|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() السلام النفسي في فريضة الحج د. أحمد أبو اليزيد في خضم الحياة ومصاعبها، ومكابدة الحياة وآلامها وابتلاءاتها، لا تجد امرأً قط على وجه هذه البسيطة يزعم أنه لا يعاني من هذا الكبد وتلك المعاناة، وأنَّى له ذلك وهذه سنة الله في خلقه؛ كما قال سبحانه في سورة البلد: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، نعم، كبد في أمور الدنيا، ما بين سعي مضنٍ لتحصيل الرزق، وتحمُّل آلام الجسد والمرض، ومفارقة الأحِبة وغيرها، وكذلك كبد في أمور الآخرة، ما بين كبت شهوات الجسد، أو دفع شبهات العقل؛ للوصول لجنة الرضوان، والفرار من جحيم النيران، وللناس - كل الناس مؤمنهم وكافرهم - في مواجهة هذا الكبد أساليبُ شتى، وضروبٌ عديدة - بغض النظر عن مشروعيتها في ميزان الإسلام - فمنهم من يلجأ للترويح على النفس بالملهيات والمسليات، أو الرياضة أو القراءة، أو العمل التطوعي وغيرها، أو على الجانب الآخر الوقوع فريسة للأمراض النفسية من اكتئاب وقلق، مما يدفع بعضهم للانزواء والانطواء وحيدًا أو حتى الانتحار، غير أن المسلم سبيله مختلفة للوصول لحالة السلام النفسي التي ينشُدها الجميع؛ فقد تكون راحته النفسية في صلاة فريضة: ((أرِحنا بها يا بلال))، أو ركعات في جوف الليل: ((شرف المؤمن قيامه بالليل))، أو صوم في يوم قائظٍ، أو نفقة سرٍّ أو صدقة علنٍ، أو بر والدين وصلة رحمٍ، أو سعي في حوائج الخلق لتفريج الهم، وفي كل هذا ((سرور يدخله على مسلم))، وإن السلام النفسيَّ يتجلى في كل فرائض الإسلام وشرائعه، وأعظم ما يتجلى في فريضة الحج، ففي فريضة الحج، يكون الإنسان في سلامٍ مع جسده، فلا يأخذ من شعره وأظافره، وسلام مع روحه فلا يرفث ولا يفسق، وسلام مع غيره فلا يجادل ولا يخاصم، وسلام مع البيئة فلا يقطع شجرًا ولا يصطاد حيوانًا بريًّا، وسلام مع الكون وما فيه، فهو في "أدب مع كل الوجود، أدب مع النفس، أدب مع الجماد، أدب مع النبات، أدب مع الحيوان"، وهذا السلام النفسي يوجد كذلك في العمرة، ومن رحمة الله بنا أنه شرع لنا تجديد العهد بالعمرة، غير أن الإحرام في العمرة قصير الزمن، والمناسك فيها في محيط واحد، أما مناسك الحج، فهي تزلزل القلب وتخلعه مع طول المكوث محرِمًا إحرامًا أصغر أو أكبر، من طواف قدوم، وسعيٍ بين جبلين، ومبيت بمنًى، ووقوف بعرفة، ومبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، وذبح للهدي، وطواف إفاضة، ومبيت بمنى ثلاثة أيام أو يومين مع رمي جمرات كل يوم، ثم طواف وداع؛ إنها حالة من التسليم فريدة في معناها قد أشرت إليها في مقال (مدرسة الحج)، وحالة من الحنين تجتاح القلب كما ذكرتها في مقال (أسير البيت العتيق). إن الإحرام في معناه النفسي لَهُو غاية الأرواح التي تتلهف أن تخلع عن كتفيها الدنيا وآلامها ومشاغلها، تطرحها جانبًا مع تبديل ملابس الإحرام بالمخيط، وفي هذا التبديل مع ترك المباحات من عطر ومباشرة نساء وغيرها لَهو أول درجة نحو استقرار النفس التي ذابت في أمور الدنيا، فأرادت أن تخلعها وتنبِذها حينًا من الدهر؛ أما الطواف ففيه معنى انسجام الروح مع الكون من نواته إلى مجراته، وتأمل معي معنى الحركة الدائرية التي - في علم الرياضيات - لا نهاية لها، وفيه يستقر القلب إلى مفهوم الأبدية والخلود التي لا وجود لها في الدنيا، ثم ينتقل بعدها إلى السعي والحركة الترددية التي يألفها في دنياه، غير أنها ومع مشقة ارتقاء الجبلين والنظر إلى الكعبة، وتمثُّل صورة هاجر وسعيها الحثيث، لَهو من دوافع استقرار النفس إلى مفهوم التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، ثم تأتي المناسك متوالية، بدءًا من يوم التروية في مِنًى، الذي يمهد القلب للزلزال الأكبر في يوم عرفة؛ حيث مشهد الحجيج في ثياب واحدة وعلى لسان واحد وعلى قلب واحد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك والملك، لا شريك لك). عرفة، وما أدراك ما عرفة؟! والحاج يدرك أن الله عز وجل يدنو ويباهي بعباده الملائكةَ، فكيف لا تستقر النفس وهي تعلم بقرب الرحمن، ومباهاة الملك العزيز، إنه لَشرف عظيم يدفع القلب والعقل والروح جميعًا للسَّكينة والطمأنينة، ثم تأتي قمة السلام النفسي - من وجهة نظري - في مزدلفة، وإن في عيني المبيتَ على هذه الأرض القاحلة الصلبة بين جبال مزدلفة لَهو ضابط بوصلة النفس نحو خالقها وبارئها، نحو فطرتها التي فرَّت منها طواعية أو مكرًا، فهدى الله خلقه بشرعه إلى ما ينفعهم، ويقر أنفسهم، ويريح بالهم؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، يا ألله، إن المبيت في ليلة النحر؛ حيث التقاط الحصى استعدادًا لرمي جمرة العقبة الكبرى لرسالة تربوية ونفسية غالية؛ أنك من الأرض وإليها تعود، فما فائدة السعي المضني في دنيا زائلة وأغراض فانية؟! ثم يأتي يوم النحر، وأعظم ما فيه إهراق الدماء، التي تقع من الله بمكانٍ قبل أن تقع بالأرض، فتطيب النفس بها وتسعد، ثم تطوف إفاضةً وتسعد وتهنأ بما سعدت بها أول مرة واستقرت، وبعدها تنتقل الروح لاستكمال معركتها التي لا مفر منها في هذه الدنيا ضد عدوها الأول الذي ناصبها العداء، فيرمي الجمرات في أيام متتالية يتخللها مبيتٌ بمنًى؛ حيث راحة النفس واستقرارها التي يختم بطواف يودع فيه القلب داخل أستار الكعبة، وداعَ محبٍّ لا وداع مفارق. ويظل الباب مفتوحًا لمن أراد سفينة السلام - سواء سبق له الحج أو عجز عن ذلك - ليُبحر بها في ظلمات كبد الحياة، أن يفرَّ إلى الله ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]، ففي هذا الفرار النجاة والسلام، وفيه الطمأنينة وراحة البال التي ينشدها كل لبيب، فهل من مدَّكر؟!
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |