيل، ورغم أن الخليفة المعتصم لم يكن من أهل الفكرة ولا يعتقدها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة وانغمر فيها لأن أخاه المأمون قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه المأمون لأن يعمل بوصيته، بل يزيد عليها، فكان أول قرار أخذه المعتصم هو رد الإمام أحمد إلى بغداد وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم والقيود في يديه ورجليه حتى إنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا. وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورءوس الفتنة يأتونه واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن، وهو يناظرهم وتعلو حجته حججهم، وكلما غلبهم في المناظرة اشتدوا عليه وضيقوا عليه وزادوا في قيوده، وبعد عدة أيام وكانوا في شهر رمضان سنة 219هجرية، بدأت فصول المناظرة العلنية بحضور الخليفة المعتصم نفسه. ولنا أن نتخيل هذا المشهد المهول الذي حضره الإمام أحمد وحده وكان في مجلس الخليفة المعتصم وفيه كل رجال البدعة والوزراء والقادة والحجَّاب والسيافون والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو المعتصم نفسه وقد حاول استمالته وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمام كلهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار وهم يحتجون بكلام الفلاسفة مثل العرض والجوهر والشيء والوجود والقدم، لذلك فقد علت حجته حجتهم والإمام يقول: "أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله"، وكان قائد الشرطة عبد الرحمن بن إسحاق ممن يدافع عن الإمام أحمد ويقول للخليفة المعتصم: "يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك والجهاد معك، وإنه لعالم وإنه لفقيه"، ولكن في المقابل كان أحمد بن دؤاد أشد الناس عليه ويحرض المعتصم عليه بشدة ليقتله ويقسم له أنه ضال وكافر ومبتدع. ![]() استمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع وخصومه من حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع وكان المعتصم قد ضجر من طول المناظرة وأغراه قاضي المحنة أحمد بن دؤاد، حتى وصل التهديد إلى الضرب والجلد، وأحضرت الخشبة والسياط وشد أحمد على العقابين -وهما خشبتان يُشدُّ الرجل بينهما للجلد- فخلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت المعتصم شفقة على الإمام وأعجب بثباته وصلابته، ولكن أحمد بن أبي دؤاد أغراه وقال له: "يا أمير المؤمنين تتركه فيقال غلب خليفتين؟" فحميَ المعتصم لكلمته الشريرة وأمر بضرب الإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه؛ هذا يضربه سوطين والآخر ثلاثة وهكذا، حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم وقال له: "يا أحمد علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق"، وجعل "عجيف" أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش المعتصم ينخس الإمام بقائمة سيفه ويقول: "أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟" وجعل بعضهم يقول: "ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم"، وقال بعضهم: "يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشمس قائم، والمعتصم يقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به، فيأمر المعتصم بمواصلة الضرب، ثم قال له المعتصم مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه من شدة الضرب وقد تمزق ظهره من لهيب السياط. ![]() بعد هذا الثبات العجيب الذي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر المعتصم بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام أحمد وأهله وجيرانه وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة المعتصم وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق وسلطة الصمود وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام أحمد كانت أكبر من ذلك كله، وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ. والمعتصم وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام أحمد إلا أنه لم يكن مثل المأمون مقتنعًا أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يودُّ لو أطلق سراح أحمد بلا ضرب، ولكن رءوس الضلالة أوغروا صدره وأشعلوا غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام، لذلك فلقد جعله الإمام أحمد في حلٍّ من هذه الجناية وذلك يوم أن جاءه خبر فتح عمورية سنة 223هـ. الإمام أحمد والخليفة الواثق العباسي ظل أحمد بعد خروجه من سجن المعتصم يعالج في بيته فترة طويلة من آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة ويحدث الناس ويفتي حتى مات المعتصم، وولي مكانه ابنه الواثق، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فشربه البدعة منذ صغره، فكان الواثق من أشد وأخبث الناس في القول بالبدعة، حيث أظهرها بقوة وأجبر الناس عليها وأطلق يد أحمد بن أبي دؤاد فيها، فكان يفرق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته، ويأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمرُ ذروته عندما كان أحمد بن أبي دؤاد يمتحن أسرى المسلمين عند الروم، فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه، ومن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم حتى ضجَّ الناس وضاقت نفوسهم. بلغ الأمر بالناس ذروته من فجاجة نشر البدعة وتسلط المعتزلة على الناس، حتى أقدمت مجموعة من أهل بغداد بقيادة أحمد بن نصر الخزاعي، على التحضير للخروج على حكم الخليفة الواثق العباسيّ وخلعه من الخلافة، وذهب نفرٌ منهم للإمام أحمد، لاستفتائه في الخروج وعدَّدوا له مساوئ الواثق وجرائمه وبدعه، فلم يوافق الإمام أحمد على ذلك ومنعهم وناظرهم في القضية، وأمرهم بالصبر، وذلك من فقه وورع ودين الإمام أحمد، على الرغم من الأذى والاضطهاد والعذاب الشديد الذي ناله الإمام على يد هذه الحكومة الجائرة المبتدعة، والتي لو خرج عليها الإمام أحمد ما لامه أحد، إلا إنه قد أدرك أن المفاسد المترتبة على الخروج أعظم وأكبر من المصالح المتوقعة من وراء إسقاطها، والذي توقعه الإمام قد وقع بالفعل، فلقد فشلت حركة الخزاعيِّ وراح فيها الكثيرون. ![]() وعلى الرَّغم من الدور الذي لعبه الإمام أحمد في إقناع الكثيرين بعدم الخروج على الواثق، إلا أنَّ الواثق قد قابل ذلك بفعلٍ شرير بالغ السوء، حيث أمر بنفيه من بغداد، وأرسل إليه يقول: "لا يجتمعنَّ إليك أحد، ولا تساكنِّي بأرض ولا مدينة أنا فيها"، فخرج الإمام من بيته واختبأ بدار أحد تلاميذه عدة أيام، ثم انتقل إلى موضعٍ آخر، فمكث فيه عدَّة شهور حتى هدأ الطلب عليه، ثم تحوَّل إلى مكانٍ آخر، وظلَّ هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى صلاةٍ ولا إلى مجلس علم وتحديث، حتى هلك الواثق العباسي سنة 231هـ، فخرج الإمام للناس وجلس للتحدث، وذلك أنَّ المتوكل الذي ولي بعد الواثق كان على مذهب أهل السنة وقد أمر برفع البدعة وإظهار السنة، وأيضًا لم يسلم الإمام من الفتنة أيام المتوكل، ولكنها كانت فتنة بالسراء ليس بالضراء، ذلك أن المتوكل قد أفاض عليه الأموال والعطايا الجزيلة، وحاول استمالته ليسكن مدينة سامراء ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم وتأديب ولده «المعتز»، ولكنَّ الإمام رفض ذلك بشدة، وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة. خلاصة المحنة إنَّ هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام، لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، وقد تداوله ثلاثةُ خلفاء يتسلَّطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء والمتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين، فبعضهم تسلَّط عليه بالحبس وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة، ثم كانت فتنة السراء أيام المتوكل، وقد خذله في ذلك أهلُ الأرض حتى أصحابُه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عمَّا جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثاره ما قمع به البدعة، ورفض كلَّ المحاولات التي بذلها معه قرناؤه العلماء في إقناعه بقبول التقيَّة، ورأى أن التقية لا تجوز إلا للمستضعفين الذين يخشون ألا يثبتوا على الحق والذين هم ليسوا بموضع القدوة للناس، أما أولو العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة ويحتملون الأذى ويثبتون، والإمام أحمد كان يرى نفسه ولم يبق أحدٌ سواه أمام البدعة مسئولاً عن إخمادها والصمود أمامها مهما تكن العواقب، ولو أخذ بالتقيَّة والرُّخصة لاستساغ الناس الرخصة، ولضلُّوا من ورائها، ولذلك كان الإمام أحمد هو إمام أهل السنة وهو جبل الحق والسنة، يوم أن حكمت البدعة، وثباته بإذن الله -عز وجل- كان ثباتًا للدين والسنة، وإنما تنال الإمامة بالصبر واليقين، كما قال ربنا رب العالمين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]. جنازة الإمام وأروع مشاهد الحياة ![]() لإمام أحمد كثيراً ما كان يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، ذلك أن أهل البدعة قد استقوَوْا بسلطان الدولة، وحازوا المناصب الهامة والولايات العامة، وسيطروا لفترة طويلة من الوقت على السَّاحة العلميَّة والاجتماعيَّة للدولة الإسلامية، وكان الناس يخافون من سطوتهم، فيتملقونهم ويسايرونهم ويسكتون على بدعهم وضلالهم، فظلَّ هؤلاء الحمقى المبتدعة، أنَّ لهم مكانة وفضلاً ومنزلةً عند الناس، وصدَّقوا هذه الكذبة الكبيرة، فقال لهم الإمام هذه المقولة الشهيرة التي تُرجمت واقعيًّا، على جنازته رحمه الله، والتي لم يشهد التاريخ مثلها إلا قليلاً. ـ مرض الإمام أحمد بن حنبل في بيته ببغداد، وسمع الناس بمرضه فأتَوا من كل صوب وحدب يعودونه، وتزاحموا، ولزموا بابه، يبيتون في الشوارع حتى تعطَّلت الأسواق، وعجز الناس عن البيع والشراء، وكانوا يدخلون عليه أفواجًا يُسلِّمون عليه ويخرجون، ونقلت الأخبار للخليفة المتوكل، فأرسل قواته، فسدت الطرقات، وحظرت الدخول إلى الزقاق حيث يقع بيت الإمام أحمد. ـ وفاضت روحه إلي خالقها، يوم الجمعة الموافق 12 ربيع الآخر سنة 241 هجرية، وحضر غسله مائةٌ من بني هاشم، وخرج بنعشه ثمانمائة ألف من الرجال، وستون ألفًا من النساء، أي قرابة مليون مسلم ومسلمة يُشيِّعونه إلى مثواه الأخير بعد أن صلّوا عليه، فأمر "ابن طاهر" نائب الخليفة المتوكل العباسيِّ في بغدادَ بعضَ رجاله أن يمسحوا -أي يقيسوا- الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلَّوا علي الإمام أحمد، فبلغ مقاسُه ألفي ألف وخمسمائة ألف -أي مليونين وخمسمائة ألف من البشر-. قال عبد الوهاب الوراق: "ما بلغنا أنَّ جمعًا في الجاهلية، ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثرَ من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل". ـ قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "توفِّي أبى رحمه الله يوم الجمعة ضحىً، و دفناه بعد العصر لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة إحدى و أربعين و مائتين، و صلَّى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر، غلبنا على الصلاة عليه، و قد كنَّا صلينا عليه نحن و الهاشميون داخل الدار، و كان له ثمانٍ و سبعون سنة". قال عبد الله: "وخضب أبي رأسه و لحيته بالحناء، و هو ابن ثلاثٍ و ستين سنة". و هكذا قال نصر بن القاسم الفرائضي، و أبو الحسن أحمد بن عمران الشيباني، أنه مات في ربيع الآخر. ![]() ـ وقال أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي، عن بنان بن أحمد بن أبى خالد القصبانيّ: "حضرت الصلاة على جنازة أحمد بن حنبل يوم الجمعة سنة إحدى و أربعين ومائتين، و كان الإمام عليه محمدَ بن عبد الله بن طاهر، فأُخرجت جنازة أحمد بن حنبل، فوُضعت في صحراء أبي قيراط، و كان الناس خلفه إلى عمارة سوق الرقيق، فلما انقضت الصلاة، قال محمد بن عبد الله بن طاهر: انظروا كم صلَّى عليه ورأى، قال: فنظروا فكانوا ثمان مئة ألف رجل، و ستين ألف امرأة، و نظروا من صلى في مسجد الرصافة العصر فكانوا نيِّفاً و عشرين ألفِ رجلٍ". ـ و قال جعفر بن محمد بن الحسين المعروف بالترك، عن فتح بن الحجاج: "سمعت في دار الأمير أبي محمد عبد الله بن طاهر أنَّ الأمير بعث عشرين رجلاً، فحزروا كم صلَّى على أحمد بن حنبل، قال: فحزروا، فبلغ ألفَ ألفٍ و ثمانينَ ألفاً". و قال غيره: "وثلاث مئة ألفٍ سوى من كان في السُّفن في الماء". ـ و قال الإمام أبو عثمان الصَّابونيُّ: "سمعت أبا عبد الرحمن السُّلَميَّ يقول: حضرت جنازة أبى الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبى الحسن الدارقطنيِّ، فلما بلغ إلى ذلك الجمع الكبير، أقبل علينا، و قال: سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا و بينكم يوم الجنائز". ـ و قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازيُّ: "حدثني أبو بكر محمد بن عبَّاس المكِّي، قال: سمعت الوركانيَّ جار أحمد بن حنبل قال: أسلم يومَ مات أحمد بن حنبل عشرون ألفاً من اليهود و النَّصارى و المجوس". قال: و سمعت الوركانيَّ يقول يوم مات أحمد بن حنبل: "وقع المأتم و النوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين، و اليهود، و النَّصارى، و المجوس". وهكذا رحل الإمام العظيم بعد حياة كبيرة وحافلة بالعلم والعمل والجهاد والصبر والثبات والدفاع عن عقيدة المسلمين، وقد عصم الله -عز وجل- الأمة به من مزالق البدع والضَّلالات، وصار مثلاً وآية وقدوةً للسابقين واللاحقين على مر العصور. ========================================= أهم المصادر والمراجع سير أعلام النبلاء. تذكرة الحفاظ. المقصد الأرشد. مناقب الإمام أحمد بن حنبل. طبقات الحنابلة. طبقات الحفاظ. تاريخ الطبري. الكامل في التاريخ. البداية والنهاية. صفة الصفوة. وفيات الأعيان. شذرات الذهب. حلية الأولياء. تاريخ بغداد. ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة شيخ الإسلام ابن تيمية (1/2) شريف عبدالعزيز (3) ![]() تعتبر المحنة التي تعرض إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله محنة من طراز خاص، حيث لا نظير لها في تاريخ محن علماء الأمة؛ ذلك أن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية بطولها من أولها لآخرها كانت عبارة عن محنة مستمرة، فقد ظل طوال حياته ينتقل من محنة لأخرى ومن ابتلاء لآخر ومن سجن لمعتقل، ومن الشام لمصر، ومن سلطان جائر لفقيه متعصب، ومن حاسد لحاقد، وذلك كله لأن الشيخ رحمه الله قد أنار الله قلبه وعقله، فخلع عباءة التقليد وكسر أصنام الجمود، وفتح باب التجديد، وثار على كل أشكال التعصب المذهبي والجمود الفقهي. محنة ابن تيمية أنه كان مجددًا مجتهدًا مطلقًا، فقيهًا كاملاً، محنته أنه كان مصلحًا يريد النهوض بالأمة من كبوتها التي أسقطت الخلافة وسلطت العدو عليها، ومحنته أنه قد جمع بين العلم والعمل والتجديد والإصلاح والاجتهاد والجهاد، وذلك كله في زمان الجمود والتحجر والتعصب والتمذهب والتقليد المقيت، هذه بصفة عامة أسباب محنة شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي قضى معظم حياته يتنقل في سجون الظلم والبهتان بسبب آرائه وفتاويه، وكما قيل قديمًا: ويل لمن سبق عقله زمانه. ![]() شيخ الإسلام ابن تيمية ومكانته العلمية: ولد شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني ثم الدمشقي تقي الدين أبو العباس سنة 661هـ في مدينة حرَّان بالشام، في أسرة علمية حنبلية المذهب راسخة الدعائم قوية الأركان في الفقه والحديث، فوالده الشيخ عبد الحليم كان عالمًا محدثًا، وجده مجد الدين أبو البركات صاحب متن «منتقى الأخبار» والذي يعتبر كتاب نيل الأوطار للشوكاني أحد شروحه وأشهرها، وهذه البيئة العلمية ساهمت في نبوغ ابن تيمية؛ حيث أقبل منذ نعومة أظافره على العلم، فحفظ المتون وحاز الفنون وحصل الأجزاء، وتفقه وتمهر وتقدم وتميز ودرس وأفتى وصنف، وفاق الأقران وصار أعجوبة الزمان في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول، والتبحر في مذاهب السلف والخلف، وصار علمًا مقدمًا وإمامًا فردًا في علوم شتى خاصة علم التفسير والعقائد والأصول، حتى أنه جلس للتدريس بدار الحديث في دمشق سنة 683هـ أي وهو في الثانية والعشرين، وكان يحضر درسه قاضي القضاة وشيوخ المذاهب على رأسهم الشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، ولبراعة إلقاء ابن تيمية للدرس، جعلوه يجلس في الجامع الأموي أكبر مساجد دمشق والشام وأشهرها لشرح التفسير وذلك في نفس السنة 683هـ. ورغم كثرة مخالفيه من علماء وفقهاء عصره الذين غلب عليهم الجمود والتعصب المذهبي إلا إنهم كانوا معترفين بفضله مقرين بإمامته، خاضعين لتفوقه وبراعته العلمية الفذة، أما تلاميذه ومحبوه وحتى أهل الإنصاف فيعظمون الشيخ رحمه الله بما يليق بمكانته العلمية، وهذه طائفة من ثناء الناس عليه من الطائفتين جميعًا على حد السواء. قال تلميذه الذهبي: (وما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، أما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، له باع طويلة في معرفة أقوال السلف وقل أن تذكر مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد احتج على طريقة السلف بأدلة وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقائع شامية ومصرية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجاه الله تعالى وكان دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها). ![]() قال تلميذه الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل: (هو الشيخ الإمام، العالم الرباني، والحبر البحر، القطب النوراني، إمام الأئمة وبركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، شيخ الإسلام، حجة الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتعلمين، قامع المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن، أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، مفتي الفرق وناصر الحق، وعلامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة أبو العباس ابن تيمية). قال عنه جمال الدين السرمري: (ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب مطالعة مرة واحدة فينتفش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه). وقال عنه نجم الدين الطوفي وهو من أشد معارضيه: (كان ابن تيمية يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس، كأن هذه العلوم بين عينيه). وقال عنه ابن الزملكاني وهو من مخالفيه: (اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين). وقال عنه تلميذه ابن كثير: (هو الشيخ الإمام، العالم العلم العلامة، الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدوة شيخ الإسلام، كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، عالمًا باختلاف العلماء، عالمًا في الأصول والفروع، والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم فيه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه). قال الإمام الحافظ المزي: (ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه، وكل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث). قال ابن الجزري المؤرخ المعاصر له وقد شهد جنازته: (الإمام العالم، العامل العلامة، الزاهد، العابد، الورع، الخاشع الناسك، القدوة العارف المحقق، شيخ الإسلام ومفتي الأنام، حافظ وقته، محدث زمانه، له اليد العالية في العلوم، صالحًا زاهدًا ورعًا، متقشفًا متقيًا، قائمًا بالحق وأمارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، صاحب الفتاوى الشهيرة والتصانيف المذكورة، لم يكن في وقته أحفظ منه ولا للنقل في التفسير وأقوال العلماء فيه، ولا في الحديث واختلاف الصحابة منه). ونختم ثناء الناس عليه وعلى علمه وخدمته للإسلام والمسلمين بهذه الكلمة الرائعة للإمام الحافظ الذهبي، والذي قال: (هو أكبر من أن يُنبَّه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله). صفاته: لقد خلّف شيخ الإسلام ابن تيمية من الآثار والمؤلفات والفتاوى والآراء ما يزيد على أربعة آلاف كراسة، غطت مختلف ميادين الفنون ـ من الأصول إلى الفقه إلى التفسير إلى الحديث إلى السياسة الشرعية إلى الفلسفة والمنطق، هذا كله بجانب الثروة الهائلة من الفتاوى الجريئة والمعاصرة والتي جمعت في سبعة وثلاثين مجلدًا ضخمًا، والتي عكست مدى فهمه العميق وفقهه الدين لقضايا المسلمين عامة وعصره خاصة، ومدى سعة أفقه، ووعيه بمكمن الداء للأمة ومدى المخاطر المحدقة بها، وهي الفتاوى التي جلبت عليه الكثير من المحن والابتلاءات من سدنة الجمود وأساطين التعصب، ومن أهم مصنفات هذا الجبل العلامة: ![]() 1ـ الإيمان. 2ـ منهاج السنة النبوية. 3ـ درء تعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول. 4ـ الرد على المنطقيين. 5ـ نقض المنطق. 6ـ الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان. 7ـ اقتضاء الصراط المستقيم. 8ـ الصارم المسلول. 9ـ رفع الملام عن الأئمة الأعلام. 10ـ نظرية العقد. 11ـ السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. 12ـ التوسل والوسيلة. هذا غير عشرات الرسائل التي رد فيها على المخالفين من المسلمين وغير المسلمين، وهذه الثروة العلمية التي خلفها ابن تيمية كانت وما زالت مصدر إلهام لكثير من الحركات الإسلامية وقادة الصحوة، وأكبر باعث للتجديد على مر العصور، ونلمس هذا في تلاميذ الشيخ ومريديه ومن تأثر به، فبعضهم من المشرق وبعضهم من المغرب، وبعضهم من العرب، وبعضهم من العجم، بل من البربر أيضًا، وذلك عبر عصور متتالية، وكثير من تلاميذه ومن تأثر بفكره، صاروا أئمة وأعلامًا وقادة للصحوة الإسلامية، فمن تلاميذه: ابن القيم والمزي وابن كثير والذهبي والكتبي وابن عبد الهادي والبزار، وكلهم أئمة أعلام. وممن تأثر به ابن حجر العسقلاني والواسطي والعيني والبلقيني وابن فضل العمري والشوكاني...، أما من قادة الدعوات ومجددي الإسلام فلقد أثر ابن تيمية وفكره في العديد، منهم: ![]() الشيخ البشير الإبراهيمي، وعبد الحميد بن باديس قادة جمعية العلماء المسلمين الجزائرية والتي قاومت الاحتلال الفرنسي وحافظت على الهوية العربية والإسلامية من الضياع والطمس، وكلا الرجلين قد تأثر بابن تيمية بشدة، فيقول الشيخ الإبراهيمي: "وما زلنا نلمح وراء كل داجية في تاريخ الإسلام نجمًا يشرق ونسمع بعد كل خفته فيه صوتًا يخرق، من عالم يعيش شاهدًا ويموت شهيدًا ويترك بعده ما تتركه الشمس من شفق يهدي السارين المدلجين إلى حين، وما علمنا فيمن قرأنا أخبارهم، وتقفينا آثارهم من علماء الإسلام، ولا علمنا فيه مثالاً في شجاعة الرأي العام أكمل من الإمام ابن تيمية، فقد شنها حربًا شعواء على البدع والضلالات أقوى ما كانت رسوخًا وشموخًا، وأكثر أتباعًا وشيوخًا، يظاهرها الولاة القاسطون ويؤازرها العلماء المستأهلون والمتأولون. الشيخ طاهر الجزائري من مجددي الدعوة بالجزائر، وقد ولع في صباه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان جمهرة الفقهاء في عصره تكفّر ابن تيمية تعصبًا وتقليدًا لمشايخهم، فلم ير الشيخ طاهر لتحبيبهم في ابن تيمية إلا نشر كتبه بينهم من حيث لا يدرون، وبذلك وصل إلى غرضه من نشر آراء شيخ الإسلام التي هي لباب الشريعة. وفي بلاد الهند البعيدة تأثر العلامة ولي الله الدهلوي بفكر ابن تيمية فراح ينشره في أرجاء الهند ولاقى معارضة شديدة وعنتًا من فقهاء الهند المتعصبين بشدة للمذهب الحنفي، ومن بعده قام الشهيد أحمد السرهندي بثورة كبيرة على الاحتلال الإنجليزي والبدع والخرافات المنتشرة جدًا في بلاد الهند، من بعدهما جاء الشيخ أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية وتأثر بمنهج وفكر ابن تيمية الإصلاحي، واستمد من مشروعه التجديدي النظرية التي أقام عليها منهج الجماعة الحركي. وفي مصر تأثر الشيخ محمد عبده بابن تيمية وقد كان يقول عنه: ابن تيمية أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين، وكذلك تأثر الشيخ رشيد رضا بابن تيمية ونشر فكره في مجلة "المنار" وحارب البدع والخرافات والغزو الفكري والثقافي. خصاله: سبق وأن ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد فاق معاصريه بكثير من المزايا والخصال التي لم تجتمع في أحد من علماء الزمان، هذه الخصال والصفات الحميدة كانت أيضًا سبب النقمة والحسد عليه من جانب كثير من معارضيه ومخالفيه، فالرجل كان نسيجًا وحده، وقد جمع الله عز وجل فيه بين العلم والعمل والفقه والعقل والجهاد وقوة النفس وجراءة القلب وثبات الجنان، والفهم العميق لقضايا الأمة وإدراك آفاتها وأسباب وهنها، فلقد كان ابن تيمية بحق من أصدق رجال الأمة تصويرًا للعقلية الإسلامية، ومن أهم خصال الشيخ رحمه الله والتي جعلته قرة عيون الناس في عصره وأيضًا جلبت عليه متاعب كثيرة ومحنًا متتالية مع معاصريه ما يلي: أولاً: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: ![]() هذه الميزة كانت من أهم مزايا الشيخ رحمه الله، وأيضًا من أهم أسباب نقمة الكثيرين عليه، فلقد كان جريء القلب، ثابت الجنان، قوي اللسان، واضح البرهان، لا يبالي على من ينكر أو لمن يأمر، سلطانًا كان أو أميرًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، لا يطيق أن يرى منكرًا ولا يصبر حتى يحيي شعيرة الأمر والنهي، وله في ذلك أمثلة سائرة ومواقف مشهودة، منها: ـ ما حدث سنة 693هـ عندما سب أحد النصارى الكفرة من أهل السويداء وهي قرية من قرى الشام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قام ابن تيمية بقيادة جمع غفير من الناس للقصاص من هذا الكافر المجرم وجرت خطوب كثيرة بسبب حماية أحد الأمراء الأتراك لهذا الكافر وآل الأمر إلى ضرب ابن تيمية وحبسه، وقد صنف ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه الشهير [الصارم المسلول على ساب الرسول]. ـ وفي شوال سنة 699هـ خرج ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة وأهل حوران لقتال أهل جبل الجرد وكسروان وهم من النصيرية الكفرة بسبب تعاونهم مع التتار وكفرهم وضلالهم وخروجهم على الطاعة. ـ وفي سنة 699هـ دار ابن تيمية وأصحابه على الحانات والخمارات التي فتحت في دمشق بعد دخول التتار إليها فأراقوا الخمور وعزروا أصحاب الحانات ومنعوهم من العودة لمثل هذه الفواحش. ـ وفي سنة 701هـ ثار جماعة من الحسدة على الشيخ ابن تيمية، وشكوا منه أن يقيم الحدود ويعزر ويحلق رءوس الصبيان، ولكن الشيخ أصر على مواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ـ وفي سنة 704هـ أمر ابن تيمية بعض جهلة المتصوفة بترك ما هم عليه، مثل الشيخ إبراهيم القطان وكان يتشبه بالحيوانات في هيئته، ومحمد الخباز البلاسي وكان يتعاطى المحرمات، وفي نفس السنة راح ابن تيمية إلى مسجد التاريخ بدمشق وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كان الناس ينذرون إليها ويزورونها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك الذي يقع عندها. وقد بلغ الحسد بخصومه لأن يزوروا عليه جوابًا ليتهموه بأنه يصانع التتار وأنه جاسوس لهم بدمشق، وذلك سنة 702هـ، وكانت هذه التهمة كفيلة بإعدام ابن تيمية لو وجدت من يصدقها، وكان الساعي فيها رجلين من أهل الشر والحسد وهما: أحمد الغناري واليعفوري، فبان كذبهما وانكشفت مؤامرتهما، فأمر الوالي بقتلهما. ثانيًا: جهاده: يعتبر ابن تيمية واحدًا من أبرز المجددين في عصره وما تلى ذلك من أعصر، إذ جمع على الاجتهاد والريادة العلمية والمكانة السامقة في أهل العلم، الجهاد ضد الغزاة بنفسه وبسيفه، فجمع بين جهاد الفكر والسيف، فلم يكن ابن تيمية ذلك العالم الفقيه الذي يجلس في زاوية منعزلاً عن أحوال أمته، حبيس أوراقه وأقلامه، بل كان من كبار المجاهدين تمامًا مثلما كان من كبار العلماء، بل كان في هذا الميدان شديد الوعي بفقه الأولويات، حتى أنه قد حمل السلاح وجاهد تحت راية وقيادة السلطة التي مات مظلومًا في سجونها، فضرب لنا مثلاً في الوعي الحضاري بفقه الأولويات، نحن الآن في أمس الحاجة لفهمه في واقعنا المعاصر، وهذه طائفة من أخباره الجهادية التي كانت تملأ السمع والبصر وجعلت الناس تجمع على إمامته. * جهاده في معركة قازان سنة 699هـ، عندما هجم التتار بقيادة محمود قازان على بلاد الشام وهزموا جيوش المماليك بقيادة الناصر محمد بن قلاوون، وعاثوا في الأرض فسادًا، فاجتمع ابن تيمية مع أعيان دمشق من القادة والعلماء واتفقوا على السير إلى قازان وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، وبالفعل اجتمعوا مع قازان وكلمه ابن تيمية كلامًا قويًا شديدًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ثم عاد ابن تيمية إلى دمشق وحض أمير القلعة وهو الأمير أرجواش على ألا يسلم القلعة للتتار مهما كانت الظروف، وبالفعل عمل أرجواش بالنصيحة وحاول التتار فتحها لعدة شهور ولكنهم فشلوا، وبصمود القلعة صمدت دمشق أمام الهجوم التتاري. * ثم عاود ابن تيمية الكرة وذهب إلى مخيم التتار وقابل زعيمهم وأقنعه بإطلاق سراح أسرى المسلمين، بل إن ابن تيمية رحمه الله قد ضرب أروع الأمثلة على سماحة الإسلام والمسلمين ومدى حماية الدولة المسلمة لأهل ذمتها؛ إذ أصر ابن تيمية على إطلاق سراح النصارى الذين أسرهم التتار من بيت المقدس، بل ربط إطلاق أسرى المسلمين بإطلاق أهل الذمة، وهذا الإصرار جعل قطلوشاه أمير جيش التتار يوافق على إطلاق سراح الجميع. ![]() * وأثناء هجوم التتار على دمشق كان ابن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس والمدافعين على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط، ويشد أزر المدافعين عن القلعة، وكان له أعظم الأثر في رفع معنويات الناس، فصمدوا في القتال بشدة. * وفي سنة 700هـ عندما تواترت الأخبار بعزم التتار على الهجوم مرة أخرى على الشام وعم الذعر بين أهل دمشق وأخذوا في الرحيل وارتفعت الأسعار بشدة، وهرب معظم الأعيان والقضاة والعلماء من البلد إلى مصر خوفًا من التتار، قام ابن تيمية وخطب بالناس في الجامع الأموي بدمشق وحرضهم على القتال والصبر والمرابطة وأوجب عليهم قتال التتار، فسكن الناس قليلاً وربط جأشهم، ثم انتدب أمير دمشق الشيخ ابن تيمية سفيرًا إلى مصر ليستحث السلطان الناصر محمد على المجيء والدفاع عن البلد، وقد كلم ابن تيمية السلطان بمنتهى الجراءة والشدة حتى أنه قال له: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، وفي ذلك تهديد شديد للسلطان بالعزل إذا لم يقم بواجباته تجاه الأمة، ثم قال له: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم. * جهاده في معركة شقحب سنة 702هـ، وذلك عندما هجم التتار مرة أخرى على الشام من أجل احتلال دمشق وإسقاط دولة المماليك، ثم الهجوم على مصر بعد ذلك، وفر الناس من دمشق وعادت نفس فصول الاضطراب الذي وقع أيام المعركة الأولى، وفي هذه المعركة قام ابن تيمية بدور أروع من المرة الفائتة؛ إذ قام بدوره المعنوي في تحفيز همم المقاتلين وتسكين روع الخائفين واستنهاض عزائم الأمراء والسلاطين وكان يدور على مخيمات الجند وهو يحلف لهم بالله العظيم أنهم منصورون، فيقول الناس له: قل إن شاء الله، فيرد بعزم المؤمن القوي الواثق بربه المطمئن بنصره وتأييده قائلاً: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. ثم رد ابن تيمية على شبهة قوية كادت أن تذهب بجهود المدافعين عن المدينة؛ إذ قال بعض الناس: كيف نقاتل التتار وهم مسلمون وليسوا بغاة على الإمام، إذ لم يدخلوا أصلاً في طاعته حتى يخرجوا عليه، فأجاب ابن تيمية على هذه الشبهة بأوضح بيان؛ إذ قال عن التتار إنهم من جنس الخوارج الذين خرجوا على الصحابة، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهم وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الأمر من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم فيه من المعاصي والظلم وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك واستوثقوا على القتال والدفاع عن مدينتهم. وقد اشترك ابن تيمية بنفسه في القتال ضد التتار في معركة شقحب، وقد انتدب هو ومجموعة من أصحابه للقتال في أشد مناطق القتال خطورة ـ في المقدمة ـ وأبدى شجاعة وبطولة نادرة، حتى أن السلطان قد طلب منه أن يقف تحت رايته في القتال، وكانت المعركة في 2 رمضان سنة 702هـ، فأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الجنود والقادة وفي يده خبز يأكل منه، وكان قتاله يوم شقحب من أعظم أعماله الجهادية رحمه الله. ثالثًا: إخلاصه وتواضعه: لقد كان ابن تيمية مخلصًا شديد الإخلاص لدينه وأمته وحضارته، كرس كل حياته وجميع طاقاته لهذه الغاية العظمى، لا يرى لنفسه همًا ولا هدفًا غير ذلك حتى غدا علمًا من كبار علماء المسلمين وبلغ على درب الإخلاص درجة التجديد، فلقد كان مجددًا لفكر الأمة وحياتها وقد جمع بين الجهاد والاجتهاد، حتى أنه من شدة سعيه وإخلاصه لنهضة الأمة لم يتزوج طوال حياته، قال عنه عماد الدين الواسطي: (إن الله عز وجل قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة، ضعيف التركيب ـ يقصد البنية ـ، قد فرق نفسه وهمه في مصالح العالم وإصلاح فسادهم والقيام بحوائجهم ضمن ما هو قائم بصد البدع والضلالات، وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه). وكان مع مكانته العظيمة وقدره الشريف وكثرة أتباعه وخضوع السلاطين له وتعاطف العامة له، كان في غاية التواضع والبساطة مع عوام الناس، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد ممن يجالسهم كأنه أدناهم، حتى لما كان في سجنه أيام محنته ما كان يتأفف من مجالسة المذنبين والمجرمين لنصحهم وإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم، وكان لين الجانب حسن الأخلاق مع طلبته وتلاميذه، بل كان يخدمهم هو بنفسه وييسر عليهم طريق التعلم. رابعًا: زهده وعبادته: ![]() كان ابن تيمية على طراز علماء سلف الأمة، من الجمع بين العلم والعمل، فلقد كان رباني العمل والعلم، قريب القلب، سريع الدمعة، له مصابرة عجيبة على العبادة، لا يعرف من أمر الدنيا شيئًا، إنما حياته كلها علم وعبادة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، حتى أنه لم يتزوج قط، له أوراد وأذكار وأدعية من السنة يدمنها، محافظًا على قيام الليل، والمكث في المسجد حتى الغداة، يرى أن هذا المكث هو غذاؤه الذي يتقوى به، له هيبة وجلال في القلوب، تكاد تنخلع القلوب عندما يكبر تكبيرة الإحرام وما كان ابن تيمية محبًا للشهرة، ولا راغبًا في التميز عن غيره، ولا زاحم في طلب الرئاسات ولا جهد ساعيًا في تحصيل المباحات، مع أن الأمراء والأعيان كانوا طوع أمره، خاضعين لقوله وفعله، ولم يعلم عنه أنه قد تولى منصبًا ولا طلب ولاية، ولا حتى طلب التدريس في مدارس الأوقاف، وهذا العزوف عن الدنيا والزهد في المناصب، قد جلب عليه عداوة خصومه، ذلك أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرياسة وإقبال الناس عليهم، وهم يبذلون غاية وسعهم من أجل ذلك، في حين أن ابن تيمية قد رقاه الله عز وجل إلى ذروة سنام المحبة في قلوب العامة والخاصة، وهم رغم كل ما يفعلونه لم ينالوا عشر معشار ما وصل إليه ابن تيمية، فامتلأت قلوبهم بالحسد عليه. خامسًا: جراءته في الحق: هذه الميزة ربما يربطها البعض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا آثرنا أن نفردها بالحديث لأنها كانت أحد أهم أسباب المحن التي تعرض لها الشيخ ابن تيمية رحمه الله، بل هي بعينها التي جلبت عليه عداوة الكثيرين من خصومه، فلقد كان ابن تيمية لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يأخذ بالتقية خيفة من الناس على نفسه، وكان يقول رحمه الله: (ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه)، وكان يصدع بالحق الذي آمن به، ولا يتزعزع ولا يداهن أحدًا، ولو اجتمع الناس كلهم لحربه. قال عنه المؤرخ ابن فضل العمري: (وكان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم، وليس عنده مداهنة، وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء)، ومما زاد غيظ خصومه عليه، ما كانوا يقترفونه من مداهنة السلاطين على حساب الحق، فيجاملونهم على حساب دينهم، ويعاونونهم على ظلم الناس تقربًا وتوددًا إليهم، وفي المقابل كان ابن تيمية صادحًا بالحق، ناطقًا بالصدق له في ذلك مواقف مشهودة، منها: * موقفه مع ملك التتار قازان يوم أن اجتمع به سنة 699هـ. * موقفه مع السلطان الناصر محمد يوم أن ترك الشام ورجع إلى مصر والذي ذكرناه في الكلام عن جهاد الشيخ رحمه الله. * موقفه مع السلطان الناصر محمد يوم أن فكر في إعفاء أهل الذمة من الشروط العمرية، وذلك سنة 709هـ، وكان كافة القضاة والفقهاء والعلماء شاهدين للمجلس، ولم يجرؤ أحد منهم على الكلام مع السلطان أو معارضته سوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي جثا على ركبتيه وتكلم بشدة وجهر بالحق وصدع بالصدق، حتى أنه من شدة كلامه كان السلطان الناصر محمد يتلافاه ويسكته بترفق وتوقير، حتى أقنع السلطان برفض فكرة الإعفاء هذه تمامًا. سادسًا: عفوه وصفحه: ![]() فلقد امتحن الشيخ ابن تيمية وأوذي كثيرًا، وخاض خصومه في حقه وآذوه في كل موطن وهو صابر محتسب، يعفو عن خصومه، ويصفح عن كل من آذاه، لا يزيده جهل الجاهلين عليه إلا حلمًا وصبرًا وصفحًا، يقول رحمه الله عن نفسه في ذلك: (وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه). وقال أيضًا: (فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي). ولقد ترجم ابن تيمية كلماته تلك في عدة مواقف مشهودة، أبرزها عفوه عن علماء مصر الذين سعوا في قتله وسجنه، وكفّروه وآذوه وتلاميذه بشدة وذلك سنة 706هـ وتسببوا في حبسه بقلعة الجبل بالقاهرة، وذلك أيام سلطة بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الأمر من السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وكان الجاشنكير من أعداء ابن تيمية، وقد استغل بعض فقهاء مصر من الأشاعرة والصوفية تلك العداوة وتسببوا في محنة الشيخ، فلما زالت أيام الجاشنكير وعاد الناصر محمد للحكم أخرج ابن تيمية من السجن واستشاره في الانتقام من خصومه وقتل بعض الفقهاء والقضاة، فما كان من ابن تيمية إلا أن أعلن عفوه وصفحه عن خصومه، بل دافع عنهم بشدة وقال للسلطان الناصر محمد: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له السلطان: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارًا، فقال ابن تيمية: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي. وهذه الخصلة العظيمة شهد بها ألد خصوم الشيخ وأكثرهم أذية وعداوة له وهو ابن مخلوف شيخ المالكية في مصر إذ قال: (ما رأينا مثل ابن تيمية؛ حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا). وشهد عليها أيضًا واحد من أشد أعداء ابن تيمية وهو الشيخ الصوفي الضال علي بن يعقوب البكري المصري، وكان من أشد الساعين في ابن تيمية بالقول والفعل، فقد كفر ابن تيمية وأحل دمه، وقاد مجموعة من الصوفية الجهلة سنة 711هـ واعتدوا على ابن تيمية حتى كادوا أن يقتلوه، وقد تجمع عدد كبير من الناس منهم الجند والفرسان إثر هذه الحادثة لينتقموا من البكري، ولكن ابن تيمية عفا عنه وحجز الناس عن الفتك به، ولما انقلب الحال وصار الشيخ البكري مطلوبًا عند السلطان، فر في كل مكان حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت وذهب لابن تيمية وطلب منه الاختباء في بيته، فخبأه ابن تيمية في بيته فترة من الزمان، حتى شفع فيه عند السلطان وعفا عنه، فانظر إلى شهادة الخصوم مع هذا الرجل العظيم صاحب القلب الكبير. ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة شيخ الإسلام ابن تيمية (2/2) شريف عبدالعزيز (4) ![]() محنته: لقد تجلت في شيخ الإسلام ابن تيمية آيات النبوغ العلمي منذ صغره، فكان آية في المناظرة والاستدلال والتفسير والإفتاء والتدريس، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي رهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، وقد جعل جل همه في التفكير في النهوض بأمته وكيفية الخروج من حالة التردي التي أصابتها، حتى وضع يده على مواطن الداء وأسباب الخلل، فراح بكل ما أوتي من حجة وبيان يدك معاقل الخرافة وحصون الباطل وقلاع التعصب والجمود، وأخذ في صياغة مشروعه التجديدي العظيم لنهضة الأمة وإعادة البريق والصفاء لتميز الوسطية الإسلامية الجامعة، وعمل على عدة جبهات، وحارب في مختلف الساحات، من أجل لحمة الأمة مرة أخرى على منهاج النبوة الصافية، وطرد ونفي كل دخيل تسرب لحياة المسلمين من أفكار الفلسفة اليونانية والمطالب العلية، وما اشتمل عليه من خصال عظيمة سخرها ابن تيمية لتحقيق حلمه الكبير، تعرض ابن تيمية لمحن متتالية مع سدنة القبور وحراس الخرافة وأهل التقليد وأتباع التعصب المذهبي، فكفَّره أهل الجهل وبغى عليه الحسدة والظلمة وهو صابر لا يتزعزع ولا يهادن ولا يداهن، وذلك لشدة اقتناعه بما يعتقد ويعمل له، فابن تيمية كان من أعظم أئمة السلفية، لا يقول في شيء بهواه أو بالتشهي، ولكن يعمل بما دل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح، فلقد كان ابن تيمية وقافًا عند كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال عنه الحافظ ابن حجر: (المسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي). وقال الحافظ البزار: (ابن تيمية ليس له مصنف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة، وتراه في جميع مؤلفاته إذا صحَّ الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه، ويقدمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد...). ولقد تعاقبت المحن على شيخ الإسلام ابن تيمية من خصم لآخر ومن مصر إلى الشام ومن جب إلى سجن وهكذا، وهذه بعض محطات المحن التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والتي كثيرًا ما كان يتحالف عليه فيها خصومه من المبتدعة والمتعصبة والجهلة. ![]() محنته مع الصوفية: عندما تفتحت آفاق ومدارك شيخ الإسلام ابن تيمية على أوضاع الأمة الإسلامية، وجد أن مكمن الداء الحقيقي يرجع لتكدر معين النبوة الصافي وحقائق الدين الناصعة بالكثير من البدع والخرافات، التي تسربت للحياة اليومية للمسلمين عبر الطرق الصوفية البدعية والتي ما زالت زاوية الانحراف تنفرج في سلوكياتها حتى تحولت إلى شركيات ظاهرة عليها من الله فيها ألف برهان، وأصبح التصوف مرادفًا لمعنى التدين، بل أصبحت الصوفية دولة كاملة وراسخة في عقول المسلمين وحياتهم، فأعلنها ابن تيمية مدوية وصريحة: كل ما ليس عليه أمر الله ورسوله فبدعة وضلالة، وسن حربًا شعواء بلا هوادة على معاقل التصوف وحراس الخرافة، وتعرض من أجل ذلك للعديد من المحن، منها: * في سنة 705هـ اشتكت الصوفية الرفاعية إلى أمير دمشق "الأفرم" من شيخ الإسلام ابن تيمية لكثرة إنكاره عليهم، وقد أحضر الشيخ لقصر الأمير، وطلب ذلك منه، ولكنه رفض بشدة وقال بكل عزة العالم: (هذا ما يمكن، ولابد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولاً وعملاً، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه)، فأرادت الرفاعية استخدام حيلهم المعروفة من اللعب بالحيات ودخول النيران من أجل إقناع الوالي والحاضرين بصحة أفعالهم، فأبطل شيخ الإسلام هذه الحيل، وخرج من هذه المناظرة منصورًا مظفرًا، وقد ألزمت الصوفية الأحمدية الرفاعية بترك أحوالهم البدعية وكتب محضر بذلك. * وفي سنة 708هـ تولى سلطنة المماليك بيبر الجاشنكير وكان صوفيًا غاليًا فشدد على ابن تيمية الذي كان وقتها مسجونًا في سجن القلعة بمصر بسبب العقائد، ونقله من القاهرة إلى الإسكندرية حتى يتجرأ عليه أحد الصوفية هناك فيقتله، فلم يتفق لهم مرادهم لحفظ الله عز وجل لابن تيمية، وجاء نفي الشيخ للإسكندرية خيرًا عظيمًا له وللمسلمين؛ إذ وجد الإسكندرية قد باض فيها إبليس وأفرخ وأضل عامة أهلها، فصاروا من أتباع الطرق الصوفية الضالة مثل السبعينة والعربية، فأخذ الشيخ ابن تيمية في نشر العلم والسنة ومقاومة البدعة حتى أخمدها وشتت شمل أهلها، ودحض الباطل والخرافة، وذلك كله وهو سجين يعاني ويلات السجون والمعتقلات. * وفي سنة 726هـ تعرض ابن تيمية للاعتقال مرة أخرى بسبب فتواه بحرمة شد الرحال لزيارة قبور الصالحين والأنبياء، مع التنبيه على أمر قد تعمد الصوفية على مر العصور ترويجه بالكذب على ابن تيمية رحمه الله، ذلك أن ابن تيمية قد أفتى بمنع شد الرحال للزيارة أي السفر لها خصيصًا من بلد لآخر، ولم يفت بحرمة الزيارة، بل قال إنها مستحبة للآثار التي صحت في ذلك، وشتان الفارق بين شد الرحال للزيارة والزيارة نفسها، وقد استعدت الصوفية السلطان والأمراء والقضاة والفقهاء على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى، حتى أن بعضهم قد أفتى بتكفير ابن تيمية وقتله، ثم انتهى الأمر باعتقاله هو وأصحابه وتشهير بالعديد من تلاميذه الكبار مثل ابن القيم وابن كثير والكتبي وغيرهم في دمشق، ثم خرجوا بعد فترة وبقي ابن تيمية ومعه ابن القيم فقط في المعتقل. الجدير بالذكر أن ابن تيمية ظل في معتقله هذه المرة حتى مات رحمه الله فيه بعد ذلك بأكثر من عامين، وقد ضيقوا عليه بشدة وآذوه خلال هذه الفترة إيذاءً شديدًا وهو صابر محتسب، وسنذكر ذلك بشيء من التفصيل عند وفاته رحمه الله. محنته مع الأشاعرة: ![]() في معرض كلامنا عن المحنة التي تعرض لها الحافظ عبد الغني المقدسي، ذكرنا أن عقيدة السلف الصالح قد أصبحت ممثلة في أتباع المذهب الحنبلي، في حين سيطرت العقيدة الأشعرية على أتباع المذاهب الأخرى خاصة المذهب الشافعي، حتى أصبحت كلمة الأشعري مترادفة مع الشافعي، والسلفي مع الحنبلي، ولما كان ابن تيمية مجودًا مصلحًا داعيًا للعودة على منابع الدين الأولى وإلى مصدريه المعصومين ـ الكتاب والسنة ـ فقد كان من الطبيعي جدًا أن ينتقل الأشاعرة وعقيدتهم المحدثة بعد القرون الثلاثة الفاضلة خاصة وأن العقيدة الأشعرية تأثرت بشدة بالعلوم المنطقية اليونانية وأرباب الكلام من أتباع المذاهب الضالة مثل المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، فانبرى ابن تيمية كواحد من أعظم الناقدين والنافضين للفكر الفلسفي والمنطقي اليوناني الذي تسرب إلى كثير من مناحي الفكر الإسلامي وأثر على عقيدة الأمة، وألف في ذلك الرد والنقد الكثير من المؤلفات العظيمة النافعة، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي الرهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، ولم يقو الأشاعرة على منازلته في ميدان الحجة والبرهان، فلجئوا إلى حد السلطان واستعداء الدولة عليه، كما هو الحال مع حجة العاجز والمفلس؛ يبحث عمن ينصره من القوة والسلطة. * في سنة 698هـ ثار الأشاعرة على ابن تيمية بسبب تأليفه لرسالته الشهيرة بالحموية ويتكلم فيها عن عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات، وحاولوا استعداء أمير دمشق عليه، ولكن الأمير لم يسمع لهم وهدأت الفتنة. * وفي سنة 705هـ اجتمع علماء الأشاعرة وفقهاؤهم وقضاتهم عن بكرة أبيهم عند أمير دمشق وطلبوا من ابن تيمية الحضور لمناظرته في كتابه العقيدة الواسطية، وعقدوا له ثلاثة مجالس للمناظرة، استطاع خلالها ابن تيمية أن يظهر عليهم بالحجة والبرهان حتى ألزمهم بتقرير صحة ما جاء في الواسطية، وقد أدى ذلك لتشويش كبير في دمشق، واستشاط الأشاعرة غيظًا وغضبًا وأخذوا في الاعتداء على تلاميذ ابن تيمية ومنعوا الحافظ جمال الدين المزي من التحديث بالجامع وحبسوه. * وفي نفس السنة وهي 705هـ تكاتب أشاعرة الشام مع أشاعرة مصر للضغط على السلطان من أجل نفي ابن تيمية من الشام إلى مصر، ومحاكمته هناك، وبالفعل حمل ابن تيمية إلى مصر في رمضان وعقدت له مناظرة مع العلماء والفقهاء بها ولم يمكنوه من الدفاع عن نفسه أو الكلام أصلاً، وكان زعيمهم ابن مخلوف قاضي المالكية وكان من أشد خصوم ابن تيمية، ويحسده لقلة علمه وكثرة خطئه في الفتوى، وأيضًا الشيخ الصوفي الضال الحلولي الاتحادي نصر المنبجي وكان صاحب حظوة ووجاهة عند أمير مصر بيبرس الجاشنكير، وقد انتهى الأمر لسجن ابن تيمية في القلعة بالقاهرة، ثم وضع بالجب هو وأخوه عبد الله وأخوه الثالث عبد الرحمن، وكتب كتاب بالحط على الشيخ ابن تيمية وعلى عقيدته، وقرئ هذا الكتاب في الشام ومصر، وأجبروا الحنابلة على مخالفته، وحصلت لهم إهانة كبيرة ومحنة عظيمة في سائر البلاد، وعادت البدع للظهور بدمشق أثناء سجن الشيخ بمصر، فصليت الرغائب في النصف من شعبان سنة 706هـ وأوقدت النيران كالعادة، وكان ابن تيمية قد أبطل ذلك كله منذ عدة سنوات، وقد حاول بعض العلماء إخراج ابن تيمية من السجن مقابل أن يرجع عن بعض نقاط في العقيدة، ولكن ابن تيمية رفض وآثر السجن على التنازل عما يعتقد، وقد ظل الشيخ في سجنه قرابة العامين، ثم خرج بشفاعة الأمير حسام الدين مهنا ملك العرب، وظل مقيمًا بالقاهرة. ![]() * ولما اغتصب بيبرس الجاشنكير السلطنة من الأمير محمد بن قلاوون، عمل على إيذاء ابن تيمية قدر استطاعته، وذلك بإشارة من شيخه الضال نصر المنبجي الصوفي، فأمر بيبرس بحبس ابن تيمية مرة أخرى ثم التضييق عليه في حبسه، ثم نفاه من القاهرة إلى الإسكندرية سنة 709هـ، وهناك حبس أيضًا، وذلك كله بسبب تأليب الأشاعرة ومعهم الصوفية الجهلة، وجملة ما ظل فيه ابن تيمية بالسجن بسبب الأشاعرة أربع سنوات من سنة 705هـ حتى أواخر سنة 709هـ، وقد زادته المحنة رفعة ومكانة عند الناس عامتهم وخاصتهم. محنته مع المتعصبة والمقلدة: * رغم أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان ينتمي للمذهب الحنبلي في الفقه، إلا إنه كان مجتهدًا مطلقًا يفتي بما يؤدي به اجتهاده دون أن يتقيد بمذهب معين، ولأن العصر الذي كان فيه ابن تيمية كانت الأمة الإسلامية تعاني من تراجعات على كافة المستويات، ومنها المستوى العلمي، فإن التقليد والجمود قد سيطر على العقول وقتها، وعكف العلماء على دراسة آراء وأقوال مذهبهم وأئمتهم السابقين، وأغلق باب الاجتهاد ووضعت عليه أقفال كبيرة، حتى جاء ابن تيمية ففتح باب الاجتهاد من جديد وحطم أقفاله وأغلاله، ولأن التعصب هو الابن الشرعي للجمود والتحجر، والناتج الطبيعي لعهود التقليد وقلة الإبداع، فإن المتعصبة من المقلدين والجامدين والمتفقهة من أتباع المذاهب قد ناصبوا ابن تيمية العداء، وحاربوه بمنتهى العنف، لا لشيء إلا لأنه قد خالف أئمتهم وشيوخهم، ولأن المقلد والجامد بضاعته في العلم مزجاة، وأدلته وبراهينه وحججه إنما هي أقوال شيخه وإمامه، لم يستطع المتعصبة والمقلدة الصمود أمام ابن تيمية في ميدان الإبداع والإقناع، وعوضًا عن ذلك استعانوا بالسلطان والدولة والغوغاء والعامة والدهماء وتلاميذ الزوايا وطلاب المدارس للنيل من الشيخ ابن تيمية، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا من علم علامة مثل ابن تيمية، إنما غاية ما ينالوا منه السجن والامتحان. فعندما أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الطلاق البدعي لا يقع أصلاً، وأن الطلاق بالثلاثة إنما يقع واحدة، وأن الحلف بالطلاق يقع يمينًا إذا لم ينو به الطلاق، ثارت عليه ثورة عنيفة من علماء المذاهب وناقشوه فألزمهم الحجة، فاستعانوا بالدولة التي أصدرت فرمانًا بمنعه من الفتوى بهذه المسألة وذلك سنة 719هـ، ولكنه لم يلتزم بذلك وظل يفتي بما أدى إليه اجتهاده وهو مأجور عليه في كل حال، فحبسوه في القلعة بدمشق لمدة حوالي ستة أشهر حتى خرج منها في المحرم سنة 721هـ. والعجيب أن الفقهاء وأتباع المذاهب ظلوا يشنعون على ابن تيمية في اجتهاداته وفتاويه لقرون عديدة في كتبهم وإلى تلاميذهم، جيلاً وراء جيل، وخصوصًا في مسألة الطلاق، حتى رأينا أحدهم الشيخ زاهد الكوثري أحد أشهر فقهاء الأحناف في أوائل القرن العشرين وهو أيضًا من رءوس البدعة المعاصرين يؤلف كتابًا في أحكام الطلاق يملؤه سبًا وشتمًا في ابن تيمية بسبب فتواه في الطلاق، والجدير بالذكر أن العالم الإسلامي بأسره الآن يعمل بفتاوى ابن تيمية في الطلاق ويجعلها مقررًا في كل المحاكم الشرعية المهتمة بالأحوال الشخصية. وفاته: ![]() * قضى شيخ الإسلام ابن تيمية معظم حياته في محن وابتلاءات متتالية، يدخل المعتقل ثم يخرج منه، في الشام وفي مصر، دخول وخروج، حتى جاءت اللحظة التي دخل فيها بجسده ثم خرج بروحه الطيبة، وذلك عندما اعتقلوه ولآخر مرة سنة 726هـ بسجن القلعة بدمشق، بسبب تأليب الصوفية عليه لفتواه الشهيرة بحرمة شد الرحال لزيارة القبور، حتى ظل في المعتقل هذه المرة لأكثر من عامين، وقد ضيقوا عليه بشدة، ولكنه رحمه الله لم يكف عن إعمال عقله وفكره وتدوين علمه، وقد حوّل سجنه من محنة لحريته وجسده إلى منحة لسياحاته الفكرية وإبداعاته العقلية والعلمية لخدمة مشروعه الإصلاحي الكبير لنهضة الأمة. ولما رأى خصومه فيوضات عقله النير تخرج من خلف الجدران والأسوار ممثلة في رسائله ومؤلفاته الفائقة، أرادوا أن يسكتوا صوت الحق، ويطفئوا نور العلم، فصادروا أقلامه وأوراقه لمنعه من الكتابة، حتى أنه اضطر لأن يكتب الرسائل لأهله وتلاميذه خارج السجن بالفحم على الرسائل التي أرسلوها إليه أولاً بعد أن غسلها بالماء وجففها، فما كان من أعدائه إلا إنهم قد بالغوا في أذيته، ونقلوه إلى زنزانة مظلمة فأضرت ببصره فلم يستطع أن يكتب بالفحم، وذلك قبل وفاته بخمسة شهور. ظن خصوم ابن تيمية أن بجرائمهم تلك قد نالوا من معنوياته وروحه الطيبة العالية ولكن هيهات هيهات، أنَّا بالريح العاتية أن تنال من الجبال الراسية، فلقد انتهز ابن تيمية الأمر وأقبل على كتاب الله عز وجل قراءة وتدبرًا ودعاءً وتبتلاً وصلاة ومناجاة، وهو في أسعد عيش وأطيب قلب، ويقول هذه الكلمات النيرات: (أنا ماذا يفعل أعدائي بي، أنا جنتي في صدري، أنى رحت فهي معي، أنا حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة). وقد ختم الشيخ ابن تيمية خلال الشهور الأخيرة