|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() اجمع بين أصالتك وجمالك مهاب السعيد أنتَ لم تُعطَ جسدًا لتهينه روحك. ولم تُعطَ روحًا ليخدم جسدك. أنت لستَ مخلوقًا للدنيا، ولستَ غريبًا عنها. أنتَ جزء من العالم الطبيعي وطبيعته أن يتعالى دومًا عليه. القمص فانوس الأنبا بولا من الشخصيات المثيرة للجدل في الأوساط الدينية المسيحية في مصر، من ناحية يمكن أن يراه البعض ناسكًا، متقشفًا، زاهدًا، ومن ناحية يراه البعض مسيئًا للتعاليم الأرثوذكسية المتزنة. عاش القمص فانوس معظم حياته في دير الأنبا بولا في البحر الأحمر، ومات في 2017، كان له حديث غريب، وأسلوب غامض، وأشهر ما عُرِفَ به هو الإماتة. الإماتة في التصوف الشعبي المسيحي هي الصوم القاسي والامتناع عن الطعام لمدد طويلة، السهر الطويل وترك النوم لأجل العبادة، الصمت والانقطاع عن الحديث، الانفصال عن الناس واعتزالهم، بل وحتى إيذاء النفس بالنوم على الأرض أو الوقوف لفترات طويلة. القمص فانوس كان قد أخذ الإماتة لبعد آخر. كان يترك اللحم حتى يتعفن، ليصبح كريه الرائحة حتى يأكله بعد أن يتأكد أنه لا توجد (شهوة) لتناوله! كان يحتفظ بالأطعمة في ظروف سيئة دون تبريد ويأكلها بعد أيام أو أسابيع. أحد القساوسة الذي كان يحكي عن هذا مادحًا كان يذكر أن الرائحة التي كانت تخرج من غرفته بسبب هذا كانت لا تحتمل من قِبَل من يزورونه. كان يرتدي ثيابًا رثة، وممزقة، ومتسخة دومًا بل وعمدًا، كان يصر على أن يكون المكان من حوله غير نظيف، بل وكان يقضي حاجته من البول والبراز في نفس المكان الذي يجلس فيه للصلاة أو يستقبل فيه الزوار! عدم الاكتراث بالنظافة أو الرائحة، الجلوس في نفس المكان مع براز! تناول طعام متعفن يؤذي الجسد ويثير الغثيان.. كل هذا كان نوعًا من إماتة واحتقار الجسد في نظر القمص فانوس. من أجل الروح. كثير من القساوسة نظروا له على كونه نوعًا من "التجرد التام"، تعلق كامل بالروح على حساب الجسد، كأنه إنسان خارج عن الزمن، كأنه حين تلوث جسده بهذا الشكل أصبح لا ينتمي لعالمنا الملوث! الغريب أن الإماتة جاء أصل لفظها ومعناها من رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي في العهد الجديد: "فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ". من الواضح أن الإماتة هنا هي إماتة معنوية للصفات والأخلاق الرديئة. ولكن عند غلاة المتقشفين المسيحيين المبالغين في الزهد والاغتراب عن العالم، كانت الإماتة لديهم قمعًا للرغبات الجسدية والنفسية والموت عن هذا العالم. الموت عن الجسد وكراهية الذات Self-Abnegation ورفض الملذات ابتداء من الزواج وحتى الراحة، بل والنظافة أحيانًا كان ينظر لها على أنها تدريب للروح على ترك الاعتماد على الجسد. برغم أن المبالغات التي قام بها فانوس كانت مثار جدل وانقسام ولم تكن سائدة في تاريخ التصوف المسيحي، إلا أن كراهية الجسد وتعذيبه كانت من سمات الرهبنة دومًا. ابتدعوها ما كتبها الله عليهم، ما كتب الله عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. عاش الأنبا كاراس السائح 57 عامًا في البرية لا يرى أحدًا، يأكل القليل، ويرتدي الجلود، والأنبا (صرابامون أبو طرحة) من دير (الأنبا بيشوي) كان يلبس طرحة نسائية كنوع من إهانة جسده الرجولي ومن ثم -حسب رأيه- التجرد والتواضع. بالمناسبة فوسط غلاة المتصوفة المسلمين في مصر انتشرت كرامات مزعومة لأشخاص مثل سيدي المجذوب وسيدي العريان أيضًا، والذين كانوا يبولون في الأسواق فيُعتَبَرون من أهل الله! لا يتعلق الأمر إذن بالمسيحية فقط بالتأكيد، فهناك إماتة للجسد لدى الهندوس تسمى Tapas / تَپَسْ، وهي كلمة في اللغة السنسكريتية تعني الحرارة أو الحرق. أي حرق الرغبات والذات الداخلية، من أجل ماذا؟ التطهير! بعض الزهاد مثل (أما سوامي) وقف 17 سنة متواصلة دون أن يجلس! ينام واقفًا متكئًا على حبل أو عمود. بعض الزهاد ينذرون برفع يدهم اليمنى من 10 إلى 20 سنة حتى تصبح مشلولة تمامًا ويتصلب عظمها على هذا الوضع المنتصب، ويعتبر ذلك نذرًا للتجرد! وهناك النوم على المسامير، الجلوس في الجليد، التعلق بالحبال، أو التعري التام (الديجَمبارا Digambara). كل هذه العذابات في ظنهم سوف تقوم بتحطيم الأنا (Ahankara)، تحقيق الكارما الجيدة والتخلص من الديون الكونية، بلوغ التحرر النهائي (موكشا)، أو نيل قدرات خارقة Siddhis عبر هذا التطهر الشديد. وبرغم أن بوذا كان ضد إماتة الجسد وتعذيبه، إلا أن البوذيين المعاصرين نالوا جائزة الأوليمبياد الذهبية بلا منازع في كل هذه التصرفات المقرفة الغريبة في طقس "سوكوشينبوتسو" (Sokushinbutsu) في اليابان حين يهدف الراهب إلى التحنيظ الذاتي لجسده وهو حي! تتم العملية عبر سنوات طويلة، تبدأ بتجفيف الجسد عن طريق أكل فقط الجوز و الجذور لسنوات، ثم شرب مواد سامة لتجفيف الجسم، ثم في النهاية ينزلونهم وهم أحياء إلى قبر ومعهم جرس، يظلون في هذا القبر بدون طعام ولا شراب حتى الموت البطئ، ووظيفة الجرس أن يعلم بقية الرهبان في الأعلى خارج القبر إن كان راهبنا قد مات أم لا حين يتوقف سماعهم لرنين الجرس اليومي. يُفتح القبر لاحقًا، وإن لم يتحلل الجسد، يُعتبر "بوديساتفا" (كائن متنوّر). يتم تقديس هذا الكائن المتنور (الجسد الذي لم يتحلل لرجل حنّط نفسه وهو حي متعذبًا لسنوات)، ويتم وضعه في المعابد البوذية. كان بيجوفيتش يرى أن الإسلام -كأمة وسط- بين الشرق والغرب، كان يقع موقعًا وسطًا بين اليهودية كديانة للجسد والتاريخ، والمسيحية كديانة للروح والخلاص. بالغ اليهود في اهتمامهم بالنسب، بالهوية، بالعرق، بالزرع والنسل، بالأرض الموعودة، بالشريعة العملية التفصيلية. هي أقرب لدستور أرضي لشعب محدد! بينما بالغ المسيحيون مثلهم مثل ديانات الروح الشرقية في المقابل بتصوير الإنسان كروج سجينة في جسد يتحرر منه حين يُحرم من العالم، واهتموا فقط بالمحبة، بالغفران، بالخلاص، بالملكوت، بالنعمة أكثر من الشريعة. لطالما تفكرت في العلاقة التي تربط بين الأصالة Authenticity وبين الجماليات Aesthetics هل هي علاقة طردية في اتجاه واحد، كلما زاد أحدهما زاد الآخر؟ كلما صار الإنسان أصيلًا صار أجمل؟ أم أنها علاقة تناقضية، عكسية، متنافرة، كلًا منهما يسير في اتجاه مضاد، والأفضل أن ندرك ذلك، ونسعى إلى التكامل بينهما والتوازن؟ هل يكون الإنسان جميلًا بأن يتكلف أن يكون غير ذاته أحيانًا، أظن من الممكن جدًا نعم! التبرز ورائحة العرق واللعاب السائل من ركن الفم عند الاستغراق من النوم، هذه أمور مفرطة في الأصالة. يكون الإنسان نفسه وقتها كأشد ما يكون بدون تكلف أو تصنع أو ادعاء. لكن هل هي جميلة؟ بالتأكيد لا. الوضوء والطهارة وأخذ الزينة عند كل مسجد هي نوع من التكلف بلا شك، هي نوع من الاتجاه النشط في الاتجاه المعاكس لفوضى الأمور و(إنتروبي) القذارة التي تحدث بشكل تلقائي بسبب التراب والشمس والعرق. تخبرنا الإنتروبي Entropic decay في الفيزياء أن الأمور تسير إلى الانهيار دومًا لو تركت بشكل تلقائي، في نظام مغلق كالكون تكون الفوضى دومًا أكبر من واحد، قطعة الثلج تذوب وحدها ولكنها لا تتشكل وحدها في شكل مكعب ثلج براق. رائحة العرق تنبع تلقائيًا، بينما وضع الطيب اختيار. البناء الهندسي المحكم والمتناظر، المعمار الذي يصنع أبنية أغنى بصريًا من بساطة شكل الأحجار الطبيعية، الشعر الذي يضع الجناس والقافية والوزن الشعري للكلمات في مواضعها، الأنماط المترتبة المتناغمة، ترتيب الأصوات والنغمات في اللحن البديع، كلها نتجت عن تكلف وادعاء وتصنع بشكل ما! التزين تنظيم وإعادة تشكيل للطبيعة. الجمال هو انتصار مؤقت على الفوضى. هناك الكثير من الأدلة في رأيي أن الأصالة والجماليات قد يكونان في اتجاهين متقابلين، والحل سيكون دومًا في التوازن. صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، أنه قال: حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، يغسل فيه رأسه وجسده. ونهى النساء عن حلق الرأس فليس عليهن إلا التقصير، ونهى عن أكل الثوم والبصل ثم ملاقاة الناس في مجالسهم ومساجدهم ليؤذيهم برائحة كريهة، ونهى أن نأكل أو نشرب من ألبان الماشية الجَلَّالة التي يقودها الرعاة في الشوارع ليأكلوا من الزبالة والقاذورات. ولما وجد ابن عمر تلميذه (نافع) يصلي في إزار، قال له: أرأيت لو بعثتك في حاجة أكنتَ تذهب هكذا كما صليتَ؟ قال: لا، قال فربك أحق أن تزيّن له! إذا كان الإنسان لا بد له من تكلف التنظيم وترتيب أنماط الجمال كي يبدو في صورة حسنة لأن الناس يحبون الجمال، فالله أيضًا يحب الجمال! لأن حب الجمال كمال، وهو أولى بالكمال! رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم شيخا يُهادى بين ابنيه فقال: ما بال هذا؟! قالوا: نذر أن يمشي، قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغَنِيٌّ"، وأمره أن يركب. ودخل فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، حلوه لِيُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد". ورأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره قال: أما كان يجد هذا ما يسكّن به شعره؟ ورأى رجلًا آخر عليه ثياب وسخة، قال: أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه؟ النصب والعذاب والألم الجسدي لن يجعل روحك أجمل. العرق والتراب والشعث والقذارة لن تجعل أصالتك أكمل. لبس النبي مرة بردة سوداء فلبسها فلما عرف فيها وجد ريح الصوف فقذفها، لأنه كانت تعجبه الريح الطيبة. وحين لقيه رجل وقد كان صلى الله عليه وسلم عائدًا من مكان قضاء حاجته، سلم عليه الرجل، لم يرد عليه، ثم عمد إلى حائط وضرب به وتيمم ثم رد عليه السلام! الجماليات النبوية أحيانًا هي بناء وشعور داخلي أكبر منها مجرد مظهر في الخارج! ولكن ماذا تقول عن إنسان مفرط في التزين، في التصنع، في المساحيق التجميلية، في الملابس الأنيقة المزخرفة، في البهرج والزخرف والتكلف والتفيهق. إلى كم ممكن أن تتهدد الأصالة الذاتية للإنسان حين تغرق تحت بحار من الادعاءات والتصنع والزيف البلاستيكي الماسخ؟ الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة، تكلف هذا الإنسان وتصنعه وادعاءاته جعله غريبًا عن نفسه كإنسان، جعله أقرب للبقرة. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى أصحابه عن كثير من الإرفاه (رفاهية الملبس)، وكان يأمرهم أن يحتفوا أحيانًا (يسيروا بدون حذاء)، وقال ذات يوم للناس: "ألا تسمَعون، ألا تسمَعون، إنَّ البذاذةَ منَ الإيمانِ، إنَّ البذاذةَ منَ الإيمانِ" أي التقحّل والتواضع في الثياب والهيئة. وأخرجت عائشة رضي الله عنها للناس كساءً وإزارًا غليظًا، وقالت: قُبِضَ روح النبي في هذين! وأخرج لهم أنس نعلي النبي، فإذا بهما نعلان جرداوان لهما قبالان. ولما دخل على بيته فوجد نمطًا كانت وضعته زوجته على الباب لتزينه، جذبه حتى قطعه، وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين! التزين جميل لأنه يخدم روح الإنسان، ولكن حدثني عن روح الإنسان حين يصبح خادمًا للحجارة والطين! وعن عبد الله بن المغفل: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التَرجُّل إلا غِبًا. يعني يمنع الرجل من أن يداوم على تصفيف الشعر وتزيينه إلا أن يكون ذلك يومًا بعد يوم. ودخل عليه رجل ثائر الشعر واللحية فأشار إليه بالخروج فخرج فأصلح شعره ولحيته فقال: "أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟". وورَدَ عن أبي قَتادةَ رضِيَ اللهُ عنه "أنَّه كانت له جُمَّةٌ ضخْمَةٌ، فسأَلَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأمَرَه أن يُحسِنَ إليها، وأن يترجَّلَ كلَّ يومٍ". هذا نوع من التوازن بلا شك بين قيمتين عظيمتين في حياة الإنسان، كلًا منهما مهم لو كان مع الآخر، كلًا منهما سيء لو كان بمفرده. الإفراط في الجماليات بما يؤدي لأن يغترب الإنسان عن ذاته ويبتعد عن تلقائيته لا يقل ولا يزيد سوءًا عن الإفراط في الذاتية التي تجعل الإنسان يغترب عن قيمة الحسن والتحسن والتحسين، وكلها أقرب للتكلف من قربها من الواقع الذي يجده الإنسان في الدنيا. الأمر شديد الوضوح.. اعبد الله دون أن تعذب نفسك، إذا وجدتَ تعبًا فارقد، إذا وجدتَ نشاطًا فقم. صفف شعرك كل يوم فقط إذا كان شعرك في حاجة لذلك. البس ما هو حسن، وتطيّب بالطيب الحسن، وخذ زينتك وتكلف الحسن والتحسن دون أن تغرق في فجاجة التقعر والتصنع السائدة في عالمنا البلاستيكي. اضحك انفعالًا وطربًا حين تسمع النكتة دون أن تنقلب على قفاك على الأرض فتخرج عن أنماط الجمال، اختر زيًا أنيقًا لا يخرجك عن التواضع والبساطة والقرب من الناس. كل من الطيبات، تمتع بزينة الله في الأرض، اخشوشن أحيانًا فالنعمة لا تدوم، وسلط ذاتك على هلكة مالك في الحق! اجمع بين أصالتك وجمالك. أنت إنسان مكرم بحسن الهيئة وحب الجمال، ولكنك أكبر من مجرد صورة في المرآة أو Thumbnail على تيك توك أو فلتر على انستجرام. أنتَ لم تُعطَ جسدًا لتهينه روحك. ولم تُعطَ روحًا ليخدم جسدك. أنت لستَ مخلوقًا للدنيا، ولستَ غريبًا عنها. أنتَ جزء من العالم الطبيعي وطبيعته أن يتعالى دومًا عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم، ورُزِقَ كَفافًا، وقَنَّعَه الله بما آتاه"!
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |