|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#2
|
||||
|
||||
![]() وقيل: إن الأرواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعيمها وسرورها ما يليق بالأرواح؛ مما ترتزق وتنتعش به. وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها.. قال القرطبي: وهذا قول حسن، وإن كان فيه نوع من المجاز. روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا صَنَعَ اللهُ لَنَا، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ" فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الْآيَاتِ عَلَى رَسُولِهِ: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ﴾ [آل عمران:169]). وروى الترمذي: عن طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِي: (يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: (أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟) قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا. فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ" قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ﴾ [آل عمران:169]).. قال الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ [حسنه الألباني]. وروى مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ قَالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا). وروى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقٍ -نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ- فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [إسناده حسن]. قال ابن كثير: وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم. ثم قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة؛ فإن الإمام أحمد، رحمه الله، رواه عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي، رحمه الله، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق [أي: يأكل] في شَجِر الجَنَّةِ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ). وفي هذا الحديث: "إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ". وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا على الإيمان. وروى أحمد عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ). روى البخاري عن مُحَمَّد بْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ). وروى أحمد عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا جَابِرُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحْيَا أَبَاكَ، فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ، فَقَالَ: أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنِّي قَضَيْتُ، أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ). وهذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب؛ كما روى مسلم عن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ). قال أهل العلم: ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة. وروى البخاري في «الأدب المفرد» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ بَلَغَنِي حَدِيثٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ الأَنْصَارِيُّ فَأَتَيْتُ مَنْزِلَهُ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنَّ جَابِرًا عَلَى الْبَابِ فَرَجَعَ إِلَيَّ الرَّسُولُ فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فَقُلْتُ نَعَمْ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَخَرَجَ فَاعْتَنَقْتُهُ وَاعْتَنَقَنِي قَالَ قُلْتُ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَظَالِمِ لَمْ أَسْمَعْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعِبَادَ أَوْ قَالَ النَّاسَ -شَكَّ هَمَّامٌ- وَأَوْمَى بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ عُرَاةً غُرْلا بُهْمًا قَالَ قُلْنَا مَا بُهْمًا قَالَ لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعْهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةُ قَالَ قُلْنَا كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُفَاةً غُرْلا؟! قَالَ: (بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) [حسنه الألباني]. ﴿ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ ﴾ بمعنى أعطاهم، وأما (أتاهم) فبمعنى جاءهم. ﴿ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ الفضل في اللغة الزيادة، والمراد بالفضل هنا ما تفضل الله به عليهم من النعيم الذي لم يكن يخطر على بالهم. أي أنهم في هذه الحياة التي يحيونها يشعرون بسعادة عظيمة، لأنهم يرون ثمرات أعمالهم من الجهاد في سبيل الله، ويشعرون برضا الله سبحانه وتعالى، وأنهم في تكريم، وقد آتاهم الله تعالى نعمة الطاعة ونعمة الجهاد، وأشعرهم بالسعادة المطلقة في حياتهم الروحية، ورحابه الكريم، وأن الملائكة أولئك الأرواح الطاهرة تحفهم بالتكريم والترحيب. • وفى هذا النص الكريم رد على شماتة المنافقين، وتحريض للمؤمنين، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة، وهي أن الاستشهاد في سبيل الله تعالى ليس فناء، بل هو بقاءٌ، وأن الموت ليس إنهاء للحياة، ولكنه امتداد لها بصورة أكمل وأبقى. ﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ ﴾ والاستبشار: حصول البشارة، فالسين والتاء فيه كما في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ﴾ [التغابن:6]. ﴿ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ رفقاؤهم الذي كانوا يجاهدون معهم، ولم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة. ﴿ مِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ من بعدهم.. أي: ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم من إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم. ﴿ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ فلا خوف عليهم فيما يستقبل من أمرهم، ولا هم يحزنون على ما قضى من أمرهم؛ لأن الأصل أن الخوف للمستقبل والحزن للماضي. أما كونهم لا خوف عليهم في المستقبل، فلأنهم قد أحلّهم الله الجنات، والجنة من يدخلها ينعم فلا يبأس، ويصح فلا يسقم، ويحيى فلا يموت، وفيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وأما كونهم لا يحزنون على ما مضى فلأنهم استكملوا عملاً من أفضل الأعمال، وهو الجهاد في سبيل الله، الذي أدى بهم إلى الشهادة، فلا يحزنون على الماضي، فمن خرج من الدنيا شهيداً فقد خرج أكمل خروج وهو في الطبقة الثانية من طبقات الذين أنعم الله عليهم. روى البخاري عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ فَأَمَدَّهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ قَالَ قَتَادَةُ وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا ﴿ أَلَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ﴾ ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ. ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ الجملة استئنافية تبين استبشاراً آخر سببه غير السبب الأول، الأول سببه أنهم ينتظرون إخواناً لهم لم يلحقوا بهم، والسبب الثاني للاستبشار ما أنعم الله عليهم من النعمة والفضل، فاستبشروا وسُرّوا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. ﴿ وَفَضْلٍ ﴾ هذا لزيادة البيان. والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد. روى أحمد عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ - قَالَ الْحَكَمُ: سِتَّ خِصَالٍ- [كذا روى وهي في العدد تسع] أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى -قَالَ الْحَكَمُ: وَيُرَى- مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ -قَالَ الْحَكَمُ: يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ- وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ). وروي عن مجاهد أنه قال: السيوف مفاتيح الجنة. ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم، سواء الشهداء وغيرهم، وقَلَّما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر ما أعطى الله المؤمنين من بعدهم. • وفيه أنه إذا ثبت هذا للشهداء فإنه يثبت للأنبياء من باب أولى، فالأنبياء أحياء، ويمتاز الأنبياء عن الشهداء، بأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم بخلاف الشهداء، فإن الأرض تأكلهم، وقد لا تأكل بعضهم إكراماً لهم، وإلا في الأصل أنهم كغيرهم تأكلهم الأرض. ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 172-174]. ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ أجابوا وانقادوا لله والرسول حينما دعاهم النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى الغزوة مرة أخرى بعد أحد، مع ما أصابهم من الجراح والتعب النفسي والتعب البدني. وهذا كان يوم "حمراء الأسد"، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة. فلما بلغ ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد، سوى جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله -عز وجل- ولرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال ابن أبي حاتم: عن عكرمة قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا. فسمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد [وهي من المدينة على ثمانية أميال] فقال المشركون: نرجع من قابل. فرجع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكانت تعد غزوة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾. وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال، أذّن مؤذن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال: "يا بَنَيّ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نفسي، فتخلّف على أخواتك"، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم. قال ابن إسحاق: عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان؛ أن رجلا من أصحاب رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بني عبد الأشهل، كان شَهد أحدا قال: شهدتُ أحدا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنا وأخي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالخروج في طلب العدوّ، قلتُ لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ والله ما لنا من دابَّة نركبها، وما منّا إلا جريح ثَقيل، فخرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكنت أيسر جراحا منه، فكان إذا غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وروى البخاري عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ قَالَتْ لِعُرْوَةَ يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ: (مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ؟) فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا قَالَ كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ رضي الله عنهما. قال ابن كثير ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده، لمخالفته رواية الثقات من وقْفه على عائشة كما قدمناه، ومن جهة معناه، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. وقد مَر به -كما حدثني عبد الله بن أبي بكر-معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي، وكانت خُزاعة -مسلمهم ومشركهم- عيبة نُصح لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتِهامة، صَفْقَتُهم معه، لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، أما والله لقد عَزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه وقالوا: أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم.. لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك. ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك. قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر به ركب من بني عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ المدينة. قال: ولم؟ قالوا: بعكاظ إذ وَافَيْتُمونا قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، [وفي رواية: فبلغ أبا سفيان أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال: ردُّوا محمدا ولكم من الجُعْل كذا وكذا، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا، وأنني راجع إليهم] فمر الركب برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بلغه رجوعهم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ). ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ ﴾ بالاتباع ﴿ وَاتَّقَوْا ﴾ بترك المخالفة ﴿ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ كثير واسع.. وقد بين الله تعالى شيئاً من أجر الإحسان والتقوى فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم تُحْسِنُونَ ﴾ [النحل:128]. اختص سبحانه وتعالى من أولئك الذين جاهدوا ولم يستشهدوا بعد بأن لهم أجرا عظيما، وهنا يلاحظ ثلاثة أمور: (أولها) أن الله لم يذكر الأجر لهم جميعا، لأنهم كانوا أحياء، والحيّ قد يغير ويبدل، فكان لابد من التقييد بالإحسان والتقوى، أي يستمر على ما هو عليه. (وثانيها) أن الإحسان هنا غير التقوى، إذ الإحسان هو إجادة الخطة، واتباع المنهج المستقيم في القتال، وذلك لابد منه في الانتصار، والطاعة المطلقة للقائد من إحكام الخطة. (ثالثها) أن التقوى- وهي وقاية النفس من الغرض والهوى والاتجاه إلى الله وإخلاص وقلب سليم خال من الشوائب- أساس الأجر العظيم، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم. ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ﴾ نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة جُعل له جعل على ذلك القول. وقال جماعة من أهل السير: ركب عبد القيس، مارين بمر الظهران قرب مكة قاصدين المدينة للميرة، فدسهم أبو سفيان إلى المسلمين ليثبطوهم، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي. وقيل: وخرج أبو سفيان في أهل مكة ولكن ألقى الله الرعب في قلوبهم، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال: يا نعيم إني أوعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة فالحقْ بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل، ويروى أن الذين دسهم أبو سفيان ليبثوا الهزيمة في قلوبهم هم ركب عبد القيس، ويظهر أنه تكرر ذلك الدس من أبي سفيان. • وفيه: جواز إرادة الخصوص بلفظ العموم، وأن هذا أسلوب لغوي لا يخرج به الإنسان عن قواعد اللغة العربية. قال صاحب "الإتقان": قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد قوله: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ ﴾ ، فوقعت الإشارة بقوله: ﴿ ذَلِكُمُ ﴾ إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعا لقال: إنما أولئكم الشيطان. فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ. اهـ ومنه قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء:54] قال المفسرون: يعني بالناس محمدا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾ أي جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول. قال المفسرون: حذف فيه المفعول، فلم يقل جمعوا جيشا، وذلك ليذهب الخيال كل مذهب في مقدار ما جمعوا من أسلحة، ومقدار من جمعوا من الرجال وأموالهم، فيكون ذلك أشد تخويفا. ﴿ فَاخْشَوْهُمْ ﴾ والفرق بين الخوف والخشية أن الخوف يكون من أمر حاضر، والخشية من أمر متوقع، وهي إن كانت في الحاضر تكون خشية من قوي لما يكون منه في القابل. ﴿ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ﴾ أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وإقامة على نصرتهم، وقوة وجراءة واستعدادا. فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال. وذلك أن المؤمن عند المصائب يزداد إيماناً بالله واعتماداً عليه وتوكلاً عليه، ومن أمثلة ذلك أنه لما أحاط الأحزاب بالمدينة قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:22]. وقد قال الزمخشري في تصوير ذلك الرأي من هذه الآية: لما أخلصوا النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط إلى العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل، وعن ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه كان يأخذ بيد الرجل، فيقول: "قم بنا نزدد إيمانا"، وعنه: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح". ﴿ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ﴾ أي كافينا الله جل جلاله. وحسب مأخوذ من الإحساب، وهو الكفاية. ومعناها: إنهم اكتفوا بالله ناصرا، وإن كانوا في قلة وضعف. ﴿ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ليس المراد به المتوكل عن غيره، ولكن المراد المدافع عن غيره؛ لأن الله -عز وجل- لا يتوكل عن أحد، بل بيده الأمر كله، فيكون المراد بالوكيل هنا المدافع. فـ (الوكيل) من أسماء الله تعالى، ومعناه المتكفل بشؤون عباده، وليس معناه القائم بالأمر نيابة عنهم. روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالُوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾. وروى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴾ [المدثر:8] قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ، فَيَنْفُخُ؟) فَقَالَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: (قُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا). وروى الطبراني عن أم المؤمنين عائشة وزينب بنت جحش -رضي الله عنهما-، أنهما تفاخرتا فقالت زينب: زَوجني