من حياته القرآن أكثر من ثمانين مرة. وفي 20 من ذي القعدة سنة 728هـ آن للروح الطيبة أن تصعد لبارئها وآن للراكب أن يترجل، وللمسافر أن يستقر، وللمبتلى والممتحن أن يستريح، وكان نبأ وفاته شديد الوقع على الناس، وكانت آخر كلماته قبل الرحيل مخبرة عن حالته ونهايته رحمه الله، حيث قرأ قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، وقد تنادى المؤذنون على منارات الجوامع بنبأ وفاته، فأقبل الناس بعشرات الآلاف، لشهود الجنازة في تحد صريح لسلطة الدولة التي حبسته ظلمًا وعدوانًا، حتى أن أهل دمشق كلهم رجالاً ونساءً تقريبًا قد شهدوا الجنازة، وقد أخرجت صباحًا، ولم يوضع الجسد في اللحد إلا في المغرب، وقد تأسف الناس كلهم محبوه وخصومه على رحيله. وما زالت المحنة مستمرة: ليست هناك شخصية عظيمة في تاريخنا الإسلامي المتأخر ظلمت في عصرها ـ وبعده ـ مثل شخصية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ففي عصره عانى من المحن والابتلاءات المتتالية وضرب وسجن ونُفي وعُذب ومنع من الإفتاء والتدريس وشُهر به في كل مكان، حتى رحل عن عالمنا وهو في السجن مظلومًا مضطهدًا، ورغم أن الرجل قد رحل عن دنيانا إلا أن خصومه قد ظلوا على عداوتهم له وتشهيرهم به والطعن فيه وفي آرائه وفتاويه ومؤلفاته التي لا يحسن أحدهم أن يفهمها، فضلاً على أن يأتي بمعشارها، وظل اسم ابن تيمية يردد في البلاد بالذم والقدح بفعل ميراث العداوة والكراهية الذي حرص خصوم ابن تيمية على توريثه ونقله للأجيال المتعاقبة، حتى بلغت أثر هذه الوشايات والأكاذيب بأحد من ينسب إلى العلم واسمه "العلاء البخاري" لأن يفتي بأن ابن تيمية كافر، وأن من يقول عنه شيخ الإسلام كافر مثله، وهذا يمثل قمة الغلو والشطط في الخصومة. ![]() والأعجب من ذلك أن الكثير من العلماء كانوا ينقلون كلام ابن تيمية بنصه وحرفه في كتبهم دون الإشارة من قريب أو بعيد لابن تيمية، خوفًا من تعرضهم للاضطهاد والتشهير مثله ورغبة منهم أن تسير آراؤه وأقواله بين الناس، من حيث لا يعلم خصومه، ومن يقرأ في شرح العقيد الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، يجد فيه مقاطع كاملة من كلام ابن تيمية بنصه وحرفه دون الإشارة إليه. وما زالت المحنة مستمرة، وما زالت عداوة شيخ الإسلام قائمة عند كثير ممن ينتسب للعلم، وما زال الأشاعرة والصوفية عبر العصور يعادون الرجل ويبغضونه ويلهجون بذمه بل وتكفيره، حتى تجرأ أحدهم أخيرًا وهو المدعو حسن السقاف تلميذ الغماري الصوفي على شاشة إحدى الفضائيات ـ وهي قناة المستقلة ـ وقال [أي السقاف]: (إن ابن تيمية كافر ولا يستحق دخول الجنة مطلقًا)، وقائمة خصوم الشيخ طويلة وممتدة من لدن عصره رحمه الله لوقتنا الحاضر. والعاقبة للمتقين، وهذه سنة ربانية ماضية، لا تبديل لها ولا تغيير، فعلى الرغم من الحملة الشرسة التي شنها خصوم ابن تيمية عليه وعلى سيرته وتراثه، وما زالوا يشنونها، إلا أن الله عز وجل قد أعلى ذكره بين العالمين، وهذه هي كلماته وآراؤه وفتاويه ومصنفاته تملأ العالم كله، وهذه كتبه وتراثه الفكري والعلمي تطبع وتوزع في كل مكان، وما من داعية ولا عالم ولا مصلح إلا وقد تأثر بأفكار وأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، في حين سقط ذكر خصومه وأعدائه من ذاكرة التاريخ، فلم يبق لهم أثر ولا ذكر إلا مقرونًا بجرائمهم وإساءاتهم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فمن ذا الذي يعرف الآن ابن مخلوف المالكي أو صفي الدين الهندي أو نصر المنبجي أو البكري الصوفي أو الإخنائي وغيرهم من أعداء الشيخ. وفي هذا المقام يحضرني كلمات قالها أحد المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية يبشر فيها بظهور أفكار وآراء ابن تيمية ولو بعد حين، وهو الإمام أحمد بن مري الحنبلي الذي كتب رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام بعد وفاته يوصيهم بكتب الشيخ، ويحثهم على نشر علمه، ويطيب خواطرهم بأن العاقبة للمتقين فيقول: (والله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام، ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده). ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام ابن جرير الطَّبريُّ (1/2) شريف عبدالعزيز (5) ![]() إمام المفسِّرين ورائد المدرسة التَّقليديَّة في التَّاريخ حياته وعطاؤه العلميُّ ومنهجه وآراؤه ومحنته التَّعريف به: هو الإمام العلم العلامة, المجتهد المطلق, شيخ الإسلام, إمام المفسرين, ورائد المؤرِّخين, كبير المصنِّفين, البحر الزخَّار, الموسوعيُّ الكبير, جامع العلوم, والحائز على الفنون, الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن غالب بن كثير بن غالب الطَّبريُّ. وُلد الإمام الطبريُّ سنة 224هـ على الأرجح، ببلدة أمل عاصمة إقليم طبرستان في شمالِ غربِ خُراسانَ، وهي مدينة كبيرة واسعةٌ عامرةٌ بالسُّكان, وكان الطَّبريُّ أسمرَ اللون، واسع العينين, نحيفَ الجسد, مديد القامة, فصيح اللسان, أسودَ الشعر وبقي السَّواد في شعر رأسه ولحيته إلى حين وفاته على الرغم من تجاوزه الثمانين. طلبه للعلم: كعادة طلاب العلم في ذلك الزمان، بدأ الطبريُّ في طلب العلم صغيرا , فأتمَّ حفظ القرآن وهو في سنِّ السَّابعة, حتى إنَّه كان يؤُمُّ بالناس وهو في سنِّ الثامنة، من جودة حفظه وجمال صوته، بدأ في سماع الحديث وكتابته وهو في سنِّ التاسعة, وكان أبوه صالحا , فلمَّا رأى نبوغَ ولده محمد, نذره للعلم والدرس, ودفعه إلى حِلَقِ العلم, وكان أبوه قد رأى في النوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير ومحمد ولده بين يديه، يحمل مِخْلاةً مملوءة حجارة يرمي بين يديه, فسأل أحدَ المعبِّرين فقال: إنْ كبُرَ هذا الولد نصح في دينه وذبَّ عن شريعته. عندما بلغ الطبريُّ سنَّ المراهقة بدأ في رحلته العلميَّة, فخرج من طَبَرستان ودخل المراكز العلمية في خراسان مثل بخارَىْ ومَرْوَ ونَيْسَابورَ, ثم دخل بغداد والناس يُصلُّون الجنازة على الإمام أحمد, فلم يتسنَّ له أن يسمعَ منه, فجلسَ إلى علماءِ بغدادَ وشيوخِها ثم انتقل إلى الحجازِ ثمَّ اليمنِ ثمَّ الحجازِ مرَّةً أخرى ومنه إلى الشامِ ثم مصر، ولم يترك إقليما ولا بلداً معروفاٌ بالعلم والعلماء إلا دخله وجلس إلى شيوخه وعلمائه. ملكاتُه العلمية: يُعتبر الإمام الطبريُّ من أكثر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً, ولا يُنازعُه في هذه الدرجة سوى بحرِ العلوم الإمامِ ابن حزمٍ الظاهريِّ, وهذه المنزلة لم يكن للطبريِّ أن يتبوِّأها لولا مِنَّةُ الرحمن عليه بخصالٍ ومواهبَ ومَلَكَاتٍ علمية فذة وفريدة, وكانت أدواتِ نبوغه وأسبابِ تقدُّمه وتفرده, من أهمِّ الملكات: • همَّة قويَّة وعزيمة حديديَّة: ![]() هذه الملكة كانت أهمَّ ما يميز الإمامَ الطبري, فلقد كان ذا عزيمة تُناطحُ قمم الجبال، وهمَّةٍ تُحَلِّقُ في السَّحَاب, فلقد مكث أربعين سنة, يكتب في كلِّ يومٍ أربعينَ ورقةً, وقد أراد أن يكتب تفسير القرآنِ في ثلاثينَ ألفَ ورقةٍ, فأبى عليه تلاميذُه والكتبةُ فاختصره في ثلاثةِ آلافِ ورقة, وكذلك فعل مع التاريخ، وقال لتلاميذه: إنا لله, ماتت الهممُ! هذه الهمَّة الفريدة جعلت الطَّبريَّ متفرغاً لطلب العلم, مُنكبَّاً علي تحصيله, ورحل في سبيله, وقضى معظم شبابه في السفر والترحال من بلد إلى آخر, ولم يستقر في بلد, ثم في بغداد إلا بعد الكهولة, ومن شدَّة انشغاله في طلب العلم والتفرغ له, لم يتزوج قط, واستعاض بمتعة العلم ولذة البحث والتأليف عن متع الدنيا والزواج, وأنس بالمعارف والعلوم, وصاحب الكتب والمجلدات والمخططات, من أجل ذلك كثر إنتاجه وازداد عطاؤه, وغزُر علمه, حتى صار من أكثر علماء الأمة تصنيفا وتأليفا , قال عنه تلميذُه مسلمة بن قاسم: "كان أبو جعفر الطبري حَصوراً, لا يَعرف النِّساء, شغله طلبُ العلم, وهو ابنُ عشرة سنينَ, ولم يزل طالباً للعلم, مولعاً به إلى أن مات". • حافظةٌ عجيبةٌ وذكاءٌ فريد: - كان الطَّبريُّ موهوبَ الغرائز, فقد حباه الله تعالى بذكاءٍ خارق, وعقل متَّقد, وذِهنٍ حادٍّ, وحافظة نادرة, وهذا ما لاحظه فيه أبوه, فحرص على دفعه إلى طريق العلم, وهو صبيٌّ صغير, وخصَّص له موارد أرضه؛ ليُنفقها على دراسته ورحلاته العلمية, ومن قوَّة حفظه وشدة ذكائه أنَّه تعلَّم علم العَروض وهو من علوم اللغة العزيزة، حتى إنَّ إماماً كبيراً مثل الدارَقطنيِّ قد تعسَّر عليه هذا العلمُ واعترف بذلك لأقرانه، هذا الفنُّ قد تعلَّمه الطبريُّ في ليلة واحدة, وكان يحفظ الأحاديث حفظا فريدا من نوعه, ليس بمتونها وأسانيدها فحسب, ولكن باليومِ والوقت والمكان والرُّفقاء الَّذين حضروا مجلس التحديث. - قال عنه تلميذه أبو محمد عبد العزيز الطبري: كان أبو جعفر من العقل والعلم والذكَّاء والحفظ ما لا يجهلُه أحد عرفه, لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحدٍ من هذه الأمة, ولا ظهر من كتب المصنفين, وانتشر من كتب المؤلِّفين, ما انتشر له. اتِّباعه للسُّنة وشدَّته في الحق: الإمام الطَّبريُّ كان سلفيّاً أثريَّاً ينتمي لمدرسة السَّلف الصَّالح, ومن يقرأ كلامه في كتابه النَّفيس "التَّبصيرُ في معالم الدين" في الصِّفات وتفسير الآيات الخاصَّة بها, يعلم مكانة الإمام وأثره, خاصَّةً وأنَّ تلك الفترة قد بدأت فيها الأفكار المخالفة للسنة تنتشر في الأوساط العلميَّة, مثلُ أفكار الأشعريِّ –قبل تراجعه عنها– وأفكارِ ابن كُلَّاب, ناهيكَ عن أفكار الاعتزالِ والتَّشيُّع التى كانت موجودةً من قبلُ. ففي تفسير آيات الصفات قال ابنُ جرير: القولُ فيما أُدركَ علمُهُ من الصِّفاتِ خبرا , ذلك نحوُ إخباره تعالى أنه سميع بصير, وأنّ له يدين بقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: من الآية64], وأنَّ له وجهاً, بقوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن:27], وأنه يضحكُ بقوله في الحديث: "لقيَ اللهَ وهو يضحكُ إليه"، وأنَّه ينزلُ إلى السَّماء الدنيا, لخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك, إلى أن قال: فإنَّ هذه المعاني التي وصفتُ, ونظائرَها مما وصف اللهُ نفسَه ورسولُه, ما لا يثبت حقيقةُ علمهِ بالفكر والرَّوِيَّة. كان الطبريّ ممن لا تأخذه في الله -عزَّ وجلَّ- لومةُ لائم, من عظيمِ ما يلحقه من الأذى والشَّناعاتِ من جاهلٍ وحاسدٍ وحاقدٍ, فقد كان شديدَ التَّمسُّك بالسنة وأصولها, فقد سئل يوماً عمَّن يقول: إنَّ أبا بكر وعمر ليسا بإمامَي هُدى؟ فبادر أحدُ الحاضرين فقال: "مبتدعٌ!"، فاحتدَّ الطبريُّ وأنكر بشدَّة عليه وقال: "مبتدع, مبتدع! هذا يُقتل!". أخلاقه وعبادته: ![]() كان الطَّبريُّ على جانب كبير رفيع من مكارم الأخلاق, ظريفاً في ظاهره, نظيفاً في باطنه, حَسَنَ العُشرة لجلسائه, متفقِّداً لأحوال أصحابه, مهذباً في جميع أحواله, جميلَ الأدب في أمور حياته كلِّها، ومن أهمِّ خصاله وأخلاقه الجميلة: • الكرم والسَّماحة: كان الطبريُّ سمحاً جواداً شديدَ الكرم, كثيرَ النفقة على إخوانه وأهله, كان إذا أُهديَ إليه هدية مما يمكنه المكافأةُ عليها, قبلها, وكافأ صاحبها, وإن كانت مما لا يُمكنه المكافأةُ عليها ردَّها واعتذر إلى صاحبها, وقد وجَّه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثةَ آلافِ دينار, فلمَّا نظر إليها عَجِبَ منها, ثمَّ قال: لا أقبلُ ما لا أقدرُ على المكافأة عنه, ومن أين لي ما أُكافئُ عن هذا؟ وكان يختلفُ إليه أبو الفرج بن أبي العبَّاس الأصبهانيُّ, يقرأ عليه كتبه, فالتمس أبو جعفر حصيراً لبيته, فدخل أبو الفرج الأصبهانيُّ, وقدَّر مساحة البيت, واشترى الحصير, يقصد إهداءَهُ إلى الطبريِّ, فأصرَّ الطبريُّ على دفع ثمنها, فلمَّا رفض الأصبهانيُّ أهداه الطبريُّ أربعةَ دنانير, وقد أهدى إليه أبو المحسن المحرر جارُه فرخينِ, فأهدى إليه ثوباً. • الزُّهدُ والورعُ: لقد كان ابنُ جريرٍ شديدَ الزُّهد والورع, يرفضُ بشكل تامٍّ, وفي كل موطن أن يتكسَّب بعلمه, أو يسترزقَ بما فتح الله له من العلوم والفضائل, وظلَّ طَوَالَ حياتِهِ يَتقوَّتُ بما يُرسلُه له أبوه من قريته بطَبَرِستانَ, حتى إنَّه لما تأخرت عليه النفقةُ ذات مرةٍ باع بعض ملابسه, وعرض عليه الوزيرُ الخاقانيُّ أموالاً كثيرة, ولكنه رفض أخذها بشدَّة, ورضيَ أن يعملَ بالأجر في تأديب الصِّبيان, وذاتَ مرَّة أراد المكتفي العباسيُّ أن يحبس وقفاً تجتمع عليه أقاويلُ العلماء, فأُحضِرَ له ابنُ جرير, فأملى عليه كتاباً لذلك, فأُخرجت له جائزةٌ كبيرة, فامتنع عن قَبولها, فقيل له: تصدَّقْ بها, فلم يفعل, وقال لهم: أنتُم أولى بأموالكم, وأعرفُ بمن تتصدَّقون عليه, وقد طلبوه لولايةِ القضاء عدة مرات ولكنه رفض بشدةٍ, ولما عاتبه أصحابه وقالوا له: لك في هذا ثوابٌ, وتُحيي سُنَّةً درست, فانتهرهم وقال: فقد كنت أظنُّ أنِّي لو رغبتُ في ذلك, لنهيتموني عنه. وصفه ابنُ كثير فقال: "وكان من العبادة والزِّهادة والورع, والقيام في الحقِّ بمكانٍ لا يخفى على أحدٍ من الناس"، وقال تلميذُه أبو محمد الطَّبريُّ: "وكان فيه من الزُّهد والورع, والخشوع, والأمانة, وتصفية الأعمال وصدق النية, وحقائق الأفعال, ما دلَّ عليه كتابه في آداب النفوس, وكان عازفاً عن الدنيا, تاركاً لها ولأهلها, يدفع نفسه عن التماسها". وكان ابنُ جرير لا يسأل شيئاً لنفسه قطُّ, إنَّما سؤالاته لإخوانه وحوائج المسلمين العامة, استدعاه الخليفة المقتدر بالله العباسي يوماً ليستفتيَهُ في أمرٍ ما, فأجابه, فقال له الخليفة: سل حاجتك. فقال: لا حاجةَ لي. فقال: لا بدَّ أن تسألني حاجةً أو شيئاً, فقال: أسألُ أميرَ المؤمنين, أن يتقدم أمره إلى الشرطة؛ حتى يمنعوا السُّؤَّالَ -أي الشحَّاذين- يوم الجمعة من أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع, فأمر الخليفة بذلك, وأرسل الوزيرُ العباس بن الحسن إلى ابن جرير: "قد أحببتُ أن أنظرَ في الفقه"، وسأله أن يعمل له مختصراً, فعمل له كتاب "الخفيف", وأنفذه, فوجَّهَ إليه ألف دينار فلم يقبلها, فقيل له: تصدَّقْ بها, فلم يفعل. • التَّواضُعُ والدُّعابة: ![]() كان الطبريُّ شديدَ التواضع جمَّ الأدب, كامل الهيئة, ضابطاً لأحواله, منبسطاً مع إخوانه, حتى ربما داعبهم أحسنَ مداعبةٍ, وكان إذا جلس لا يكاد يُسمع له تنخُّمٌ, ولا تبصُّق, ولا يُدرَى له نُخامة, وإذا أراد أن يمسح ريقه, أخذ ذؤابةَ منديله, قال تلميذه أبو بكر بن كامل: "ولقد حرصتُ مراراً أن يستويَ لي مثلُ ما يفعله, فيتعذَّر عليَّ اعتياده", قال: "وما سمعته قطُّ لاحناً, ولا حالفاً بالله -عزَّ وجلَّ-". وكان من تواضعه لا يُحبُّ أن يَذكر مآثره العلميَّة خاصَّةً في باب المناظرات الذي كان الطبريُّ مشهوراً فيه بقهر خصومه, فلقد هزم داود الظاهريَّ شيخ الظاهرية, وأبا بكرٍ المزَنىَّ شيخَ الشافعية في المناظرة, وأقام عليهما الحجة حتى أفحمهما، ومع ذلك كان دائم الثَّناء عليهما، على الرَّغم من كراهيَّة تلاميذ الإمامين له، وخوضِهِما في حقه بسبب ذلك. ثناءُ أهل العلم عليه: يُعتبر ابن جرير الطبريُّ من كبار أئمَّة الإسلام, وعلماً من أعلام الدِّين, يُحكم بقوله, ويُرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله, وكان قد جمع من العلوم ما لم يُشارِك فيه أحدٌ من معاصريه, فقد كان حافظاً لكتاب الله, عارفاً بالقراءات, بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن, عالماً بالسنن وطرقها, صحيحِها وسقيمِها, وناسخِها ومنسوخِها, عارفاً بأقوال السلف من الصَّحابة والتابعين, بصيراً بأيام الناس وأخبارهم, وهذه طائفةٌ من ثناء العلماء عليه: قال رفيقُه وقرينه ابنُ خزيمةَ الملقب بإمام الأئمَّة: "ما أعلمُ تحت أديم السماء أعلمَ من محمد بن جرير". قال ابن سُرَيج الملقب بالشافعيِّ الصغير: "محمَّد بن جرير الطبريُّ فقيهُ العالم". قال ابنُ خِلَّكان: "صاحب التفسير الكبير, والتاريخ الشهير, كان إماماً في فنون كثيرة, وله مُصَنَّفات مليحة في فنون عديدة, تَدُلُّ على سَعَة علمه, وغزارةِ فضله, وكان من الأئمَّة المجتهدين". قال القِفطيُّ: "العالم الكامل, الفقيهُ المقرئ, النَّحويُّ اللُّغوي, الحافظُ الإخباري, جامع العلوم, لم يُرَ في فنِّه مثلُه, وصنَّف التصانيف الكبار". قال ابن كثير: "كان أحد أئمَّةِ العلماء علماً وعملاً بكتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلم –". قال ابنُ تغري بردي: "وهو أحد أئمَّة العلم, يُحكم بقوله, ويُرجع إلى رأيه, وكان متفنِّناً في علوم كثيرة, وكان واحد عصره". قال الذَّهبيُّ: "إمامُ العلم المجتهد, عالمُ العصر أبو جعفرٍ الطَّبريُّ, صاحبُ التَّصانيف البديعة, كان من أفراد الدَّهر, عِلما , وذكاءً, وكثرةَ تصانيف, قلَّ أن ترى العيون مثله, رأسٌ في التفسير, إمامٌ في الفقه والإجماع والاختلاف, علَّامة في التاريخ وأيَّام الناس". قال السُّبكيٌّ: "الإمام الجليل, والمجتهد المطلق, أحد أئمَّة الدنيا علماً وديناً". مُصنَّفاتُه: ![]() لم تقتصر علومُ الإمام الطَّبريّ وآثارُه على علمٍ واحد، بل ولج -رحمه الله- ميدان مختلف العلوم الشَّرعيَّة واللُّغويَّة، وكان في كلٍّ منها إماماً ومقدَّماً. لقد كان الطبريُّ إمامًا في السُّنة وعلوم الحديث، وعدَّه الإمام النَّوويُّ –رحمه الله– في طبقة التِّرمذيِّ والنَّسائي وكان أيضاً إمامًا في القراءات، وصنَّف في القراءات. ودرس التَّفسير بتعمُّق، وصنَّف أعظمَ كتبه على الإطلاق في التَّفسير، كتاب "جامع البيان في تأويل آي القرآن"، الذي ضمَّ فيه علوم القرآن المختلفة، حتى اعتُبِر "إمام المفسرين" أو "شيخ المفسرين". كما كان –رحمه الله– إماماً: في الفقه، وعلمِ الخلاف، والفقهِ المقارن، واختلافِ العلماء؛ وكان من الأئمَّة المجتهدين، وصاحبَ مذهبٍ مستقلٍّ، ولقد تبعه بعضُ الناس على مذهبه رَدْحاً من الزَّمن، وصنَّف الكتب الجيِّدة: في الفقه العام، والفقه المقارن، والفقه المذهبيّ. ومن أعظم إنجازاته – رحمه الله– إلى جانب تفسيره العظيم، كتابُه في التاريخ الذي يُعتبر مرجعًا هامًّا وأساسيًّا، لدى كثيرٍ من الباحثين والمؤرِّخين، وهو فيما قدّم يُعتبر شيخَ المؤرِّخين بلا منازعٍ ولا مدافع، واسمُ الكتاب: "تاريخ الرُّسل والملوك". هذا إلى جانب كتابه الأخير: "تاريخ الرِّجال من الصَّحابة والتَّابعين"، إلى شيوخه هو؛ المعروف بـ " ذيل المذبل ". وكان أيضا –رحمه الله– من أئمَّة العربيَّة، في المعاني واللُّغة والصَّرف والعَروض والبيان، بالإضافة إلى علمه بالفلسفة والمنطق والجَدَل. وكان عنده شيءٌ من علم الطَّبِّ والجبر والرِّياضيَّات. وكان –رحمه الله– أيضا عالماً بأصول الدِّين والتَّوحيد، وعلم الكلام، وله كتبٌ فيها. وكان عالماً بالحديث، وبلغ مرتبة الحافظ المحدِّث، ولقد صنَّف في علم الحديث ومصطلحه، كما التزم بمنهج المحدّثين في معظم كتبه. وكان عالماً بأصول الفقه وقواعد الاجتهاد والاستنباط، مما أهَّله أن يكون مجتهدًا صاحبَ رأيٍ مستقل ومذهب. وكان عالماً بآداب النَّفس وعلم الأخلاق والتَّربية، وصنَّف فيها كذلك. قال الخراسانيُّ: "وله مصنَّفات مليحة في فنون عديدة، تدلُّ على سعة علمه، وغزارة فضله، وكان من الأئمَّة المجتهدين"، ووصفه الخطيب البغداديُّ فقال: "وكان أحد أئمَّة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يُشاركه فيها أحدٌ من أهل عصره؛ وكان حافظًا لكتاب الله تعالى، عارفًا بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسُّنن وطرقها، صحِيحِها وسقيمِها، ناسخِها ومنسوخِها، عارفًا بأقوال الصَّحابة والتَّابعين، ومَن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في "تاريخ الأمم والملوك" وكتابٌ في التفسير لم يصنِّفْ أحدٌ مثله، وكتابٌ سمَّاه "تهذيب الآثار" لم أرَ سواه في معناه، إلا أنَّه لم يُتِمَّه؛ وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرُّد بمسائل حُفِظت عنه". ويقول ياقوت الحمويُّ في معجم الأدباء: "كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنَّحويِّ الذي لا يعرف إلا النَّحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكان عالماً بالعبادات جامعًا للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره، وجدت لكتبه فضلًا على غيرها". أمَّا عن أشهر وأهمِّ مصنفاته فهي: ![]() - جامعُ البيان عن تأويل آي القرآن، المعروف بـتفسير الطبري، وقد طبع مرات عديدة. - وتاريخ الأمم والملوك، المعروف بـتاريخ الطبري. - واختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام. - والخفيف في أحكام شرائع الإسلام في الفقه، وهو مختصر كتاب: - لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، المعروف بـاختلاف الفقهاء في علم الخلاف، وهو كتابٌ واسع اختصره في كتاب الخفيف، فإذاً: اللطيف والخفيف هما كتابان للطَّبريِّ في الفقه. - وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار، هذا كتاب في الحديث طبع منه أربعة مجلدات، وبقي منه بقايا، وهو من الكتب العظيمة. - كذلك ألف كتاب: آداب القضاة، وآداب النفوس، والقراءات وتنزيل القرآن، والبصير في معالم الدين، وفضائل عليٍّ، وفضائل أبي بكر، وفضائل عمر، وفضائل العبَّاس، وكتابٌ في تعبير عبارة رؤية في الحديث، ومختصر مناسك الحج، ومختصر الفرائض، والموجز في الأصول، والرَّميُ بالنُّشَّاب حتَّى الرَّمي بالقوس وطريقة الرمي يقال: إنَّه للطبريِّ - رحمه الله -، والرسالة في أصول الفقه، والمسترشد وكتاب اختيار من أقاويل الفقهاء، هذه بعض الكتب التي ألفها صاحب القلم السَّيَّال والنَّفَس الطويل ابن جرير رحمه الله تعالى. يقول الخطيب البغدادي راوياً: إنَّ محمد بن جرير مكث أربعين سنةً يكتب في كل يوم أربعين ورقة، وإذا ضربت أربعين سنة في إنتاج كل يومٍ أربعين ورقة يكون الناتج ستمائة ألف ورقة؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - أمدَّ في عُمره ستًّا وثمانين سنة، اطرح منها الطفولةَ والجُمَعَ والتِّرحال والرَّحَلات إلى أن استقرَّ بـبغدادَ أربعين سنةً، هذه فترة تدريس وتصنيف، كلَّ يوم يؤلف أربعين ورقةً، هذه ستمائة ألف ورقة. يقول ياقوت الحموي: "وحدَّث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصِّلة، وهو كتابٌ وصل به تاريخ ابن جرير -أي كمّل مما انتهى إليه ابن جرير في التاريخ-: أنَّ قوماً من تلاميذ ابن جرير حصّلوا أيام حياته، منذ بلغ الحلم إلى أن تُوفِّي وهو ابنُ ستٍّ وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنَّفاته، فصار منها على كلِّ يومٍ أربعَ عشرةَ ورقةً، وهذا شيءٌ لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق"، تصنيف الطبري ليس كما يقولون كلام حشو، هذا لا يأتي إلا بعد جمع غزير. ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام ابن جرير الطَّبريُّ (2/2) شريف عبدالعزيز (6) ![]() إمام المفسِّرين ورائد المدرسة التَّقليديَّة في التَّاريخ حياته وعطاؤه العلميُّ ومنهجه وآراؤه ومحنته منهج الطبري في التفسير أملى ابن جرير كتابه "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" على تلاميذه من سنة ( 283 ) إلى سنة ( 290 )، ثمَّ قُرئ عليه سنة (306)، وقد أطبق العلماءُ على الثَّناء على كتابه. وقد قدَّمَ الطبريُّ لتفسيرِه بمقدِّمة علميَّةٍ حشدَ فيها جملةً من مسائل علوم القرآن، منها: اللغةُ التي نزل بها القرآن والأحرفُ السبعة، والمعرَّبُ، وطرق التفسيرِ، وقد عنون لها بقوله: "القول في الوجوه التي من قِبَلِها يُوصَلُ إلى معرفةِ تأويلِ القرآنِ، وتأويل القرآنِ بالرأي، وذكر من تُرضى روايتهم ومن لا تُرضى في التَّفسيرِ". ثمَّ ذكر القولَ في تأويلِ أسماء القرآنِ وسورِه وآيه، ثمَّ القول في تأويلِ أسماء فاتحة الكتابِ، ثمَّ القول في الاستعاذةِ، ثُمَّ القول في البسملةِ. ثمَّ ابتدأ التفسيرَ بسورة الفاتحة، حتى ختم تفسيرَه بسورةِ النَّاسِ. كان يُجزِّئ الآيةَ التي يُريدُ تفسيرَها إلى أجزاء، فيفسرها جملة، جملة، ويبدأ في تفسير هذه الجملة، فيذكر المعنى الجملي لها بعدها، أو يذكره أثناء ترجيحه إن كان هناك خلاف في تفسيرها. إذا لم يكن هناك خلاف بين أهل التأويل فسَّر تفسيرًا جُمْلِيًّا، ثم قال: "وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل". ـ وإذا كان بين أهل التأويل خلاف، فقد يذكر التفسير الجُمليَّ، ثم ينص على وجود الخلاف، ويقول: "واختلفَ أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ ذلكَ، فقال بعضهـــم فيه نحوَ الذي قلنا فيه". ـ وقد يذكر اختلاف أهل التأويل بعد المقطع المفسَّرِ مباشرةً، ثمَّ يذكر التفسير الجمليَّ أثناء ترجيحه. ـ ومن عادته أن يُترجمُ لكل قولٍ بقوله: "فقال بعضهم" ….، ثمَّ يقول: "ذكرُ من قال ذلك"، ثمَّ يذكر أقوالهم مسندًا إليهم بما وصله عنهم من أسانيد، ثمَّ يقول: "وقال غيرهم"، "وقال آخرون" …، ثمَّ يذكر أقوالهم، فإذا انتهى من عرضِ أقوالِهم، رجَّحَ ما يراه صوابًا، وغالبًا ما تكون عبارته: "قال أبو جعفر: والقول الذي هو عندي أولى بالصَّواب قول من قال"، أو يذكر عبارة مقاربةً لها، ثمَّ يذكر ترجيحَه، ومستندَه في الترجيحِ، وغالبًا ما يكون مستندُه قاعدةً علميَّة ترجيحيَّةً، وهو مما تميَّزَ به في تفسيرِه. ـ اعتمدَ أقوال ثلاثِ طبقاتٍ من طبقات مفسِّري السَّلف، وهم الصَّحابة والتابعون وأتباع التابعين، ولم يكن له ترتيبٌ معيَّن يسير عليه في ذكر أقوالهم، وإن كان يغلب عليه تأخيرُ الرِّواية عن ابن زيد ( ت: 182). ـ ويحرص على ذكر ما أورده عنهم بالإسناد إليهم، ولو تعدَّدت الأسانيد في القول الواحد. ![]() ـ وقد يورد قول الواحد منهم ويعتمده إذا لم يكن عنده غيره. ـ ولم يخرُج في ترجيحاته عن قول هذه الطَّبقات الثَّلاث إلا نادرًا، وكان شرطه في كتابه أن لا يخرج المفسِّرُ عن أقوال هذه الطَّبقات الثَّلاث . ـ ولهذا ردَّ أقوالَ أهل العربيَّة المخالفة لأقوال السَّلف أدنى مخالفةٍ، ولم يعتمد عليها إلا إذا لم يَرد عن السلف في مقطعٍ من مقاطع الآية شيءٌ . وإذا ذَكر علماءَ العربية فإنه لا يذكر أسماءهم إلا نادرًا، وإنما ينسبهم إلى علمهم الذي برزوا فيه، وإلى مدينتهم التي ينتمون إليها، كقوله: قال بعض نحويي البصرة. وغالبُ ما يروي عنهم مما يتعلق بالإعراب. ـ اعتمد الطبريُّ النظر إلى صحَّة المعنى المفسَّرِ به، وإلى تلاؤمه مع السياق، وقد كان هذا هو المنهجَ العامَّ في تفسيره، وكان يعتمد على صحة المعنى في الترجيح بين الأقوال. ـ وكان لا يبين درجة إسناد الآثار إلا نادرًا، ولم يكن من منهجه نقدُ أسانيد التفسير، كما أنه لم يعمد إلى ما يُقال من طريقة: من أسندك فقد أحالك. ـ وكان -في الغالب- لا يفرق بين طبقات السَّلف في الترجيح، وقد يقدم قول أتباع التَّابعين أو التَّابعين على قول الصَّحابيِّ. ـ وإن كان في بعض المواطن يُقدِّم قول الصحابة، خصوصًا فيما يتعلق بالنُّزول. ـ يقدم قول الجمهور على قول غيرهم، وقد يعدُّه إجماعًا، ويَعُدُّ القول المخالف لهم شاذًّا. ـ يَعُدُّ عدم قول السلف بقولٍ دلالة على إجماعهم على تركه، ويرجح بهذه الحجة عنده. ـ لم يلتزم بالأخذ بقول الصحابيِّ في الغيبيَّات. ـ لم يُعْرِضْ عن مرويَّات بني إسرائيلَ لأنه تلقَّاها بالآثار التي يروي بها عن السَّلف، وقد يبني المعنى على مجمل ما فيها من المعنى المبيِّن للآية. ـ يؤخِّر أقوال أهل العربية، ويجعلها بعد أقوال السَّلف، وأحيانًا بعد ترجيحه بين أقوال السَّلف. ـ لا يقبل أقوال اللُّغويِّين المخالفة لأقوال السَّلف، ولو كان لها وجهٌ صحيح في المعنى لذلك كلِّه عدَّه أهلُ العلم رائدَ مدرسة التفسير بالأثر، وأعظمَ مفسِّري القرآن في الأمة الإسلامية. منهج الطبري في التاريخ ![]() بدأ الإمام الطبريُّ حياته العلميَّة بدراسة الحديث، فكان حريَّاً أن يتأثر بمنهج المحدِّثين في جمع الرِّواية التَّاريخيَّة والاهتمام بسندها، فكان يجمعُ مأثور الرِّوايات ويدوِّنها مع إسنادها إلى مصدرها مثل: شيخ تتلمذ عليه، أو عدل شارك في الحادثة، أو كان له علمٌ بها، أو كتاب تدارسه بالسَّند المتَّصل قراءةً وسماعاً وإجازة. فكان في الغالب يلتزم وجهة المحدِّثين في الاهتمام الذي ينصبُّ على الإسناد حيث يُثبته في معظم الأحيان في الروايات، يقول في هذا الشأن في مقدمة تاريخه: "وليعلم النَّاظرُ في كتابنا هذا أنَّ اعتمادي في كلِّ ما أحضرت ذكره فيه، إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرُها فيه، والآثار التي أنا مُسندُها إلى رواتها فيه، دون ما أُدرك بحجج العقول واستُنبط بفكر النفوس.. إلا القليل اليسير منه". وهكذا أكد الإمامُ الطبريُّ حرصه على إسناد كل خبرٍ إلى قائله، وأنه سوف لن يسمح لحجج العقول وفكر النفوس أن تتدخَّل في التَّفسير والاستنباط، في الكتابة والتَّدوين أثناء جمع المادة، وما ذاك إلا حرصاً منه على جمع ما قيل كلُّه أو جلُّه من وجهات نظر متعددة إن كانت، وبعد ذلك يكون محصل الموازنة والمقارنة، والاستنباط والقبول والرد لمن يريد. ولما كان تاريخ صدر الإسلام -خصوصاً فترة الفتنة- أكثر حساسيَّةً من غيره، إذ فيه رواياتٌ أملتها عاطفة الرواة أو الاتجاهات السياسية أو اختلاف وجهات النظر والفهم، ونظراً لأن الروايات تتأثر بعوامل مختلفة كالنسيان والميول والنَّزَعات فيصعب الجزم بدقتها وسلامتها، فإن هذا مما يجعل إبداءَ الرأي فيها أو إصدارَ حكم بشأنها يبدو معقَّداً للغاية. ولهذا قام الإمام الطبري -رحمه الله- وهو يعرض وجهات النظر المختلفة لرواته ومصادره باتِّباع طريقة جمع الأصول وتدوينها على صورة روايات، المسئولُ عنها رجالُ السَّند أي الرواة الإخباريُّون. وقد برهن على ذلك في قوله: "فما يكُن في كتابي هذا من خبرٍ ذكرناهُ عن بعض الماضين مما ينكره قارؤه أو يستقبحُه سامعه، من أجل أنَّه لم يعرف له وجهاً في الصِّحَّة ولا معنىً في الحقيقة، فليعلمْ أنَّه لم يؤتَ في ذلك من قبلنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنَّما أدَّينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا". ومن منهجه أيضاً الحياد، فهو يعرض مختلف وجهات النَّظر دون تحزُّب أو تعصُّبٍ، وإن كان له رأيٌ خاص فيظهر أحياناً في اختياره للروايات وإيراد بعضها وترك البعض الآخر، مُتجنِّباً إعطاءَ حكمٍ قاطعٍ في القضايا التي يتعرَّض لها، حتى إنه لا يفضل روايةً على أخرى إلا نادراً. ![]() وقد أدَّى به التزامُ هذا المنهج إلى الحرص على إيراد الرِّوايات المختلفة للحادث أو الخبر الواحد، وعند المقابلة بين الرِّوايات يَستعمل تعبير: "واختُلف في كذا" ثم يُعقِبه باستعراض الروايات المختلفة لرواته، إلا أنَّ النقد والمقابلة يظهرُ جلياً في عدد من الأخبار التي ترد في نهاية الحوليات كالوفيات والغزوات الصيفيَّة، وتعيين ولاة الأقاليم وأمراء الحج، وهكذا إذا كان للحادث رواياتٌ مختلفة اعتقد الإمام الطبري بوجوب ذكرها لتكتمل الرؤية عنه. لكن مع اجتهاده في تدوين كل ما يمكن تدوينه من الروايات والأقوال من الخبر الواحد، فإذا وصل إلى موضوع مطوَّل مختلَفٍ فيه قَطَعَهُ؛ ليذكر مواضع الاختلاف مشيراً إليها. فإذا ما انتهى منها عاد إلى المتن -أي إلى الموضع الذي وقف عنده- فيُمهد للكلام بإشارة تدلُّ على استئنافه، وهذه الطريقة قد تربك القارئ، فتُنسيَه الحادث الأصلي، إذ تُشكل عقبةً أماميَّةً أمام الوحدة الموضوعية للحادثة التاريخية، وربما كان الأفضلُ عرضَ كل رواية عرضاً متكاملاً من أولها إلى آخرها، الواحدة تلو الأخرى، وبهذا العرض الكامل تتكون لدى القارئ فكرة واضحة عن الموضوع وعن الأوجه المختلفة فيه، فيستطيع أن يوازن بين جميع الآراء، ويُرجعَ بعضها على بعض، فتتكون بذلك لديه نظرة إيجابية عن الموضوع، والجدير بالذكر أنَّ الإمام ابن الأثير قد استدرك هذا الأمر تحديداً على أستاذه الطبري، وراعي تلافيه عند كتابته لتاريخه الشهير بالكامل، لذلك جاء كتابُ الكامل في التاريخ أجود وأقوى بحثيَّاً وتاريخيَّاً من تاريخ الإمام الطبري. و قد راعى الطبري التسلسل الزمنيَّ عند ذكره للأحداث والوقائع، ووقف بكتابه عند سنة 302 هجرية، أي قبل وفاته بعدة سنوات، فيذكر أهم الأحداث والوقائع في كلِّ عام على حدة، وبالنسبة للأخبار التي لا ترتبط بزمن معين كالسِّيَر مثلاً، فقد كان يختم بها الحديث عن كل خليفة عند وفاته، فبعد أن يذكر الأحداث في عهده مرتبة على السِّنين يختمها باستعراض سيرته دون التقيد بعامل الزمن. وما يذكر أن الإمام الطبري لم يتقيد بطريقة الحوليَّات في كل كتابه، وإنما اتَّبعها في الحوادث الخاصة بتاريخ الإسلام، أما في القسم الرابع - أي منذ الخليقة إلى الهجرة - فقد اتبع منهجاً آخرَ في عرض الحوادث، فلم يرتبها على حسب وقوعها عاماً بعد عام، إذ كان ذلك متعذِّراً، ولكن سار على النَّهج الذي سلكه أكثر المؤرخين القدماء بالبدء بالخليقة ثم بالأنبياء ثم التعرض للحوادث التي وقعت في أيامهم، وذكر الملوك الذين كانوا يعاصرونهم وأخبارهم، وكذلك الأمم المعاصرة لهم والتي جاءت بعدهم، إلى ظهور الإسلام وبعثة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. ويُكثر الإمام الطبري في تاريخه من تسجيل النصوص التاريخية من رسائلَ وخطبٍ ومحاوراتٍ ولا سيَّما الشعر؛ رغبة في توثيق الحوادث أو التشويق إليها. كما أنه حاول ضبط النصوص التي يرويها دون تبديل أو تغيير إلى درجة أنَّه كثيراً ما تَبقى الكلمات والألفاظ غيرُ العربية كما هي. ![]() أما منهجه في إثبات المصادر، فإنه إذا ما نقل من كتابٍ ما فإنه قلَّما يذكر عنوانه، وإنما يذكر اسم مؤلفه كقوله مثلاً: "قال الواقدي" أو "قال أبو مخنف" وإذا سمع من أحدٍ مشافهةً قال: "حدَّثني فلان".. فإذا اشترك مع راوٍ محدِّثُه في السَّماع آخر أو آخرون قال: "حدَّثني فلان قال.. حدَّثنا فلان وفلان".. ثم سلسل السند إلى مصدره الأصلي، وكان يعتمد أحياناً على المراسلات، وقد حرص في الغالب على السَّند المتصل إلا في بعض المواقع. وكان يضع العناوين لأحداثه وخاصَّة المهمة منها في بداية كلامه عن بدء كل سنة تحت عنوانٍ عامٍّ مثل قوله: "ثم دخلت سنةٌ خمسٍ وثلاثين، ذكر الخبر عمَّا كان فيها من الأحداث المشهورة" أما الأحداث الصغيرة التي لا تتجاوز بضعة أسطر، فإنه يذكرها متعاقبة تحت عنوان: "ثم دخلت سنة كذا، وذكر الأحداث التي كانت فيها". أما فيما يتعلق بعدالة الرُّواة، فإذا كان الإمام الطبري لا يتقيَّد بالقيود التي تمسَّك بها أهل الحديث بالنسبة إلى الرواة الضُّعفاء، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبيِّ وابنه هشام والواقدي وسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهم من الضُّعفاء المتَّهمين بالكذب والوضع في الحديث، فإنَّ ذلك يرجع إلى اتِّباعه منهجاً معلوماً عند علماء الحديث وغيرهم، حيث يذكرون ما يبلغهم ويسوقون سنده، فالصحيح يؤخذ وغير الصحيح يُعرف ويُردُّ وفق ضوابط الشريعة وقواعد الرواية..وهكذا ،لم يكن الإمام الطبري بذلك العمل مغفلاً أو جاهلاً عندما يورد مئات الروايات عن الضُّعفاء والمتروكين، لكنه يتبع منهجاً مرسوماً عند علماء الجرح والتعديل: لا يَلزم من إيراد أخبار المتروكين والضُّعفاء وتدوينها في كتاب من الكتب للاحتجاج بها كقولهم: "يُروى حديثُه ولا يُحتج به" و"يُذكر حديثُه للاعتبار"، "يُكتب حديثه للمعرفة"، "ولا يجوز الرِّواية عنه إلا للخواصِّ عند الاعتبار"، ولكون الإمام الطبريِّ من علماء الحديث فقد سار على هذا النَّهج في تاريخه، فهو ليس صاحبَ الأخبار التي يوردُها بل لها أصحابٌ آخرون أبرأ هو ذمَّته بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار، وأخبارهم ليست سواءً في قيمتها العلميَّة، ففيها الصَّحيح والضَّعيف الموضوع، تبعاً لصدق الرُّواة أو كذبهم ومنزلتهم من الأمانة والعدالة والتثبت، ولذلك ينبغي دراسة أسانيد ومتون الروايات وفق المقاييس المعتبرة عند العلماء للوقوف على مدى صحتها من عدمه. وبناءً على ذلك: لا يكفي في المنهج العلميِّ السليم الإحالةُ على تاريخ الإمام الطبري أو غيره من الكتب المسندة دون دراسة سند الرواية ومتنها، لأنَّ من أسند فقد برئ من العُهدة. ومما يُلاحظ أيضاً أن الطبري لم يُرد الاقتصار على المصادر الموثوق بها، بل أراد أن يُطْلعَ قارئهُ على مختلف وجهات النظر، فأخذ من مصادرَ أخرى قد لا يثق هو بأكثرها، إلا أنها تُفيد عند معارضتها بالأخبار القوية؛ فقد تكمَّل بعضُ ما فيها من نقص، أو تقوَّى الخبر باشتراكها مع المصادر الصَّحيحة في أصل الحادثة. فهذا كان منهجَ الإمام الطَّبريِّ في كتابة التاريخ، وأمَّا الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم أو لجهلهم بمنهج الإمام الطَّبريِّ ولا يتعرَّفون إلى رواتها ويكتفون بالإشارة في الحاشية إلى أنَّ الطبريَّ روى في صفحة كذا من جزء كذا.. ويظُنُّون أنَّ مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء قد يَظلمون الإمام الطبريَّ بذلك ويُسيئون إليه، وهو لا ذنبَ له بعد أن بَيَّنَ لقرائه مصادرَهُ، وعليهم معرفةُ نَزَعات وأحوال أصحاب هذه المصادر؛ ليعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار أصحابها. وهذا المنهج لا يمكن استعماله إلا عن طريق الإلمام بعلم الجرح والتعديل الذي يهتمُّ بفحص أحوال الرُّواة ويُبيِّن شروط الانتفاع بأخبارهم، كما ينبغي أيضاً مراعاة المقاييس التي وضعها العلماء في نقد متون الأخبار، وخصوصاً وضع الملامح العامة للمجتمع الإسلامي وطبيعته في الحسبان، ويُعتبر ذلك كلُّه من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي. محنتُه ووفاتُه: ![]() كان ابن جرير الطَّبريُّ من أكبر علماء الوقت، محبوبًا من الجميع، مُجمعًا على إمامته بين الناس، من رجالات الكمال، وكلُّها صفاتٌ حميدة وعظيمة تحتاج إليها الأمة، ولكنَّها عادة ما تجلب لصاحبها الكثيرَ من المتاعب مع الأقران والمتنافسين، والذين تسللت الغَيرة إلى قلوبهم تجاه أمثال هؤلاء الأعلام المحبوبين، وهذا هو عينُ ما وقع للإمام ابن جرير الطبري. كان المذهب الحنبليُّ هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن، وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، وأقبلوا على تعلُّم العلم وفقًا للمذهب الحنبليِّ، حتى أصبح الحنابلةُ أغلبيَّةً بأرض العراق، وكان رأسُ الحنابلة بالعراق الإمامَ أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السُّنن، وكانت بينه وبين الإمام ابن جرير الطبري مشاحناتٌ وخلافات، وكلاهما لا يُنصف الآخر، ووقع بينهما ما يقع بين الأقران في كلِّ عصر ومكان، ولو وقف الخلافُ بين الرجلين عند هذا الحدِّ لكان الأمر هيِّنًا يسيرًا، لتوافر أمثال هذه الخلافات في كل عصر، ولكن هذا الخلاف قد أخذ منحنىً جديدًا حتى تحوَّل إلى محنةٍ كبيرة للإمام ابن جرير الطَّبريِّ. ذلك أنَّ الحنابلة حزبَ أبي بكر بن أبي داود قد دفعهم التعصبُ المذهبيُّ المقيت لأن يُشنِّعوا على ابن جرير ويُشيعوا عليه الأكاذيب والأباطيل التي هو منها براء، بل هو مِن أبعد الناس عمَّا اتهموه به؛ ذلك أن الحنابلة قد أشاعوا على الإمام الطَّبري أنَّه من الروافض، ورمَوه بالتَّشيُّع والإماميَّة، وشغبوا عليه بشدة، وصدَّقهم كثيرٌ ممَّن لا عقول لهم إلا في آذانهم، وكان سببُ هذا الرَّواج وانتشارُ هذه الشَّناعات عدةُ أمور منها: 1ـ جَمْعُ ابن جرير الطبري لطرق حديث "غدير خم"، وذلك في أربعةِ أجزاءٍ باهرة تدل على سعة علمه ومرويَّاته، وهو الحديث الشهير: "من كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاهُ" وهو الحديث العُمدة عند جميعِ طوائف الشِّيعة، الَّذين يستدلون به على أحقِّيَّة عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شكَّ فيه، ولكن لا دلالةَ فيه على أحقِّيَّة عليٍّ -رضي الله عنه- في الخلافة، وتأويله يختلف بالكلية عما ذهب إليه الروافض الجهلة، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث؛ هو قيامُ أبي بكر بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، ومن باب الأمانة العلميَّة وليس من باب الميل للتَّشيُّع أو التأثر به قام الإمام الطبري بجمع طرق الحديث، وقد أقرَّ أبو بكر بن أبي داود بعد ذلك بصحَّة حديث الغدير. 2ـ الأمرُ الثاني، والذي كان سببًا لتصديق كثيرٍ من البسطاء والعامة لفرية تشيُّع الطبري، يرجع إلى وجود عالم من علماء الشِّيعة الإمامية يحمل نفس الاسم ونفس الكُنية، وهو أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، وكان من كبار الروافض، وقد صنَّف كتبًا كثيرة في ضلالات التَّشيُّع مثل كتاب "المسترشد في الإمامة" و"الرُّواة عن أهل البيت"، وقد أدى هذا التشابه العجيب لخلط الناس بين الرَّجلين، وشتَّان ما بينهما، ولقد أحسن الإمامُ الذهبي -رحمه الله- صنعًا عندما أورد ترجمة الطبريِّ الرَّافضيِّ مباشرةً خلف ترجمة جبل السنة ابن جرير الطبري، حتى لا يختلط الأمر على الناس، وللتَّمييز بين الرجلين. 3ـ الأمر الثَّالث هو قيام الإمام ابن جرير الطبري بتأليف كتابٍ ضخم في اختلاف العلماء، ولم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل، على أساس أنه من كبار المحدِّثين، فظنَّ الحنابلة أنَّ الطبريَّ قد تعمَّد ذلك للتقليل من شأن فقه الحنابلة، فشغبوا عليه، وأطلقوا بحقِّه العظائم والفظائع، ولعلَّ ذلك هو السبب الرئيس في محنة الطَّبريِّ واضطهاد الحنابلة له. ![]() هذه الأمور وغيرُها جعلت فصول المحنة تشتد، وتضيق حلقاتها على الإمام الطبري؛ فبعد هجمة شرسة من الشائعات الشنيعة والأباطيل والأكاذيب بحقِّ هذا العالم الجليل، قام الحنابلة بالتشويش على الطبريِّ في مجالسه، وتنفير الطلبة من مجالسه، ومع ذلك ظلَّ الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته. نقل الطبري دروسه إلى بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلوِّ والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إنَّ كلَّ طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يروُوا عنه شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن عليٍّ دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطَّبريِّ، وعندما علم أستاذُه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه حسنيك: "ليتك لم تكتب عن كلِّ من كتبت عنهم، وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلتِ الحنابلة بحقه". ظلَّ الطبري حبيسًا في بيته يُعاني من الاضطهاد الشَّديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصَّته، وكان قد جاوز الخامسة والثَّمانين وأنهكته السنون، ورحلاتُ طلب العلم في شتَّى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردُّهم شيء، لا مكانةٌ علميَّةٌ ولا كِبَرُ سنٍّ، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة محاصِرين لبيت الطبريِّ حتى حان وقتُ الرَّحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظلَّ الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة. وبلغت المحنةُ أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظلَّ الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحابَ الطبريِّ لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصَّلاة عليه حتى إنَّ الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا. ![]() رحل الطبريُّ عن دنيانا الفانية محاصرًا مظلومًا مضطهدًا من الجهلة والمتعصبين، وراح ضحية محنةٍ مقيتة، وإن كان خصومه قد نالوا من دنياه، فإنه ولا شك قد نال من آخرتهم، وقد رفع الله عز وجل ذكره بين الناس وقام له سوق الثناء والفضل والدعاء ولم ينفضَّ، في حين باء الجهلة والمتعصبون بالخسران والنكران في الدنيا والآخرة. المراجع والمصادر سير أعلام النُّبلاء، البداية والنِّهاية، الكامل في التَّاريخ، المنتظم، تذكرة الحفَّاظ، طبقات الشَّافعيَّة، وَفَيَات الأعيان، شذرات الذَّهب، النُّجوم الزاهرة، الإمام ابن جرير شيخ المفسرين للزحيلي، أخبار ابن جرير للقفطي ، التَّفسير والمفسرون للذَّهبيّ، منهجُ الطَّبريِّ في التَّاريخ أمحزون. ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة الإمام أبي حنيفة شريف عبدالعزيز الزهيري (7) ![]() بين يدي المحنة: من أهم الصفات والشمائل التي يجب أن يتحلى بها العلماء الربانيون في هذه الأمة هي صفة الإخلاص في طلب العلم وتعليمه ونشره بين الناس، وهي الصفة التي تجعل العالم لا يطلب بعلمه شيئًا من أمور الدنيا، ويبتغي وجه الله عز وجل في كل كبيرة وصغيرة من علمه وأقواله، وبالمقابل فإن من أبرز صفات علماء السوء: طلبهم الدنيا بالدين، ففي ظل غياب الإخلاص عن قلب العالم نجد البعض - ممن ينتسب إلى العلم - منغمسًا في الدنيا وشهواتها وملذاتها، ونجده يسترزق بعلمه، ويطلب به المناصب والضياع والأموال، ويتحصل من الدنيا بعلمه على أكبر نصيب، بل هو لم يسلك طريق العلم أصلا إلا لينال به من متاع الدنيا، وهذا في شأنه قال خير البرية عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَي بِهِ وَجْهَ الله، لا يَتَعَلَّمُهُ إلا ليُصِيبَ بهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ)) [صحيح الجامع 6159] . وصاحبنا الذي نتحدث عنه من الصنف الأول، من العلماء الربانيين الذي كانوا من أزهد الناس، وأتقاهم وأورعهم، من العلماء العاملين، الذين فروا من زخارف الدنيا، وفروا من المناصب، وكانت الدنيا تتزين لهم فيرفضوها، وتتعرض لهم فيطردوها، وتلاحقهم فيفروا منها كما يفر الواحد من الأسد، صاحبنا هذه المرة رفض الدنيا ومناصبها، وأبى أن يضع نفسه موضع الفتن والشبهات، وأبت عليه نفسه أن يكون مطية للسلاطين والحكام، وأصر على ذلك، حتى راح ضحية ثباته وإصراره على رفض المناصب والزخارف، فصار إمامًا من أعظم أئمة الإسلام: صاحبنا هو الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، ورحمه الله. التعريف به: ![]() هو الإمام المقدم، وفقيه الإسلام، وعالم العراق، وأستاذ مدرسة الرأي، والعَلَمُ العلاَّمة، والبحر الفهامة أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي الكوفي، ولم يكن أصلا من العرب، بل من أبناء الفرس، ومن موالي بني تيم الله بن ثعلبة. ولد أبو حنيفة سنة 80هـ بالكوفة: أي في حياة صغار الصحابة، ولكن لم يثبت له أيه رواية، ولو حرفًا واحدًا عن أحد منهم، طلب العلم صغيرًا، ولزم حلقة حماد بن أبي سليمان ثماني عشرة سنة، وقد آلى على نفسه ألا يفارق حمادًا حتى يموت، أو يستوفي منه كل علمه، ومع شدة ملازمته لحماد بن أبي سليمان، جلس لغيره من أئمة الزمان الأعلام: مثل عطاء بن أبي رباح عالم مكة وفقيهها، والشعبي عالم العراق، وعبد الرحمن بن هرمز عالم المدينة، ونافع مولى ابن عمر، وعلقمة والزهري محدث الزمان، ومحمد بن المنكدر، وهشام بن عروة، وغيرهم كثير، ولم يكن يأنف أن يروى، أو يطلب العلم من أحد، حتى ولو كان أصغر منه، حتى إنه قد روى عن شيبان النحوي وهو أصغر منه، وعن مالك بن أنس وهو كذلك أصغر منه، وهكذا شأن كل من طلب المعالي، وسلك سبيل الربانيين. ولما مات حماد بن أبي سليمان سنة 120هـ جلس أبو حنيفة مكانه في حلقة الدرس بجامع الكوفة، وكان وقتها في الأربعين من عمره، وقد بلغ حد الكمال العلمي والذهني، فتصدر وهو كهل، وكان تاجرًا يعمل في بيع الخز، فإذا قضى حاجته من التجارة جلس للعلم والتدريس والإفتاء، حتى فاق أهل زمانه جميعًا، وصار علمًا مقدمًا في الفقه وغيره، وقد أرسى دعائم مدرسته الرأي في الفقه الإسلامي، وصار أستاذ القياس الأول بلا منازع. خصاله: ![]() لم يكن الإخلاص وحده، أو الإعراض عن الدنيا ومناصبها وزخارفها هو أهم ما يميز الإمام أبو حنيفة، بل كان من رجالات الكمال في العلم والعمل، موصوفًا بكل فضل؛ فلقد كان عالـمًا عاملا، جمع بين العلم والعبادة، فكان يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد أغلب حياته، يطيل الصلاة جدًا مع الخشوع والسكينة، حتى لقب بالوتد لطول صلاته، وكان ممن قرأ القرآن كله في ركعة كما فعل ذلك من قبل ذو النورين عثمان رضي الله عنه، وكان يحيي ليله كله تضرعًا ودعاءً، وقد تواتر هذا الأمر عند أهل زمانه جميعًا، أما عن مجالسه فلقد كان حليمًا وقورًا، هيوبًا، لا يتكلم إلا جوابًا، ولا يخوض رحمه الله فيما لا يعنيه، كافًا لسانه عن النيل من خصومه الذين كانوا يطيلون الكلام فيه بسبب الرأي، معرضًا عن زلات الآخرين، لا يجاري أحدًا فيما لا ينفع ولا يغني، وقد جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، يكثر من الإنفاق على إخوانه وتلاميذه، بل وأهالي تلاميذه. وكان أبو حنيفة ورعًا تقيًا، متحرزًا من مواطن الشبهة والمظنة، ولعل هذا الورع الذي أورثه محنته التي قضى فيها رحمه الله، ولقد قال له رجل يومًا: اتق الله، فانتفض واصفَّر وأطرق، وقال: جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا. ثناء الناس عليه: ![]() يعتبر أبو حنيفة الإمام الأول في ترتيب الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبوعة، والتي ظلت قائمة حتى وقتنا الحاضر، وإلى أن يشاء الله عز وجل؛ لذلك لقبوه بالإمام الأكبر والأعظم، ورغم وجود علماء فحول في زمانه وقبله، ربما يفوقونه علمًا ورواية إلا أنه قد استطاع أن يرسى دعائم مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي، ويكون مذهبًا معروفًا، له أصول وضوابطه وأحكامه وتلاميذه، وإن كان الفضل في انتشار مذهبه يرجع إلى مجهودات تلميذه الأول القاضي أبي يوسف، أما عن ثناء الناس عليه فكثير، يخرج عن حد الحصر، وهذه طائفة من كلامهم: • قال ابن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس، وما رأيت رجلا أوقر في مجلسه، ولا أحسن صمتًا وحلمًا من أبي حنيفة. • قال الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. • قال الإمام مالك: رأيت رجلا - يعني أبا حنيفة - لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته. • قيل للقاسم بن معن: ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة؟ قال: ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة. • قال تلميذه أبو يوسف: كان أبو حنيفة ربعة، من أحسن الناس صورة، وأبلغهم نطقًا، وأعذبهم نغمة، وأبينهم عما في نفسه. • قال شريك: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير العقل. • قال يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة. • قال أبو معاوية الضرير: حب أبي حنيفة من السنة. ![]() • قال الذهبي: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام (يعني أبا حنيفة). • قال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأى أبي حنيفة، وقد أخذنا أكثر أقواله. • قال علي بن عاصم: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم. • قال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، ولا يعيبه إلا جاهل. • سئل ابن المبارك يومًا: مالك أفقه أو أبو حنيفة؟ قال: أبو حنيفة أفقه الناس. • وسئل الأعمش عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت الخزاز، وأظنه بورك له في علمه. • والآثار الواردة في فضله ومكانته العلمية وثناء الناس عليه كثيرة جدًّا، لا يتسع المقام هنا لسردها، واكتفينا بما ذكرناه للتدليل على مكانة الإمام. محنته: ![]() • الإمام أبو حنيفة عاصر عهدين مختلفين ومتتابعين في حياة الأمة الإسلامية: العهد الأول عهد الدولة الأموية المجاهدة، وفيه وُلد الإمام، ونشأ وترعرع، وتعلم ودرس، وطاف البلاد، وجالس العلماء الكبار، وفيه أيضًا بلغ حد الإمامة والتصدر، وصار له تلاميذ وأتباع، وأصبح من جملة علماء الأمة الكبار والمعروفين، والذين يرجع إلى رأيهم، ويفزع إلى علمهم وقت النوازل والمحن. أما العهد الثاني فهو عهد الدولة العباسية، التي قامت على أشلاء الدولة الأموية، والتي سفكت الكثير والكثير من الدماء من أجل إزاحة الأمويين، وكشأن أية دولة تقوم قسرًا على أنقاض سابقتها، شهدت الدولة العباسية في بداية عهدها العديد من الثورات الكبيرة ضدها من أولياء الدولة السابقة، أو من الناقمين على أسلوب وطريقة قيام وحكم الدولة الجديدة. • وفي هذا الجو المتوتر، والمليء بالفتن والاضطرابات تجد الشائعات البيئة الخصبة للرواج والانتشار، ويجد الوشاة والحاقدون والحاسدون الآذان المصغية لأكاذيبهم وافتراءاتهم، ومن هنا كانت محنة الإمام أبي حنيفة رحمه الله. • فعندما اندلعت ثورة النفس الزكية سنة 145هـ بقيادة أخوين من آل البيت: هما محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن، استطاعت هذه الحركة أن تسيطر على المدينة والبصرة والكوفة، وأجزاء من الدولة العباسية، وكانت هذه الثورة من أشد و أقوى الثورات التي قامت على الدولة العباسية أيام الخليفة أبي جعفر المنصور، والذي بذل مجهودات ضخمة من أجل القضاء عليها، وخلال هذه الثورة راج بين الناس أن الإمام أبا حنيفة بالعراق والإمام مالك بالمدينة يؤيدان هذه الثورة، وكان الإمامان من أكبر علماء العصر وقتها، فلما انتهت الثورة انتهز الوشاة والحاقدون الأمر، وأخذوا في تأليب الخليفة المنصور على العالمين الجليلين، وقد مر بنا أثناء الكلام على محنة الإمام مالك تفاصيل ما جرى له، أما ما جرى مع الإمام أبي حنيفة أشد وأقسى جرمًا. • فلقد كان الإمام أبو حنيفة - كما ذكرنا من قبل- عازفًا عن المناصب الدنيوية، وخاصة المناصب التي يكون صاحبها قريبًا من السلطة الحاكمة، وخاضعًا لتأثيراتها وضغوطها، لما يعلمه من حجم المخالفات التي سيقع فيها صاحب المنصب من أجل إرضاء السلطة الحاكمة: إما رهبة، وإما رغبة، لذلك لما عرض ابن هبيرة والي العراق في أيام الخليفة الأموي يزيد بن الوليد - الملقب بالناقص - على الإمام أبي حنيفة منصب القضاء بالكوفة رفض أبو حنيفة بشدة؛ فهدده ابن هبيرة بالضرب والحبس، ومع ذلك أصر أبو حنيفة على الرفض، فما كان من ابن هبيرة إلا أن ضربه وجلده؛ فلم يُزِدْ ذلك الضرب أبا حنيفة إلا إصرارًا على الرفض، وعندما تركه ابن هبيرة، وعين آخر مكانه أدت هذه الحادثة لارتفاع مكانة أبي حنيفة بين الناس، وعلا شأنه بين علماء الزمان. ![]() • ولما انتهى الخليفة أبو جعفر المنصور من ثورة النفس الزكية، وفعل ما فعله مع الإمام مالك في المدينة، التفت لمن حامت عليهم الشائعات، ودارت حولهم الأقاويل في اشتراكهم في ثورة النفس الزكية، أو حتى في تأييدهم لها، وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حنيفة، فطلبه إلى بغداد، فحُمِلَ الإمام إلى هناك، وفي مجلس الخليفة المنصور، دعا المنصور أبا حنيفة إلى منصب القضاء - وهو يعلم علم اليقين أن الإمام سيرفض تمامًا - كما فعل من قبل مع الأمويين وواليهم ابن هبيرة، وإنما أراد المنصور بهذا العرض أن يختبر مدى طاعة وولاء أبي حنيفة للدولة العباسية، وفي مجلس المنصور دار الحوار الفريد بين الخليفة المستبد، والإمام الكبير: فعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع، فقال المنصور: أترغب عما نحن فيه؟ [أي يشكك في طاعة الإمام للدولة]. فقال أبو حنيفة: لا أصلح. فقال المنصور وقد احتد: كذبت. فقال أبو حنيفة: فقد حكم أمير المؤمنين على أني لا أصلح!! ثم استخدم أبو حنيفة مهارته الفائقة في الإقناع والقياس فقال: فإن كنت كاذبًا فلا أصلح [يعني لكذبه]، وإن كنت صادقًا، فقد أخبرتكم أني لا أصلح. وعندها غضب أبو جعفر المنصور بشدة، وأقسم بأغلظ الأيمان ليلينَّ الإمام منصب القضاء، وكان من الطبيعي أمام هذا الغضب، وهذه الأيمان المغلظة، وسطوة الخلافة أن يرضخ أبو حنيفة لكل هذه الضغوط ويوافق، ولكن أبا حنيفة العالم الرباني، الذي لا يبالي إلا بسخط الله عز وجل وحده وغضبه، والذي يعلم عواقب أمثال هذه المناصب المشروطة يرد على الخليفة المنصور قسمه بقسم أغلظ، ويمين أوكد، ويقسم أبو حنيفة ألا يلي هذا المنصب الخطير، ومع قوة رد الإمام لم يستطع الخليفة المنصور أن يرد، وعندها يتدخل الربيع حاجب الخليفة المنصور في الحوار لعله يستطيع إثناء أبي حنيفة عن رأيه، ويقول للإمام أبي حنيفة مهددًا: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف؟ فرد أبو حنيفة بهدوئه ووقاره وفطنته المعهودة: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، وهو بذلك يؤكد على إصراره، ورفضه لمنصب القضاء، وأنه مهما كانت الضغوط، ومهما كانت شخصية صاحب هذه الضغوط وسطوته فلن يرضخ الإمام. • عندها قرر الخليفة المنصور أن يُصعد ضغوطه على الإمام؛ فخيره بين قبول القضاء أو السجن، وكأنا بالخليفة المنصور قد تأكدت عنده الشائعات التي راجت حول دعم أبي حنيفة لثورة النفس الزكية، وأراد أن ينكل بالإمام ويؤدبه بشدة كما حدث مع الإمام مالك؛ فأصر أبو حنيفة على الرفض، ولسان حاله يقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، فأمر المنصور بضربه أولا، ثم حملوه في القيود إلى سجن بغداد. ![]() • وفي السجن المظلم عانى الإمام أبو حنيفة من التضييق والتشديد، وأيضًا من التهديد بالقتل يومًا بعد يوم، وقد أمر الخليفة المنصور بالتشديد على الإمام، وكان وقتها على مشارف السبعين، وقد وهن جسده، وحطمته دروس العلم، وسؤالات الناس، ومع ذلك لم يتراجع أبو حنيفة عن قراره، ولم تلن عزيمته قيد أنملة، ولكن إن صمد قلبه وروحه وعزيمته وإيمانه أمام كل هذه الضغوط فإن الجسد الواهن لم يصمد كثيرًا؛ فتوفي الإمام أبو حنيفة في سجنه في رجب سنة 150هـ، وصعدت روحه إلى بارئها وهي في قيود السلطان لتخاصمه يوم القيامة أمام المحكمة الإلهية يوم لا ينفع مال ولا بنون، وقد قيل: إن المنصور قد دس على الإمام أبي حنيفة من وضع له السم في السجن، وإن صح الكلام فقد توفى الرجل شهيدًا تقيًا، صابرًا محتسبًا، والله أعلم بما كان، وما سيكون. • العجيب في هذه المحنة التي تعرض لها الإمام أنها كانت بسبب فرار الإمام من الدنيا ومن المناصب، وإننا لنعجب من حال هذا الإمام الرباني، الذي أقبلت عليه الدنيا بزخارفها، والمناصب تعرض عليه، ويهدد بكل وسيلة من أجل أن يكون من أصحاب المناصب العليا، ولكنه يرفض، ويؤثر الضرب والسجن، ثم الموت على أن يكون من الدنيا وأهلها، ونحن الآن نرى من ينتسب للعلم يتهافت على الدنيا والمناصب، ويلهث وراء الدنيا، ولا يبالي بأي شيء من أجلها، وهؤلاء عادة ما يكونون مطية للسلاطين والحكام، وهم بذلك أسوأ مثال للعلم والعلماء، وهذا هو الفرق بين العلماء الربانيين، والعلماء الدنيويين. المصادر والمراجع • سير أعلام النبلاء: (6/ 390). • تاريخ بغداد: (13/ 323). • البداية والنهاية: (9/ 115). • الكامل في التاريخ: (5/ 192). • وفيات الأعيان: (5/ 415). • تذكرة الحفاظ: (1/ 227). • النجوم الزاهرة: (2/ 12). • تراجم أعلام السلف: (147). كتاب: ترويض المحن – دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م. ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة الإمام مالك بن أنس شريف عبدالعزيز الزهيري (8) ![]() بين يدي المحنة: هذه المحنة - مثلما سنذكر في حديثنا عن محنة الإمام البخاري رحمه الله - محنة قديمة جديدة، حيث ما زالت أمثالها وأضرابها تقع كل يوم، ولا يخلو منها عصر ولا جيل، وقل من يسلم من التلوث بأدرانها، ومحنة الإمام مالك - وإن كانت تختلف في فصولها عن محنة الإمام البخاري، إلا أنها أيضاً محنة قديمة جديدة، وما زالت تقع كل عصر وجيل، ولكن بأسماء ومواقف مختلفة، فمحنة الإمام مالك تتعلق بالدور المنوط لعلماء الأمة في بيان الحق، وتعليم العلم، وإرشاد الناس، خاصة وقت النوازل، والصبر على المكاره، واحتمال المشاق والصعاب من أجل إظهار العلم وعدم كتمانه في ظل تهديدات السلطة الحاكمة، وطلبها الدائم بكتمان هذا العلم ![]() الذي قد يمثل إحراجًا وضغطًا على هذه السلطة، كما أن للحسد والحقد دور بارز في أحداث المحنة التي تعرض لها الإمام مالك رحمه الله، وهذه هي أحداث وفصول هذه المحنة الأليمة. نشأة الإمام مالك ومكانته: • كان مولد الإمام مالك بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهي مهبط الوحي، ودار الهجرة، ومعدن الرسالة، وفيها ظهر الحق، وقامت الدولة، ورفع منار الدين وانتشر، ومنها فتحت البلاد، وتواصلت الأجداد، وبها مثوى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيها البقيع: حيث رقد معظم أصحابه، والأخيار من المهاجرين الأولين، والأنصار المباركين، وفي المدينة كان الحق ناصعًا، والدين خالصًا، وعلى أنقابها ملائكة تحرسها حتى لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وفيها الفقهاء السبعة المشهورين، ولم يزل الدين بها قائمًا، والسنة معلومة، والعلماء متوافرون، وفي هذه البيئة الإيمانية ![]() والعلمية الخالصة ولد الإمام مالك، ونشأ وشب وترعرع، وبين جنباتها شق طريقه نحو حلق العلم والحديث، وجلس لأساطين العلم وقتها، وكان مالك غلامًا عاقلا، حافظًا ثبتًا، ضابطًا متقنًا برًا تقيًا، وقد جلس لابن هرمز عالم المدينة سبع سنين كاملة تأثر خلالها مالك بأستاذه ابن هرمز كل التأثر، ثم جلس لربيعة الرأي، ونافع مولى ابن عمر، وحمل عنه ثمانين حديثًا، وعرفت روايته عنه - مالك عن نافع عن ابن عمر - بالسلسلة الذهبية، ودار مالك على علماء زمانه، وسمع منهم، وما زال مالك يرتقي في سلم العلم حتى درج إلى عليائه، وصار إمام دار الهجرة، وعلمها المقدم، تضرب إليه أكباد الإبل من أقصى الأرض لسماع علمه، ونقل فتاواه ومسائله وآراءه، وحمل كثير من العلماء الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الإِبلِ يَطْلُبُونَ العِلْمَ فَلا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمُ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ )) على الإمام مالك؛ حيث إنه لم يغادر المدينة أبدًا إلا للحج، وهو الذي كانت تأتيه طلاب العلم من كل مكان، وهو في المدينة لا يخرج منها، بل حاول عدة خلفاء من بني العباس: كالمهدي والرشيد إقناعه بالإقامة في بغداد، وهو يأبى عليهم، ولا يرى غير المدينة قصرًا ومقرًا. وقد أثنى عليه كبار الأئمة: مثل الشافعي الذي كان يصف الإمام مالك بالنجم الثاقب، وقال عنه: لم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم: لحفظه، وإتقانه، وصيانته، وقد جعلت مالكًا حجة بيني وبين الله عز وجل. وقال عنه أحمد بن حنبل: القلب يسكن إلى حديثه، وإلى فتواه، حقيق أن يسكن إليه، مالك عندنا حجة لأنه شديد الاتباع للآثار التي تصح عنده. وقال عنه الليث بن سعد - وهو قرينه ونظيره في العلم، ولكنه لم يجد من يحمل عنه علمه - قال عنه: والله ما على وجه الأرض أحب إليَّ مالك، وعلم مالك علم نقي، ومالك أمان لمن أخذ به من الأنام. ![]() وكان للإمام مالك منزلة رهيبة عند الناس تعدل، بل تفوق منزلة الخلفاء والأمراء والولاة، وكان مجلس درسه تحدوه السكينة والوقار والمهابة، لا يجرؤ فيه أحد على لغو أو لغط، وإذا سأل سائل فأجابه لم يسأل عن الدليل، ولا يطالب ببرهان، ولا يملك أحد أن يراجعه في جواب، حتى دخل على مجلسه يومًا أحد طلاب العلم الوافدين لسماع حديثه؛ فوحد مجلسًا عامرًا بالهيبة والسكينة، يعلوه الوقار فأنشد قائلا: يدع الجواب فلا يراجع هيبة ![]() والسائلون نواكس الأذقانِ ![]() أدب الوقار وعزُّ سلطان التقى ![]() فهو المطاعُ وليس ذا سلطانِ! ![]() محنة الإمام مالك: ولد مالك سنة 93، ومات سنة 179هـ: أي أنه أدرك بهذا العمر الطويل المبارك الدولتين الإسلاميتين: الأموية والعباسية، والتي كانت كل واحدة منهما تحكم باسم الخلافة، بينما الواقع أن كليهما كان مُلكًا عضوضًا، يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويعضون عليه بالنواجذ، وهذه الطريقة في الحكم كان لها كثير من المعارضين والمخالفين، بعضهم بلسانه وقلمه، والآخر بسيفه وترسه، وهذه المعارضة الأخيرة - يعني المسلحة - ![]() أخذت تتنامى شيئًا فشيئًا حتى قامت المعارضة العباسية بقلب الدولة الأموية، وإقامة دولتها مكانها؛ وذلك بعد ويلات وأهوال وشدائد ودماء مئات الآلاف التي تخضبت بها أرض خراسان والعراق والشام، وإن بقيت الحجاز بمنأى عن هذه الأحداث الملتهبة؛ فهي مستكينة، وتبع لمن غلب منذ أحداث الحرة الأليمة سنة 61هـ، هذه الأحداث المتلاحقة جعلت العباسيون يشتدون مع معارضيهم، حتى أنسوا الناس معنى العفو والصفح، فأدنى محاولة للخروج، أو التلويح به، أو حتى مجرد التلميح بالقول أو الفعل كان بنو العباس يقمعونها بمنتهى الشدة، ويأخذون البريء بالمذنب، والقاعد بالساعي، والبعيد بالقريب. وبسبب هذه المضار والمفاسد العظيمة المترتبة على الخروج على الحكام لم ير مالك الخروج عليهم، وإن كانوا ظالمين وجائرين، هو مع ذلك لم يكن مداهنًا لخليفة ولا أمير، أو يكتم العلم من أجلهم، بل يلتزم معهم الحياد، فهو وإن كان يلزم الجماعة والطاعة، لا يرى أن سياسة السلطان في عصره هي الحق الصراح الذي يتفق مع أحكام الإسلام، وهدى القرآن، بل يرضى بالطاعة لأن فيها إصلاحًا نسبيًا؛ فكانت طريقته في الإصلاح حسب ما ارتآه ألا يناصر أحدًا عند الفتن، ورغم ذلك، ورغم كره الإمام مالك للثورات والتحريض عليها إلا إنه لم يسلم من آذاها. فبعد أن ارتفعت مكانة ومنزلة الإمام مالك عند الخاصة والعامة، حتى جلس الخلفاء بين يديه، وقرأ الأمراء له، وأخذ الخلفاء بمشورته، وصدع الناس لما أمرهم به حسده على ذلك بعض أهل العلم ممن يؤثرون الدنيا، ويسعون إليها، ووشوا به عند أمير المدينة جعفر بن سليمان في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور؛ وذلك سنة 147هـ، وكانت التهمة: أن مالكًا لا يرى أيمان البيعة للخلافة هذه بشيء. ولكن هل قال مالك ذلك حقًّا؟ ![]() إن الذي أفتى به الإمام مالك رحمه الله أن يمين المكره لا تلزمه، وذلك عملا بالحديث الموقوف على ابن عباس: ليس لمكره، ولا لمضطهد طلاق؛ وهو صحيح عن ابن عباس، ولا يصح رفعه، وقد علقه البخاري في كتاب الطلاق، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: ليس على مستكره طلاق، ولم يكن سبب المحنة هو التحديث بهذا الحديث وحده، ولكن التحديث به وقت الفتن، واستخدام الثائرين لذلك الحديث، ولمكانة الإمام مالك العلمية تحريضًا الناس على الخروج على الخليفة؛ فلما بلغ الأمر السلطة الحاكمة أمر أبو جعفر المنصور الإمام مالكًا ألا يحدث الناس بهذا الحديث، وبهذه الفتوى، ونهاه عن ذلك بشدة، فلم يستجب مالك رحمه الله لهذه الضغوط، ولم يسكت؛ فقد كان يرى في السكون عنه كتمانًا للعلم الذي استودعه إياه الله عز وجل، وقد نهى الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن كتمان العلم، وتوعدا فاعلة بالنار. ولعلم أبي جعفر المنصور أن الإمام مالك لن يسكت عن نشر العلم أمر واليه على المدينة: جعفرًا بن سليمان أن يدس على مالك من يسأله عن هذا الحديث على رءوس الناس، وبالفعل أجاب مالك على المسألة، وروى حديث ابن عباس، وعندها أرسل جعفر بن سليمان من قبض على الإمام مالك، واحتج عليه بما رفع إليه عنه، فلم ينكر الإمام، ولم يخش في الله عز وجل لومة لائم، فأمر جعفر بتجريده من ملابسه، وضربه بالسياط، وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه، وعذبه عذابًا شديدًا، وأهانه، وتعمد إسقاط هيبته ومنزلته بكل هذه الإساءات، ولكن الله عز وجل قد رفع قدر مالك بعد هذه المحنة، وازداد رفعة بين العالمين، وهذه ثمرة المحنة المحمودة؛ فإنها ترفع صاحبها عند المؤمنين. عندما علم أهل المدينة بما جرى للإمام مالك اشتد سخطهم على الوالي، وتطاولوا عليه، بل وعلى الخليفة نفسه، خاصة وأن مالكًا قد أصيب في هذه المحنة بعجز كبير في ذراعه: بحيث لم يقدر بعدها على رفعها إلا ![]() بمساعدة ذراعه الأخرى، وقد جلس في بيته، وشعر الخليفة أبو جعفر المنصور بمرارة ما فعل؛ فأرسل إلى الإمام مالك يعتذر إليه، ويتنصل مما فعله واليه، ولما جاء أبو جعفر إلى الحجاز حاجًا أرسل إلى مالك، واجتمع معه، وبالغ له في الاعتذار؛ وذلك كله لتطييب خاطر العامة أولا، ثم الإمام ثانيًا، وإلا فجميع ما وقع بعلمه وبأمره. والله أعلم. في هذه المحنة اختلفت النظرة إلى الحديث بين الإمام مالك العالم التقي الرباني، قدوة الناس وفقيههم، ومرشدهم عند النوازل والحاجات، والذي يمثل طبقة العلماء، وبين الحكام الذين يمثلون طبقة أولى الأمر، التي لها حق السمع والطاعة، فرأى مالك في إذاعة الحديث نشرًا للعلم، وتبصيرًا للناس، فلم يكتمه إرضاء للحكام، ولا لأي سبب مهما كان. ورأى الحكام في إذاعته تحريضًا على الفتنة والثورة؛ لأن فيه بيانًا ببطلان بيعة الخليفة، وصادف ذلك خروج محمد بن عبد الله بن حسن العلوي الملقب بالنفس الزكية على المنصور، ومطالبته بالخلافة لنفسه، وكان في المدينة، وذلك سنة 146هـ. ومهما يكن من مبررات الخليفة، والتي ساقها من أجل منع الإمام من التحديث يبقى ثبات الإمام مالك، وجهره بالحق، وصبره على الضرب والتجريد والإهانة علامة فارقة في حياة الإمام؛ إذ ضرب لعلماء الأمة كلهم مثالا يحتذى به في الصبر والثبات نسج على منواله الأئمة من بعده: مثل الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ممن ابتلوا في ذات الله، وصبروا على الحق، وجهروا بالعلم، ورفعهم الله عز وجل بذلك لأعلى الدرجات بين العالمين. ![]() ============================== المصادر والمراجع: • سير أعلام النبلاء: (8/ 48). • البداية والنهاية: (10/ 188). • الكامل في التاريخ: (5/ 306). • تذكرة الحفاظ: (1/ 207). • الديباج المذهب: (1/ 55). ![]() • النجوم الزاهرة: (2/ 97). • شذرات الذهب: (2/ 12). • وفيات الأعيان: (4/ 135). • صفة الصفوة: (1/ 396) • الإمام مالك بن أنس: إمام دار الهجرة - لعبد الغني الذقر. • تراجم أعلام السلف: (223). • الإمام مالك: حياته وآراءه وفقهه - الدكتور/ محمود عبد المتجلي. راجع كتاب: ترويض المحن - دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام سعيد بن المسيب وعبد الملك بن مروان شريف عبدالعزيز الزهيري (9) ![]() بين يدي المحنة: العلماء ورثة الأنبياء، قائمون في الأمة مقامهم، مضطلعون بدورهم، والجماهير دائمًا تتطلع إليهم، وعيونهم معلقة بهم، خاصة وقت الأزمات والنوازل، وكلما كان العالم الرباني منظورًا إليه، مقتدى به، كانت التبعة أعظم، والمحنة أشد، فالعالم الرباني هو رجل الأمة ودليل العامة، ودرع الحق والشرع الذي يحمي بيضة الدين، ويذب عن حياضه، وبثباته على الحق يثبت الكثيرون، وبتهاونه يضيع أيضًا الكثيرون، لذلك ما من عالم رباني قام في الأمة إلا تعرض لكثير من المحن والابتلاءات، وهذه محنة واحد من سادتهم وأكابرهم. التعريف به: • هو سيد التابعين، وقدوة السلف، فقيه الفقهاء السبعة، جبل العلم، وآية الحفظ، الشيخ الكامل، والعالم العامل، الزاهد العابد، الإمام العلامة أبو محمد سعيد بن المسيب بن حرب بن أبي وهب بن عمرو القرشي المخزومي المدني. • ولد في أواخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، ورغم نسبه القرشي في أعرق بطونها إلا أنه نشأ بالمدينة، وترعرع وظل بها طوال حياته لم يفارقها أبدًا إلا لحج، أو عمرة، أو جهاد، وكانت المدينة وقتها درة الأمصار الإسلامية، بها ثلة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضوان الله عليهم، فاستغنى سعيد بن المسيب بالمدينة عن غيرها، وانقطع لمن بها من الصحابة، ![]() فجلس إلى أعلامهم، ونهل من علومهم، وأخذ أيضًا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، من شدة اهتمامه بالعلم، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحبه الصحابة جميعًا، وأثنوا عليه، وزوَّجه أبو هريرة رضي الله عنه من ابنته، واصطفاه بالرعاية والعناية، وحمل سعيد بن المسيب حديث أبي هريرة كله، وهو الأكثر رواية من بين الصحابة، كما اختص سعيد بن المسيب حديث بابن عمر رضي الله عنهما، وحمل عنه علم أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، خاصة أقضيته الشهيرة، حتى برع فيها، وصار الناس يسألونه عنها في حياة ابن عمر. • كان سعيد بن المسيب إمامًا من كبار علماء الأمة، وممن جمع بين العلم والعمل، فلقد كان عابدًا ورعًا تقيًا، مشهورًا بالمحافظة على صلاة الجماعة بالصف الأول وتكبيرة الإحرام، حتى قال عن نفسه: ما أذن المؤذن من ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة، حتى إن الطاغية مسلم بن عقبة المري لما استولى على المدينة سنة 63هـ في موقعة الحرة منع الناس من الصلاة في المسجد النبوي؛ فخاف الجميع منه ما عدا سعيد بن المسيب، الذي رفض أن يخرج من المسجد النبوي؛ أو يترك صلاة الجماعة، وكان أيضًا مشهورًا بسرد الصوم، وقيام الليل، وكثرة الذكر، والزهد الشديد، حتى قال عن نفسه: ما أظلني بيت بالمدينة بعد منزلي، إلا أن آتي ابنة لي، فأسلم عليها أحيانًا، وقد زوَّج ابنته تلك بثلاثة دراهم لتلميذه كثير من أبي وداعة وأثره على الخليفة الوليد بن عبد الملك. ثناء الناس عليه: ![]() • الإمام سعيد بن المسيب رضي الله عنه ورحمه الله ليس مشهورا عند جمهور المسلمين، إلا أنه من أئمة المسلمين وسادتهم، ومن أعلامهم الكبار، الذين شهد لهم أهل العلم، وأنزلوه منازلهم، وعرفوا قدرهم، وهذه بعض أقوال أهل العلم في الإمام سعيد بن المسيب: • قال مكحول الدمشقي: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أحدًا أعلم من سعيد بن المسيب. • قال الزهري: جالسته سبع حجج، وأنا لا أظن عند أحد علمًا غيره. • قال يحيى بن حبان: كان رأس المدينة في دهره: المقدم عليه في الفتوى ويقال: فقيه الفقهاء. • قال قتادة: ما رأيت أحدًا أعلم بالحلال والحرام من سعيد بن المسيب. • سئل القاسم بن محمد؛ وهو أحد فقهاء المدينة السبعة عن مسألة فقال للسائل: أسألت أحدًا غيري؟ قال نعم: عروة، وفلانًا، وسعيدًا بن المسيب، فقال: أطع ابن المسيب؛ فإنه سيدنا وعالمنا. ![]() • قال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، هو عندي أجل التابعين. • قال أبو زرعة: مدني قرشي ثقة إمام. • قال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل من سعيد بن المسيب، وهو أثبتهم في أبي هريرة. • قال أبو علي بن حسين: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفقههم في رأيه. وقد اتفق أهل العلم على قبول مرسلات سعيد بن المسيب، والحكم عليها بالصحة وتقديمها على سائر مرسلات التابعين، ومرسلات سعيد لها حكم الموصول والمرفوع. محنته: • لقد كان الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله من سادات التابعين، وعلم من أعلام المسلمين، ممن كمل حاله، وجمع الله عز وجل فيه خصال الخير كله من العلم والعمل، فقد كان بحق عالـمًا عاملا، لا يخاف في الله لومة لائم، صادعًا بالحق، أمَّارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا يهاب خليفة ولا أميرًا، مجافيًا لأبوابهم، معتزًا بعلمه، وصائنًا لعرضه، شديد الانتقاد لأي مظهر من مظاهر ![]() الخروج على الشرع والحق، ومن كانت هذه خصاله فحرى به أن يمتحن، ويتعرض لمحن تلو الأخرى، ومع ذلك لا ينال البلاء من عزيمته، ولا تلين المحنة شيئًا من صلابته في الحق، حتى إن الحجاج الثقفي على جبروته وطغيانه كان يهاب الإمام سعيد، لا يجرؤ على تحريكه، أو حتى مخاطبته. محنة الإمام سعيد مع بني مروان: • عاصر الإمام سعيد بن المسيب عهد الخلفاء الراشدين عثمان وعلي رضي الله عنهما، ومن بعدهم معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وجالس الصحابة وعاشرهم، ونال من علومهم، ثم رأى بعد ذلك تبدل الأحوال، وتغير الناس، ورأى الاقتتال على الملك؛ فلم يرض عن سياسة بني مروان، فآلى على نفسه ألا يسكت على ظلم يراه، ومنكر يظهر، ورفض أن يأخذ عطاءه من بيت المال، واستغنى عن ذلك كله، وكان يقول: لا حاجة لي فيها، حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان. • كانت أول محنة مع الظالمين سنة 63هـ عندما وقعت فاجعة الحرة بأهل المدينة، وانتهك جيش يزيد بن معاوية بقيادة مسلم بن عقبة المري حرمة المدينة، وأخذ الطاغية مسلم بن عقبة المري في استعراض الناس على السيف، فقتل منهم المئات، وأحضر الإمام سعيد بن المسيب بين يديه، فقال له: بايع، فقال سعيد: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فغضب الطاغية من ذلك، لأن الطغاة ![]() على مر العصور تؤرقهم وتقض مضاجعهم سيرة العمرين، وأخبار العدل والإحسان في عهدهما، فغضب الطاغية، وأمر بضرب عنقه، فقام أحد أعيان المدينة وشهد أن الإمام سعيد مجنون لا يقبل منه، فأعرض عنه الطاغية وتركه. • ولما استوثق الأمر لابن الزبير سنة 64هـ أرسل جابرًا بن الأسود واليًا من طرفه على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا حتى يجتمع الناس - يقصد في جميع الأمصار - فضربه ستين سوطًا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه ويقول: مالنا ولسعيد. • وفي سنة 84هـ توفي عبد العزيز بن مروان بمصر، وكان ولي عهد الخليفة، ولما طلب من سعيد المبايعة رفض بشدة لعدم صلاحية الوليد للولاية - بحسب رأي الإمام سعيد - فقام والي المدينة هشام بن المغيرة بجلد الإمام سعيد في محضر عام من الناس، وقام بتشهيره على حمار، وقد ألبسوه ثوبًا من شعر، وطافوا به في المدينة، ثم ردوه إلى السجن، وكان الإمام وقتها قد جاوز الستين سنة، ومع ذلك لم يعط بيعته، وصمم على رأيه، ولو هددوه بالقتل ما تغير موقفه أبدًا. • وبعد أن ضربوه وشهروه وحبسوه، منعوه من إلقاء الدروس بالمسجد النبوي، ومنعوا أحدًا من الجلوس إليه، فكان الإمام العَلَم الذي يفتقر الناس إلى علمه، أفقه فقهاء المدينة، والمعول عليه عند ![]() نوازل الأمور يجلس وحيدًا في المسجد، لا يجرؤ أحد على مجالسته، وكان هو يشفق على الغرباء أن ينالهم أذى إذا طلبوا الحديث معه، فيقول لمن جاءه: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني. • ولما تولى الخلافة الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ بزيارة المدينة، ودخل المسجد النبوي فوجد حلقة علم سعيد بن المسيب، فأرسل يطلبه فرفض الإمام سعيد بعزة العالم، واستعلاء المؤمن الحق أن يفض درس علمه ويذهب للخليفة، فغضب الوليد بشدة وهم بقتله، وكان الوليد يبغض الإمام سعيد بن المسيب بوجه خاص لسببين: أولهما رفض سعيد مبايعته بولاية العهد من قبل، ثانيهما رفض سعيد طلب خطبة الوليد لابنته التي زوجها على ثلاثة دراهم لتلميذه كثير بن أبي وداعة، ولما رأى الناس عزم الوليد على الفتك بالإمام سعيد قالوا له: يا أمير المؤمنين فقيه المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، وأخذوا في تهدئته حتى صرفوه عنه. • وعلى الرغم من كثرة المحن التي تعرض الإمام سعيد أيام الأمويين إلا إنه كان يرفض الخروج عليهم، أو حتى الدعاء عليهم؛ فلقد قال له رجل من آل عمر بن الخطاب: ادع على بني أمية، قال سعيد: اللهم أعزَّ دينك، وأظهر أولياءك. وأخز أعداءك، في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يكون علماء الأمة الكبار، كمال في كل حال. ![]() المصادر والمراجع • طبقات ابن سعد: (5/ 118). • سير أعلام النبلاء: (4/ 217). • حلية الأولياء: (2/ 161). • الكامل في التاريخ: (4/ 282). • صفة الصفوة: (1/ 246). • المنتظم: (6/ 319). • تراجم أعلام السلف: (21). • شذرات الذهب: (1/ 102). • تاريخ الطبري: (4/ 25). • تاريخ خليفة: (1/ 306). • وفيات الأعيان: (2/ 375). • النجوم الزاهرة: (1/ 228). ترويض المحن – دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف الثقفي شريف عبدالعزيز الزهيري (10) ![]() بين يدي المحنة: المواجهة بين الدعاة والطغاة صورة تكررت كثيرًا عبر تاريخ هذه الأمة، والدور الريادي المنوط بعلماء الأمة ودعاتها يدفعهم دومًا لهذه المواجهة، بالنصح والوعظ والإرشاد، وقيادة الناس وقت الأزمات، والدعاة والعلماء يتحملون في هذه المواجهات الكثير والكثير من المحن والابتلاءات، وهو قدرهم الذي رضوا به، وعاشوا وماتوا من أجله. التعريف به: • الإمام العلم العلَّامة، إمام التفسير، تلميذ حبر الأمة، نور العلم، وقدوة التابعين، مستجاب الدعوة، العالم الرباني سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي، الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد بإذن الله، أحد أعلام الأمة. ![]() • وُلد بالكوفة سنة 38هـ في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبها ترعرع ونشأ، أحب العلم صغيرًا؛ فجلس إلى الصحابة ينهل من علومهم ويروي عنهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فروى عن أنس بن مالك، والضحاك بن قيس، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، وابن عمر، رأي أبا هريرة، وأبى موسى الأشعري، وأم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم، فحمل عنهم علمًا جمَّا، وأحاديث كثيرة. • ثم اصطفى سعيد بن جبير من جملة الصحابة حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وانقطع إليه وأخذ عنه التفسير، وسائر علومه، وصار من أكبر تلاميذه، وأخص رفقائه، وأنجب طلابه، وكان سعيد من شدة أدبه مع شيخه ابن عباس لا يفتي في حضرته، فلما مرض ابن عباس وذهب بصره تصدى سعيد للإفتاء، وكان ابن عباس يحيل الفتاوى عليه، ويوصي به أهل العراق عند سؤالهم. • كان سعيد بن جبير بجانب علمه الغزير، وفقهه الدقيق، مشهورًا بالورع والزهد والعبادة إلى المنتهى، شديد الخوف من الله، متوكلا عليه في الأمور كلها، يطيل صلاته لدرجة أنه كان يختم القرآن في صلاة القيام، وروى ذلك عنه من طرق كثيرة صحيحة، محافظًا على الحج والعمرة كل سنة، حتى في سنوات محنته، كان إذا قام للصلاة كأنه وتد، مستجاب الدعوة، له في ذلك مواقف مأثورة، ![]() بكى من الليل حتى ضعف بصره، وعمشت عينه. ثناء الناس عليه: • سعيد بن جبير علم من أعلام السلف، وإمام من كبار أئمة المسلمين، وأحد ورثة عِلْمِ الصحابة عمومًا، وحبرهم ابن عباس خصوصًا، كان كلمة إجماع في عصره، ولم يؤثر عن أحد من أهل العلم، أو رواة الحديث أنه قد جرحه بأدنى كلمة، فهو مجمع على توثيقه بين الناس، هذه طائفة من ثناء الناس عليه: • كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا أتاه أهل الكوفة يستفتون يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟! يقصد سعيد بن جبير • وجاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما ليسأله عن فريضة فقال له: ائت سعيد بن جبير، فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض منها ما أفرض. • قال إبراهيم النخعي: ما خلَّف سعيد بن جبير بعده مثله. • قال أشعت بن إسحاق: سعيد بن جبير جهبذ العلماء. ![]() • قال أبو قاسم اللالكائي: هو ثقة، إمام حجة على المسلمين. • قال على المديني: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير، قيل: ولا طاوس؟ قال: ولا طاوس، ولا أحد. • قال ميمون بن مهران: لقد مات سعيد بن جبير وما ظهر على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. • قال خصيف: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاوس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير. محنته: • محنة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله تبدأ مبكرًا، وهو في الخامسة والثلاثين من العمر، وعندما رأى بعينه التحولات الكبرى التي حدثت داخل بناء الأمة الإسلامية، عندما رأى قيام الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي بمحاصرة مكة بلد الله الحرام، وانتهاكه لحرمة الكعبة، وضربه إياها بالمنجنيق، ثم قتله للخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير، تمثيله بجثته، وذلك سنة 73هـ، وأخذه للبيعة من الناس كرهًا - وسعيد منهم - بحد السيف، فتولد في قلب الإمام البغض والكره لهذا الطاغية، وأفعاله الإجرامية، والبغض لكل الظلمة والطغاة الذين استذلوا للناس وأهانوهم، واستحلوا حرماتهم. ![]() • بعد أن أعطى سعيد بن جبير بيعته للحجاج بن يوسف الثقفي بحد السيف في مكة بعد مقتل ابن الزبير رضي الله عنهما، عاد إلى الكوفة، وأخذ في نشر العلم، ورواية الحديث، ولكنه سرعان ما فوجئ بتعيين الطاغية الحجاج واليًا على العراق، ولما دخل الحجاج العراق حاول استمالة العلماء والقراء؛ لعلمه بسخط الناس وأهل العلم على سياسته، وظلمه وأسلوبه في الحكم؛ فأغدق العطايا على الإمام سعيد، وجعله بمثابة القاضي والمشير، ومن خاصته، ولكن لم تكن تلك اللعاعة من الدنيا لتغري إمامًا مثل سعيد بن جبير، وتغير موقفه ورأيه في الحجاج، وسياسته وجرائمه. • اتبع الحجاج سياسة ذكية في احتواء ثورات أهل العراق، وطاقاتهم الكبيرة بشغلهم بالجهاد في سبيل الله في بلاد المشرق؛ حيث كفار الترك، فانصرف الناس لنصرة دين الله عز وجل عدة سنوات، والحجاج مستمر على سياسته وبطشه بالمعارضين، حتى كانت سنة 82هـ وفيها وقعت أعنف ثورة قام بها أهل العراق، وهي فتنة ابن الأشعت، وكان ابن الأشعت أحد قادة الحجاج، وكان الحجاج يبغضه بشدة للتنافس بين الرجلين، وللطموح الذي يجمع بينهما، وكان سبب الثورة هو إصرار الحجاج على أن يواصل جيش ابن الأشعت التوغل في بلاد "الرتبيل" ملك الترك، في حين رفض ابن الأشعت الأوامر لقسوة فصل الشتاء، وكثرة الثلوج، ووعورة الطريق، فترددت الرسائل الخشنة بين الرجلين، ثم انتهت بإعلان ابن الأشعت العصيان والثورة، وخلع الطاعة للحجاج ولعبد الملك بن مروان الخليفة الأموي أيضًا. ![]() • كان في جيش ابن الأشعت العديد من العلماء والفقهاء، وحفظة كتاب الله، ممن خرج للجهاد ونصرة دين الله عز وجل، منهم سعيد بن جبير، وطلحة بن حبيب، ومجاهد بن جبر، والشعبي، وابن أبي ليلى، وعلماء الزمان، وأهم شيوخ العصر عامة، والعراق خاصة؛ فأعلن هؤلاء العلماء والقراء دعمهم لابن الأشعت ضد الطاغية الحجاج، الذي فاقت جرائمه بحق المسلمين كل حدود، وكان لذلك الدعم المعنوي من جانب العلماء أثر كبير في قوة ثورة ابن الأشعت، فانضم إليها الناس من كل مكان؛ فلقد كان الحجاج مبغوضًا من الجميع. • وقعت العديد من المعارك الطاحنة بين الفريقين، كان لكتيبة العلماء والقراء دور كبير في تحميس الناس، وتقوية عزائمهم، وكان سعيد بن جبير يقف بين الصفوف، ويشد من أزر المقاتلين، ويقول: قاتلوهم على جورهم، واشتد لأنهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة، وكذلك فعل الشعبي وجبلة بن زحر زعيم القراء، وطبعًا ربما ينطق البعض للكلام على مدى جواز اشتراك العلماء والفقهاء في مثل تلك الثورة، وهل يعد ذلك خروجًا على السلطة أم لا؟ ولنا في موقفهم عبرة وعظة، وفي إجماعهم على ذلك - وهم أعلام الأمة وأكبر علمائها - دليل على جواز ذلك بشروط مخصوصة كانوا هم أدرى بها، وأعلم بطبيعتها، وهم قد رأوا من الحجاج ما سمعناه نحن فقط، وعاينوا على الطبيعة أفعاله وجرائمه؛ لذلك فهم أحق الناس بالحكم على الأمر. • ظلت ثورة ابن الأشعت مشتعلة بأرض العراق كلها طيلة سنتين كاملتين، وكادت أن تؤتى أكلها، ولكنها فشلت في النهاية، وأمعن الحجاج في التنكيل بالثوار؛ فقتل منهم عشرات الآلاف، ![]() وكان يؤتى بالرجل بين يدي الحجاج؛ فيطلب منه أن يشهد على نفسه بالكفر؛ فإن فعل أطلق سراحه، وإلا ضرب عنقه، فاضطر كثير من الناس للفرار من العراق، ومنهم سعيد بن جبير، وطلب بن حبيب، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار، وهم وجوه الناس وعلماؤهم. • انتقل سعيد بن جبير إلى أصبهان، وعاش هناك في الخفاء، وكان حريصًا على ألا يعرفه أحد، وذلك سنة 83هـ، ومع ذلك لم يترك الحج والعمرة كل سنة؛ فعلم الحجاج بوجوده بأصبهان؛ فأرسل في طلبه، فهرب منها ودخل العراق مستخفيًا، وأخذ في التنقل من مكان لآخر، والحجاج يشتد في طلبه، وذلك طيلة اثنى عشر سنة كاملة، وفي النهاية استقر في مكة ليسهل عليه الحج والعمرة، واستقر معه باقي إخوانه العلماء، وكان والي مكة خالد القسري يغض الطرف عنهم، حتى قام الخليفة الوليد بن عبد الملك بعزل عمر بن عبد العزيز عن ولاية المدينة، وعين مكانه عثمان بن حيان الذي أخذ في القبض على أصحاب ابن الأشعت في المدينة، وإرسالهم للحجاج بالعراق ليقتلهم؛ فاضطر عندها خالد القسري لحذو فعله، فقبض على سعيد بن جبير وأصحابه، وقد عُرض على سعيد الهرب من مكة فقال: والله لقد استحيت من الله من كثرة الفرار، ولا مفر من قدر الله، وكان الحجاج قد أرسل إلى خالد القسري يتهدده من أجل إرسالهم، فلم يجد خالد من بد في ذلك. ![]() • حمل سعيد بن جبير وأصحابه مثقلين بالقيود والحديد في رحلة طويلة من المدينة إلى الكوفة، وفي الطريق الطويل الشاق مات طلق بن حبيب، ولما وصلوا إلى الكوفة أمر الحجاج بسجنهم باستثناء سعيد بن جبير، الذي أمر بإحضاره بين يديه، وقد بسط له النطع، وأحضر السياف والجلاد للتنكيل بالإمام سعيد بن جبير، وكان الإمام عامر الشعبي يرى التقية المباحة، وبها تخلص من سيف الحجاج، أما الإمام سعيد فقد كان لا يراها، فلما أحضر بين يدي الحجاج قال له: اشهد على نفسك بالكفر، فقال الإمام: لا أفعل ذلك أبدًا، فقال الطاغية: اختر أي قتلة أقتلك، قال: اختر أنت، فإن القصاص أمامك، ثم دار حوار بين الطاغية والإمام انتهى بمقتل الإمام، وتقطيع أوصاله بصورة مأساوية بشعة، تدل على مدى حقد الطاغية الحجاج الثقفي على الإمام سعيد بن جبير، ولقد أورد أبو نعيم الكثير من الروايات الضعيفة والموضوعة في كيفية مقتله في كتابه الشهير حلية الأولياء، وفيما صح من الأخبار كفاية وغنية عن الضعف. • لقد كان سعيد بن جبير مستجاب الدعوة، لا يرد الله عز وجل له دعوة قط، وكان يستطيع أن يدعو على الحجاج فلا ينال منه بسوء، ولكنه استقتل لله، ورحب بالشهادة، وكانت دعوته التي دعا بها قبل موته على الحجاج: ألا يسلطه الله عز وجل على أحد بعده، فاستجاب الله عز وجل له، ومات الحجاج مذمومًا مدحورًا بعد سعيد بن جبير بأربعين ليلة، ولم يقتل أحدًا بعد سعيد، واشتهر الرجلان في التاريخ أيما شهرة، ولكن شتان بينهما: هذا صار علمًا للدعاة والمجاهدين والعلماء، وذلك صار علمًا للطغاة والظلمة المستكبرين. ![]() المصادر والمراجع: • تاريخ الطبري: (4/ 23). • وفيات الأعيان: (2/ 371). • النجوم الزاهرة: (1/ 228). • المنتظم: (6/ 318). • شذرات الذهب: (1/ 108). • تاريخ خليفة: (1/ 307). • طبقات خليفة: (1/ 280). • طبقات ابن سعد: (6/ 256). • سير أعلام النبلاء: (4/ 321). • صفة الصفوة: (2/ 44). • تراجع أعلام السلف: (47). ترويض المحن - دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |