من وحي عاشوراء: ثبات الإيمان في مواجهة الطغيان وانتصار التوحيد على الباطل الرعديد - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ما أفضل حمية للمصابات بسكر الحمل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          دليلك الشامل لأنواع السرطان! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          ما لا تعرفه عن أسباب العقم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          العصبية وصحة القلب: هل الغضب يدمّر صحتك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          أعراض مرض الزهري: كل ما تحتاج معرفته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          أطعمة غنية بسكر الفركتوز: هل هي ضارة أم مفيدة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          7 نصائح ذكية حول كيفية الوقاية من داء القطط للحامل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          أسباب وعوامل خطر الإصابة بسوء التغذية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          أطعمة تحتوي على الكربوهيدرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          إنقاص الوزن بعد الولادة: طرق آمنة وفعالة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم يوم أمس, 12:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي من وحي عاشوراء: ثبات الإيمان في مواجهة الطغيان وانتصار التوحيد على الباطل الرعديد

من وحي عاشوراء

ثبات الإيمان في مواجهة الطغيان

وانتصار التوحيد على الباطل الرعديد

وضاح سيف الجبزي
الحمد لله الموفّقِ المعين، إيَّاه نعبدُ وإيَّاهُ نستعين، منجزِ الوعد بالنصر لعباده المؤمنين، ومنزل السكينة على الصابرين المخلصين، ومثبِّت أفئدة المجاهدين المرابطين.

وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، ومخزي الظالمين، ومهلك الطغاة والجبارين، وقاهر البغاة والمتكبِّرين.

ليس شيءٌ كَمِثلِهِ فهُو ربٌّ
مَن يُضاهيه في صفاتٍ وذاتِ؟





وأشهد أنَّ محمدًا عبده رسوله، وصفوتُه من خلقه، وخيرتُه من بريَّته، وأمينُه على وحيه، وسفيرُه بينه وبين عباده، بشَّرتْ به الكتبُ السَّالفة، وأخبَرتْ به الرسل الماضية، وضُرِبتْ لنبُوَّتِه البشائر، ورُفع اسمُه في ذُرى المنائر، وجرى ذكرُه في الأعصار، وذاع صيتُه في القرى والأمصار.

صلُّوا على خيرِ الأنامِ وموسى
من كُلِّما وتوافَقا ناموسا
وخذوا دروس النصرِ مِن هدْييهما
طوبى لمن جعل الهداةَ دروسا
فالله قد نجى الكليم بضربةٍ
شَقَّت بقدرة ربِّه القاموسا


اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
فيا معاشر المؤمنين، نستكمل -بحول الله- الحديث: من وحي عاشوراء، وما نستقيه ونستوحيه في ذكرى نجاة المستضعفين، وهلاك إمام الطغاة والمستبدين، ونتأمَّل سنن القوي المتين، في الإمهال والأخذ، والبطش والتنكيل، والنصر والتمكين لعباده المؤمنين، ونرى ثباتَ الإيمان في مواجهة الطغيان، ودور اليقين في تثبيت أفئدة المؤمنين، وأهمية الثقة برب العالمين في استنزال النصر المبين، وكيف تستعلي راية الإيمان على زوابع الطغيان؟ وكيف يقف التوحيد شامخًا أمام التهديد والوعيد؟! وتحقُّق وعدِ القوي المجيد بالانتصار الأكيد على الباطل الرعديد.

عباد الله، رأينا كيف أجلب الطغيان الفرعوني بخيله ورَجله؟ فجمع كيده، وأدواته، واستنفر طاقاته، وقدراته، واستعان بالسحرة المأجورين؛ ليبطل الحقَّ ويحقَّ الباطل، وأنَّى له ذلك! ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الشورى:24].

معاشر الإخوة، بدأت المناظرة العلنية بين أولياء الرحمن، وأولياء السلطان، بعد أن وثِق السحرة بوعد فرعون، واطمأنوا إلى المكافأة الجزيلة: ﴿ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الشعراء:42]، فواجهوا موسى -عليه السلام- بثقة وتحدٍّ قائلين: ﴿ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴾ [الأعراف:115]، فيردّ موسى-عليه السلام- بثبات ويقين: ﴿ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف:116]، ﴿ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس:81-82].




أيها المؤمنون، إن الباطل ينتفش، وقد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان، حتى ليُخيَّل إلى الكثير من الغافلين أنه غالب، وأنه جارف، وأنه محيق، ولكن! ما إن يواجهه الحق الهادئ الثابت المستقرّ، بقوَّته التي لا تُغَالب، حتى يَنْفَثِئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم، ويزهق ويزول، وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصَّغار، والضَّعْف والهوان، وهم يرون صروحَهم تتهاوى، وآمالهم تتداعى، ومجدَهم يترنَّح أمام نور الحق المبين.

﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه:69]، ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ [الأعراف:118-119] وذلوا وانكمشوا بعد الزَّهو الذي كان يبهر العيون، ﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف:120-121].

فما أعجب أمرهم! قد ألقَوا حبالهم وعصيَّهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين[1]!

عن قتادة: كانوا أول النهار كفَّارًا سحرة، وفي آخره شهداء بررة[2].

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ»[3].

فما أجلَّ ألطافَ الله في نقله عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد![4]


عن الحسن: تراه وُلد في الإسلام، ونشأ بين المسلمين، يبيع دينه بكذا وكذا، وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر، بذلوا أنفسهم لله[5].

﴿ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ إنها لمسة الإيمان للقلب البشري، تصادف العصب الحساس، فينتفض الجسم كلُّه، وتحوّله في لحظة من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان.

إنها لمسة الهداية وصلت إلى أعماق نفوسهم، وقرارة قلوبهم، فأزالت عنها ركام الضَّلال، وجعلتها صافية حيَّة خاشعة للحق، عامرة بالإيمان، في لحظات قصار، ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طه:70].

إنها صولةُ الحقِّ في الضَّمائر، ونورُ الحقِّ في المشاعر، ولمسة الحقِّ للقلوب المهيأة لتلقي النور واليقين، ولكن الطواغيت لا يدركون كيف يتسرَّب النور إلى قلوب البشر، ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان، ولا كيف تلمسها حرارة اليقين؟! فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح، وتقليب القلوب -وهي بين أُصْبعين من أصابع الرحمن-! ومن ثم فوجئ فرعون بهذا الإيمان المفاجئ، الذي لم يدرك دبيبه في القلوب، ولم يتابع خطاه في النفوس، ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر، ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر:23].



﴿ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، إنها المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحت فرعون.

والطاغية -يا عباد الله- لا يخشى شيئًا كما يخشى يقظة النفوس، وصحوة القلوب، ولا يكره أحدًا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة، ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزُّون الضمائر الغافية؛ ولذا كان لهذا الانقلاب الإيماني المفاجئ -أمام الجماهير الحاشدة- وقع الصاعقة على فرعون وملئه، ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ [الأعراف:123]،كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق، أوْ يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم، أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم، أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق، أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار، أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين!

ولكنه الطاغوت جاهل غبي مطموس، وهو في الوقت ذاته متعجرف مُتكبِّر مغرور، ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس:83]، ثم إنه الفزع على العرش المهدّد، والسلطان المهزوز، ﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ [الأعراف:123]، إن العرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت، وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرُّج في سبيل المحافظة على الطاغوت، ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [طه:71]، تهديد ووعيد بالعذاب الشديد، الذي يعتمد عليه الطغاة، ويسلطونه على الجسوم والأبدان، حين يعجِزون عن قهر القلوب والأرواح.

عن خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردةً له في ظلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ»[6].

فالتعذيب والتشويه والتنكيل وسيلةُ الطواغيت في مواجهة الحقِّ الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدَّةُ الباطل في وجه الحق الصريح: ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه:71]، ولكن النفس البشرية حين تحلُّ فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطُّغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم: ﴿ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه:72].

إنها بشاشة الإيمان حين تلامس شغاف القلوب، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة، ويتسمَّع الضمير أصداء الهداية، وتتلقَّى البصيرة إشراقات النور.

إنه الإيمان حين يحل في الوجدان؛ فيخلق من الضعف عزمًا، ومن الخمول نهوضًا، ومن الجزع صبرًا، ومن اليأس أملًا، ومن الجبن شجاعةً، ومن الذِّلة عِزًّا، ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه:72]! يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر، وإذ يفيض على الأرواح، وإذ يكسب الطمأنينة في النفوس، وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين، وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر، فإذا كلُّ ما في الأرض تافه حقير زهيد! ﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه:73]، إنها لا تقف لتسأل: ماذا ستأخذ؟ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض؟ وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر؟ وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟ لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك: ﴿ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴾ [الأعراف:125]، إنه الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره: ﴿ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه:73-76].

ويقف الطغيان عاجزًا أمام الإيمان، وأمام الاطمئنان، وأمام القلوب التي خُيِّل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام! فإذا هي مستعصية عليه؛ لأنها من أمر اللّه.

وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار اللّه؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب باللّه؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان؟! ﴿ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء:50-51].

إنه ثبات الإيمان في مواجهة الطغيان، وانتصار العقيدة على الحياة، والعزيمة على الألم، والإنسان على الشيطان، والحرية على العبودية؛ فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين، وطغيان الطاغين، والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلَّط على الأجسام والرقاب، وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح، ومتى عجَزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب.

فإذا رأيتم الرجل يتضاءل أمام المترفين صَغارًا، أو يحثو في آذان المضلين إطراءً وملقًا، فاعلموا أنه في حاجة إلى الإيمان يطبعه على متانة وصدق ووقار[7].

إن الأسود تموت جوعًا وظمأ، ولا تطعمُ الأذى، ولا تَرِد القذى[8].

أيها المسلمون، إن الذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت، وأنها معركة العقيدة في الصميم، لا يداهن ولا يناور، ولا يرجو الصفح والعفو من عدوٍّ لن يقبل منه إلا ترك العقيدة؛ لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة: ﴿ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ﴾ [الأعراف:126]، والذي يعرف أين يتجه، وإلى من يتجه؟ لا يطلب من خَصْمه السلامة والعافية، إنما يطلب من ربِّه الصبر على الفتنة، والوفاة على الإسلام: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف:127]، ﴿ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس:85-86].



معاشر الإخوة، وإن من سمات الطاغوت البارزة؛ أنه لا يطيق مجرد وجود الحق، وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل -تاركًا مصيرهما لفتح الله وقضائه- فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف، بل يتابع الحقَّ وينازله ويطارده، ولقد قال شعيب لقومه: ﴿ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [الأعراف:87]، ولكنهم لم يقبلوا منه هذا الرأي، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش، ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف:88].

ولنتأمل! كيف كبُر على الملأ من قوم فرعون -بعد إيمان السحرة-، أن يذهب موسى ناجيًا والذين آمنوا معه، مع أنه ما آمن له ﴿ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ﴾ [يونس:83]، فإذا الملأ يتناجون بالشرِّ والإثم، ويهيجون فرعون على موسى ومَن معه، ويخوِّفونه عاقبة التهاون في ترك العقيدة تستشري، والتوحيد يظهر، فإذا هو هائج مائج، مهدّد متوعد، مستعزّ بالقوة الغاشمة التي بين يديه، وبالسلطان المادي الذي يرتكن إليه! ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف:127]، فيقف موسى -عليه السلام- يحدِّث قومه بقلب النبيِّ ولغته، ومعرفته بربه، وبسنته وقدره، فيوصيهم باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها، ويعرِّفهم حقيقة الواقع الكوني: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [الأعراف:128].




أيها الإخوة الموحِّدون، إن المؤمنين ليس لهم إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين، وإلا وليّ واحد، وهو الولي القوي المتين: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف:196]، وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الوليُّ بالنّصرة، في الوقت الذي يقدِّره بحكمته وعلمه، ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد:38]، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق:3].

إن حَمَلة المبادئ، وحماة الحق يحتاجون إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يُزيل المخاوف، ويقين يطمئن القلوب إلى حسن العاقبة، فلا يخالجهم قلق على المصير، ولا يخايل لهم ﴿ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴾ [آل عمران:196]، فيحسبونهم باقين، كلا! ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [الأعراف:128]، وما فرعون وقومُه إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده، وإنْ خُيِّل للناظرين أن الطاغوت مكين فيها، غيرُ مزحزَح عنها، فصاحِب الأرض ومالكُها هو الذي يقرِّر متى يطردهم منها!

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف:128]، إنها حقيقة ثابتة في النفوس، وعقيدة راسخة في الوجدان، وليست كلمةً تقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل، بل بديهة ثابتة في كل الأحوال، لا يجول غيرُها في حسٍّ ولا خيال، وينبغي أن تستقرَّ في كل نفس، وتعمُر كل قلب، وأن تختلط بالدم، وتجري معه في العروق.

﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس:84]، فالتوكُّل على اللّه دلالة الإيمان ومقتضاه، وعنصرُ القوة الذي يُضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي، فإذا هي أقوى وأثبت؛ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال:49]، ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق:3].

واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم: ﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [يونس: 85]،ومن ثمَّ توجهوا إلى الله بالدعاء: ﴿ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس:85-86].

وعقب هذا التميُّز، وإيمان من آمن، أوحى الله إلى موسى وهارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتًا خاصة بهم، وكلَّفهم بتطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، والاستبشار بنصر الله: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس:87]، إنها تعبئة روحية ضرورية، وبخاصة مع المشاق والتّكاليف والنَّوازل، والصلاةُ كما هي سمة المسلم حين الرخاء، فهي ملاذُه في الشدة والضراء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ﴾ [البقرة:153]، إنها زاد الطريق، ومدد الروح، وجلاء القلب، وهي العبادة التي تشرح الصدر، وتوثِّق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى، والراحة والاطمئنان، وهي اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود، ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف:170].

معاشر المؤمنين، وبينا كان موسى -عليه السلام- يقوم بالتعبئة الإيمانية، كان فرعون يقوم بالتعبئة العامة لمطاردة موسى ومن معه: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ [الشعراء:52-56]، وهنا يتوجَّه موسى -عليه السلام- إلى مولاه يستنصره بأن يوقف هذا التجبُّر، ويمحق هذا التكبُّر: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ [يونس:88].

إن وجود النعمة والقدرة في أيدي المفسدين يزعزع كثيرًا من القلوب، ويودي بكثيرٍ من المبادئ، ويوهن كثيرًا من العزائم، فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال، وإلى الضلال، ومن هنا، وبإيمان النبي الكريم، وعزم المؤمن المستقيم،يتوجَّه موسى الكليم -عليه السلام- بصدق اللجوء إلى الله، لوقف هذا الإضلال، وتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء: ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ﴾ [يونس:88-89].





﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا ﴾ [يونس: 89] في طريقكما، وعلى هداكما، حتى يأتي أمر الله، ﴿ وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس:89]؛ لأنهم يخبطون على غير علم، ويمضون على غير هدى، ولا يعرفون إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل؟!

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام:153].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس:108-108].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، ووفَّقنا جميعًا لاتِّباع سيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم النَّبيّ الكريم.


قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله الهادّ لأركان الجبابرة الشداد، القامع لأهل البغي والإلحاد، بسيوف الحقِّ الحداد، والهازم لأهل الباطل والفساد، بأبطال الإيمان الأنجاد، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفضل بالهداية على من يشاء من العباد، القائم على كلِّ نفس بما كسبت والمجازي لها بما عملت يوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي لسائر الأمم إلى سبيل الرشاد، الذي بلَّغه في الدنيا والآخرة أقصى المراد، صلى الله عليه، وعلى آله الخيرة الأمجاد، وصحابته الأبطال الأنجاد، وسلم تسليمًا يغلب التَّعداد، ويبقى على مر الآباد.

عباد الله، ثم ها هو ذا المشهد يقترب من نهايته، والمعركة تصل إلى ذروتها؛ فبعد أن أسرى موسى -عليه السلام- بعباد الله -بوحي من الله وتدبير- فرارًا من فرعون، تحرَّك فرعون بجنوده لمطاردة موسى ومن معه، ﴿ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ﴾ [الشعراء:60]، وقت شروق الشَّمْس، ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء:61]، وأمام هذا الموقف المهيب الرهيب، الذي زاغت عنده الأبصار، وتزلزلت أمامه النفوس، ووهنت به العزائم، وتضعضعت معه الهمم، وبلغت القلوب الحناجر، يقف موسى -عليه السلام- موقف المتصل بربِّه، الواثق بوعده، المستيقن بتأييده، ويستحضر معية مولاه، الذي سبق أن طمأنه وحباه: ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه:46]، واصطفاه: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه:39]، واجتباه:﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه:41]، ها هو -عليه السلام- يقدِّم للعالمين درسًا بليغًا في اليقين، ونموذجًا فريدًا في الثبات، ومثالًا حيًّا في الاعتصام والثقة برب العالمين، في أحرج لحظات منازلة المستبدين: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء:62].



﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾، كلا! لن نكون مدركين، ولن نكون مفتونين، ولن نكون ضائعين: ﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي ﴾، ولم يخيِّب ظنَّه مولاه، ولم يقطع عنه رجاه: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء:63]، ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴾ [طه:77]، ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم، واقتحم بنو إسرائيل، فخرجوا من الشاطئ الآخر، ووقف فرعون مع جنوده مبغوتًا مشدوهًا بذلك المشهد الخارق المعجز، وقد قرَّبهم الله لمصيرهم المحتوم: ﴿ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء:64-66]، ﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس:90-91].

آلآن حيث لا اختيار ولا فرار؟ آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار؟!

﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ [يونس:92]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء:8]، ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر:51]، ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات:25-26].

ويذهب التهديد -يا عباد الله-، ويتلاشى الوعيد، ويمضي الإيمان في طريقه لا يتلفت، ولا يتردد، ولا يحيد: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف:137].



﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس:101-103].

أيها المسلمون، لقد بلغ من عقدة السلطان في نفوس الفراعنة: ألا ينتفع اللاحقُ منهم بالغابر، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97].

معاشر الإخوة، إن مصارع الطغاة والمستبدين تجري على سنة لا تتبدَّل: نسيان لآيات الله، وانحراف عن طريقه، إنذار من الله للغافلين على يد رسول، استكبار عن العبودية والخضوع لرب العالمين، اغترار بالرخاء، واستهزاء بالإنذار، واستعجال للعذاب، طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين، ثبات من المؤمنين، ومفاصلة على العقيدة، ثم المصرع الذي يأتي وَفْق سنة الله على مدار التاريخ! ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف:59].

في الصحيحين من حديث أبي موسى: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، قال: ثمَّ قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود:102][9].




﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 52].

إن مما تستقيه النفوس المؤمنة دروسًا وعبرًا -يا أيها المؤمنون-: أن الشدائد تستجيش مكنون القوى، ومذخور الطاقة، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد، والقيمُ والموازينُ والتصورات ما كانت لتصحّ وتدِقّ وتستقيم إلا في جو المحنة، التي تزيل الغبش عن العيون، والرّان عن القلوب.




أيها الموحِّدون، إن أصحاب الإيمان واليقين، والاعتصام بحبل الله المتين، وإن نزُر حظُّهم من القوى المادية -التي لا يستهين بها الا جاهل-، فإنَّ حظَّهم موفور من القوى الروحية التي لا يستهين بها إلا مغرور، وقد ثبت أن هذا السلاح أمضى من جميع الأسلحة المادية.

وإن التجارب لا تزال تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئًا كثيرًا في ساعة الشدَّة.

وأنه مهما بلغت قوة الباطل، واستمرَّ طغيانه، وطال زمانه، وامتدَّ أمده، وزاد مدده، وأنه



﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة:117]، ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود:121-123]،﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [القمر:50].

﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة:250]، ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران:147]، ﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ [الأعراف:89]، ﴿ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس:85-86]، ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة:5].

[1] تفسير الكشاف (3/ 75).

[2] الكشاف (2/ 141).

[3] رواه الترمذي (3522)، وقال: حديث حسن، وأحمد (26679)، وأبو يعلى (6986)، وابن أبي شيبة (30406)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2091)، وصحيح الجامع (4801).

[4] الانتصاف فيما تضمنه الكشاف لابن المنير = حاشية الكشاف (3/ 75).

[5] الكشاف (2/ 141).

[6] رواه البخاري (3612)، وأحمد (21057)، وأبو داود (2649).

[7] موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (3/ 1/ 78).

[8] آثار الإمام البشير الإبراهيمي (3/ 557).

[9] رواه البخاري (4686)، ومسلم (2583).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 79.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 78.31 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]