الله وزوجَكُن أهاليكن وقالت عائشة: نزلت براءتي من السماء في القرآن. فَسَلَّمَت لها زينب، ثم قالت: كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت زينب: قلت كلمة المؤمنين. ﴿ فَانْقَلَبُوا ﴾ عادوا، انقلبوا يعني: عائدين إلى المدينة بعد أن وصلوا إلى حمراء الأسد. ﴿ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ النعمة أنهم سلموا من ملاقاة العدو ولم يحصل حرب؛ لأن العدو مضى في سبيله ولم يرجع. ﴿ وَفَضْلٍ ﴾ المراد به فضل الجهاد، وأن الله كتب لهم بهذا الخروج أجر غزوة كاملة، فسلموا من الحرب ونالوا ثواب المجاهدين. ﴿ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ لم يصبهم ما يسوؤهم لا من جهة عدوهم ولا من جهة أحوالهم، بل كانوا على أحسن ما يرام ذهاباً ورجوعاً. فلما توكلوا على الله كفاهم ما أهمَّهُمْ وَرد عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم ﴿ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ مما أضمر لهم عدوهم. ﴿ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ﴾ قال علماؤنا: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا. فرضاهم عنه، ورضي عنهم. ﴿ وَاللَّهُ ذُو ﴾ صاحب ﴿ فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ على العباد في الدنيا والآخرة، لَا تكتنه حقيقته، ولا يحده الحصر، وقد بدا فيما أسبغه الله تعالى من نعم على الناس أجمعين، وما أنقذ به عباده المؤمنين من شر الكافرين، وما وفقهم له من طلب رضوانه وما نصرهم به من نصر مؤزر، والتنكير في الفضل ووصفه لإفادة كثرته وقوة أثره. وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ﴾ قال: هذا أبو سفيان، قال لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: موعدكم بدر، حيثُ قتلتم أصحابنا. فقال محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَسَى). فانطلق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لموعِده حتى نزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا فذلك قول الله عز وجل: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ قال: وهي غزوة بدر الصغرى. • وفيه: أن الإنسان إذا عمل العمل وسعى فيه ولم يكمله كتب له أجر كامل، ولهذا شواهد منها قوله تعالى: ﴿ وَمَن يَخْرُجُ مِنْ بيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء:100]. ومنها قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) [البخاري]، فالإنسان إذا سعى في العمل ولكنه لم يدركه فإنه يكتب له أجره كاملاً، حتى طالب العلم لو مات قبل أن يدرك ما يريد من العلم فإنه يكتب له ما نوی؛ لأنه شرع فيه وعمل ما يقدر عليه فينال الأجر. • وفيه إثبات اتصاف الله -عز وجل- بالفضل العظيم في كميته العظيم في كيفيته، أما في كميته فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم:34] وجعل جزاء الحسنة عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. وأما في كيفيته فقد قال الله -عزّ وجل-: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة:17] ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]. ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ أي: يخوفكم بأولياءه أو من أولياءه، ويوهمكم أنهم ذو بأس وذو شدة.. كما قال تعالى: ﴿ لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً ﴾ [الكهف:2] أي لينذركم ببأس شديد. أي: يعظمهم في صدوركم حتى تخافوهم وتتركوا الجهاد وتتركوا الدعوة؛ لأنكم تخافون منهم بسبب تخويف الشيطان. وأولياء الشيطان كل مجرم وفاسق وملحد وكافر، هؤلاء هم أولياء الشيطان. ﴿ فَلَا تَخَافُوهُمْ ﴾ لا يؤثر فيكم تخويفه فتخافوا منهم، فيؤثروا عليكم بهذا في ترك الجهاد. ﴿ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ شرط مؤخر، وهو تذكير وإحماء لإيمانهم، وإلا فقد علم أنهم مؤمنون حقا.. وفيه أنه كلما قوي إيمان الإنسان بالله قوي خوفه منه. أي: إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجئوا إلي، فأنا كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ إلى قوله: ﴿ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر:36-38]. ﴿ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء:76]. ﴿ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المجادلة:19]. ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة:21] ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج:40]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد:7]. ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر:51-52]. والمعنى: أي خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي. والخوف في كلام العرب الذعر. والخوفاء المفازة لا ماء بها. ويقال: "ناقة خوفاء" وهي الجرباء. قال سهل بن عبد الله: اجتمع بعض الصديقين إلى إبراهيم الخليل فقالوا: ما الخوف؟ فقال: لا تأمن حتى تبلغ المأمن. وقال سهل: وكان الربيع بن خيثم إذا مر بكير يغشى عليه؛ فقيل لعلّي بن أبي طالب ذلك؛ فقال: إذا أصابه ذلك فأعلموني. فأصابه فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال: أشهد أن هذا أخوف أهل زمانكم. فالخائف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا وإما في الآخرة؛ ولهذا قيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه. ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه بهذه لآية الشريفة. قال أبو علّي الدقاق: دخلت على أبي بكر بن فورك -رحمه الله- عائدا، فلما رأني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله يعافيك ويشفيك. فقال لي: أترى أني أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت. روى الترمذي بسند حسن عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ).
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |