تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 44 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فقه الْحَج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 3 )           »          ما يقول الحاج والمعتمر إذا استوى على راحلته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          من قام الليل هو وزوجته أصابته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          مفهوم الأثر عند المحدثين وبعض معاني الأثر في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الصحيحان: موازنة ومقاربة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          تخريج حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الكفاءة والخيار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          حديث: العرب بعضهم أكفاء بعض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          علة حديث: (نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          تخريج حديث: أنه توضأ للناس كما رأى النبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #431  
قديم 11-05-2024, 10:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3886 الى صـ 3900
الحلقة (431)


وقيل في خصائص ( الأقصى ) : إنه متعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى . بيت نوه الله به في الآيات المفصلة ، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة . لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب . وهو قبلة الصلاة في الملتين ، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين . وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين . لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، [ ص: 3886 ] ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه . انتهى . ومن فضائله ما رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم صححه ، عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثا ، فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة » .

سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه .

وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه .

وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد - يعني ببيت المقدس - خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه .

قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك » .

وروي أن ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه ؛ تجريدا لقصد الصلاة .

وقال الشيرازي في (" عرائس البيان ") : كان بداية المعراج الذهاب إلى الأقصى ؛ لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم . وهناك بقربه طور سينا ، وطور زيتا ، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى في تلك الجبال ، مواضع كشوف الحق ، لذلك قال : باركنا حوله انتهى .

والالتفات في : { باركنا } لتعظيم ما ذكر ؛ لأن فعل العظيم يكون عظيما ، لا سيما إذا عبر عنه بصيغة التعظيم . والنكتة العامة تنشيط السامعين .

[ ص: 3887 ] وقوله تعالى : لنريه من آياتنا إشارة إلى حكمة الإسراء . أي : لكي نري محمدا صلى الله عليه وسلم من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل ، مسيرة شهر ، ومشاهدة بيت المقدس ، وتمثل الأنبياء له ، ووقوفه على مقاماتهم العلية .

قيل : أراد تعالى أن يريه صلى الله عليه وسلم من الآيات الحسية بعد ما أراه الآيات العقلية ؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ودفع الوساوس من العقلية ؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحس والعيان . وقد تعترض الشبهة والوساوس في العقليات ؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو . فشاء عز وجل أن يري رسوله آيات حسية فتدفع المنصفين إلى قبولها والإيمان بها والإقرار له بالرسالة ؛ إذ ليس ذلك عمل سحر ولا افتراء ولا أساطير الأولين ، كذا يستفاد من " التأويلات " لأبي منصور .

وما أحسن ما قاله ابن إسحاق : كان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر منه بلاء وتمحيص ، وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه . فيه عبرة لأولي الألباب ، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن بالله وصدق . وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين . فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء ليريه من آياته ما أراد . حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم ، وقدرته التي يصنع بها ما يريد . انتهى .

وقوله تعالى : إنه هو السميع البصير أي : السميع لأقوال عباده وأفعالهم ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .

تنبيهات :

الأول : دلت هذه الآية على ثبوت الإسراء ، وهو سير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليلا . وأما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدل عليه . [ ص: 3888 ] ومنهم من يستدل عليه بأول سورة النجم . والكلام عليه ثمة .

الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث ، وأنه قبل هجرته بسنة . قاله الزهري وابن سعد وغيرهما . وبه جزم النووي ، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه . وقال : كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة .

وفي " إنسان العيون " : أن تلك الليلة كانت ليلة سبع عشرة . وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الأول ، وقيل : ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان ، وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر ، وقيل : من رجب . واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي ، قال : وعليه عمل الناس . والله أعلم .

الثالث : في (" زاد المعاد ") لابن القيم : كان الإسراء مرة واحدة . وقيل : مرتين : مرة يقظة ومرة مناما . وأرباب هذه القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله « ثم استيقظت » وبين سائر الروايات . ومنهم من قال : بل كان هذا مرتين : مرة قبل الوحي ؛ لقوله في حديث شريك ( وذلك قبل أن يوحى إليه ) ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث . ومنهم من قال : بل ثلاث مرات : مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده . وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل ، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات ، جعلوه مرة أخرى . فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع . والصواب الذي عليه أئمة النقل ؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة . ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا ! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا ، ثم يقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى الخمسين ثم يحطها عشرا عشرا ؟ ! .

الرابع : قال القاضي عياض ، عليه الرحمة ، في (" الشفا ") : اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات : فذهبت طائفة على أنه إسراء بالروح ، وأنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي . وإلى هذا ذهب معاوية ، وحكي عن [ ص: 3889 ] الحسن ( والمشهور عنه خلافه ) وإليه أشار محمد بن إسحاق . وحجتهم قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك وما حكوا عن عائشة : ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله « بينا أنا نائم » ، وقول أنس : ( وهو نائم في المسجد الحرام ) وذكر القصة ، ثم قال في آخرها : ( فاستيقظ وأنا بالمسجد الحرام ) .

وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة . وهذا هو الحق ، وهذا قول ابن عباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدري وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج . وهو دليل قول عائشة . وهو قول الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين . وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين .

وقالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس . وإلى السماء بالروح ، واحتجوا بقوله : سبحان الذي أسرى بعبده فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبي وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه . قال هؤلاء : ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .

ثم اختلفت هاتان الفرقتان : هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟ ففي حديث أنس وغيره صلاته فيه . وأنكر ذلك حذيفة وقال : والله ! ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا .

ثم قال القاضي عياض : والحق في هذا والصحيح ، إن شاء الله ، أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها . وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار . ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل ، إلا عند الاستحالة ، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة ؛ إذ لو كان مناما لقال : ( بروح عبده ) ولم يقل ( بعبده ) وقوله : ما زاغ البصر وما طغى ولو كان [ ص: 3890 ] مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة ، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه ، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به ؛ إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر . بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث ، من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس ( أو في السماء ) على ما روى غيره ، وذكر مجيء جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال : ومن معك ؟ فيقول : محمد . ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك .

وفي بعض هذه الأخبار : « فأخذ ، يعني جبريل ، بيدي ، فعرج بي إلى السماء » إلى قوله : « ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام » ، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى ، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره . قال ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم ، لا رؤيا منام .

وعن الحسن فيه : « بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت ، فجلست فلم أر شيئا ، فعدت لمضجعي » . ذكر ذلك ثلاثا ، فقال في الثالثة : « فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد ، فإذا بدابة » ، وذكر خبر البراق .

وعن أم هانئ : ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي تلك الليلة . صلى العشاء الآخرة ونام بيننا . فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى الصبح وصلينا قال : يا أم هانئ ! لقد صليت معكم العشاء الآخرة ، كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون . وهذا بين في أنه بجسمه .

وعن أبي بكر ( من رواية شداد بن أوس عنه ) أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به : طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : أن جبريل حمله إلى المسجد الأقصى .

وعن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة » ، وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتحمل على ظاهرها .

[ ص: 3891 ] وعن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ثم أخذ بيدي فعرج بي » .

وعن أنس : « أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم » . وعن أبي هريرة : « لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أثبتها ، فكربت كربا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه » . ونحوه عن جابر .

وقد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها » .

ثم قال القاضي عياض (" في إبطال حجج من قال : إنها نوم ") : احتجوا بقوله : وما جعلنا الرؤيا فسماها ) رؤيا ) . قلنا : قوله : سبحان الذي أسرى بعبده يرده ؛ لأنه لا يقال في النوم ( أسرى ) .

وقوله : فتنة للناس يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص ؛ إذ ليس في الحلم فتنة ، ولا يكذب به أحد ؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة . على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية . فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك . وقيل غير هذا .

وأما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناما ، وقوله في حديث آخر : « بين النائم واليقظان » . وقوله أيضا : وهو نائم . وقوله : « ثم استيقظت » ، فلا حجة فيه ؛ إذ يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم . أو أول حلمه والإسراء به وهو نائم . وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها إلا ما يدل عليه : « ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام » فلعل قوله « استيقظت » بمعنى أصبحت . أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته . ويدل عليه : أن مسراه لم يكن طول ليلة ، وإنما كان في بعضه . وقد يكون قوله : « استيقظت وأنا في المسجد الحرام » لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض ، وخامر بطنه من [ ص: 3892 ] مشاهدة الملأ الأعلى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى . فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام . ووجه ثالث : أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، ولكنه أسري بجسده وقلبه حاضر ، ورؤيا الأنبياء حق . تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم .

وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله ، ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات .

ووجه رابع : وهو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع . ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد عن همام : « بينا أنا نائم » ، وربما قال « مضطجع » ، وفي رواية هدبة عنه « بينا أنا في الحطيم » ، وربما قال « في الحجر مضطجع » . وقوله في الرواية الأخرى : « بين النائم واليقظان » فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا . وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم ، وذكر شق البطن ، ودنو الرب ، الواقعة في هذا الحديث ، إنما هي من رواية شريك عن أنس . فهي منكرة من روايته . انتهى كلام عياض . وبقيت له بقية من شاء فليراجعها .

الخامس : جملة الأقوال في الإسراء والمعراج ، على ما حكاه ابن القيم في (" زاد المعاد ") ستة : بروحه وجسده وهو الذي صححوه ، وقيل : كان ذلك مناما ، وقيل : بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناما ، وقيل : كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناما ، وقيل : كان الإسراء مرتين ، مرة يقظة ومرة مناما . وقيل : بل أسري به ثلاث مرات . وكان ذلك بعد البعث بالاتفاق . وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، فقيل : هو غلط ، وقيل : الوحي هنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة . والمراد : قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء ، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام ، وقد قدمنا أن عائشة ومعاوية والحسن ، نقل الأكثرون عنهم ؛ أنها رؤيا منام . وكذا حكى ابن جرير عن حذيفة ، [ ص: 3893 ] إلا أن ابن القيم نبه على دقيقة غريبة . قال رحمه الله : نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده . ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك . ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناما ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده . وبينهما فرق عظيم . وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناما ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده . وفرق بين الأمرين . فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة . فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء ، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض ، وروحه لم تصعد ولم تذهب . وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال . والذين قالوا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان : طائفة قالت : عرج بروحه وبدنه . وطائفة قالت : عرج بروحه ولم يفقد بدنه . وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما . وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة . وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فتقف بين يدي الله عز وجل . فيأمر فيها بما يشاء ، ثم تنزل إلى الأرض . فالذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة . ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم . لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى شق بطنه وهو حي لا يتألم ؛ كذلك عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة . ومن سواه صلى الله عليه وسلم ، لا تنال ذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة . فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان . وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت . وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء . ومع هذا فلها إشراف على البدن ، وإشراق وتعلق به . بحيث يرد السلام على من سلم عليه . وبهذا التعلق رأى موسى قائما يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها . فرآه يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك ، [ ص: 3894 ] وبدنه في ضريحه غير مفقود . وإذا سلم عليه المسلم ، رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى . ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا ؛ فلينظر إلى الشمس في علو محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها . هذا ، وشأن الروح فوق هذا . فلها شأن وللأبدان شأن . وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها . مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم . فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف .


فقل للعيون الرمد إياك أن تري سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا


انتهى كلام ابن القيم .

وقال العلامة سعدي في (" حواشي البيضاوي ") : والمعراج بروحه في اليقظة - وهو الذي أشار إليه ابن القيم - خارق أيضا للعادة . انتهى .

وتعقب العلامة القنوي له : بأنه نوع مراقبة وانسلاخ ، والذي ذهب إليه الصوفية ساقط ؛ لأنه فوقه بكثير . بل غيره كما تبين قبل . وبالجملة ، فالذي فهمه الأكثرون من قول عائشة ومعاوية وحذيفة والحسن ؛ أن ذلك رؤيا منام . وما ذكره ابن القيم من أنه إسراء بالروح ؛ فيحتمله اللفظ المأثور عنهم .

ونظيره قول بعضهم : إن ذلك كان أمرا إعجازيا . والحقيقة أنه كشف روحاني . وقد قرروا في عدم استحالة كونه يقظة بالروح والجسم ؛ أن خالق العالم قادر على كل الممكنات . وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسده صلى الله عليه وسلم ممكن . فوجب كونه تعالى قادرا عليه . وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة . والمعجزات كلها كذلك . وفي (" العقائد النسفية وحواشيها ") : الخرق والالتئام على السماوات جائز ؛ لأن الأجسام كلها متماثلة في تركبها من الجواهر الفردة ، فيصح على كل ما يصح على الآخر . فالأجسام العنصرية قابلة للخرق والالتئام . وكذا الأجسام الفلكية . والله تعالى قادر على الممكنات كلها . فيكون قادرا على الخرق في السماوات ؛ لأنه ممكن فيها . وفي الرازي براهين أخر . فانظرها .

[ ص: 3895 ] جاء في كتاب (" إظهار الحق ") : أن بعض أهل الكتاب مارى في المعراج ، فبكت بأن صعود الجسم العنصري إلى الأفلاك صرحت به التوراة الموجودة لديهم في ( أخنوخ ) . وأنه نقل حيا إلى السماء لئلا يرى الموت . كما في الفصل الخامس من سفر التكوين . وصرحت في صعود ( إيليا ) في الفصل الثاني من سفر الملوك . وفي إنجيل مرقس في الفصل السادس عشر التصريح برفع المسيح عليه السلام إلى السماء . انتهى .

أقول : أخنوخ : هو إدريس عليه السلام ، المنوه به في قوله تعالى : ورفعناه مكانا عليا وإيليا : نبي أرسل إلى آحاب أحد ملوك اليهود الكفرة ، الذين شهروا عبادة بعل وغيره من الأصنام بالسامرة . وتسمى الآن : سبسطية : من قسم الأرض المقدسة ، زعموا أنه ظهرت على يد إيليا خوارق باهرة . وأنه قتل سدنة بعل وهدم مذبحه ، إلى أن ارتفع في مركبة نارية وخيل نارية نحو السماء ، جانب نهر الأردن في بطاح أريحا ، شاهده خليفته اليشاع النبي بعده . كذا في تاريخ الكتاب المقدس . و ( إيليا ) : هو إلياس ، و ( اليشاع ) : هو اليسع المذكوران في القرآن المجيد .

وقد نوه بالأول في سورة الصافات بقوله تعالى : { وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين } .

السادس : قيل : إن المسجد الأقصى في زمن الإسراء كان خرابا بشهادة التاريخ . وذلك لأن سليمان عليه السلام بناه على مكان الصخرة . ثم خرب وألقيت على الصخرة زبالة البلد عنادا لليهود . وبقي كذلك حتى فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس . انظر ( تاريخ أبي الفداء ) وغيره . فكيف أطلق عليه اسم المسجد ؟ وأجيب : بأن المسجد في حال هدمه يسمى مسجدا ، باعتبار ما كان عليه وما وضع له ، كما أطلق المسجد على حرم مكة ، وهو لم يكن يومئذ مسجدا . وإنما كان بيتا للأصنام .

[ ص: 3896 ] لكن إبراهيم وإسماعيل ، لما بنيا الكعبة للعبادة الصحيحة ، كما بنى سليمان هيكله هذا لها ، سمي مسجدا بهذا الاعتبار . أو يقال : إنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهما . وهو كونهما مسجدين للمسلمين .

السابع : في التفاضل بين ليلة القدر وليلة الإسراء . سئل الإمام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه ، عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل ، فأيهما المصيب ؟ .

فأجاب : أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر . إن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه سلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر ، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر . فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين ، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام . هذا إذا كانت ليلة الإسراء يعرف عينها . فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا عشرها ولا على عينها ؟ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به ، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة ، التي يظن أنها ليلة الإسراء ، بقيام ولا غيره . بخلاف ليلة القدر فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » وفي الصحيحين عنه : [ ص: 3897 ] « تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » . وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر فإنه نزل فيها القرآن .

وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها ، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة ، فهذا صحيح . وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان ، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة . هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر ، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه . والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمر ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي . ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم .

ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه نقل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها . لا سيما على ليلة القدر . ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها . ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت . وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية . بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي ، وكان يتحراه قبل النبوة ، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة . ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها . ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه الوحي ولا الزمان بشيء . ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله ، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مراسم وعبادات . كيوم الميلاد ، ويوم التعميد ، وغير ذلك من أحواله . وقد رأى عمر بن الخطاب جماعة يتبادرون مكانا يصلون فيه . فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل ، وإلا فليمض . وقد قال بعض الناس : إن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر . وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء . فهذه [ ص: 3898 ] الليلة في حق الأمة أفضل لهم . وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له . انتهى . نقله الشمس ابن القيم (" في زاد المعاد ") .

الثامن : قال الشمس ابن القيم في (" زاد المعاد ") : اختلف الصحابة : هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه . وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا : إن قوله تعالى : ولقد رآه نـزلة أخرى عند سدرة المنتهى إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : « نور ، أنى أراه ؟ ! » . أي : حال بيني وبين رؤية النور . كما قال في لفظ آخر : « رأيت نورا » . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا . ولا قوله رآه بفؤاده . وقد صح عنه أنه قال : « رأيت ربي تبارك وتعالى » . ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح . ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه . وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله وقال : نعم ، رآه حقا . فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد . ولكن لم يقل أحمد : إنه رآه بعيني رأسه . ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه . ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده . فحكيت عنه روايتان وحكيت عنه الثالثة . من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه . وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك . وأما قول ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين . فإن كان استناده إلى قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ثم قال : ولقد رآه نـزلة أخرى والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل . رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . وقول ابن عباس هذا . هو مستند الإمام أحمد في قوله : رآه بفؤاده . والله أعلم .

[ ص: 3899 ] التاسع : قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه " التنوير في مولد السراج المنير " بعد ذكره حديث الإسراء من طريق أنس : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره ، على ما وقع في المسانيد . وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة ؛ ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون . وأعرض عنه الزنادقة والملحدون . انتهى .

وقد نقل الرازي عن بعض المعتزلة رده لجمل فيه - ساقها - صعب عليهم دركها . ولا إشكال فيها في الحقيقة بحمده تعالى . ولكن هم وأمثالهم ممن ضعفت عنايتهم بفن الحديث وغلب عليهم فن المعقول . ولقد فاتهم بسبب ذلك خير كثير . وليس في الأحاديث الصحيحة ما يناقض المفعول أو الواقع ، بوجه ما ، يعلم ذلك الراسخون . وفوق كل ذي علم عليم .

وقد بقي ممن رواه من الصحابة . غير من تقدم ؛ سهل بن سعد وعبد الله بن حوالة الأزدي وعبد الله بن أسعد بن زرارة وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر . وأما من رواه من التابعين مرسلا فكثير ، منهم : الحسن بن الحسين عليهما السلام وكعب ومحمد بن الحنفية وعروة وسفيان الثوري والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون . كما يعلم من مراجعة (الدر المنثور) للحافظ السيوطي .

وأما طرقه في الصحيحين . فقال الحافظ ابن حجر في (" الفتح ") : إنها تدور على أنس بن مالك مع اختلاف أصحابه عنه . فرواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة . وليس في أحاديث المعراج أصح منه . ورواه الزهري عنه عن أبي ذر . ورواه شريك بن أبي نمر وثابت البناني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة . وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر . وقوله تعالى :

[ ص: 3900 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[2-3] وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا .

وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #432  
قديم 11-05-2024, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3901 الى صـ 3915
الحلقة (432)


وقوله : ألا تتخذوا من دوني وكيلا أي : وليا ومعبودا تكلون إليه أموركم ؛ لأنه تعالى أنزل على كل نبي أرسله ، أن يعبده وحده لا شريك له ، وقد قرئ : { ألا يتخذوا } [ ص: 3901 ] بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل . والتقدير : جعلناه هدى لئلا يتخذوا . وقرئ بالتاء على الخطاب ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن ( أن ) بمعنى أي . وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي .

الثاني : أن ( أن ) زائدة ، أي : قلنا : لا تتخذوا .

الثالث : أن ( لا ) زائدة ، والتقدير : مخافة أن تتخذوا . والوكيل والموكول إليه . أي : المفوض إليه الأمور . وهو الرب . فـ ( فعيل ) بمعنى مفعول . و ( دون ) بمعنى غير . و ( من ) زائدة . أو تبعيضية . وقوله : ذرية من حملنا مع نوح نصب على الاختصاص أو النداء . وفيه تهييج وتنبيه على المنة . والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة . وإيماء إلى علة النهي . كأنه قيل : لا تشركوا به ، فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد . وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه . وفي التعبير بـ ( الذرية ) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء ، مناسبة تامة لما ذكر . وذكر حملهم في السفينة ؛ للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه . وقوله : عبدا شكورا أي : لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي . وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به . وقيل : إنه استطراد . وقوله تعالى :

[ ص: 3902 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[4-5] وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا .

وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب أي : كتاب اللوح المحفوظ ، أي : حكمنا فيه : لتفسدن في الأرض مرتين يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها . والإفساد بالكفر والمعاصي .

قال السمين : في تعدية ( قضينا ) بـ ( إلى ) تضمينه معنى أنفذنا . أي : أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم . ومتعلق القضاء محذوف . أي : بفسادهم . وقوله : لتفسدن جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء ، أو جواب لقوله : وقضينا لأنه ضمن معنى القسم . ومنه قولهم : ( قضاء الله لأفعلن كذا ) فيجرون القضاء والقدر مجرى القسم ، فيتلقيان بما يتلقى به القسم . و ( مرتين ) أي : إفسادتين . منصوب على أنه مصدر ( لتفسدن ) من غير لفظه . وعدل عنه ؛ لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد ولتعلن علوا كبيرا أي : ولتستكبرن وتتعظمن عن طاعة الله تعالى ، أو لتظلمن الناس

فإذا جاء وعد أولاهما أي : موعود أولى المرتين ، أي : وما وعدوا به في المرة الأولى ، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين : بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد أي : ذوي قوة وبطش في الحرب ، شديد : فجاسوا خلال الديار ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب : وكان وعدا مفعولا أي : مقضيا لا صارف له .

[ ص: 3903 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[6-8] ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .

ثم رددنا لكم الكرة عليهم أي : بعد هذه المؤاخذة الشديدة ، رددنا ، عند توبتكم ، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل ، عليهم : وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا أي : قوما ورهطا . جمع ( نفر ) أو اسم جمع له . وأصله من ينفر مع الرجل من قومه . وقوله تعالى :

إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها بمثابة التعليل لما قبله . أي : فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم ، أحسنتم لأنفسكم ، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير : وإن أسأتم فلها أي : فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير : فإذا جاء وعد الآخرة أي : مؤاخذة المرة الآخرة وعقوبتها . وقوله تعالى : ليسوءوا وجوهكم متعلق بجواب ( إذا ) المحذوف . أي : بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، أي : ذواتكم بالإذلال والقهر .

قال الشهاب : عديت المساءة إلى الوجوه ، وإن كانت عليهم ؛ لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه ، كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح ، وكلوحه وسواده بالخوف والحزن . [ ص: 3904 ] فالوجه ، بمعنى الذات مجاز مرسل ، أو استعارة تبعية . وقيل : الوجوه بمعنى الرؤساء . وهو تكلف . واختير هذا على ( ليسوؤكم ) مع أنه أخصر وأظهر ؛ إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن ، المدلول بقوله : وليتبروا انتهى .

وقوله تعالى : وليدخلوا المسجد أي : الأقصى : كما دخلوه أول مرة وليتبروا أي : يدمروا : ما علوا تتبيرا أي : عظيما فظيعا ، والتتبير : التدمير . وكل شيء كسرته وفتته فقد تبرته . ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله :

عسى ربكم أن يرحمكم أي : إذا أخلصتم الإنابة ، وأحسنتم الأعمال ، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم ؛ لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة ، ولذا قال : وإن عدتم أي : بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار : عدنا أي : إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا .

وجعلنا أي : يوم القيامة : جهنم للكافرين حصيرا أي : محبسا وسجنا يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب .

قال الشهاب : إن كان - ( حصيرا ) - اسما للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه . وإن كان بمعنى حاصرا أي : محيطا بهم ، وفعيل بمعنى فاعل ؛ يلزم مطابقته ، فإما لأنه على النسب ، كلابن وتامر . أو لحمه على ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) . أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقي ، أو لتأويلها بمذكر . انتهى .

وقيل : حصيرا ، أي : بساطا كما يبسط الحصير . مثل قوله تعالى : لهم من جهنم مهاد فهو تشبيه بليغ . والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض . كما قاله الراغب .

[ ص: 3905 ] تنبيه :

روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتبا لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه السلام ، فلما ملك ابنه بعده ، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة ، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان . فعوجل بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها ( المسجد الأقصى ) ونهب ما فيها . ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته . فانقسمت مملكته إلى قسمين : أحدهما : دعي مملكة يهوذا ، وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين ، بقيا خاضعين لابن سليمان .

وثانيهما : دعي مملكة إسرائيل ، وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة . وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له: يربعام ، خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك . فأقام في مملكته عجلين من ذهب . وأمر رعيته بعبادتهما . ورتب لهم أعيادا احتفالية وكهنة . وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين . وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان . إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية . واستمرت مملكة إسرائيل نحوا من مائتين وخمسين سنة . وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشور ، ففتح السامرة - بلدهم - وسباهم إلى أشور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ، ولم يسمع ذكرهم بعد . ثم أرسل ملك أشور قوما من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها . وأرسل معهم كاهنا من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم . فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى . وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة ، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير . فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر ( بختنصر ) فسبى قسما من شعبه ، وكان السبي الأول .

ثم قام ، بعد ذلك الملك الشرير ، ابنه ، فسار على طريقة أبيه . فعاد إليه ملك بابل المذكور [ ص: 3906 ] واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسما من الشعب ، وسلب الهيكل . وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنين من الأول .

ثم قام فيهم ملك أشر ممن تقدم - وهو آخر ملوكهم - وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضا بيت المقدس ، وأسره إلى بابل ، وأحرق المدينة والهيكل ، وسبى كل شعب يهوذا ، ما عدا مساكين الأرض ، إلى بابل . وهذا هو السبي الثالث والأخير .

وهكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة . ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس ، وجددوا عمارتها وقيام الهيكل . وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك الفرس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير ، وغلبت اليونان الفرس وجاء الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان . وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام :

منها مملكة سورية ومصر . وكانت بينهما حروب متصلة . والإسرائيليون ، لما كانوا بينهم ، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية . واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية ، وتمسكوا بديانة اليونانيين .

ثم استولى الرومانيون على فلسطين ، وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود ، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم . وتملكوا بيت المقدس . وهدم تيطس ، أحد ملوكهم ، الهيكل إلى أساسه . وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم ، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده ، وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة ، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم ، إلى أن سارت هيلانة أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر ، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح . وخربت الهيكل ، وأمرت أن تلقى فيه قمامات البلد وزبالته . فصار موضع الصخرة مزبلة . وبقي كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس . فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجدا ، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك ، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة .

[ ص: 3907 ] وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ . ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية . لأنها بإيجازها غنية عنه . وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها ، إلا أن أكثر المفسرين تطرقوا لبعض ماجريات اليهود هنا ، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون ؛ إيضاحا لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة .

وقد قدمنا في سورة يوسف ؛ أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع . ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها . وإنما يذكر موضع العبرة فيها . كما قال تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
ثم بين تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

[9] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا .

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم أي : للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها ، أو للملة ، أو للطريقة .

قال الزمخشري : وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ؛ لما في إبهام الموصوف بحذفه ، من فخامة تفقد مع إيضاحه .

ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا أي : يبشر المخلصين في إيمانهم ، وهم الذين يعملون الصالحات كلها ، ويجتنبون السيئات ؛ أن لهم في الدنيا والآخرة ثوابا وافرا .

[ ص: 3908 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[10-11] وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا .

وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي : بالبعث والجزاء على الأعمال : أعتدنا لهم عذابا أليما أي : في الآخرة ، وهو عذاب النار .

ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير أي : مثل دعائه بالخير : وكان الإنسان عجولا قال أبو السعود : الآية بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي . وإظهار لما بينهما من التباين . والمراد بالإنسان الجنس ، أسند إليه حال بعض أفراده . أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه . فالمعنى ، على الأول : أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير . ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم ، وهو ، أي : بعض منه وهو الكافر ، يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور ، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ومن قال : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } ، إلى غير ذلك مما حكى عنهم . وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه ، الموجبة له مجازا ، كما هو ديدن كلهم . وقوله : وكان الإنسان عجولا يعني بالإنسان : من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده . عجولا يسارع إلى طلب ما يخطر بباله ، متعاميا عن ضرره . أو مبالغا في العجلة ، يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة . ففيه نوع تهكم به . وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم ، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال .

وعلى الثاني : أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير . وهو في بعض أحيانه ، كما عند الغضب ، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر . وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه . أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا . وكان [ ص: 3909 ] الإنسان عجولا غير متبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به ، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه . انتهى .

ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن ، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية ، التي كل منها برهان نير لا ريب فيه . ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا .

وجعلنا الليل والنهار آيتين أي : جعلناهما ، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر ، علامتين تدلان على أن لهما خالقا حكيما فمحونا آية الليل أي : بجعلها مظلمة : وجعلنا آية النهار مبصرة أي : مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة . والإضافة فيهما إما بيانية ، أي : الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار . وإما حقيقية . وآية الليل والنهار نيراهما . والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه . أو نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق . وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات ، ذات أشعة تبصر بها الأشياء . فالإسناد في ( مبصرة ) مجازي إلى السبب العادي ، أو تجوز بعلاقة السبب . وقوله تعالى : لتبتغوا فضلا من ربكم متعلق بـ ( جعلنا ) أي : لتطلبوا في النهار رزقا منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار ولتعلموا عدد السنين والحساب أي : الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام ، أو الحساب الجاري في المعاملات ، كالبيوع والإجارات ، وفي العبادات ، أي : لتعرف مضي الآجال المضروبة لذلك ؛ إذ لولاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور .

[ ص: 3910 ] قال السيوطي في (" الإكليل ") : هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ . وفي الآية لف ونشر غير مرتب . انتهى .

وقوله تعالى : وكل شيء أي : مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم : فصلناه تفصيلا أي : بيناه في القرآن بيانا بليغا لا التباس معه . كقوله تعالى : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[13-15] وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أي : ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيرا وشرا ، بحيث لا يفارقه أبدا . بل يلزمه لزوم الطوق في العنق ، لا ينفك عنه بحال .

قال الطبري : المعنى : وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله ، في عنقه لا يفارقه . وإنما قوله : ألزمناه طائره في عنقه مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها .

[ ص: 3911 ] وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال ؛ وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر ، اعتبروا أحوال الطير : وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه . وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر ، تسمية للشيء باسم لازمه .

قال الطبري : فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه ، نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنان عدن . وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد ، قيل : لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك ، إلى أعناقهم . وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق . كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه . وإن كان الذي جر عليه لسانه أو فرجه . فكذلك قوله : ألزمناه طائره في عنقه وحاصله : - كما قاله الرازي - أن قوله : في عنقه كناية عن اللزوم . كما يقال : ( جعلت هذا في عنقك ) أي : قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به . ويقال : ( قلدتك كذا وطوقتك كذا ) أي : صرفته إليك وألزمته إياك . ومنه ( قلده السلطان كذا ) أي : صارت الولاية ، في لزومها له ، في موضع القلادة ومكان الطوق . ومنه يقال ( فلان يقلد فلانا ) أي : يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه . وقوله تعالى : ونخرج له أي : نظهر له : يوم القيامة أي : البعث للجزاء على الأعمال : كتابا يلقاه منشورا أي : يجده مفتوحا فيه حسناته وسيئاته . ويقال له :

اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا أي : شهيدا بما عملت .

[ ص: 3912 ] قال القاشاني : كتابا هيكلا مصورا يصور أعماله : يلقاه منشورا لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة ، لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة . يقال له : اقرأ كتابك أي : اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره بالقراءة . أو تأمره القوى الملكوتية . سواء كان قارئا أو غير قارئ ؛ لأن الأعمال هناك ممثلة بهيئاتها وصورها ، يعرفها كل أحد . لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأمي : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها ، نصب عينها ، مفصلا لا يمكنها الإنكار .

وقوله تعالى : من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه قال أبو السعود : فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق ، ولزوم الأعمال لأصحابها . أي : من اهتدى بهدايته ، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام ، وانتهى عما نهاه عنه ، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه ، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي : ومن ضل أي : عن الطريقة التي يهديه إليها : فإنما يضل عليها أي : وبال ضلاله عليها ، لا على من عداه ممن لم يباشره . فقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى مؤكد لما قبله للاهتمام به .

قال أبو السعود : أي : لا تحمل نفسه حاملة للوزر ، وزر نفس أخرى ، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها . ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم . بل إنما تحمل كل منهما وزرها . وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وأما ما يدل عليه قوله تعالى : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وقوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من حمل الغير وزر الغير ، وانتفاعه بحسنته ، وتضرره بسيئته ، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه ، وتضرر بسيئته . فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له . وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته ، لا جزاء [ ص: 3913 ] أصل الحسنة والسيئة ، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين . وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال .

وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة . حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق ، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم . انتهى .

وقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا بيان للعناية الربانية ، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها ، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته ، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها . أي : وما صح وما استقام منا ، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة ، أن نعذب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق ، ويردعهم عن الضلال ؛ لإقامة الحجة وقطعا للعذر . والعذاب أعم من الدنيوي والأخروي ، لقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وقال تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وكذا قوله : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقال تعالى : وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوما عذاب استئصال ، ولا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسل . قال قتادة : [ ص: 3914 ] إن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخبر أو بينة . ولا يعذب أحدا إلا بذنبه . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[16] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا .

وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة . وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم . وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيوي لانحصارها فيه . والمعنى : إذا أردنا أن نعذب قوما عذاب استئصال : أمرنا مترفيها يعني متنعميها ، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم : ففسقوا فيها بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته : فحق عليها القول فوجب عليها ، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم ، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج : فدمرناها تدميرا أي : فخربناها تخريبا لا يكتنه كنهه ولا يوصف . وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا هائلا ، كما جرى لبيت المقدس ، لما انحرف اليهود عن شرعتهم ، على ما قدمنا بيانه . وإنما خص المترفين ، وهم الجبارون والملوك والرؤساء بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل ؛ لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم . ولأن توجه الأمر إليهم آكد . وإنما حذف مفعول : أمرنا لظهور أن المراد به الحق والخير . لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه . وفي إيثار ( القرية ) على أهلها زيادة تهويل وتفظيع ، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم ، وطمس أثرهم ، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدو . ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال : تدميرا أي : كليا بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع .

[ ص: 3915 ] قال القاشاني : إن لكل شيء في الدنيا زوالا . وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك . وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال ، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته ؛ فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام . فإذا جاء وقت إهلاك قرية ، فلا بد من استحقاقها للإهلاك . وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله . فلما تعلقت إرادته بإهلاكها ، تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطرا وأشرا بنعمة الله ، واستعمالا لها فيما لا ينبغي . وذلك بأمر من الله وقدر منه ، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم . وحينئذ وجب إهلاكهم . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[17] وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا .

وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح أي : وكثيرا ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح ، كعاد وثمود وفرعون . ممن قصت أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص . و : { القرون } جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه ، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد . وخص : نوح ولم يقل : ( من بعد آدم ) لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب . ففيه تهديد وإنذار للمشركين .

وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا أي : لا يخفى عليه شيء منها ، فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها .

والآية تدل - كما قال الزمخشري - : على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم ، دل على أنه جازاهم بها .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #433  
قديم 11-05-2024, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3916 الى صـ 3930
الحلقة (433)



القول في تأويل قوله تعالى :

[18-19] من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا .

من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا

أي من كان طلبه الدنيا العاجلة ، ولها يعمل ويسعى ، وإياها يبتغي ؛ لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على علمه : عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي : ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك . أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة . ثم يصلى جهنم في الآخرة : مذموما على قلة شكره لمولاه ، وسوء صنيعه فيما سلف له : مدحورا مطرودا من الرحمة ، مبعدا مقصيا في النار . ومن أراد الآخرة وإياها طلب ، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه ، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء .

تنبيه :

قال القفال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤما . والثانية لمن جعله يمنا وخيرا . وفي قوله تعالى : وسعى لها سعيها أي : ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة ، تبيين لقوله : ومن أراد الآخرة بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح ، بفعل المأمور واجتناب المنهي عنه . وقوله تعالى :

[ ص: 3917 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[20-22] كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا .

كلا نمد أي : كل واحد من الفريقين . وقوله : هؤلاء وهؤلاء بدل من ( كلا ) : من عطاء ربك أي : فضله . فيرزقهما جميعا من رزقه إلى بلوغهما الأمد واستيفائهما الأجل ، ما كتب لهما . ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات ، وتفترق بهما بعد الورود المصادر . ففريق مريدي العاجلة ، إلى جهنم مصدرهم . وفريق مريدي الآخرة ، إلى الجنة مآبهم : وما كان عطاء ربك محظورا أي : ممنوعا لا يمنعه من عاص لعصيانه . والجملة كالتعليل لشمول الإمداد للفريقين .

انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض أي : في الرزق في الدنيا : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

ثم أشار تعالى إلى ما به تنال درجات الآخرة من البراءة من الشرك ، ومن الاعتصام بالإيمان وشعبه ، بقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا أي : لا تجعل معه شريكا في عبادته فتصير مذموما ملوما على الشرك ، مخذولا من الله ، يكلك إلى ذاك الشريك ولا ينصرك : وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده

[ ص: 3918 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[23-24] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا .

وقضى ربك أي : أمر أمرا مقطوعا به : ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا أي : وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا . قال القاشاني : قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة ؛ لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية ؛ لتربيتها إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك . وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية ، والرحمة والرأفة بالنسبة إليك . ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما ، والله غني عن ذلك . فأهم الواجبات بعد التوحيد إذا ؛ إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى . و : إما هي ( إن ) الشرطية زيدت عليها ( ما ) تأكيدا لها . و : أحدهما فاعل ( يبلغن ) و : كلاهما عطف عليه . ومعنى : { عندك } هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلا على ولدهما ، ولا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه . وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا . وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة . فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما ، إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : أف فضلا عما يزيد عليه . أفاده الزمخشري .

[ ص: 3919 ] ولا تنهرهما أي : تزجرهم عما لا يعجبك ، بغلظة : وقل لهما بدل التأفيف والنهر : قولا كريما أي : حسنا كما يقتضيه حسن الأدب معهما . ومعنى قوله : واخفض لهما جناح الذل تذلل لهما وتواضع . وفيه استعارة مكنية وتخييلية . فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا ، وأثبت له الجناح تخييلا ، والخفض ترشيحا . و ( خفضه ) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية . أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح ، والخفض ترشيح . و ( الجناح ) الجانب كما يقال ( جناحا العسكر ) وخفضه مجاز ، كما يقال ( لين الجانب ) و ( منخفض الجانب ) . وإضافة الجناح إلى الذل للبيان ؛ لأنه صفة مبينة . أي : جناحك الذليل . وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر . فكأنه جعل عين الذل . أو التركيب استعارة تمثيلية . فيكون مثلا لغاية التواضع . وسر ذكر الجناح وخفضه ، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس . و : { من } في قوله تعالى : من الرحمة ابتدائية على سبيل التعليل . أي : من فرط رحمتك لهما ، وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم ، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس . وافتقار المرء إلى من كان مفتقرا له ، غاية في الضراعة والمسكنة ، فيرحمه أشد رحمة . كما قال الخفاجي :


يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله ؟

ما ذلة السلطان إلا إذا
أصبح محتاجا إلى عامله


وقوله تعالى : وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا أي : رب ! تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك ، كما تعطفا علي في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما .

قال الزمخشري : أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها ، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية . واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . والكاف للتعليل . أي : لأجل تربيتهما لي .

قال الطيبي : الكاف لتأكيد الوجود . كأنه قيل : رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها ، كقوله : مثل ما أنكم تنطقون وهو وجه حسن .

[ ص: 3920 ] تنبيه :

استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام ؛ لأنه وقت فاضل . وقد جمعت من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما ، جملة ضممتها لكتابي " الأوراد المأثورة " . لا أزال أدعو لهما بها في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته ؛ لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[25-27] ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا .

ربكم أعلم بما في نفوسكم أي : ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين والعقوق : إن تكونوا صالحين أي : قاصدين للصلاح والبر دون العقوق : فإنه كان للأوابين أي : التوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم ، والاستقامة على المأمور : غفورا أي : لهم ما اكتسبوا . ولا يخفى ما في صدر الآية من الوعد لمن أضمر البر . والوعيد لمن أضمر الكراهة والاستثقال والعقوق .

قيل : الآية استئناف يقتضيه مقام التأكيد والتشديد . كأنه قيل : كيف يقوم بحقهما وقد تبدر بوادر ؟ فقيل : إذا بنيتم الأمر على الأساس ، وكان المستمر ذلك ، ثم اتفقت بادرة من غير قصد إلى المساءة ، فلطف الله يحجز دون عذابه . ويجوز - كما قال الزمخشري - أن يكون هذا عاما لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها . ويندرج تحته الجاني على أبويه ، التائب من جنايته ؛ لوروده على أثره .

ثم وصى تعالى بغير الوالدين من الأقارب ، بعد الوصية بهما ، [ ص: 3921 ] بقوله سبحانه :

وآت ذا القربى حقه أي : من صلته وحسن المعاشرة والبر له بالإنفاق عليه .

قال المهايمي : لم يقل ( القريب ) لأن المطلق ينصرف إلى الكامل . والإضافة لما كانت لأدنى الملابسة ، صدق ( ذو القربى ) على كل من له قرابة ما : والمسكين أي : الفقير من الأباعد . وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم وابن السبيل أي : المسافر المنقطع به . أي : أعنه وقوه على قطع سفره . ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة ، فإن ذلك كله من حقه : ولا تبذر تبذيرا أي : بوجه من الوجوه ، بالإنفاق في محرم أو مكروه ، أو على من لا يستحق ، فتحسبه إحسانا إلى نفسك أو غيرك . أفاده المهايمي .

وفي (" الكشاف ") : كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في أشعارها . فأمر الله بالنفقة في وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .

إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين أي : أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي . وهذا غاية المذمة ؛ لأن لا شر من الشيطان . أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة . كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه ، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد . والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير ، ببيان أنه يجعل صاحبه مقرونا معهم . وقوله : وكان الشيطان لربه كفورا من تتمة التعليل . قال أبو السعود : أي : مبالغا في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى ، أي : مبالغا في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي ، والإفساد في الأرض ، وإضلال الناس ، وحملهم على الكفر بالله ، وكفران نعمه الفائضة عليهم ، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به . وتخصيص هذا الوصف بالذكر ، من بين سائر أوصافه القبيحة ؛ للإيذان بأن التبذير ، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها ، من باب الكفران ، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له . والتعرض لوصف الربوبية ؛ للإشعار بكمال عتوه . فإن [ ص: 3922 ] كفران نعمة الرب ، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها ، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان . انتهى .

وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله.
القول في تأويل قوله تعالى :

[28] وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا .

وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا أي : وإن أنت أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل ، حياء من الرد ، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه ، فلا تؤيسهم وقل لهم قولا لينا سهلا ، وعدهم وعدا جميلا . قال في " الكشف " : ( ابتغاء ) أقيم مقام فقدانه ، وفيه لطف . فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم . وهو من وضع المسبب موضع السبب . فإن الفقد سبب للابتغاء .

قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية الأمر بالقول اللين عند عدم وجود ما يعطى منه ، وفسره ابن زيد : بالدعاء . والحسن وابن عباس : بالعدة . انتهى .

وظاهر ، أن القول الميسور يشمل الكل . وذهب المهايمي إلى أن الآية في منعهم خوفا من أن يصرفوه فيما لا ينبغي . قال : أي : وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم ، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم ؛ لئلا يقعوا في التبذير ، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى ، لما عرفت من عاداتهم ، فقل لهم في الدفع قولا سهلا عليهم ، إحسانا إليهم بدل العطاء . انتهى .

ولم أره لغيره ، والنظم الكريم يحتمله .

[ ص: 3923 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[29] ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا .

ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي : لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم ، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه ، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء : ولا تبسطها كل البسط أي : بالتبذير والسرف . قال ابن كثير : أي : لا تسرف في الإنفاق ، فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك : فتقعد أي : فتبقى : ملوما يلومك الفقراء والقرابة : محسورا أي : نادما ، من ( الحسرة ) أو منقطعا بك لا شيء عندك ، من ( حسره السفر ) إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه .

وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه ، بمن يده مغلولة لعنقه ، بحيث لا يقدر على مدها .

وفي الثانية شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئا . وهو ظاهر . وجعل ابن كثير قوله تعالى : فتقعد ملوما محسورا من باب اللف والنشر المرتب . قال : أي : فتقعد ، إن بخلت ، ملوما يلومك الناس ويذمونك ، ويستغنون عنك ، كما قال زهير في المعلقة :


ومن كان ذا مال فيبخل بماله على قومه يستغن عنه ويذمم


[ ص: 3924 ] ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهي الدابة التي عجزت عن السير ، فوقفت ضعفا وعجزا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[30] إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي : يوسعه ويضيقه ، حسب مشيئته وحكمته إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أي : خبيرا ببواطنهم ، بصيرا بظواهرهم .

قال المهايمي : ولما وجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، لحفظ أرواحهم ، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى ، لذلك قال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[31] ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا .

ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم نهي لهم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قتلهم أولادهم . وهو وأدهم بناتهم . أي : دفنهن في الحياة . كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق والفقر ، بالإنفاق عليهم إذا كبروا . فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم بقوله : نحن نرزقهم أي : نحن المختصون بإعطاء رزقهم في الصغر والكبر ، وقوله تعالى : وإياكم أي : الآن بإغنائكم . وقوله تعالى : إن قتلهم أي : للإملاق الحاضر والخشية في المستقبل : كان خطئا كبيرا أي : لإفضائه إلى تخريب العالم . وأي خطأ أكبر من ذلك .

[ ص: 3925 ] تنبيه :

دل قوله تعالى : خشية إملاق على أن ذلك هو الحامل لهم على الوأد ، لا خوف العار كما زعموا . قال المبرد في (" الكامل ") : كانت العرب في الجاهلية تئد البنات ، ولم يكن هذا في جميعها . إنما كان في تميم بن مر ، وقيس ، وأسد ، وهذيل ، وبكر بن وائل .

ثم قال : ودل على ما من أجله قتلوا البنات فقال : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق وقال : ولا يقتلن أولادهن فهذا خبر بين أن ذلك للحاجة . وقد روى بعضهم : أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة . وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى ؛ أن تميما منعت النعمان الإتاوة . فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر ، فاستاق النعم وسبى الذراري . فوفدت إليه بنو تميم . فلما رآها أحب البقيا . فأناب القوم وسألوه النساء . فقال النعمان : كل امرأة اختارت أباها ردت إليه ، وإن اختارت صاحبها تركت عليه . فكلهن اختار أباها ، إلا ابنة القيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج . فنذر قيس إلا تولد له ابنة إلا قتلها . فهذا شيء يعتل به من وأد ، ويقول : فعلناه أنفة ، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن .

وقال ابن عباس رحمه الله ( في تأويل هذه الآية ) : وكانوا لا يورثون ولا يتخذون إلا من طاعن بالرمح ومنع الحريم . يريد : الذكران . والخطأ كالإثم ، لفظا ومعنى .

ولما نهى عن قتل الأولاد ، نهى عن قطع النسل بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[32] ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا .

ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة أي : فعلة قبيحة متناهية في القبح . توجب [ ص: 3926 ] النفرة عن صاحبه ، والتفرقة بين الناس : وساء سبيلا أي : بئس طريقا طريقه . فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب ، وهيجان الفتن غصبا من غير سبب ، والسبب ممكن ، وهو الصهر الذي شرعه الله . وقال المهايمي : { ساء سبيلا } لقضاء الشهوة التي خلقت لطلب النسل ، بتضييعه . ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير والتفرقة فقال تعالى مجده :
القول في تأويل قوله تعالى :

[33] ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .

ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي : قتلها ، وهي نفس الإنسان : إلا بالحق أي : إلا بسبب الحق ، فيتعلق بـ : { لا تقتلوا } أو حال من فاعل ( لا تقتلوا ) أو من مفعوله . وجوز تعلقه بـ ( حرم ) أي : حرم قتلها إلا بالحق ، وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ، أو قودا بنفس : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا أي : ومن قتل بغير حق ، مما تقدم ، فقد جعلنا لوليه ، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه : سلطانا أي : تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه . أو حجة يثب بها عليه ، وحينئذ فلا يسرف في القتل . أي : فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين ، والقاتل واحد ، كعادة الجاهلية . كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة . وقوله : إنه كان منصورا تعليل للنهي . والضمير للولي . يعني : حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزد على ذلك .

[ ص: 3927 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[34] ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا .

ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن أي : لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن ، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه . وقوله تعالى : حتى يبلغ أشده غاية جواز التصرف على الوجه الحسن ، أي : حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه : وأوفوا بالعهد أي : العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام ، وفيما بينكم أيضا . والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها : إن العهد كان مسؤولا أي : مطلوبا ، يطلب من المعاهد الثبات عليه ، وعدم إضاعته . أو : صاحبه مسؤول عن نقضه إياه . والمعنى : لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم ، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[35] وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .

وأوفوا الكيل إذا كلتم أي : أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه : وزنوا بالقسطاس المستقيم أي : بالميزان السوي ؛ بلا اعوجاج ولا خديعة : ذلك خير أي : لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل ، وإيفاء الحقوق أربابها : وأحسن تأويلا أي : عاقبة ومآلا ؛ إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة . ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنوي .

[ ص: 3928 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[36-] ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .

ولا تقف ما ليس لك به علم أي : لا تتبعه في قول أو فعل ، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل . من : ( قفا أثره ) إذا تبعه .

قال الزمخشري : والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا ؛ لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده . انتهى .

ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة . كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل ، وكشهادة الزور ، والقذف ، ورمي المحصنات الغافلات ، والكذب ، وما شاكلها : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا أي : كان صاحبها مسئولا عما نسب إليها يوم القيامة . أو تسأل نفس الأعضاء لتشهد على صاحبها .

قال المهايمي : قدم السمع ؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه . وأخر الفؤاد ؛ لأنه منتهى الحواس . ولم يذكر بقيتها ؛ لأنه لا يخالفها قول أو فعل .

ولا تمش في الأرض مرحا أي : مختالا ، أي : مشية المعجب المتكبر ؛ إذ لا يفيدك قوة ولا علوا . كما قال سبحانه : إنك لن تخرق الأرض أي : لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها ، وشدة وطأتك : ولن تبلغ الجبال طولا أي : لن تحاذيها بتطاولك ومد قامتك ، كما يفعله المختال تكلفا . وفي هذا تهكم بالمختال ، وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وبعض أجزائها .

[ ص: 3929 ] قال الناصر : وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية ، كفاية في الانزجار عنها . ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية ، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا . بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين ، أو شد طرفا من رياسة الدنيا ، إذا هو يتبختر في مشيه ، ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال ، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء ، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه ، وقلبه عن تدبره على مراحل . والله ولي التوفيق .
القول في تأويل قوله تعالى :

[1-2] كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا .

كل ذلك أي : المنهي عنه من قوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر إلى هذه الغاية : كان سيئه عند ربك مكروها قال المهايمي : أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك . وأما عبادة الغير فلما فيها من تعظيمه المخصوص بذي الكمال المطلق ، فهو في معنى الشرك . وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية ، أحوج ما يكون المرء إليها . ومنع الحقوق بالبخل تفريط ، والتبذير والبسط إفراط . وهما مذمومان . والذميم مكروه . والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها . . . والزنى وإتلاف مال اليتيم في معناه . ونقض العهد مخل بنظام العالم . وكذا اقتفاء ما لا يعلم . والتكبر من خواص الحق . وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئا .

ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة أي : مما يحكم العقل بصحته ، وتصلح النفس بأسوته .

قال المهايمي : أي : من العلم المحكم الذي لا يتغير بشبهة : ولا تجعل مع الله إلها [ ص: 3930 ] آخر كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه . وأنه رأس كل حكمة وملاكها . ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه .

قال أبو السعود : وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أولا حيث قيل : فتقعد مذموما مخذولا ورتب عليه ها هنا نتيجة في العقبى فقيل : فتلقى في جهنم ملوما أي : بالجهل العظيم : مدحورا أي : مبعدا مطرودا من الرحمة . وفي إيراد الإلقاء ، مبنيا للمفعول ، جري على سنن الكبرياء ، وازدراء بالمشرك وجعل له ، من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه ، فيطرحها في التنور . انتهى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[40] أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما .

أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما

خطاب للذين قالوا من مشركي العرب : ( الملائكة بنات الله ) والهمزة للإنكار . قال الزمخشري : والمعنى : أفخصكم ربكم ، على وجه الخلوص والصفاء ، بأفضل الأولاد وهم الذكور ، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه ، واتخذ أدونهم ، وهن البنات ، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم ، بل تئدونهن وتقتلونهن . فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم . فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء ، وأصفاها من الشوب ، ويكون أردؤها وأدونها للسادات . وقوله تعالى : إنكم لتقولون قولا عظيما أي : بإضافة الأولاد إليه ، وهي خاصة المحدثات . ثم بإيثاركم أنفسكم عليه ، حيث تجعلون له ما تكرهون .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #434  
قديم 11-05-2024, 11:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3931 الى صـ 3945
الحلقة (434)


القول في تأويل قوله تعالى :

[41-42] ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا .

ولقد صرفنا في هذا القرآن أي : كررنا للناس البيان بوجوه كثيرة ، وبينا فيه من كل مثل : ليذكروا أي : ليتعظوا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم : وما يزيدهم أي : التصريف المذكور : إلا نفورا أي : عن الحق وبعدا عنه ، الذي يقربه وجوه البيان .

وقوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا أي : قل لهؤلاء المشركين ) الزاعمين أن لله شركاء من خلقه ، العابدين معه غيره ، ليقربهم إليه زلفى ) : لو كان الأمر كما تقولون ، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه ؛ لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ، ويبتغون الزلفى والطاعة لديه ، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه . ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه . فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه . بل يكرهه ويأباه . وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه . هذا ما اختاره ابن كثير ، وسبقه إليه ابن جرير .

وحاصله : أن السبيل بمعنى الوسيلة الموصلة إليه . وفيه إشارة إلى قياس اقتراني تقريره هكذا : ولو كان كما زعمتم معه آلهة لتقربوا إليه . وكل من كان كذلك ليس إلها ، فهم ليسوا بآلهة . وقيل : معنى : لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا أي : لطلبوا إليه سبيلا بالمغالبة والممانعة ، كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض ، على طريقة قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهذا الوجه قدمه الزمخشري على الأول . وقال أبو السعود : إنه الأظهر الأنسب لقوله :

[ ص: 3932 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[43-44] سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا .

سبحانه فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم ، من حيث لا يحتسبون . وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب ، فليس مما يختص بهذا التقرير ، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون . بل هو أمر يعتقدونه رأسا . انتهى . ومعنى : سبحانه أي : تنزه عن الولد والشريك تنزها حقيقا به : وتعالى عما يقولون علوا كبيرا أي : تعاظم عن ذلك تعاظما كبيرا . فإن مثل هذه الفرية والبهتان ، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى .

قال الشهاب : وذكر العلو ، بعد عنوانه بـ ( ذي العرش ) . في أعلى مراتب البلاغة . وقوله تعالى :

تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا أي : تنزه الله ، وتقدسه وتجله السماوات والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون . وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته ، كما قال : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وقوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم أي : لأنها بخلاف لغاتكم .

قال ابن كثير : وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، على أشهر القولين . ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام ، والحصا ، مما خرج في الصحيحين والمسانيد ، مما هو مشهور . [ ص: 3933 ] واختاره الراغب في (" مفرداته ") وقال : إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله : ولكن لا تفقهون تسبيحهم ودلالة قوله : ومن فيهن بعد ذكر السماوات والأرض لا يصح أن يكون تقديره ( يسبح له من في السماوات ويسجد له من في الأرض ) لأن هذا من نفقهه ، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره . ثم يعطف عليه بقوله : ومن فيهن والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار . والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار ، لما ذكر من الدلالة . انتهى .

وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازي ، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية ، كـ : ( نطقت الحال ) فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود ، منزه عن الولد والشريك ، كما يدل الأثر على مؤثره . فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنه تنزيه له عما يخالفه .


وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد


قالوا : والخطاب في قوله تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم للمشركين . أي : لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم . وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني ، الإمام ابن حزم في كتابه " الملل والنحل " ولا بأس بإيراده ، لما فيه من الغرائب .

قال رحمه الله في الرد على من قال : ( إن في البهائم رسلا ) : إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها . قال الله تعالى : { يا أولي الألباب } ، وقد علمنا بضرورة الحسن ؛ أن الله تعالى إنما خص بالنطق - الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها - الإنسان خاصة . وأضفنا إليهم ، بالخبر الصادق ، الجن والملائكة . ثم قال رحمه الله : وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزا لمثل قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ونحوه من الآيات . ولا حجة لهم فيه ؛ [ ص: 3934 ] لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره ، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن خالف ذلك كان عاصيا لله عز وجل ، مبدلا لكلماته ، ما لم يأت نص في أحدهما ، أو إجماع متيقن ، أو ضرورة حس على خلاف ظاهره ، فيوقف عند ذلك . ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسبا الكذب إلى الله عز وجل ، أو كاذبا عليه وعلى نبيه عليه السلام ، نعوذ بالله من كلا الوجهين .

وإذ قد بينا قبل بالبراهين الضرورية ؛ أن الحيوان ( غير الإنسان والجن والملائكة ) لا نطق له . نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات . وكان هذا القول مشاهدا بالحس معلوما بالضرورة ، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه ، وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا ، فإنه ليس تمييزا . وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة ؛ فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا . فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها . وأما معانيها فمختلفة ، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا ؛ لأنه إن فعل كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ، ولولاه ما عرفناه .

فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه ، بيان ذلك : أن التسبيح عندنا إنما هو قول ( سبحان الله وبحمده ) وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول ) سبحان الله ، بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء ) هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل . فإذ لا شك في هذا ، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك . فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء . فإذا قد صح هذا ؛ فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث . وليس في العالم شيء إلا وهو دال ( بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعا لا يشبهه ) على أن الله تعالى منزه عن كل [ ص: 3935 ] سوء ونقص ، وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس ، كما قال تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك . وهذا المعنى حق لا ينكره موحد . فإن كان قولنا هذا متفقا على صحته ، وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا ، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه .

وأيضا فإن الله تعالى يقول : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيء ، وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة ، فصح ضرورة أن الكافر يسبح ؛ إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى . وإن تسبيحه ليس هو قوله ( سبحان الله وبحمده ) بلا شك . ولكن تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبها لشيء مما خلق . وهذا يقيني لا شك فيه .

فصح بما ذكرنا أن لفظة ( التسبيح ) هي من الأسماء المشتركة ، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا . انتهى كلامه .

ومحصله : نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان . وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره . إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه ، فيرجع الخلاف لفظيا . وقد وافق العلم الحديث الآن - كما قاله بعض الفضلاء - على أن في الجماد أثرا من الحياة . وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء . وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة ، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب ، والدفع ، والتأثر بالمؤثرات الخارجية ، وتغير قوة التوازن ، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة ، طبقا لتراكيب محدودة ، وإفراز مركبات كيماوية مختلفة . وبالجملة ؛ فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك . انتهى .

وقوله تعالى : إنه كان حليما غفورا أي : حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، مع كفرهم وقصورهم في النظر . ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم .

[ ص: 3936 ] ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم ، حينما يقرؤه عليهم الرسول ، صلوات الله عليه ، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم ، بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[45] وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا .

وإذا قرأت القرآن أي : على هؤلاء المشركين : جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة أي : لا يصدقون بالبعث ولا يقرون بالثواب والعقاب ، جزاء على الأعمال : حجابا مستورا أي : من الجهل وعمى القلب . فيحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به ؛ عقوبة منا لهم على كفرهم .

ومعنى كون الحجاب مستورا ، أي : عن العيون ، فلا تدركه أبصارهم . وعن الأخفش : إن ( مفعولا ) يرد بمعنى ( فاعل ) كميمون ومشئوم بمعنى يامن وشائم . كما أن ( فاعلا ) يرد بمعنى ( مفعول ) كماء دافق .
القول في تأويل قوله تعالى :

[46] وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا .

وجعلنا على قلوبهم أكنة أي : أغطية كثيرة ، جمع ( كنان ) : أن يفقهوه أي : كراهة أن يفقهوه : وفي آذانهم وقرا أي : صمما يمنعهم من استماعه . وذلك ما يتغشاها من خذلان الله تعالى إياها ، عن فهم ما يتلى عليهم والإنصات له .

[ ص: 3937 ] قال أبو السعود : هذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون النبي صلى الله عليه وسلم ، وفرط نبو قلوبهم عن القرآن الكريم ، ومج أسماعهم له . جيء بها بيانا لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال ، إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال ، وإيذانا بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يصور عدم فهمه ، إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها ؛ تنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق .

وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده أي : غير مشفوع بذكره ذكر شيء من آلهتهم : ولوا على أدبارهم نفورا أي : هربا من استماع التوحيد . قال القاشاني : لتشتت أهوائهم ، وتفرق همهم في عبادة متعبداتهم ، من أصناف الجسمانيات والشهوات . فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة ؛ لتألفها بالكثرة واحتجابها بها . ثم أخبر تعالى عما يتناجى به المشركون ، رؤساء قريش ، بقوله متوعدا لهم :
القول في تأويل قوله تعالى :

[47-48] نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .

نحن أعلم بما يستمعون به أي : بسببه أو لأجله من الهزء والاستخفاف واللغو : إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي : سحر ، فجن فاختلط كلامه .

انظر كيف ضربوا لك الأمثال أي : مثلوك بالشاعر والساحر المجنون : فضلوا أي : عن الحق والهداية بك : فلا يستطيعون سبيلا أي : فلا يهتدون لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه ، وأن الله قد خذلهم عن إصابته . أو المعنى فلا يستطيعون سبيلا إلى طعن يمكن أن يقبله أحد ، بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد . كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع .

[ ص: 3938 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[49-52] وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا .

وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا وهو ما بلي وتفتت : أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم أي : يعظم في نفوسكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه . فإنه يحييكم ولا يعجزه بعثكم . فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت موصوفة بالحياة قبل ! والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد : فسيقولون أي : بعد لزوم الحجة عليهم : من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم أي : يحركونها برفع وخفض ، تعجبا واستهزاء : ويقولون متى هو أي : ما ذكرته من الإعادة : قل عسى أن يكون قريبا

يوم يدعوكم فتستجيبون أي : يوم يبعثكم فتنبعثون . قال القاضي : استعار لهما الدعاء والاستجابة ؛ للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما ، وإن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء . انتهى .

وقيل : إنهما حقيقة كما في آية : يوم يناد المناد من مكان قريب وفي قوله : [ ص: 3939 ] يوم يدعوكم وجوه للمعربين . ككونه بدلا من ( قريبا ) على أنه ظرف . أو منصوب بـ ( يكون ) أو بمقدر كـ ( اذكر ) أو ( تبعثون ) وقوله تعالى : بحمده أي : وله الحمد على ما أحضركم للجزاء وتحقق وعده الصدق : وتظنون إن لبثتم إلا قليلا أي : تستقصرون مدة لبثكم في القبور والمضاجع لذهولكم عن ذلك الزمان . أو في الحياة الأولى ، لاستقصاركم إياها ، بالنسبة إلى الحياة الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[53-54] وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا .

وقل لعبادي أي : الذين آمنوا معك . إرادة تقريب أصحابهم إلى الصواب ، كأمر البعث : يقولوا في النصيحة ، الكلمة : التي هي أحسن أي : فلا يخاشنوا أحدا ، ولا يغلطوا بالقول : إن الشيطان ينـزغ بينهم أي : يفسد ويهيج الشر والمراء ، لتقع بينهم المضارة : إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا وقوله تعالى :

ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم خطاب لهؤلاء المشركين من قريش . أي : إن يشأ يرحمكم فيتوب عليكم برحمته وتنيبوا إليه . وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان ، فتموتوا على الشرك فيعذبكم عليه يوم القيامة .

وقوله تعالى : وما أرسلناك عليهم وكيلا أي : موكولا إليك أمرهم ، تقسرهم على الإيمان . وإنما أرسلناك مبشرا ونذيرا ، تبلغهم رسالاتنا .

[ ص: 3940 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[55] وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا .

وربك أعلم بمن في السماوات والأرض أي : فلا يخفى عليه شيء فيهما . فهو أعلم بهؤلاء ضرورة . وفيه إشارة إلى رحمته تعالى ببعثة الرسل ؛ لحاجة الخلق إليها ، وإلى مشيئته فيمن يصطفي لرسالته ، ويختار لنبوته . ويعلمه أهلا لها . وقوله تعالى :

ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض أي : لاقتضاء علمه وحكمته ذلك . فإنه أعلم بمن في السماوات والأرض وأحوالهم . فآتى موسى التوراة وكلمه . وعيسى الإنجيل ، وداود الزبور . فضلهم بما آتاهم على غيرهم . وقد آتى محمدا القرآن ففضله به على الأنبياء كافة . وقوله تعالى : وآتينا داود زبورا أي : يشتمل على الحكمة وفصل الخطاب ، ففضلناه به . قيل : الآية رد عليهم إذ استبعدوا أن يكون صلى الله عليه وسلم نبيا ، دون من يعدونه عظيما بينهم في الغنى والجاه . وذكر من في السماوات لإبطال قولهم : لولا أنـزل علينا الملائكة وذكر من في الأرض لرد قولهم : لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وتخصيص داود بالذكر ؛ إشارة لتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه ما كتب فيه من : أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ففيه تلميح إلى ما وقع فيه من وصفه بما ذكر فيه . وإيثار الزبور على الملك ؛ بيان لحيثية شرفه ، وأنه بما أوحي إليه من الكتاب والعلم ، لا بالملك والمال ، كذا قالوا . والظاهر أنه للإشارة إلى أن داود عليه السلام لم يكن في نشأته الأولى ممن يظن أنه يبلغ ما بلغ في الحكمة والملك ، وقد اختصه الله بهما وميزه الله على أهل عصره . وإذ كان ذلك اختصاصا ربانيا ، فلا غرابة أن يختص سبحانه من العرب ، من علم أنه أرجحهم عقلا ، وأكملهم فضلا ، لختم نبوته ، وهداية بريته ، بمنهاجه وشرعته .

وقوله تعالى :

[ ص: 3941 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[56-57] قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا .

قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا

أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا

أي قل لهؤلاء المشركين ، الذين يعبدون من دون الله من خلقه : ادعوا من زعمتموهم أربابا وآلهة من دونه ، عند ضر ينزل بكم ، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم ، فتدعونهم آلهة ، أي : فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه ، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم .

روى الطبري عن ابن عباس ؛ أن الآية عني بها قوم مشركون ، كانوا يعبدون المسيح وعزيرا والملائكة . فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ، ويتقربون إليه بالأعمال . ونظير هذه الآية في النهي عن أن يشرك به تعالى الملائكة والأنبياء ، قوله سبحانه : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا [ ص: 3942 ] أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون وفي قوله تعالى : ويرجون رحمته ويخافون عذابه إشارة إلى أن العبادة لا تتم إلا بالرجاء والخوف . فبالرجاء تكثر الطاعات ، وبالخوف تقل السيئات . وقوله تعالى : محذورا أي : ينبغي أن يحذر منه ويخاف من حلوله . عياذا بالله منه . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[58] وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا .

وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا

إخبار بأنه حتم وقضى ؛ أنه ما من قرية يتمرد أهلها على نبيهم ، إلا ويبيدهم ، أو ينزل بهم من العذاب شديده . وذلك لذنوبهم وخطيئاتهم وعدم استجابتهم لنبيهم ، كما قال تعالى : وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم وقال تعالى : فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا وقال تعالى : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله الآيات . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[59] وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا .

وما منعنا أن نرسل بالآيات أي : التي تقترحها قريش : إلا أن كذب بها [ ص: 3943 ] الأولون أي : إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم ، كعاد وثمود . وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك . فاستوجبوا الاستئصال ، على ما مضت به السنة الإلهية . وقد قضينا أن لا نستأصلهم ، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن . ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة ، فقال : وآتينا ثمود الناقة أي : أعطينا قوم صالح الناقة بسؤالهم : مبصرة أي : بينة ، تبصر الغير برهانها : فظلموا بها أي : فكفروا بها وظلموا أنفسهم بسبب عقرها ، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم : وما نرسل بالآيات إلا تخويفا أي : وما نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفا للناس ، ليعلموا السنة الإلهية مع العاتين ، فيتذكروا ويتوبوا .

روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم ، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا ، هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم . قال : « لا بل أستأني بهم » ، وأنزل الله تعالى : وما منعنا أن نرسل الآية . ورواه النسائي .
القول في تأويل قوله تعالى :

[60] وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .

وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس أي : علما ، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم [ ص: 3944 ] وتكذيبهم . ومنه ما جرى منهم ، إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة ، من الجحود والهزء واللغو . كما قال سبحانه : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس قال الأكثرون : يعني ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات . فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس، أنكر بعضهم ذلك وكذبوا . وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا للمخلصين . فكانت فتنة ، أي : اختبارا وامتحانا . وتمسك بهذا من جعل الإسراء مناما ; لكون الرؤيا مخصوصة بالمنام . وأجيب بأن قوله تعالى: إلا فتنة للناس يرده ; لأن رؤيا المنام لا يفتتن بها أحد ولا يكذب. وجاء في اللغة ( الرؤيا بمعنى الرؤية مطلقا ) وهو معنى حقيقي لها. وقيل: إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا. وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى، وأنه كالقربى والقربة. وقيل : إنه مجاز، إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا ، أو جار على زعمهم . أو على التشبيه بها لما فيها من خرق العادة أو لوقوعها ليلا، أو لسرعتها . أفاده الشهاب.

وروى الطبري عن الحسن في الآية هذه; قال: أسري به صلى الله عليه وسلم عشاء إلى بيت المقدس ، فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات ، ثم أصبح بمكة، فأخبرهم أنه أسري به إلى بيت المقدس . فقالوا له : يا محمد ! ما شأنك؟ أمسيت فيه ثم أصبحت فينا ، تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ؟ فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام .

وقال قوم : الآية في رؤياه صلى الله عليه وسلم التي رأى أنه يدخل مكة . فروى البري عن ابن عباس ، قال : يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة ، فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل ، فرده المشركون ، فقالت أناس : قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها . فكانت رجعته فتنتهم . وذلك عام الحديبية . ثم دخل مكة في العام المقبل . وأنزل الله عز وجل : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ولا يقال : إن السورة مكية وقصة الحديبية بعد الهجرة، لاحتمال أنه رأى تلك الرؤيا بمكة، [ ص: 3945 ] ونزلت عليه هذه الآية . ولكنه ذكرها عام الحديبية ; لأنه كان إذ ذاك بمكة . فعلم أن دخوله بعد خروجه منها . كذا قيل .

وذهب بعضهم إلى أن كثيرا من السور المكية ضم إليها آيات مدنية ، كما في " الإتقان " . والطبري رجح الأول وفاقا للأكثر . وقد قدمنا مرارا ; أن السلف قد يريدون بقولهم : ( نزلت الآية في كذا ) أن لفظ الآية مما يشمل ذلك . لا أنه كان سببا لنزوله حقيقة . وعليه ، فلا إشكال .

وقوله تعالى : والشجرة الملعونة في القرآن عطف على الرؤيا ، والأكثرون على أنها شجرة الزقوم ، المذكورة في سورة الصافات في قوله تعالى : أذلك خير نـزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين الآيات. وفتنتهم فيها ما رواه الطبري عن ابن عباس وقتادة ; أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم هذا - يعني النبي صلوات الله عليه - أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر ! فكذبوا بذلك . وفي رواية : أن أبا جهل قال : أيخوفني بشجر الزقوم ؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول : تزقموا ، فما نعلم الزقوم غير هذا . والمراد بلعنها في القرآن : لعن طاعمها فيه ، على أنه مجاز في الإسناد . أو الملعون بمعنى المؤذي لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم . فهو إما مجاز مرسل أو استعارة . وقوله تعالى : ونخوفهم أي : بذلك وبنظائره من الآيات : فما يزيدهم أي: التخويف : إلا طغيانا كبيرا أي : تماديا فيما هم فيه من الضلال والكفر .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #435  
قديم 11-05-2024, 11:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3946 الى صـ 3960
الحلقة (435)



[ ص: 3946 ] قال المهايمي : أي : فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة لقالوا: إنه أجل من أحاط بأبواب السحر . فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيوي . لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله .

ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من اتباع الشيطان . وأنه وحزبه ، لعتوهم وتمردهم عن الحق ، في النار ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[61-62] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أي : تحية وتكريما : فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا كما قال في الآية الأخرى : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

قال أي : جراءة على الرب وكفرا به : أرأيتك هذا الذي كرمت علي أي : أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأن أمرتني بالسجود له، لم كرمته علي ؟ . أو المعنى: أخبرني أهذا الذي كرمته علي: لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا أي: لأعمنهم وأهلكنهم بالإغواء ، إلا المخلصين .

[ ص: 3947 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[63-65] قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا .

قال اذهب أي : امض لشأنك الذي اخترته : فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا أي : جزاء مكملا .

واستفزز أي : استخف وأزعج : من استطعت منهم أي : أن تستفزه فتخدعه : بصوتك أي : بدعائك إلى الفساد . وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له : وأجلب عليهم بخيلك ورجلك أي : صح عليهم ، من الجلبة ( بفتحات ) وهي الصياح . و ( الخيل ) الخيالة ، أي : ركبان الخيل مجازا . وأصل معنى الخيل الأفراس . ( والرجل ) اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس ، والمراد الأعوان والأتباع مطلقا .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟ . قلت : هو كلام ورد مورد التمثيل ، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه ، بمغوار - بكسر الميم ، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب - أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم . وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم - أي : فالكلام استعارة تمثيلية مركبة ، استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة . ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم ، أو غلبته وتسخيره لهم . وجوز أن يكون التجوز في المفردات تجوزا بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة ، وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث [ ص: 3948 ] والفساد بإغوائه وشاركهم في الأموال أي : بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريما وتحليلا بما لا يرضى : والأولاد أي : بالتفاخر فيهم وتضليلهم بصبغهم غير صبغة الدين ووأدهم ، ونحو ذلك مما يعصى الله بسببه : وعدهم أي : المواعيد الباطلة والأماني الكاذبة من سلامة العاقبة ودوام الغلبة : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وهو تزيين الباطل بزينة الحق.

إن عبادي أي : المخلصين : ليس لك عليهم سلطان أي : تسلط بالإغواء : وكفى بربك وكيلا أي : كفيلا لهم يتوكلون عليه ولا يلجؤون في أمورهم إلا إليه . وهو كافيهم .

وقد أشار القاشاني إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف . وعبارته : تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام ; لأن الاستعدادات متفاوتة . فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي : استخفه بصوته ، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة . ومن كان قوي الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية ، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية ، فليس له إلى إغوائه سبيل ، كما قال : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية ، غارزا رأسه في الأمور الدنيوية ، شاركه في أمواله وأولاده ، بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة ، بحبهم كحب الله . ويسول له التمتع بهم ، والتكاثر والتفاخر بوجودهم . ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة . وإن لم ينغمس ، فإن كان عالما بصيرا بتسويلاته ، أجلب عليه بخيله ورجله . أي : مكر به بأنواع الحيل . وكاده بصنوف الفتن . وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش. وغره بالعلم وحمله على الإعجاب ، وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم . وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا ، أغواه بالوعد والتمنية . وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون . انتهى .
ثم بين تعالى بعضا من آيات وحدانيته وألوهيته بقوله:

[ ص: 3949 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[66] ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما .

ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر أي : يسير لكم السفن في البحر : لتبتغوا من فضله أي : من رزقه . والآية صريحة في ركوب البحر للتجارة : إنه كان بكم رحيما حيث سهل لكم أسباب ذلك .

قال أبو السعود: وهذا تذكير لبعض النعم التي هي من دلائل التوحيد، وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر ، تكملة لما مر من قوله : فلا يملكون الآية ، وذلك قوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[67] وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا .

وإذا مسكم الضر في البحر أي : خوف الغرق : ضل من تدعون إلا إياه أي : ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه وتعبدونه ، إلا إياه وحده . فإنكم لا تذكرون سواه . فطرة فطر الله الخلق عليها .

وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة . وقد استدل لكثير من الأصول بها ، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى . كمسألة وجود الخالق وعلوه ، والمعاد وغيرها . وقوله تعالى : فلما نجاكم أي : من الغرق : إلى البر أعرضتم أي : عن التوحيد : وكان الإنسان كفورا أي : بأنعم الله . والجملة كالتعليل للإعراض . قال الشهاب : وفيه لطف ، حيث أعرض عن خطابهم بخصوصهم . وذكر أن جنس [ ص: 3950 ] الإنسان مجبول على هذا . فلما أعرضوا أعرض الله عنهم . ثم خوفهم تعالى بقدرته العظيمة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[68-69] أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا .

أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أي : يغوره بكم : أو يرسل عليكم حاصبا أي : ريحا ترمي بالحصباء يرجمكم بها ، فيكون أشد عليكم من الغرق : ثم لا تجدوا لكم وكيلا أي : من يتوكل بصرف ذلك عنكم

أم أمنتم أن يعيدكم فيه أي : يقوي دواعيكم لركوب البحر : تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح أي : ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته ، فتكسر السفينة وسط البحر : فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا أي : مطالبا بما فعلنا . مثل من يطالب على مغرق سوانا . وهذا كقوله : ولا يخاف عقباها
القول في تأويل قوله تعالى :

[70] ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .

ولقد كرمنا بني آدم أي : بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به : وحملناهم في البر والبحر أي : يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد [ ص: 3951 ] بالسير في طلبها فيهما ، وتحصيلها : ورزقناهم من الطيبات أي : فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات : وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا أي : عظيما ، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده .

تنبيه :

ظاهر قوله تعالى : ( على كثير ) أن ثمة من لم يفضل البشر عليه . قيل : وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى . أعني الملائكة .

قال القاشاني : وأما أفضلية بعض الناس ، كالأنبياء على الملائكة المقربين ، فليست من جهة كونهم بني آدم . بل من جهة السر المودع فيهم ، المشار إليه بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة . وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل :


وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي


وذهب قوم إلى تأويل ( الكثير ) بـ ( الكل ) كما أول ( القليل ) بمعنى ( العدم ) في قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون والمعنى : وفضلناهم على الجم الغفير من خلقنا ، أي : جميع المخلوقات .

قال القاشاني : على أن تكون ( من ) للبيان والمبالغة في تعظيمه ، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف . أي : كثير ، وأي كثير ، وهو جميع [ ص: 3952 ] مخلوقاتنا لدلالة ( من ) على العموم ، ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر . والمسألة معروفة في كتب الكلام .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[71-72] يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

يوم ندعوا كل أناس بإمامهم أي : بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين . فيقال : يا أتباع فلان ! يا أهل دين كذا وكتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ! ويا أصحاب كتاب الشر ! قالوا : وفيه شرف لأصحاب الحديث ; لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال القاشاني : أي : نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه ، سواء كان صورة نبي آمنوا به ، أو إمام اقتدوا به ، أو دين أو كتاب ، أو ما شئت . على أن تكون ( الباء ) بمعنى ( مع ) . أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه ; لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم ، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم .

ورجح ابن كثير ، رحمه الله ، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال ، لقوله تعالى : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين وقال تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية ، وقال تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ ص: 3953 ] وما رجحه رحمه الله هو الصواب ; لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات ، هو الرجوع إلى نظائرها . وقوله تعالى : فمن أوتي أي : من هؤلاء المدعوين : كتابه أي : كتاب أعماله : بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم أي : فرحا وابتهاجا بما فيه من العمل الصالح : ولا يظلمون فتيلا أي : لا ينقصوه من أجورهم قدر فتيل ، وهو ما في شق النواة ، أو ما تفتله بين أصبعيك ، أو هو أدنى شيء ، فإن الفتيل مثل في القلة ، كقوله تعالى : ولا يظلمون شيئا

ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا أي : ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق ، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ، وأضل سبيلا منه في الدنيا ; لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الاهتداء بها . وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد . ولم يبق هناك شيء من ذلك . قيل : العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات ; لفساد حاسته ، مجاز في عمى البصيرة وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة . وقيل : هو حقيقة فيهما . وعليه جوز أن يكون ( أعمى ) الثاني أفعل تفضيل ; لأنه من عمى القلب لا عمى البصر . ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله .

لطيفة :

قال الناصر : يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى . أي : فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه . ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ، ولا ناظر في معاده ، فهو في الآخرة كذلك ، غير مبصر في كتابه ، بل أعمى عنه ، أو أشد عمى مما كان في الدنيا ، على اختلاف التأويلين . وقوله تعالى :

[ ص: 3954 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[73-74] وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا .

وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إخبار عن تأييده تعالى رسوله ، صلوات الله عليه وسلامه ، وتثبيته وعصمته وتولي أمره وحفظه . فإن المشركين ، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم ، كادوا أن يفتنوه . ولكن عناية الله وحفظه ، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره . وقد روي أن ثقيفا قالوا : لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب : لا ننحني في الصلاة ، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها ، فإن خشيت أن يسمع العرب : ( لم أعطيتهم ما لم تعطنا ) فقل : الله أمرني بذلك .

وروي أن قريشا قالوا : لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضا : نؤمن بك أن تمس آلهتنا .

قال الإمام الطبري : يجوز أن تكون الفتنة فما ذكر . وأن تكون غير ذلك . ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان . فالأصوب : الإيمان بظاهره حتى يأتي ما يجب التسليم له ، ببيان ما عني بذلك منه .

قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك . ودخلت ( أن ) المخففة من الثقيلة و ( اللام ) للتأكيد. والمعنى : أن الشأن قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك. ويصرفوك عن القرآن ، أي: عن حكمه . وذلك لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن . وقوله : لتفتري علينا غيره أي : غير ما أوحينا إليك وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك : [ ص: 3955 ] وإذا لاتخذوك خليلا أي : لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم ، وراض بشركهم. ثم قال: ولولا أن ثبتناك أي : على الحق بعصمتنا إياك: لقد كدت تركن إليهم أي : تميل إليهم : شيئا قليلا وقوله : شيئا عبارة عن المصدر ، أو ركونا قليلا .

وعن قتادة : لما نزلت هذه الآية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » .

ثم توعده في ذلك أشد التوعد ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :

[75] إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .

إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي : ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . و ( الضعف ) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله ، ودل على إضمار العذاب وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات ، كقوله تعالى : ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون

والسبب في تضعيف العذاب ; أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر . فكانت ذنوبهم أعظم . فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر . ونظيره قوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين

تنبيهات:

الأول: قال القفال رحمه الله ) بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه): ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه ; لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه . فتارة كانوا يقولون : [ ص: 3956 ] إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وقوله : ودوا لو تدهن فيدهنون وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة ، فأنزل الله تعالى : ولا تمدن عينيك ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب . وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه . فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم. وعلى هذا الطريق . فلا حاجة في تفسير هذه الآيات، إلى شيء من تلك الروايات . والله أعلم .

الثاني : قال القاضي : معنى قوله تعالى : ولولا أن ثبتناك الآية ، إنك كنت على صدد الركون إليهم ، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم . لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون ، فضلا عن أن تركن عليهم . وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما هم بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه .

الثالث : قال الزمخشري : في ذكر الكيدودة وتقليلها ، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين ; دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة ، مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله . فعلى المؤمن ، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر . وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله .

الرابع : جاء في (" حواشي جامع البيان ") ما مثاله بالحرف : من الفوائد الجليلة في هذه الآية ، أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك ، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما . فإنها شعائر [ ص: 3957 ] الكفر والشرك . وهي أعظم المنكرات ، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة . وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله. والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل ، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض ، مع القدرة على إزالته . وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وأعظم شرك عندها وبها . فإن اللات - على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد - رجل كان يلت لهم السويق فمات . فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه . ولم يقولوا : إن اللات خلقت السماوات والأرض ، بل كان شركهم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه ، من النذور لها ، والشرك بها ، والتمسح بها ، وتقبيلها ، واستلامها . وما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجرد مس آلهتهم ، كما قالوا نؤمن بك إن تمس آلهتنا ، وما التمسوا منه إلا التمتيع باللات سنة من غير عبادة ، فتوعد بهذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد أن لو ركن إليهم . فالرزية كل الرزية ما ابتلي به القبوريون من أهل هذا الزمان . فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام ، إلا فعلوه بالقبور . فإنا لله وإنا إليه راجعون . بل كثير منهم ، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه ، حلف بالله فاجرا ، فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ، أو بمعتقدك الولي الفلاني ، تلكأ وأبى واعترف بالحق . وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : ( ثالث ثلاثة ) فيا علماء الدين ! ويا ملوك المسلمين ! أي : رزء للإسلام أشد من الكفر ؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه ؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا ؟

فاللهم ! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل . انتهى .

[ ص: 3958 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[76-77] وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا

وإن كادوا أي: أهل مكة : ليستفزونك من الأرض أي : ليزعجونك بمعاداتهم من مكة : ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك أي : ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك : إلا قليلا أي : زمانا قليلا .

سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ، فسنة الله أن يهلكهم . ونصبت نصب المصدر المؤكد . أي : سن الله ذلك سنة : ولا تجد لسنتنا تحويلا أي : تغييرا . ولا يخفى أن المراد بعدم لبثهم ، إهلاكهم . سواء كان بالاستئصال أو لا . قال ابن كثير : وكذلك وقع ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف ، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد . فأمكنه منهم ، وسلطه عليهم ، وأظفره بهم . فقتل أشرافهم وسبى سراتهم . ولهذا قال تعالى : سنة من قد أرسلنا أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم . يخرج الرسول من بين أظهرهم ويأتيهم العذاب . ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، كما قال تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم

وقوله تعالى :

[ ص: 3959 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[78] أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا .

أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا لما ذكر تعالى ، قبل ، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض ، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى ، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم ، وتأييده عليهم . ونظيره قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين وقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وقوله : واستعينوا بالصبر والصلاة هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها . وأما معناها ، فقوله : لدلوك الشمس أي : لزوالها . قال ابن تيمية : الدلوك : الزوال عند أكثر السلف ، وهو الصواب . واللام للتأقيت . أي : بيان الوقت بمعنى ( بعد ) وتكون بمعنى ( عند ) أيضا . وقيل : للتعليل ; لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة. وأما : غسق الليل فهو اجتماع الليل وظلمته . وأما : قرآن الفجر فهو صلاة الصبح . سميت قرآنا لأنه ركنها . كما سميت ركوعا وسجودا . فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهم . فيدل على وجوب القراءة فيها صريحا ، وفي غيرها بدلالة النص والقياس . ومعنى : مشهودا يشهده ملائكة الليل والنهار . ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء ، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار . أو يشهده الكثير من المصلين في العادة ! ومن حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة . والأكثرون على أن قوله تعالى : وقرآن الفجر [ ص: 3960 ] منصوب بالعطف على ( الصلاة ) أي : وأقم صلاة الفجر . وجوز بعض النحاة نصبه على الإغراء . أي : وعليك قرآن الفجر ، أو الزم .

تنبيهات :

الأول : هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها ، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولا واحدا . وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولا واحدا . وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر . قيل : هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركا بين الظهر والعصر . والغسق مشتركا بين المغرب والعشاء . فيدل على جواز الجمع مطلقا بين الأولين، وكذا بين الأخيرين. فالجواب : هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها . وأما في غيرها فلا ، وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها ، إلا بعذر . قال الحافظ ابن كثير : قد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله ، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم ، مما تلقوه خلفا عن سلف ، وقرنا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه .

وقال العلامة أبو السعود : ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار ، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام . كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام . ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها ; لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة . فبعضها متصل ببعض ، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر . ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات . انتهى .

والظاهر أن مستند من جوز الجمع في الحضر مطلقا هذه الآية مع أثر ابن عباس .

جاء في " رحمة الأمة " ما مثاله : وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة ، ما لم يتخذه عادة . واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض . انتهى .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #436  
قديم 11-05-2024, 11:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3961 الى صـ 3975
الحلقة (436)



[ ص: 3961 ] وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء .

ومن رواية لمسلم : صلى الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا ، من غير خوف ولا سفر . وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة . والمسألة شهيرة .

الثاني : قلنا: إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس ، ومنها قوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل فالطرف الأول صلاة الفجر ، فإن صلاة الفجر في النهار . فإن الصائم يصوم النهار . وهو يصوم من طلوع الفجر . والوتر تصلى بالليل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة » . وإذا قيل : نصف النهار ; فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس . فهذا في هذا الموضوع ، ولفظ ( النهار ) يراد به من طلوع الفجر ، ويراد به من طلوع الشمس . لكن قوله : وأقم الصلاة طرفي النهار أريد به من طلوع الفجر بلا ريب ، لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة ، بل ولا مستحبة . بل الصلاة في أول الطلوع منهي عنها حتى ترتفع الشمس . وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض ؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه . فعلم أنه أراد بالطرف الأول : من طلوع الفجر . وأما الطرف الثاني : [ ص: 3962 ] فمن الزوال إلى الغروب . فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه . ثم قال : وزلفا من الليل فأجمل المغرب والعشاء في ( زلف من الليل ) وهو ساعات من الليل. فالمواقيت هنا ثلاثة .

وقال تعالى : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء . فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة . وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت . وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون فتبين أن له التسبيح والحمد في السماوات والأرض حين المساء وحين الصباح وعشيا وحين الإظهار . فالمساء يتناول المغرب والعشاء ، والصباح يتناول الفجر ، والعشي يتناول العصر ، والإظهار يتناول الظهر .

وقال تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وفي الآية الأخرى : قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر . وقبل غروبها هي العصر ، وبذلك فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : [ ص: 3963 ] « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا » . ثم قرأ قوله تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقوله تعالى : ومن الليل ومن آناء الليل مطلق في آناء الليل ، يتناول المغرب والعشاء . أفاد ذلك تقي الدين ابن تيمية في فتواه في (" المواقيت الكبرى ") .

الثالث : هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها . قال ابن تيمية عليه الرحمة ، في فتواه المتقدمة : وقت الصلاة وقتان . وقت الرفاهية والاختيار . ووقت الحاجة والعذر . فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله . ووقت العصر ما لم تصفر الشمس . ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق . ووقت العشاء إلى نصف الليل . ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس » . وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن . ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت حديث من قوله إلا هذا . وسائر ما روي فعل منه ، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث . ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث . والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر ، وأول وقت العصر وآخره ، وآخر وقت المغرب ، وآخر وقت العشاء ، وآخر وقت الفجر ، فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله . سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة : إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه ، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور ، وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ، ونقل عنه ، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتا لا للظهر ولا [ ص: 3964 ] للعصر. وعلى قول الجمهور ، فهل آخر هذا أول هذا ، أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك ؟ فيه نزاع . فالجمهور على الأول ، والثاني منقول عن مالك . وإذا صار ظل كل شيء مثليه ، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد . وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في مذهبهما . والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس . وهو الرواية الثانية عن أحمد ، كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو ، مما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، بعد عمله بمكة . وهذا قول أبي يوسف ومحمد . فلم يكن للعصر وقت متفق عليه . ولكن الصواب المقطوع به ، الذي تواترت به السنن واتفق عليه الجماهير ; أن وقتها يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله . وليس مع القول الآخر نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيح ولا ضعيف. ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة ; لما اعتادوا تأخير الصلاة ، واشتهر ذلك ، صار يظن من يظن أنه السنة . وقد احتج له بالمثل المضروب للمسلمين وأهل الكتاب . ولا حجة فيه لاتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر . الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثليه .

وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة : من الزوال إلى الغروب . ومن الغروب إلى الفجر ومن الفجر إلى طلوع الشمس . فالأول وقت الظهر والعصر عند العذر . واتسع فيها وفيهما من وجهين : أحدهما : تقديم العصر إلى وقت الظهر ، كما قدمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة . وكما كان يقدمها في سفرة تبوك ، إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس . وتقديم العشاء إلى المغرب في المطر . فهذا جمع تقديم ، والثاني جمع تأخير ، العصر فيها إلى الغروب ; لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر . ومن أدرك [ ص: 3965 ] ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر » . مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « وقت العصر ما لم تصفر الشمس » وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار . ويوم الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب . وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهذا مذهب مالك والشافعي ، وأحمد في أشهر الروايتين عنه . وقيل : يخير حال القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان . وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل : بل يؤخرها . وهو قول أبي حنيفة أيضا. ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا » . فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر . فدل على المنع من هذا وهذا . فلما قال صلى الله عليه وسلم هذا وهذا ، علم أن الوقت وقتان . فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقا . وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله . بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبل ذلك . كالحائض إذا طهرت ، والمجنون يفيق ، والنائم يستيقظ ، والناسي يذكر ، ودل تقديم العصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب الزوال . ودل هذا الحديث على أنها يدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب . مع أنه بين بقوله وفعله ; أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله ، ما لم تصفر الشمس . فدل ذلك على أن هذا الوقت المختص بها ، وقت مع التمكن والرفاهية . ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه . وقد عرف من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس ; أنهم قالوا ( في الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس ) : تصلي الظهر والعصر . وإذا طهرت قبل طلوع الفجر ، صلت [ ص: 3966 ] المغرب والعشاء . ولم يعرف عن صحابي خلاف ذلك . وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد . وهذا مما يدل على أنه كانت الصحابة ترى أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء إلى الفجر . والنصف الثاني عند العذر مشترك بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب . كما دل على ذلك السنة والقرآن - يعني الآية المذكورة وأمثالها مما سقناه قبل - والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك، ويقولون ليس لكل منهما إلا وقت يخصها، يقولون : الغرض إنما ثبت بالقرآن . والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى فلا موجب لخصوص التكبير عندهم ، بل مطلق الذكر . وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قط إلا بتكبير . ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا بتكبير. ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر . لأن القرآن مطلق في الذكر . فيقال لهم : القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل . ومطلق في الطرف الأول وفي الطرف الثاني ، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على التفريق ، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت غير مرة ؟ ! وكذلك يقولون : قوله تعالى : اركعوا واسجدوا مطلق. فهو الفرض ، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد فيفيد الوجوب دون الفرضية . وكذلك يقولون في الفاتحة : إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده لم يصلوا إلا بالفاتحة . ومع قوله : « لا صلاة إلا بأم القرآن » . و « إن كل صلاة لم يقرأ فيها [ ص: 3967 ] بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج » . ويقولون : هذا يفيد الوجوب دون الفرضية . أو هذا خبر واحد فلا يقيد به مطلق القرآن . ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا ، وليس معهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا فعله المتواتر ، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد . مع ما فيه من الإجمال ، كقوله لما بين المواقيت الخمسة : « الوقت ما بين هذين » وقوله : « ما بين هذين وقت » دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله : « لا صلاة إلا بأم الكتاب » وقوله : « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج » وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة » . ولهذا احتج أحمد على وجوب فعلها في الوقت عند الرفاهية بقوله صلى الله عليه وسلم : « فصلوا الصلاة لوقتها » وهو الوقت الذي بينه لهم . والأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل . ولا صلاة الليل إلى النهار . وإنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر إلى آخر النهار . ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل ; لأنهم سألوه عن الأمراء ، أنقاتلهم ؟ قال : « لا ، ما صلوا » وهذه كانت صلاتهم . ودل على أن هذه الصلاة لا تجوز بحال ، وتفويت يوم الخندق منسوخ . وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت في السنة في مواضع متعددة . وبعضها مما أجمع عليه المسلمون ، والآثار المشهورة عن الصحابة تبين أن الوقت المشترك وقت في حال العذر . كقول عمر بن الخطاب : (الجمع بين [ ص: 3968 ] الصلاتين ، من غير عذر ، من الكبائر)، فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة ) فيمن طهرت في آخر النهار ) : إنها تصلي الظهر والعصر ، ) وفيمن طهرت آخر الليل ) : إنها تصلي المغرب والعشاء . وهو قول الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد ، وأما التفويت فلا يجوز بحال ، فمن جوز التفويت في بعض الصور ، فقوله ضعيف ، وإن جوز الجمع . وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع ، فقد جمع في قوله بين أصلين ضعيفين : بين إباحة ما حرمه الله ورسوله ، وتحريمه ما شرعه الله ورسوله . فإنه قد ثبت أن الجمع خير من التفويت . فهذا الأصل ينظم كثيرا من المواقيت . وتفويت العصر إلى حين الاصفرار . وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضا لا يجوز إلا لضرورة ، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت ، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة . وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره . وقالوا : لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار . بل إذا لم يجد الماء إلا فيه ، فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يصليها حين الاصفرار بالوضوء. انتهى كلامه عليه الرحمة .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[79] ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .

ومن الليل فتهجد به نافلة لك أمر له بصلاة الليل ، إثر أمره بالصلوات الخمس وفي : { من } وجهان : أحدهما : أنها متعلقة بـ ( تهجد ) أي : تهجد بالقرآن بعض الليل . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف عطف عليه ( فتهجد ) أي : قم من الليل ، أي : في بعضه فتهجد بالقرآن . والتهجد ترك الهجود وهو النوم ، و ( تفعل ) يأتي للسلب : كـ ( تأثم وتحرج ) بمعنى ترك الإثم والحرج . قال الأزهري : المعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم . وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم. وكأنه قيل له : ( متهجد ) لإلقائه الهجود عن نفسه ، كما يقال للعابد ( متحنث ) لإلقائه الحنث عن نفسه . انتهى .

[ ص: 3969 ] ونقل عن ابن فارس : أن معناه: صل ليلا. وكذا عن ابن الأعرابي قال : هجد الرجل وتهجد ، إذا صلى بالليل . والمعروف الأول . والضمير في ( به ) للقرآن من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر ، أو للبعض المفهوم من ( من ) والباء بمعنى ( في ) أي : تهجد في ذلك البعض. وقوله تعالى: نافلة لك أي : عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس.

قال الزمخشري : وضع ( نافلة ) موضع ( تهجدا) لأن التهجد عبادة زائدة . فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى: أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة ، فريضة عليك خاصة دون غيرك ; لأنه تطوع لهم . انتهى .

قال أبو السعود : ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر ، مع تقدم وقتها على وقتها.

وقوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا أي : يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه . وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات . والمشهور أنه مقام الشفاعة العظمى ; للفصل بين الخلائق الذي يحمده فيه الأولون والآخرون . كما وردت به الأخبار الصحيحة . ومعنى النظم الكريم على هذا : كما انبعثت من النوم الذي هو الموت الأصغر ، بالصلاة والعبادة ، فسيبعثك ربك من بعد الموت الأكبر ، مقاما محمودا عندك وعند جميع الناس . وفيه تهوين لمشقة قيام الليل . أشار له أبو السعود .

تنبيه:

قال ابن جرير : ذهب آخرون إلى أن ذلك المقام المحمود ، الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إياه ، هو أن يجلسه معه على عرشه . رواه ليث عن مجاهد . وقد شنع الواحدي على القائل به ، مع أنه رواه عن ابن مسعود أيضا . وعبارته - على ما نقلها الرازي - : [ ص: 3970 ] وهذا قول رذل موحش فظيع ، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه :

الأول : أن البعث ضد الإجلاس ، يقال : بعثت النازل والقاعد فانبعث ، ويقال : بعث الله الميت ، أي : أقامه من قبره . فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد .

الثاني : أنه تعالى قال : مقاما محمودا ولم يقل مقعدا . والمقام موضع القيام لا موضع القعود .

الثالث : لو كان تعالى جالسا على العرش ، بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودا متناهيا . ومن كان كذلك فهو محدث.

الرابع : يقال : إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز ; لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون ( في كل أهل الجنة ) : إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين ، لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة .

الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلانا ، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم . ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه . فثبت أن هذا القول كلام رذل سقط ، لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين. انتهى كلام الواحدي .

وليته اطلع على ما كتبه ابن جرير حتى يمسك من جماح يراعه ، ويبصر الأدب مع السلف مع المخارج العلمية لهم . وهاك ما قاله ابن جرير رحمه الله ( بعد ما نقل عن مجاهد قوله المتقدم ) :

وأولى القولين بالصواب ، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقام الشفاعة - ثم قال - : وهذا وإن كان هو الصحيح في القول ، في تأويل المقام المحمود ، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين . فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، قول غير مدفوع صحته . لا من جهة خبر ولا نظر . وذلك لأنه لا خبر [ ص: 3971 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين ، بإحالة ذلك . فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام ، إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة : فقالت فرقة منهم : الله عز وجل بائن من خلقه ، كان قبل خلقه الأشياء ، ثم خلق الأشياء فلم يماسها ، وهو كما لم يزل ، غير أن الأشياء التي خلقها ، إذا لم يكن هو لها مماسا ، وجب أن يكون لها مباينا ; إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله عز وجل فاعل الأشياء ، ولم يجز في قولهم إنه يوصف بأنه مماس للأشياء ، وجب بزعمهم أنه لها مباين . فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على الأرض ( إذ كان من قولهم : إن بينونته من عرشه وبينونته من أرضه بمعنى واحد ، في أنه بائن منهما كليهما غير مماس لواحد منهما ) . وقالت فرقة أخرى : كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته ، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا شيء يباينه . فعلى قول هؤلاء أيضا : سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على أرضه ) إذ كان سواء على قولهم : عرشه وأرضه ، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا ، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه ) .

وقالت فرقة أخرى : كان الله عز ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم أحدث الأشياء وخلقها ، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا وصار له مماسا ، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ولا شيء يحرمه ذلك . ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا وأعطى هذا ومنع هذا . قالوا : فكذلك كان قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا يباينه . وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه ، فهو مماس ما شاء من خلقه ومباين ما شاء منه . فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه أو أقعده على منبر من نور ، إذ كان من قولهم : أن جلوس الرب على عرشه ليس بجلوس يشغل جميع العرش ، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية ، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه . كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان [ ص: 3972 ] مباينا له من الأشياء ، غير موجبة له صفة الربوبية ولا مخرجته من صفة العبودية لربه . من أجل أنه موصوف بأنه مباين له ، كما أن الله عز وجل موصوف - على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها. هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى ( مباين ومباين ) لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودية ، والدخول في معنى الربوبية فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن . فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد ، من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه ، فإن قال قائل : فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما ننكر إقعاده معه. (حدثني ) عباس بن عبد العظيم قال : حدثنا يحيى بن كثير عن الجريري ، عن سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، على كرسي الرب ، بين يدي الرب تبارك وتعالى . وإنما ينكر إقعاده إياه معه . قيل : أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه ؟ فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه أو إلى أنه يقعده ، والله للعرش مباين ، أو لا مماس ولا مباين ، وبأي ذلك قال ، كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره . وإن قال : ذلك غير جائز منه ، خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم ، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ; إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها . وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك . انتهى كلام ابن جرير رحمه الله .

وأقول : لك أن تجيب أيضا عن إيرادات الواحدي الخمسة ، التي أفسد بها قول مجاهد . أما جواب إيراده الأول ، فإن مجاهدا لم يفسر مادة البعث وحدها بالإجلاس . وإنما فسر بعثه المقام المحمود بما ذكر .

وعن الثاني : بأن المقام هو المنزلة والقدرة والرفعة ، معروف ذلك في اللغة .

وعن الثالث : بدفع اللازم المذكور ; لأنه كما اتفق على أن له ذاتا لا تماثلها الذوات ، فكذلك كل ما يوصف به مما ورد في الكتاب والآثار فإنه لا يماثل الصفات ، ولا يجوز قياس الخالق على المخلوق .

[ ص: 3973 ] وعن الرابع : بأنه مكابرة ; إذ كل أحد يعرف - في الشاهد - لو أن ملكا استدعى جماعة للحضور لديه ، ورفع أفضلهم على عرشه ، أن المرفوع ذو مقام يفوق به الكل .

وعن الخامس : بأنه من واد آخر غير ما نحن فيه ; إذ لا بعث لإصلاح المهمات في الآخرة ، وإنما معنى الآية : إنه يرفعك مقاما محمودا . وذلك يصدق على ما قاله مجاهد وما قال الأكثر . فتأمل وأنصف . وقد أنشد الحافظ الذهبي في كتابه " العلو لله العظيم " للإمام الدارقطني في ترجمته ، قوله :


حديث الشفاعة في أحمد إلى أحمد المصطفى نسنده

وأما حديث بإقعاده
على العرش أيضا فلا نجحده

أمروا الحديث على وجهه
ولا تدخلوا فيه ما يفسده


وقال الذهبي في كتابه المنوه به ، في ترجمة ( محمد بن مصعب ) العابد شيخ بغداد ما مثاله : وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله الخفاف . سمعت ابن مصعب وتلا : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال : نعم يقعده على العرش . ذكر الإمام أحمد ، محمد بن مصعب فقال : قد كتبت عنه . وأي رجل هو ؟ ! قال الذهبي : فأما قضية قعود نبينا على العرش ، فلم يثبت في ذلك نص ، بل في الباب حديث واه . وما فسر به مجاهد الآية ، كما ذكرناه . فقد أنكره بعض أهل الكلام . فقام المروذي وقد بالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتابا وطرق قول مجاهد ، من رواية ليث بن أبي سليم ، وعطاء بن السائب ، وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد . وممن أفتى في ذلك العصر ، بأن هذا الأثر يسلم ولا يعارض . أبو داود السجستاني صاحب السنن وإبراهيم الحربي وخلق . بحيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد : أنا منكر على كل من رد هذا الحديث . وهو عندي رجل سوء متهم . سمعته من جماعة . وما رأيت محدثا ينكره . وعندنا إنما تنكره الجهمية . وقد حدثنا هارون بن معروف ثنا محمد بن فضيل عن ليث ، عن مجاهد في قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ ص: 3974 ] قال : يعقده على العرش . فحدثت به أبي رحمه الله فقال : لم يقدر لي أن أسمعه من ابن فضيل : بحيث إن المروذي روى حكاية بنزول، عن إبراهيم بن عرفة. وسمعت ابن عمير يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : هذا قد تلقته العلماء بالقبول . وقال المروذي : قال أبو داود السجستاني : ثنا ابن أبي صفوان الثقفي ، ثنا يحيى بن أبي كثير ، ثنا سلم بن جعفر ، وكان ثقة ، ثنا الجريري ، ثنا سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام ، قال : إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم حتى يجلس بين يدي الله عز وجل على كرسيه . الحديث . وقد رواه ابن جرير في تفسيره . ( أعني قول مجاهد ) وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره. وكذلك رد شيخ الشافعية ابن سريج على من أنكره . بحيث إن الإمام أبا بكر الخلال قال في كتاب (السنة) من جمعه : أخبرني الحسن بن صالح العطار . عن محمد بن علي السراج . قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: إن فلانا الترمذي يقول : إن الله لا يقعدك معه على العرش. ونحن نقول : بل يقعدك ، فأقبل علي شبه المغضب وهو يقول : بلى ، والله ! بلى ، والله ! يقعدني على العرش . فانتبهت . بحيث إن الفقيه أبا بكر أحمد بن سليمان النجاد المحدث قال ( فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء ) : لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا ; إن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش . واستفتاني ، لقلت له : صدقت وبررت .

قال الذهبي : فأبصر ، حفظك الله من الهوى ، كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر. واليوم يردون الأحاديث الصريحة في العلو . بل يحاول بعض الطغام أن يرد قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى انتهى .

وقوله تعالى :

[ ص: 3975 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[80-81] وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .

وقل رب أدخلني مدخل صدق أي: مدخلا حسنا مرضيا بلا آفة : وأخرجني مخرج صدق أي : مخرجا حسنا مرضيا من غير آفة الميل إلى النفس ، ولا الضلال بعد الهدى . و : واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا أي : عزا ناصرا للإسلام على الكفر ، مظهرا له عليه .

وقد رأى المهايمي ارتباط الآية بما قبلها في معناها حيث قال : وقل رب أدخلني أي : في هذه العبادات ، فإنها لا توصلك إلى المقام المحمود ، إلا إذا صدق دخولك فيها وخروجك عنها ، ولا يتم إلا بإمداد الله بعد استمدادك منه . وقولك : رب أدخلني مدخل صدق أي : بمشاهدتك في هذه العبادات ، وتخليتي عن الرياء والعجب ، وتصفيتي بإخلاص العمل ، وإخلاص طلب الأجر ، ورؤية المنة لله ، ورؤية التقصير فيها : وأخرجني عنها : مخرج صدق فلا تستعملني فيما يحبطها علي ، ولا تردني على نفسي . وإذا غلبني الشيطان أو النفس أو الخلق ، أو وردت علي شبهة ، فاجعل لي من لدنك ، لا من عند فكري : سلطانا أي : حجة : نصيرا ينصرني على ما ذكر ; ليبقي علي عبادتي فيوصلني إلى المقام المحمود . انتهى .

واللفظ الكريم محتمل لذلك . ويظهر لنا أنه إشارة للهجرة كما ستراه .

وقل أي : استبشارا بقرب الظفر والنصر ، وترهيبا للمشركين : جاء الحق وهو الوعد بالسلطان النصير والإسلام ودولته : وزهق الباطل أي : ذهب وهلك . وهو الشرك وجولته : إن الباطل كان زهوقا أي : مضمحلا غير ثابت في كل وقت .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #437  
قديم 11-05-2024, 11:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3976 الى صـ 3990
الحلقة (437)


[ ص: 3976 ] تنبيه:

سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض يدل على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة ، ومبارحة مكة ، وأنه تعالى أمر نبيه بأن يبتهل إليه في تيسير إدخاله لمهاجره على ما يرضيه ، وإخراجه من بلده كذلك . وأن يجعل له حماية من لدنه ، تعز جانبه وتعصمه ممن يرومه بسوء .

وأسلوب التنزيل العزيز في مثل هذا الدعاء ، هو إرادة الخبر بحصول المدعو ، ومشيئة الله بوقوعه عن قرب . ولذلك عقبه بقوله : وقل جاء الحق وزهق الباطل إعلاما بأن الأمر تم ، والفرج جاء ، ودحر الباطل ، ورجع إلى أصله ، وهو العدم .

روى الحافظ أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، تعبد من دون الله . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على وجوهها . وقال : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . ورواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود ، بنحوه .

قال في (" الإكليل ") : فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند إزالة المنكر.
ثم بين تعالى خسار المشركين ، بإعراضهم عما يشفي أمراضهم المعنوية ، وهو القرآن الكريم ونجاح المؤمنين بالاستشفاء بهداه ورحمته ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

[82] وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .

وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا أي : وننزل عليك من القرآن ما يستشفى به من الجهل والضلالة . ورحمة ببيان الحقائق وإقامة البراهين للمؤمنين به ، دون الكافرين ; لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله [ ص: 3977 ] وشرائعه. فيدخلهم الجنة وينجيهم من العذاب . فهو لهم رحمة ونعمة . ولا يزيد الظالمين ، بكفرهم وشركهم ، إلا خسارا . أي : إهلاكا ; لأنهم كلما جاءهم أمر من الله أو نهي ، كفروا به ، فزادهم خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ، ورجسا إلى رجسهم .

قال الشهاب : ( الشفاء ) : استعارة تصريحية أو تخييلية . بتشبيه الكفر بالمرض . و ( من ) بيانية ، قدمت على المبين وهو ( ما ) اعتناء.

تنبيه :

ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسية لهذه الآية . بحمل قوله : شفاء على معنيين من باب عموم المجاز. أو حمل المشترك على معنييه ، وممن قرر ذلك الرازي . وعبارته : اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية. وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية . أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر . وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان : الاعتقادات الباطلة، والأخلاق المذمومة. أما الاعتقادات الباطلة، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب ، وإبطال المذاهب الباطلة فيها . لا جرم كان شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني . وأما الأخلاق المذمومة ، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد ، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة ، والأعمال المحمودة . فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض . فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية .

وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية ، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض . ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأنه لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد ; فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم ، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه ، وتعظيم الملائكة المقربين ، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى . ويتأكد ما [ ص: 3978 ] ذكرنا بحديث : « من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى » . وأما كونه رحمة للمؤمنين ، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مرضية بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة. والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات المبطلين ، وهو الشفاء . ومنه ما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين، وهو الرحمة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ، لا جرم بدأ الله تعالى ، في هذه الآية ، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة، انتهى.

وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في بحث الأدوية والأغذية المفردة ، التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم في حرف القاف ( قرآن) : قال الله تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين والصحيح أن ( من ) ها هنا لبيان الجنس ، لا للتبعيض . وقال تعالى : يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة . وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام ، واعتقاد جازم ، واستيفاء شروطه ; لم يقاومه الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو أنزل على الجبال لصدعها ، أو على الأرض لقطعها ؟ ! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل للدلالة على دوائه وسببه والحمية منه، لمن رزقه الله فهما في كتابه. فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله. ومن لم يكفه فلا كفاه الله .

ثم قال في (حرف الكاف): ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه ، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم ذكر ما كان يكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية للرعاف . فانظره .

[ ص: 3979 ] وذكر قبل في فاتحة الكتاب ، من سر كونها شفاء ، حقائق بديعة. وكذا في بحث الرقي . وذكر أيضا أن من الأدوية التي تشفي من الأمراض ، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم ، من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه ، والانطراح والانكسار بين يديه ، والتذلل له والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار ، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها . فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء ، ولا تجربته ولا قياسه . وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة. ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية. وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ، ليس خارجا عنها. ولكن الأسباب متنوعة ، فإن القلب متى اتصل برب العالمين ، وخالق الداء والدواء ، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء ، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه ، المعرض عنه . وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة ; تعاونا على دفع الداء وقهره . فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ، واستعانتها به ، وتوكلها عليه; أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، ويوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ؟ ! ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا ، وأكثفهم نفسا ، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية .

وقد أسهب ، عليه الرحمة ، أيضا في كتاب " إغاثة اللهفان " في بيان تضمن القرآن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه ، بما تنبغي مراجعته ; ليزداد المريد علما .

وقوله تعالى :

[ ص: 3980 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[83] وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا .

وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال. وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى ، وكفران نعمه تعالى ، بالإعراض عن شكرها ، والجزع واليأس من الفرج عند مس شر قضى عليه. وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان . فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة ، ويشاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين. ويتيقن في الحالة الأولى ; أن الشكر رباط النعم. وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم. فيشكر ويصبر. ويعلم أن المنعم يقدر، فلم يعرض عند النعمة بطرا وأشرا . ولم يغفل عن المنعم ولم يجزع عند النقمة جزعا وضجرا .

فالآية وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة . كقوله تعالى : ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير

قال الزمخشري : ونأى بجانبه تأكيد للإعراض ; لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره. أو أراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين .

وقوله تعالى :

[ ص: 3981 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[84] قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا .

قل كل يعمل على شاكلته أي : على مذهبه وطريقته وخليقته وملكته الغالبة عليه ، الحاصلة له من استعداد حقيقته ، التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، من قولهم : ( طريق ذو شواكل) وهي الطرق التي تتشعب منه لتشاكلها . أي : تشابهها في الشكل . فسميت عادة المرء بها ، لأنها تشاكل حاله . والدليل عليه قوله تعالى : فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا أي : أسد مذهبا وطريقة ، من العاملين : عامل الخير بمقتضى سجية القلب الفاضلة ، وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس ، فيجازيهما بحسب أعمالهما .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[85] ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

ويسألونك عن الروح قال القاشاني : أي : الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره: قل الروح من أمر ربي أي: ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهريين البدنيين ، الذين يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس ، بالتشبيه ببعض ما شعروا به ، والتوصيف . بل من عالم الأمر ، أي : الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولى ، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين ، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون ; لقصور إدراككم وعلمكم عنه : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا هو علم المحسوسات. وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله والراسخين في العلم. - هذا ما قاله القاشاني - وحاصل الجواب عليه: أن الروح موجود محدث بأمره تعالى بلا مادة ، وتولد من أصل كأعضاء الجسد ، [ ص: 3982 ] حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه ، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق . فيكون الاقتصار في الجواب على قوله : قل الروح من أمر ربي كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون : وما رب العالمين على قوله : رب السماوات والأرض إعلاما بأن إدراكه بالكنه على ما هو عليه ، لا يعلمه إلا الله تعالى . وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان ، وبملازمته له يبقى . كما أومأ إليه قوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي : علما قليلا تستعيدونه من طرق الحواس . وهو هذا القدر الإجمالي .

قال الشهاب : والسؤال - على هذا - عن حقيقتها. والجواب إجمالي بأنها من المبدعات من غير مادة . ولذا قيل : إنه من الأسلوب الحكيم . كما في قوله: يسألونك عن الأهلة إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم ، وإنما يعلم منها هذا المقدار . فالمراد بـ ( الأمر ) على هذا التفسير )(قول كن ) ولذا قالوا لمثله : عالم الأمر . انتهى .

قال أبو السعود عليه الرحمة : وليس هذا من قبيل قوله سبحانه : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين . سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق . بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكويني من غير تحصل من مادة . وحكى عليه الرحمة ، قولا آخر وهو : أن الأمر بمعنى الشأن. قال: والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي ، لاشتراك الكل فيه. وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى. كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه . أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر . وعليه ، فـ ( من ) بيانية أو تبعيضية . ويكون نهيا لهم عن السؤال عنها، وتركا للبيان . وهذا رأي كثيرين ، أمسكوا عن الخوض فيها، وقالوا: إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدا [ ص: 3983 ] من خلقه، فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود ، بل غلا بعضهم وقال : إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين . إذا لم يبينه الله لرسوله بأكثر مما في الآية. فالاشتغال بالتفتيش عنه غلو فيما لم يرد به قرآن ولم يقم عليه برهان ، وما كان كذلك فهو عناد .

وأجاب الخائضون في بحثها ، بأن الآية لا يدل معناها على ذكر دلالة قطعية ، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها ، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها . وغاية الأمر أنه أمر بترك الجواب عنها تفصيلا . إما لأن الإمساك عن ذلك كان عند اليهود السائلين عنها، من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ، أو لأن سؤالهم كان تعنتا . فإنها تطلق على معان: منها الراحة وبرد النسيم وعلى جبريل والقرآن وعيسى عليه السلام والحياة والقلب والرحمة وغير ذلك . فأضمروا على أنه إذا أجاب بأحد هذه الأمور ، قالوا : لم نرده ، وإنما أردنا كذا .

ثم الأقاويل فيها من الحكماء والعلماء الأقدمين مختلفة . ولا يتم الجواب في محل الخلاف . فأتى بالجواب مجملا على وجه يصدق على كل من ذلك مرموزا ، ليعلمه العلماء بالله . واقتضت المصلحة العامة منع الكلام فيه لغيرهم ; لأن الأفهام لا تحتمله . خصوصا على طريقة الحكماء ; إذ من غلب على طبعه الجمود لا يقبله ولا يصدق به في صفة الباري. فكيف يصدق به في حق الروح الإنساني. بل قال بعض المدققين : إن في الآية والجواب ببيان حقيقتها ، وأنها من إبداعاته الكائنة بتكوينه ، من غير سبق مادة- وهو ما ذكرناه أولا - وفي الجواب بذلك ما فيه الكفاية لذوي البصائر والدراية. ومقنع لمن كان له في النزاع إذا فصل مطمع . وقد استحسن بعضهم هذا الجواب وقال مذيلا له : فيكون قوله : قل الروح من أمر ربي على أن السؤال عن حقيقتها مطابقا ، إلا أنه إجمالي . أي : من الممكنات التي يمكن الوقوف على حقائقها ، وإن كان بإعمال روية وإيقاظ فكر كباقي عالم الأمر . وعلى أن السؤال عن قدمها وحدوثها كذلك، إلا أنه تفصيلي. وأيا ما كان ، فلم يترك [ ص: 3984 ] بيانها ، ولو كانت مما لا سبيل إلى معرفته لقيل : قل إنما علمها عند ربي كما قيل في الساعة ، أو نحو ذلك. بل لو لم يكن السبيل لمعرفته ، ولو بوجه ما ، متيسرا لكثير من الناس ; لم يكن لأمره بالتفكر فيها ، والتبصر في أمرها ، للاستدلال بها عليه ، والتوصل بواسطة معرفتها إليه ، الذي هو الغاية القصوى والثمرة العظمى ; من فائدة . بل كان عبثا . فدل قوله تعالى : أولم يتفكروا في أنفسهم وقوله : وفي أنفسكم أفلا تبصرون ونحو ذلك ، أنها أمر تدركه العقول ، وبه يكون إليه تعالى الوصول.

ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها، أثرت عنهم أقوال شتى . وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة ، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون ، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين ، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة ، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما .

فمنهم الإمام ابن حزم . قال رحمه الله في كتابه (" الملل والنحل ") بعد سرد مذاهب شتى : وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد ، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان . عاقلة مميزة مصرفة للجسد . قال : وبهذا نقول . والنفس والروح اسمان لمسمى واحد، ومعناهما واحد . ثم قال : وأما من ذهب إلى أن النفس وليست جسما ، فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة . فأما القرآن ، فإن الله عز وجل قال : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وقال تعالى : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم وقال تعالى : كل امرئ بما كسب رهين فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجيبة المخطئة . وقال تعالى : إن النفس لأمارة بالسوء وقال تعالى: ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقال تعالى : [ ص: 3985 ] ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون وقال تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله فصح أن الأنفس ، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة ، فيعذب . ومنها ما يرزق وينعم فرحا ، ويكون مسرورا قبل القيامة . ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله، قد تقطعت أوصالها وأكلها السباع والطير وحيوان الماء . فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان . ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس ، فليست عرضا . وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها ، وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به ، فصح ، ضرورة ، أنها جسم .

وأما من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة » . وقوله صلى الله عليه وسلم : إنه « رأى نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره » . فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها ، وقوله عليه السلام : « إن نفس المؤمن إذا قبضت ، عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ، ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا » فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن ، وهذه صفة الأجسام ضرورة .

وأما من الإجماع ، فلا اختلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها من الأجساد ، إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب. وهذه صفة الأجسام .

ثم قال : ومعنى قول الله تعالى : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [ ص: 3986 ] إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا . وليس الروح كذلك . وإنما قال الله تعالى آمرا له بالكون ( كن فكان ) فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد ، وقد يقع الروح أيضا على غير هذا . فجبريل عليه السلام الروح الأمين . والقرآن روح من عند الله .

وقال ابن حزم أيضا ، قبل ذلك ، في بحث عذاب القبر : والذي نقول به في مستقر الأرواح ، هو ما قاله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا نتعداه ، فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقال تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة ، وهي الأنفس . وكذلك أخبر عليه السلام : « إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وهي العاقلة ، الحساسة - وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها - وهي مخلوقة مصورة عاقلة ، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم ، على جميعهم السلام ، وقبل أن يدخلها في الأجساد . والأجساد يومئذ تراب وماء . ثم أقرها تعالى حيث شاء . لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ( ثم ) التي توجب التعقيب والمهلة . ثم أقرها عز وجل حيث شاء . وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت . لا تزال يبعث منها الجملة ، بعد الجملة . فينفخها في الأجساد المتولدة من المني ، المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء ، كما قال تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى

[ ص: 3987 ] وقال عز وجل : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما الآية، وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح» فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء. ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا : أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة السلام ، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليه السلام . وذلك عند منقطع العناصر ، وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة .

وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه ، أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه ، وقال : على هذا أجمع أهل العلم .

ثم قال ابن حزم: ولا تزال الأرواح هنالك ، حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ، ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور . فتقوم الساعة ، ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد. وهي الحياة الثانية. ويحاسب الخلق : فريق في الجنة وفريق في السعير ، مخلدين أبدا . انتهى .

فصل

ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ، عليه الرحمة ، قال في : (" تفسير سورة الإخلاص ") بعد أن ذكر نزاع المتكلمين المتفلسفة في الملائكة . هل هي متحيزة أم لا ؟ وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت ، على قول الجمهور الذين يقولون : هي عين قائمة بنفسها ليست عرضا من أعراض البدن كالحياة وغيرها . ولا جزءا من أجزاء [ ص: 3988 ] البدن كالهواء الخارج منه . فإن كثيرا من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن ، أو جزء من أجزاء البدن. لكن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف . ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم . ومخالف للأدلة ، وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام.

قال القاضي أبو بكر : أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض. وبهذا نقول ، إذا لم يعن بالروح النفس ، فإنه قال : الروح الكائن في الجسد ضربان : أحدهما الحياة القائمة به والآخر النفس. والنفس ريح ينبث به، والمراد بالنفس ، ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسام . وهذا قول الإسفرائيني وغيره . وقال ابن فورك : هو ما يجري في تجاويف الأعضاء . وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال: إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة . أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها . فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة . ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة ، وأن الروح عين قائمة بنفسها . تفارق البدن ، وتنعم وتعذب. ليست هي البدن ، ولا جزءا من أجزائه كالنفس المذكور .

ثم الذين قالوا : إنها عين ، تنازعوا : هل هي جسم متحيز ؟ على قولين : كتنازعهم في الملائكة . فالمتكلمون منهم يقولون : جسم . والمتفلسفة يقولون : جوهر عقلي ليس بجسم . وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات ، هو مأخوذ من نفس الإنسان. فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت ، وتتجرد عنه سموها : مفارقة مجردة . ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها : مفارقات ومجردات ; لمفارقتها المادة التي هي عندهم الجسم . وهذه المفارقات عندهم ما لا يكون جسما ولا قائما بجسم. لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير. والعقل لا تعلق له بالأجسام أصلا . ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق.

[ ص: 3989 ] والجمهور يسمون ذلك روحا وهذا جسما ، لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين. بل الجسم هو الجسد. وهو الجسم الغليظ ، أو غلظه. والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة، ولذلك لا تسمى جسما. فمن جعل الملائكة والأرواح جسما بالمعنى اللغوي، فما أصاب في ذلك. وأما أهل الاصطلاح من المتكلمة والمتفلسفة ، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك. وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه. وما قيل إنه هنا وهناك وما قبل الأبعاد الثلاثة ونحو ذلك.

ثم قال عليه الرحمة : وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة ، من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا سكون ولا صعود ولا نزول ، وليس داخل العالم ولا خارجه ; هو كلام باطل عند جماهير العقلاء . ولا سيما من يقول منهم ، كابن سينا وأمثاله : إنها لا تعرف شيئا من الأمور الجزئية ، وإنما تعرف الأمور الكلية ، فإن هذا مكابرة ظاهرة ، فإنها تعرف بدنها وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده وتأمر به وتحبه وتكرهه ، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها . فكيف يقال : إنها لا تعرف الأمور المعينة وإنما تعرف أمورا كلية ؟! وكذلك قولهم: إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف، كتدبير الملك لمملكته; من أفسد الكلام. فإن الملك يدبر أمر مملكته ، فيأمر وينهى . ولكن لا يصرفهم هو بمشيئته وقدرته، إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم.

والملك لا يلتذ بلذة أحدهم ولا يتألم بتألمه ، وليس كذلك الروح والبدن . بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به. ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلا لدخول شيء من الأجسام المشهودة. فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية . فإن هذه إنما تلاقي السطح الداخل في الأوعية لا بطونها ولا ظهورها ، وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها . وليس كذلك الروح والبدن . بل الروح [ ص: 3990 ] متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره . وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل . فإن ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته. ولا جريانها في البدن كجريان الدم . فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض. ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقا بالآخر ، بخلاف الروح والبدن . لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه، وتخرج منه وقت الموت، وتسل منه شيئا فشيئا. فتخرج من البدن شيئا فشيئا . لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبرها. والناس لما لم يشهدوا لها نظيرا، عسر عليهم التعبير عن حقيقتها. وهذا تنبيه لهم على رب العالمين، حيث لم يعرفوا حقيقته ، ولا تصوروا كيف هو سبحانه وتعالى. وإن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله. فإن الروح ، التي هي بعض عبيده، توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان ، وتسجد تحت العرش . وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية . والإنسان في نومه يحس بتصرفات روحه تؤثر في بدنه . فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات. فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية. وحركتها إلى العلو حركة انتقال من مكان وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك. انتهى .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #438  
قديم 11-05-2024, 11:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3991 الى صـ 4005
الحلقة (438)



فصل

وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله : إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحس في هذه الأيام ، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملأ الأعلى . لا يصل العقل إلى إدراك كنهها . وإنها متصلة بهذا الجسد الطيني، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما. ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه . وإنه كغلاف للسر الإلهي المسمى روحا . ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح ( هي صورة كالجسد ) ويقولون: إن الروح وغلافها هذا [ ص: 3991 ] يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص ، إلى عالم غير هذا العالم . ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال ، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة. ولكنا لا نراها بأعيننا ، لعدم استعداد أعيننا لذلك. كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة ( رونتجن ) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآية التي صنعها له . وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعي فائدة كبرى . ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، رؤية حقيقية. انتهى ملخصا .

تنبيه :

جميع ما قدمناه ، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان .

قال ابن القيم في كتاب (" الروح ") : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف. وأكثر السلف ، بل كلهم ، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم . بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه ، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة ، وهو ملك عظيم . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة ، وهو متكئ على عسيب ، فمررنا على نفر من اليهود . فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه ، وقال بعضهم : نسأله ، فقام رجل فقال : يا أبا القاسم ! ما الروح ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلمت أنه يوحى إليه فقمت . فلما تجلى عنه قال : ويسألونك عن الروح الآية ، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي . وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس . وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب. وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم . فلم يكن الجواب [ ص: 3992 ] عنها من أعلام النبوة . فإن قيل : فقد روى أبو الشيخ عن السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبي ، وليس على ديننا . ولا على دينكم . قالوا : فمن تبعه ؟ قالوا : سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه . وأما أشراف قومه فلم يتبعوه ، فقالوا : إنه قد أظل زمان نبي يخرج ، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل ، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي صادق ، وإن لم يخبركم بهن فهو كذاب ، سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم ، فإن قال لكم : هي من الله ، فقولوا : كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه ؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية . يقول: هو خلق من خلق الله ليس هو من الله .

قيل : مثل هذا الإسناد لا يحتج به. فإنه من تفسير السدي عن أبي مالك . وفيه أشياء منكرة. وسياق هذه القصة في السؤال، من الصحاح والمسانيد ، كلها تخالف سياق السدي . وقد رواها الأعمش والمغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود ، وأنا أمشي معه ، فسألوه عن الروح ، قال : فسكت ، فظننت أنه يوحى إليه ، فنزلت : ويسألونك عن الروح يعني اليهود : قل الروح من أمر ربي الآية . وكذلك هي في قراءة عبد الله . فقالوا : كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل . رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة . وروى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الروح . فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء . فأنزل الله عز وجل الآية . فهذا يدل على ضعف حديث السدي ، وأن السؤال كان بمكة ، فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود . ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة ، لم يسكت [ ص: 3993 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبادر على جوابهم بما تقدم من إعلام الله له ، وما أنزل الله عليه . وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب . فإما أن تكون من قبل الرواة ، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها . ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة ، ثم قال : والروح في القرآن على عدة أوجه :

أحدها : الوحي ، كقوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقوله : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وسمى الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح .

الثاني : القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين ، كما قال : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

الثالث : جبريل كقوله تعالى : نـزل به الروح الأمين على قلبك وقال تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله وهو روح القدس ، قال تعالى : قل نـزله روح القدس

الرابع : الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله . وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون وإنها الروح المذكورة في قوله : تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم

الخامس : المسيح عيسى ابن مريم . قال تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم [ ص: 3994 ] رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس ، قال تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة وقال : ولا أقسم بالنفس اللوامة وقال : إن النفس لأمارة بالسوء وقال : أخرجوا أنفسكم وقال : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال : كل نفس ذائقة الموت

وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح . انتهى .

قال ابن كثير : رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة ، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي ، أن هذه الآية مدنية . وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك في المدينة . مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية . كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك . أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : ويسألونك عن الروح انتهى .

وقد روى ابن جرير عن قتادة : أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام وحكاه عن ابن عباس .

أقول : الذي أراه متعينا في الآية ، لسابقها ولاحقها ، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن ، وهو قريب من قول قتادة . ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنة بكونه شفاء ورحمة ، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا . قال تعالى : وكذلك أوحينا [ ص: 3995 ] إليك روحا من أمرنا وقال تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فكانوا إذا سمعوا الروح ، وصدعوا بالإيمان به ، يتعنتون في السؤال عنه ; استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه ، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله ، وأنه روح من لدنه ، وإلقاء من أمره . ونظير هذه الآية قوله تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي وقوله تعالى : عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون أي : بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته ، وذلك لأنهم قوم جاهليون ، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة ; للأمية والجهالة الفاشيتين فيهم ، كما أشير إليه بقوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي : مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم . وما هو في جنب معلومات لا تحصى ، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب ، والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف ، يفسر بعضه بعضا .

وجميع ما ذكره المتقدمون ، غير ما ذكرناه ، جرى مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة . وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود ; لأنها لما كان لها وجوه من المعاني ، ومنها ما سألوا عنه ، ألقموا بها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[86] ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا .

ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك أي : من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، وإنما عبر عنه بالموصول ، تفخيما لشأنه . ووصفا له بما هو في حيز الصلة ، وإعلاما بأنه ليس من قبيل كلام المخلوق : ثم لا تجد لك به علينا وكيلا أي : من يتوكل علينا برده .
[ ص: 3996 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[87] إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا .

إلا رحمة من ربك أي : ولكن رحمة من ربك تركته غير مشاء الذهاب به بل تولت حفظه .

قال الزمخشري : وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا ، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه . فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما . وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره ، ومنته عليه في بقاء المحفوظ إن فضله كان عليك كبيرا أي : تفضله بالإيحاء والتعليم الرباني ، والاصطفاء للرسالة .

ثم أمره تعالى أن يخاطب أولئك المشركين الذين لم يفقهوا قدر التنزيل ، وأنه وحي رباني ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[88] قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

قل لئن اجتمعت الإنس والجن أي : اتفقت : على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا أي : معينا . وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك ، مع طول الزمن ، دليل قاطع على أنه ليس مما اعتيد صدوره عن البشر ، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[89] ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا .

ولقد صرفنا أي : رددنا وكررنا وبينا : للناس في هذا القرآن من كل مثل [ ص: 3997 ] أي : من كل معنى ، هو كالمثل في غرابته وحسنه ، ليتقرر ويرسخ في نفوسهم ، ويزدادوا تدبرا وإذعانا . فكان حالهم على العكس ، إذ لم يزدادوا إلا كفرا ، كما قال سبحانه : فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي : جحودا .

ولما تبين إعجاز القرآن ، وأنه الآية الكبرى ، ولزمتهم الحجة وغلبوا ، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات ، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة ، فيما حكاه تعالى عنهم بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[90-93] وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .

وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أي : تشقق لنا من أرض مكة عيونا .

أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أي : بستان منهما : فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح ; لأنهم كانوا يردون بلاد الشام والعراق ، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار .

[ ص: 3998 ] قال ابن جرير فيما رواه ، إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ، ولا أقل مالا ، ولا أشد عيشا منا . فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق . ثم زادوا في الاقتراح فقالوا :

أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أي : قطعا بالعذاب : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أي : كفيلا بما تقول ، شاهدا بصحته .

أو يكون لك بيت من زخرف أي : ذهب : أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك أي : وحده : حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه أي : كتابا من السماء ، فيه تصديقك : قل سبحان ربي أي : تنزيها له . والمراد به التعجب من اقتراحاتهم : هل كنت إلا بشرا رسولا أي : كسائر الرسل . وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، حسبما يلائم حال قومهم . ولم يمكن أمر الآيات إليهم ، ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها .

تنبيه :

لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه ، وبحكمته وجلاله . وبيان ذلك - كما في كتاب (" لسان الصدق ") - أن ما اقترحته قريش فيها ( منه ) ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد مما يخالف حكمة الله تعالى المقتضية لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة والأنهار الجارية والجنان الناضرة دون بعض . وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر ; لمصالح يعلمها هو جلت عظمته ، ولا يعلمها الخلق. فليس مقترحهم هذا من العجز في شيء . مع أن مثله لا تثبت به النبوة . فإننا نعلم أن أناسا قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب ونحتوا الجبال ولم يكونوا بذلك أنبياء . ( ومنه ) ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا فإن إنزال السماء [ ص: 3999 ] قطعا مقتض لهلاك العالم بحذافيره . والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم . ( ومنه ) ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلا وهو قولهم : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم مما لا يمكن أن يكون . فلا يجوز طلبه ، وليس من أنواع المعجز . ( ومنه ) ما لا يصلح للأنبياء ، ولو حصل لم يكن معجزا وهو قولهم : أو يكون لك بيت من زخرف فإن هذا غير صالح للأنبياء . وليس بمعجز ، لحصول مثله عند أشباه فرعون . ( ومنه ) ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل، وأردفوه بما لا يجوز وهو قولهم : أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه فيه - على ما ذكر في الرواية - من الله العظيم إلى فلان وفلان وفلان ، لقوم من قريش بأسمائهم. أما بعد : فإن محمدا رسولي فآمنوا به . والصعود في السماء لا مرية فيه ، لأنهم قالوا : ولن نؤمن لرقيك فلو كان ، لكان عبثا. وإنزال كتاب عليهم على المعنى المذكور يستلزم جعلهم أنبياء ، لأن ذلك وحي مثل التوراة والإنجيل . والوحي مختص بالأنبياء ، والكفار عنه معزولون . فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزا ، وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها ، أو لأمر آخر اقترحوها تكبرا وتعنتا وجهلا ، على أنهم بعد تلك الأقوال كلها ، قال قائل منهم : وأيم الله ! لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. وقد قال تعالى :ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه ، هو ما أجاب به صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا أي : تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول . علي أن أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم . وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إلي . وذلك ما تحديتكم بالإتيان [ ص: 4000 ] بسورة مثله في الهداية والإصلاح ، كما أمرني ربي . ولا أقترح عليه ، سبحانه ، ما لا يجوز أن يكون أو ما يكون فعله عبثا ، لخلوه عن الفائدة . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[94] وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .

وما منع الناس أي : الذين حكى تعنتهم : أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا أي : إلا تعجبهم من بعثة إنسان رسولا . بمعنى إنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر . كما قال تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم والآيات في ذلك كثيرة . ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده ، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته . حتى لو كانت الأرض مستقرا لملائكته ، لكانت رسلهم منهم ، جريا على قضية الحكمة .

فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[95] قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .

قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون أي : على أقدامهم كما يمشي الإنس : مطمئنين أي : ساكنين في الأرض قارين : لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا أي: من جنسهم، ليعلمهم الخير ويهديهم المراشد . ولما كنتم أنتم بشرا ، بعثنا [ ص: 4001 ] فيكم رسلا منكم ، كما قال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون

تنبيه :

في الآية إشارة إلى حاجة من يستقر في الأرض إلى الرسالة ، وقد قضت رحمة الباري تعالى وعنايته بذلك ، فمن على الخلق بالرسل ، وأتم حاجتهم بخاتم أنبيائه فأنقذهم من الحيرة ، وخلصهم من التخبط ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور .
القول في تأويل قوله تعالى :

[96] قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم أي : على أني بلغت ما أرسلت به إليكم ، وإنكم كذبتم وعاندتم . وقرر الرازي أن المعني بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن . أي : كفى بما أكرمني به تعالى من هذا المعجز ، شاهدا على صدقي . ومن شهد تعالى على صدقه فهو صادق. فقولكم ، معشر المشركين ، بعد هذا ، يجب أن يكون الرسول ملكا ، تحكم فاسد.

وناقشه أبو السعود بأن ما قرره لا يساعده قوله تعالى : بيني وبينكم وما بعده من التعليل . ثم قال أبو السعود : وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة ، وإبانة للمباينة . وقوله تعالى : إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أي : عالما بأحوالهم . فهو مجازيهم . وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة .

[ ص: 4002 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[97] ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا .

ومن يهد الله أي : إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى : فهو المهتد ومن يضلل أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره ، كهؤلاء المعاندين : فلن تجد لهم أولياء من دونه أي : أنصارا يهدونهم ويحفظونهم من قهره ، وإنما أوثر ضمير الجماعة في (لهم) حملا على معنى (من) وأوثر في ما قبله الإفراد ، حملا على اللفظ . وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق ، وقلة سالكيه ، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم أي : يسحبون عليها كقوله : يوم يسحبون في النار على وجوههم

وقال القاشاني : أي : ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية ! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا . كقوله: ( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون ) إذ ( الوجه ) يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها . أي : على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان . وقوله تعالى : عميا وبكما وصما أي : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ، ويتصامون عن استماعه ; فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى كذا في (" الكشاف ") .

مأواهم جهنم كلما خبت أي : سكن لهيبها ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم : زدناهم سعيرا أي : توقدا . بأن نبدل جلودهم ولحومهم ، فتعود ملتهبة مستعرة .

[ ص: 4003 ] قال الزمخشري : كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء ، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ، ثم يعيدها . لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث . ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.

وقد دل على ذلك بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[98] ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا .

ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أي : لمحيون خلقا جديدا ، بإعادة الروح فينا ، إذا تلف لحمنا وبقينا عظاما. بل رقت عظامنا فصارت رفاتا . ثم احتج تعالى عليهم ، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[99] أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا .

أولم يروا أي : يعلموا : أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم أي : يوم القيامة . ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم . والمعنى : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس ; لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن . كما قال : أأنتم أشد خلقا أم السماء ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء ، بل هي أهون .

قال الشهاب : ولا حاجة إلى جعل (مثل) هنا كناية عنهم . كقوله : ( مثلك لا يبخل) مع أنه صحيح . ولو جعل خلق مثلهم عبارة عن الإعادة ، كان أحسن : وجعل لهم أجلا [ ص: 4004 ] لا ريب فيه أي : جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها . كما قال تعالى : وما نؤخره إلا لأجل معدود فأبى الظالمون أي : بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل : إلا كفورا أي : جحودا وتماديا في باطلهم وضلالهم .

لطيفة :

قال الشهاب : هذه الجملة - جملة وجعل إلخ - معطوفة على جملة : أولم يروا لأنها وإن كانت إنشائية ، فهي مؤولة بخبرية - كما في " شرح الكشاف " إذ معناها : قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة : وجعل لهم أي : لإعادتهم : أجلا وهو يوم القيامة ، يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلا. فيجب التصديق به . أو جعل لهم أجلا ، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة . ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثا . فلا بد أن يجزى بما عمله في هذه الدار . فلا معنى للإنكار. فظهر ارتباط المتعاطفين ، لفظا ومعنى ، و : لا ريب فيه ظاهر على الثاني . وعلى الأول معناه : لا ينبغي إنكاره لمن تدبر . وقيل : إنها معطوفة على قوله : يخلق

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[100] قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .

قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي أي : رزقه وسائر نعمه على خلقه : إذا لأمسكتم خشية الإنفاق أي : لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا ; لأن هذا من طباعكم وسجاياكم . ولهذا قال سبحانه : وكان الإنسان قتورا أي : بخيلا .

[ ص: 4005 ] تنبيهات:

الأول : هذه الآية بلغت بالمشركين ، من الوصف بالشح ، الغاية التي لا يبلغها الوهم ، كما قاله الزمخشري .

الثاني : ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد ، فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه ; لأن المرء إما ممسك أو منفق . والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل ، إما دنيوي كعوض مالي ، أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع ، كما في النفقة على الأهل . وما كان لعوض مالي كان مبادلة لا مباذلة . أو هو بالنظر إلى الأغلب ، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل :


عدنا في زماننا عن حديث المكارم



من كفى الناس شره فهو في جود حاتم


أفاده الشهاب .

وقال ابن كثير : إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له . كما قال تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز .

الثالث : ذكر هذه الآية إثر ما قبلها ، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة ، وسعة كرمه وجوده وإحسانه . كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السماوات والأرض ، كي تنجلي لهم قدرته العظمى ، وسعة خزائنه الملأى ، فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحقية ما يدعوهم إليه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #439  
قديم 11-05-2024, 11:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4006 الى صـ 4030
الحلقة (439)


وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان ، تذكيرا له بنقصه وضعفه ، وإشفاقه وحرصه ; ليعلم أنه غير مخلوق سدى ، يخلى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه . والمعنى : أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله ومما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته ، ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه ، لضننتم بها، مما يدلكم على أنه هو مالك الملك ، وأنكم مسخرون لأمره ؟ ! وهذه الآية كقوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أي: لو أن لهم نصيبا في ملك الله ، لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير. وقد جاء في الصحيحين : « يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه» .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[101] ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا .

ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات واضحات الدلالة على صحة ما أرسله الله به . وقد مضى الكلام عليها في سورة الأعراف في قوله تعالى : فأرسلنا عليهم الطوفان الآية فاسأل بني إسرائيل أي : عنها : فإنهم يعلمونها ، مما لديهم من التوراة . فيظهر للمشركين صدقك ، ويزداد المؤمن بك طمأنينة قلب . لأن الأدلة إذا تظاهرت ، كان ذلك أقوى وأثبت : إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا أي : فذهب إلى فرعون وأظهر آياته ، ودعاه للإيمان به تعالى ولإرسال بني إسرائيل معه . فقال له فرعون ما قال . وقوله : مسحورا بمعنى سحرت فخولط عقلك . أو بمعنى ساحر ، على النسب . أو حقيقة ، وهو يناسب قلب العصا ثعبانا . وعلى الأول هو كقوله : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون


القول في تأويل قوله تعالى :

[102] قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا .

قال لقد علمت أي : يا فرعون : ما أنـزل هؤلاء أي : الآيات التسع : إلا رب السماوات والأرض بصائر أي : بينات مكشوفات لا سحر ولا تخيل . ولكنك معاند مكابر ، ونحوه : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا و ( البصائر ) جمع بصير بمعنى مبصرة أي: بينة. أو المراد الحجج ، بجعلها كأنها بصائر العقول . وتكون بمعنى عبرة : وإني لأظنك يا فرعون مثبورا أي : هالكا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[103-104] فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا .

فأراد أي : فرعون : أن يستفزهم من الأرض أي : يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فرقا منه . أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال . والضمير لموسى وقومه . و ( الأرض ) أرض مصر . أو الأرض التي أذن لهم بالمسير إليها وسكناها وهي فلسطين ، وقوله تعالى : فأغرقناه ومن معه جميعا أي : فحاق به مكره ، لأنه تعقبهم بجنوده بعد ما أذن لهم بالسفر من مصر إلى فلسطين ، ليرجعهم إلى عبوديته ، فدمره الله تعالى وجنوده بالإغراق .

وقلنا من بعده أي : من بعد إغراقه : لبني إسرائيل اسكنوا الأرض وهي أرض كنعان ، بلد أبيهم إسرائيل التي وعدوا بها .

قال ابن كثير : في هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة . وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة ، على أشهر القولين ، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلما وكرما . كما أورث الله القوم ، الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل ، مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال : كذلك وأورثناها بني إسرائيل وقال ها هنا : وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض وقوله تعالى : فإذا جاء وعد الآخرة أي : قيام الساعة : جئنا بكم لفيفا أي : جمعا مختلطين أنتم وعدوكم . ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم . ثم نزه سبحانه ساحة القرآن أن يكون مفترى . وبين اشتماله على ما يلائم الفطر ويطابق الواقع ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[105-106] وبالحق أنـزلناه وبالحق نـزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا .

وبالحق أنـزلناه أي : بالحقيقة أنزلناه كتابا من لدنا فأين تذهبون ؟ كما قال تعالى : لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وبالحق نـزل أي : متلبسا بالحق الذي هو ثبات نظام العالم على أكمل الوجوه . وهو ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ومحاسن الأخلاق وكل ما خالف الباطل . كقوله تعالى : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه أي : نزلناه مفرقا منجما . وقرئ بالتشديد . والقراءتان بمعنى : لتقرأه على الناس على مكث أي : على مهل وتؤدة وتثبت ، فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم : ونـزلناه تنـزيلا أي : من لدنا على حسب الأحوال والمصالح .
القول في تأويل قوله تعالى :

[107-109] قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا

قال الزمخشري : أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم ، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه . وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيرا منهم وأفضل ، وهم العلماء الذين قرأوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه ، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم . فإذا تلي عليهم خروا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره ، ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة ، وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه . وهو المراد بالوعد في قوله : إن كان وعد ربنا لمفعولا

فإن قلت : إن الذين أوتوا العلم تعليل لماذا ؟ قلت : يجوز أن يكون تعليلا لقوله : آمنوا به أو لا تؤمنوا وأن يكون تعليلا لـ ) قل ) على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه . كأنه قيل : تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء . وعلى الأول : إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم . فإن قلت : ما معنى الخرور للذقن ؟ قلت : السقوط على الوجه . وإنما ذكر الذقن ، وهو مجتمع اللحيين ; لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن . فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى ، إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في ( خر لذقنه ولوجهه ) ؟ قال :

فخر صريعا لليدين وللفم ؟ قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور . واختصه به لأن اللام للاختصاص . فإن قلت : لم كرر يخرون للأذقان ؟ قلت : لاختلاف الحالين ، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين ، وخرورهم في حال كونهم باكين. انتهى.

تنبيه:

دل نعت هؤلاء ومدحهم بخرورهم باكين، على استحباب البكاء والتخشع. فإن كل ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله تعالى بها من أحبه من عباده ، يلزم الاتصاف بها . كما أن ما ذم منها من مقته منهم ، يجب اجتنابه .

وقد عد الإمام الغزالي في " الإحياء " من آداب ظاهر التلاوة البكاء . قال : البكاء مستحب مع القراءة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا » . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قرأتم سجدة سبحان ، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم ، فليبك قلبه . وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن . فمن الحزن ينشأ البكاء ، ووجه إحضار الحزن ، أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود . ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره ، فيحزن لا محالة ويبكي. فإن لم يحضره حزن وبكاء، كما يحضر أرباب القلوب الصافية ، فليبك على فقد الحزن والبكاء . فإن ذلك أعظم المصائب. انتهى.

وذكر السيوطي في (" الإكليل ") أن الشافعي استدل بقوله تعالى : ويقولون سبحان ربنا الآية ، على استحباب هذا الذكر في سجود التلاوة . وقوله تعالى :


القول في تأويل قوله تعالى:

[110-111] قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن رد لما أنكره المشركون من تسمية الرحمن ، وإذن بتسميته بذلك . أي: سموه بهذا الاسم أو بهذا . و ( أو ) للتخيير أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى أي: أي : هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن . وقد وضع موضعه قوله : فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه; إذ حسن جميع أسمائه يستدعي حسن ذينك الاسمين. فأقيم فيه دليل الجواب مقامه ، وهو أبلغ .

ومعنى كونها أحسن الأسماء ، أنها مستقلة بمعاني الحمد والتقديس والتعظيم . وهذه الآية كآية : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ولا تجهر بصلاتك أي : بقراءة صلاتك . بتقدير مضاف . أو تسمية القراءة صلاة ; لكونها من أهم أركانها . كما تسمى الصلاة ركعة : ولا تخافت بها أي : تسر وتخفي : وابتغ بين ذلك سبيلا أي : بين الجهر والمخافتة ، أمرا وسطا . فإن خير الأمور أوساطها .

قال أبو السعود : والتعبير عن ذلك بالسبيل، باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون، ويوصلهم إلى المطلوب .

روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بقراءته. فإذا سمعها المشركون [ ص: 4012 ] لغوا وسبوا، فأمر بأن يتوسط في صوته كيلا يسمع المشركون، وليبلغ من خلفه قراءته .

ثم بين سبحانه استحقاقه للحمد لاختصاصه بنعوت الكمال وصفات الجلال بقوله تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا أي : لم يكن علة لموجود من جنسه ; لضرورة كون المعلول محتاجا إليه ، ممكنا بالذات ، معدوما بالحقيقة . فكيف يكون من جنس الموجود حقا ، الواجب بذاته من جميع الوجوه ؟ : ولم يكن له شريك في الملك أي : من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك . وإلا لكان مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة . فامتياز كل واحد منهما عن الآخر ، لا بد وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبة . فلزم تركبهما ، فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين . وأيضا فإن لم يستقلا بالتأثير ، لم يكن أحدهما إلها . وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه ، فلا شريك له . وإن استقلا جميعا ; لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد ، إن فعلا معا . وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر ، رضي بفعله أو لم يرض . أفاده القاشاني .

ولم يكن له ولي من الذل أي : ناصر من الذل ومانع له منه، لاعتزازه به . أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به ، ليدفعها بموالاته : وكبره تكبيرا أي : عظمه عن أن يلحقه شيء من هذه النقائص تعظيما جليلا .

تم ما علقناه على هذه السورة الكريمة ، ضحوة السبت في 26 شوال سنة 1323 في سدة جامع السنانية بدمشق الشام . يسر الله لنا بعونه الإتمام ، والحمد لله وحده .
[ ص: 4020 ]
سُورَةُ الْكَهْفِ

ويقال لها سورة أصحاب الكهف. قال المهايمي : سميت بها لاشتمالها على قصة أصحابه الجامعة فوائد الإيمان بالله ، من الأمن الكلي عن الأعداء، والإغناء الكلي عن الأشياء، والكرامات العجيبة، وهذا من أعظم مقاصد القرآن . وهي مكية، وقيل إلا أولها إلى قوله: جرزا وقوله: واصبر نفسك الآية، و إن الذين آمنوا إلى آخر السورة.

واختار الداني أنها مكية كلها. وآيها مائة وعشرة، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة، ساقها الحافظ ابن كثير وغيره.

[ ص: 4021 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا

الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب قدمنا أن كثيرا ما تفتح السور وتختم بالحمد، إشارة إلى أنه المحمود على كل حال: له الحمد في الأولى والآخرة وتعليما للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه . وذلك بالثناء على الله تبارك وتعالى بنعمه العظمى ومننه الكبرى. وفي إيثار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العلية، تنبيه على أنه أعظم نعمائه. فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد. ولا شيء في معناه يماثله. وفي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية، تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه. كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية، كما تقدم في سورة الإسراء. وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام. وتعريف الكتاب للعهد. أي: الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال، المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به. وهو عبارة عن جميع القرآن. أو عن جميع المنزل حينئذ. وتأخيره عن الجار والمجرور، مع أن حقه التقديم عليه، ليتصل به قوله سبحانه: ولم يجعل له عوجا أي: شيئا من العوج، باختلال في نظمه وتناف في معانيه. أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق. بل جعله مزيلا للعوج ; إذ جعله:
[ ص: 4022 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[2] قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا [3] ماكثين فيه أبدا

قيما أي: قيما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع. فهو وصف له بأنه مكمل لهم، بعد وصفه بأنه كامل في نفسه. أو قيما على الكتب السالفة، مهيمنا عليها. أو متناهيا في الاستقامة والاعتدال. فيكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج. مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له، حسبما تنبئ عنه الصيغة. وانتصابه بمضمر تقديره جعله كما ذكرنا. على أنه جملة مستأنفة. وفيه وجوه أخر.

تنبيه:

ذهب القاشاني أن الضمير في " له " وما بعده لقوله: " عبده " قال: أي: لم يجعل لعبده زيغا وميلا. وجعله قيما، يعني مستقيما، كما أمر بقوله: فاستقم كما أمرت أو قيما بأمر العباد وهدايتهم، إذ التكميل يترتب على الكمال. لأنه: عليه الصلاة والسلام، لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها، أقيمت نفوس أمته مقام نفسه. فأمر بتقويمها وتزكيتها. ولهذا المعنى سمي إبراهيم ، صلوات الله عليه، أمة. وهذه القيمية أي: القيام بهداية الناس، داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة، انتهى.

والأظهر الوجه الأول.

وقوله تعالى: لينذر بأسا شديدا من لدنه أي: لينذر من خالفه ولم يؤمن به، عذابا شديدا عاجلا أو آجلا. و(البأس): القهر والعذاب، وخصصه بقوله: من لدنه إشارة إلى زيادة هوله. ولذلك عظمه بالتنكير. متعلق بأنزل أو بعامل قيما: ويبشر [ ص: 4023 ] المؤمنين أي: به. وقال القاشاني : أي: الموحدين، لكونهم في مقابلة المشركين، الذين قالوا اتخذ الله ولدا. وقوله تعالى: الذين يعملون الصالحات أي: من الخيرات والفضائل: أن لهم أي: بأن لهم، بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة: أجرا حسنا وهو الجنة: ماكثين فيه أبدا
القول في تأويل قوله تعالى:

[4] وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا

وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم مشركو العرب في قولهم الملائكة بنات الله والنصارى في دعواهم المسيح ابن الله وخصهم بالذكر، وكرر الإنذار متعلقا بهم، استعظاما لكفرهم. وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى: ويبشر المؤمنين للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة، في الكفر على أقبح الوجوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[5] ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا

ما لهم به من علم ولا لآبائهم أي: ما لهم بالولد، أو باتخاذه، أو بالقول، من علم. بل إنما يصدر عن جهل مفرط، وتوهم كاذب، وتقليد للآباء. لا عن علم يقين، ويقين. ويؤيده قوله: كبرت كلمة أي: ما أكبرها كلمة: تخرج من أفواههم وذلك لأن الولد مستحيل لا معنى له. إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي أحدي الذات، لا يماثله الوجود الممكن . والولد هو المماثل لوالده في النوع، المكافئ له في القوة. وجملة تخرج من أفواههم صفة لــ(كلمة) تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم. قال الشهاب: لأن المعنى: كبر خروجها. أي: عظمت بشاعته وقباحته، بمجرد التفوه. فما بالك باعتقاده: إن [ ص: 4024 ] يقولون إلا كذبا أي: قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا. وذلك لتطابق الدليل القطعي، والوجدان الذوقي على إحالته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[6] فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا

فلعلك باخع أي: مهلك: نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث يعني القرآن: أسفا أي: لتأسف على توليهم وإعراضهم عنه. أو متأسفا عليهم. والأسف فرط الحزن والغضب. وفي (العناية): لعل للترجي. وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه. وهي هنا استعارة. أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك. لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتشبيه حاله معهم، وقد تولوا، وهو آسف من عدم هدايتهم، بحال من فارقته أحبته. فهم بقتل نفسه. أو كاد يهلك وجدا عليهم وتحسرا على آثارهم. وسر ذلك -كما قال القاشاني - أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه . ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله: يحبهم ويحبونه وكلما كانت محبته للحق أقوى، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر. لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله، وأشد تعطفه عليهم. فإنهم كأولاده وأقاربه. بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي. فلذلك بالغ في التأسف عليهم، حتى كاد يهلك نفسه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا

إنا جعلنا ما على الأرض أي: من الحيوان والنبات والمعادن: زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا أي: ليظهر أيهم أقهر لشهواتها ودواعيها، وأعصى لهواها أي: رضاي، وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
[ ص: 4025 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[8] وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .

وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أي: ترابا مستويا لا نبات فيه. بعد ما كان يبهج النظار، لا شيء فيه يختلف، ربى ووهادا. أي: نفنيها وما عليها ولا نبالي. وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه. كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا. لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء. ثم نفنيها، ولا حيف ولا نقص. أو لا تحزن فإنا مفنون ذلك ومجازون لهم بحسب أعمالهم، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[9] أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا

أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي: آية ذات عجب. على حذف مضاف. أو وصفا بالمصدر مبالغة و من آياتنا حال منه و أم للاستفهام التقريري بمعنى الهمزة. أي: أنهم من بين آياتنا آية عجيبة. وجعلها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والاستفهام للإنكار -أي: إنكار حسبانهم آية عجيبة بالنسبة إلى آياته الكبرى- فيه بعد. لأن سياق النظم الكريم، أعني سوقها مفصلة منوها بها، ما هو إلا لتقرير التعجب منها. و (الكهف) الغار الواسع في الجبل. و(الرقيم) اسم كلبهم. وقيل لوح رقيم فيه حديثهم، وجعل على باب الكهف. وقيل الجبل أو الوادي، أقوال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[10] إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .

إذ أوى الفتية إلى الكهف أي: خوفا من إيذاء الملك على ترك عبادة الأوثان [ ص: 4026 ] والذبح لها. وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق حالهم بتغليبهم جانب الله على جانب أهويتهم في حال شبابهم: فقالوا ربنا أي: من ربانا بنعمة إيثار جانبه على جانب أنفسنا: آتنا من لدنك رحمة أي: من خزائنك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداد: وهيئ لنا من أمرنا وهو اختيار الكهف لمفارقة الكفار: رشدا وهو توحيدك وعبادتك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[11] فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا .

فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا أي: أنمناهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخبير، ولا دعوة الداعي الخبير، في الكهف سنين ذوات عدد. أي: كثيرة أو معدودة. قال الشهاب : ضربنا مستعار استعارة تبعية لمعنى أنمناهم إنامة لا ينتبه منها بالصياح. لأن النائم ينتبه من جهة سمعه. وهو إما من (ضربت القفل على الباب) أو (ضربت الخباء على ساكنه) شبه; لاستغراقه في نومه حتى لا ينتبه بمنبه، بمن كان خلف حجب مانعة من وصول الأصوات إليه، وقيل إنه استعارة تمثيلية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[12] ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا

ثم بعثناهم أي: أيقظناهم إيقاظا يشبه بعث الموتى: لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا أي: لنعلم واقعا ما علمنا أنه سيقع. وهو أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم، أشد إحصاء، أي: إحاطة وضبطا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب، وأمنهم من العدو، فيتم لهم رشدهم في شكره، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته.
وقوله تعالى:

[ ص: 4027 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[13] نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى .

نحن نقص عليك نبأهم بالحق شروع في تمام بسط قصتهم وتفصيلها. والحق الأمر المطابق للواقع: إنهم فتية آمنوا بربهم أي: بوحدانيته إيمانا يقينيا علميا على طريق الاستدلال، مع اتفاق قومهم على الشرك: وزدناهم هدى أي: بترجيح جانب الله على جانب أنفسهم. قال ابن كثير : الفتية -وهم الشباب- أقبل للحق وأهدى للسبيل، من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل. ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا. وأما عامة شيوخ قريش فاستمروا على ضلالهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. وقد يروى عن هؤلاء الفتية روايات مضطربة. أوثقها أن هؤلاء، كان قدم إلى مدينتهم من يدعو إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به عيسى عليه السلام. ممن كان على قدم الحواريين. فاستجاب لذلك الفتية المنوه بهم. وخلعوا الوثنية التي عليها قومهم وفروا بدينهم خشية أن يفتنهم ملكهم عن دينهم أو يقتلهم. فاستخفوا عنه في الكهف. واعتزلوا فيه يعبدون الله تعالى وحده. ثم روي أن الملك طلبهم. فقيل: دخلوا هذا الكهف. فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف. فبنوه عليهم ثم ردموه. ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى . فرفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم حتى بلغ: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة وكان ورق ذلك الزمان لدولة أهله. فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام. فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع. ثم مضى حتى دخل المدينة. فأنكر ما رأى. ثم أخرج درهما فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم. وقالوا: من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان.

[ ص: 4028 ] واجتمعوا عليه يسألونه. فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم. فأخبره بأمره. فاستبشروا به وبأصحابه. وقيل له: انطلق فأرنا أصحابك. فانطلق وانطلقوا معه ليريهم. فدخل قبل القوم فضرب على آذانهم فـ: قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا هذا ما أورده ابن جرير أولا، وفيه كفاية عن غيره.

وسنذكر في آخر نبئهم ما عند أهل الكتاب النصارى من شأنهم.

وقد قيل إنهم كانوا في مدينة يقال لها ( طرسوس ) من أعمال طرابلس الشام . وفيها من الآثار القديمة العهد، في جبل بها، ما يزعم أهلها زعما متوارثا، أنه لأصحاب الكهف. والله أعلم.
ثم بين تعالى صبرهم على مخالفة قومهم، ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[14] وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا .

وربطنا على قلوبهم أي: قويناها بالصبر على المجاهدة. وشجعناهم على محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران. ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات والقيام بكلمة التوحيد. وقيل جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار. لقوله تعالى: إذ قاموا أي: بين يديه غير مبالين به. و " إذ " ظرف لـــ ربطنا . قال الشهاب: (الربط) على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشد المعروف. أي: استعارة منه. كما يقال، رابط الجأش. لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله، كما قال تعالى: وبلغت القلوب الحناجر فشبه القلب المطمئن لأمر، [ ص: 4029 ] بالحيوان المربوط في محل. وعدي (ربط) بــ(على) وهو متعد بنفسه، لتنزيله منزلة اللازم: فقالوا ربنا الذي نعبده: رب السماوات والأرض بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه: لن ندعو أي: نعبد: من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا أي: ذا بعد عن الحق، مفرط في الظلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[15] هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .

هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة عملوا أو نحتوا لهم آلهة، فيفيد أنهم عبدوها. وفي الإشارة تحقير لهم: لولا يأتون عليهم أي: على عبادتهم أو آلهيتهم أو تأثيرهم: بسلطان بين أي: حجة بينة وبرهان ظاهر. فإن الدين لا يؤخذ إلا به. قال القاشاني : دليل على فساد التقليد، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله، وتأثيره ووجوده، محال. كما قال:إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان أي: أسماء بلا مسميات، لكونها ليست بشيء: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: لا مساوي له في الظلم والكفر. إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان. فهم ظالمون في حق الله، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها. ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم:
القول في تأويل قوله تعالى:

[16] وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا .

وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف أي: وإذ اعتزلتم القوم، [ ص: 4030 ] بترك متابعتهم، من إفراط ظلمهم، وهو موجب بغضهم. واعتزلتم معبوداتهم غير الله، فإنهم كانوا يعبدونهم صريحا أو في ضمن عبادتهم له، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه، فلا يؤذونكم، ولا تخافوا من الكون فيه، فوات الطعام والشراب، فإنكم إذا التجأتم إلى الله بعد ما دعوتموه بنشر الرحمة وتهيئة الرشد، ينشر لكم ربكم من رحمته أي: ما يغني عن الطعام والشراب، بالإمدادات الملكوتية والتأييدات القدسية: ويهيئ لكم من أمركم وهو اختيار جانبه على جانبكم: مرفقا أي: ما تنتفعون به. قال المهايمي : يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات. على أنها لذاتها لم تخل من أذية. وهذه خالية عن الأذيات كلها. وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى.

تنبيه:

زعم قوم أن الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقا. وهو خطأ. فإنها تشير إلى التأسي بأهل الكهف في الاعتزال ، إذا اضطهد المرء في دينه وأريد على الشرك. وممن رد الاحتجاج بهذه الآية على تفضيل العزلة، الإمام الغزالي حيث قال في (إحيائه): وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضا وهم مؤمنون. وإنما اعتزلوا الكفار. أي: ولا ريب في مشروعيته فرارا من الفتن.

فقول السيوطي في (الإكليل): في الآية مشروعية العزلة والفرار من الظلمة وسكون الغيران والجبال عند فساد الزمان، كلام مجمل لا بد من التفصيل فيه. وأي عصر خلا من الفساد؟. وسياق الآية في الاضطهاد فحسب، فافهم ولا تغل. وقوله تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #440  
قديم 12-05-2024, 12:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4031 الى صـ 4045
الحلقة (440)


القول في تأويل قوله تعالى:

[17] وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله [ ص: 4031 ] من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

وترى الشمس إذا طلعت أي: صعدت عند طلوعها: تزاور أي: تميل: عن كهفهم أي: بابه: ذات اليمين أي: يمين الكهف: وإذا غربت أي: هبطت للغروب: تقرضهم ذات الشمال أي: تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال: وهم في فجوة منه أي: سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب دون أذى الشمس. وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال. فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف. وإذا غربت كانت على شماله. فيقع شعاعها على جانبيه. يحلل عفونته ويعدل هواءه. ولا يقع عليهم فيؤذيهم. قال الشهاب : تقرضهم من القرض بمعنى القطع. أي: قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم. قول الفارسي إنه من قرض الدراهم، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد- مردود، بأنه لم يسمع له ثلاثي.

وفي (الروض الآنف) تقرضهم كناية عن تعدل بهم. وقيل: تتجاوزهم شيئا. من (القرض) وهو القطع أي: تقطع ما هنالك من الأرض. وقوله تعالى: ذلك من آيات الله أي: إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، وشعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه، لتبقى أبدانهم، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين: من يهد الله أي: إلى الحق بالتوفيق له: فهو المهتد ومن يضلل أي: يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه: فلن تجد له وليا أي: ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال: مرشدا أي: يهديه إلى ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

[ ص: 4032 ] وتحسبهم أيقاظا وهم رقود خطاب لكل أحد. أي: تظنهم، يا مخاطب، أيقاظا لانفتاح أعينهم، وهم رقود مستغرقون في النوم، بحيث لا ينبههم الصوت. قال ابن كثير : ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى. فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها. وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا. ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد. كما قال الشاعر:


ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم


و: أيقاظا جمع يقظ ويقظان. و: رقود جمع راقد. وما قيل أنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود، لأن فاعلا لا يجمع على فعول - مردود بما نص عليه النحاة كما صرح به في (المفضل) و (التسهيل).

ونقلبهم أي: في رقدتهم: ذات اليمين وذات الشمال أي: لئلا تتلف الأرض أجسادهم: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد أي: بفناء الكهف أو الباب. وقد شملت بركتهم كلبهم. فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، قال ابن كثير : وهذا فائدة صحبة الأخيار . فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل أنه كان كلب صيد لهم وهو الأشبه. واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها. بل هي مما نهي عنه. فإن مستندها رجم بالغيب. ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم. فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض، حفظهم عن الأعداء بكلب، ليهابوهم مع هيبة ذاتية لهم. كما قال تعالى: لو اطلعت عليهم أي: فنظرت إليهم، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب: لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا أي: خوفا يملأ صدرك، لما ألبسوا من الهيبة. فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم. وذلك -كما قال ابن كثير : لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم. لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة الواسعة. وقوله تعالى:
[ ص: 4033 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[19] وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا .

وكذلك بعثناهم أي: وكما أنمناهم تلك النومة، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا، ادكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا. قال ابن كثير : وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وقوله تعالى: ليتساءلوا بينهم أي: ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به. أفاده الزمخشري .

وبه يتبين أن البعث علة للتساؤل. ومن جعل اللام للعاقبة، لحظ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته: قال قائل منهم كم لبثتم أي: رقدتم. اعترافا بجهل نفسه أو طلبا للعلم من غيره، وإن لم يظهر كونه على اليقين: قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال ابن كثير : كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار. ولهذا قالوا: أو بعض يوم. وقال المهايمي : فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ظن أنهم لبثوا يوما، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية، ظن أنهم لبثوا بعض يوم. فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن. فالولي يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول، ويجوز أن يخطئ. وقال الزمخشري : جواب مبني على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب . وأنه لا يكون كذبا. وإن جاز أن يكون خطأ.

قالوا ربكم أعلم بما لبثتم إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. [ ص: 4034 ] كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة، أو بإلهام من الله، أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم. فأحالوا تعيينها على ربهم: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه أي: المأخوذة للتزود. و(الورق) الفضة: إلى المدينة أي: التي فررتم عنها: فلينظر أيها أزكى طعاما أي: أطيب فليأتكم برزق منه وليتلطف أي: في المبايعة واختيار الطعام. أو في أمره بالتخفي، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم: ولا يشعرن بكم أحدا
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .

إنهم إن يظهروا عليكم يطلعوا على مكانكم: يرجموكم أي: يقتلوكم بالحجارة: أو يعيدوكم في ملتهم أي: يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف: ولن تفلحوا إذا أبدا أي: إذا صرتم إلى ملتهم. قال القاشاني : ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم - ظاهر. كما كان في أوائل البعثة النبوية.

لطائف:

الأولى: قال الزمخشري : فإن قلت: كيف وصلوا قولهم فابعثوا بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك. لا طريق لكم في علمه. فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. انتهى.

ورأى المهايمي أن قولهم: فابعثوا من تتمة حديث المدة. قصد به تفحصها. كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله: ربكم أعلم بما لبثتم قالوا: هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة. ولو في ضمن أمر آخر، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا. وهي أن تبعثوا أحدكم [ ص: 4035 ] بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة. لا سيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به، فيفضي إلى الهلاك.

الثانية: قال في (الإكليل): قوله تعالى: فابعثوا الآية، أصل في الوكالة والنيابة. قال ابن العربي : وهي أقوى آية في ذلك.

قال الكيا : وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة . وإن تفاوتوا في الأكل.

الثالثة: دل قوله تعالى عنهم: فلينظر أيها أزكى طعاما على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن ، لصيغة التفضيل. فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره. ولذلك يجب طبا الاعتناء بجودته وتزكيته، كما فصل في قوانين الصحة.

الرابعة: قال الرازي: (الرجم) بمعنى القتل، كثير في التنزيل كقوله: ولولا رهطك لرجمناك وقوله: أن ترجمون وأصله الرمي، أي: بالرجام وهي الحجارة. ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها، زيادة في التهويل. فإن الرجم أخبث أنواع القتل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[21] وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .

وكذلك أعثرنا عليهم أي: كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد: ليعلموا [ ص: 4036 ] أن وعد الله حق أي: ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم، أن وعد الله بالبعث حق. لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث: وأن الساعة أي: الموعود فيها بالبعث: لا ريب فيها إذ لا بد من الجزاء بمقتضى الحكمة. ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم، بقوله سبحانه: إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا أي: على باب كهفهم بنيانا عظيما. كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم، و (إذ) على ما يظهر لي، ظرف لــ (أذكر) مقدرا. والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم، وجعله ظرفا لـ: أعثرنا أو لغيره مما ذكروا ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى.

وقوله تعالى: فقالوا تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى: ربهم أعلم بهم جملة معترضة. إما من الله ردا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم. كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيهم إليه تعالى: قال الذين غلبوا على أمرهم أي: من المتنازعين، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة: لنتخذن عليهم مسجدا أي: نصلي فيه، تبركا بهم وبمكانهم.

تنبيه:

قال ابن كثير : حكي في القائلين ذلك قولان

أحدهما: أنهم المسلمون منهم.

والثاني: أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » يحذر ما فعلوا. انتهى.

[ ص: 4037 ] وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبي والولي مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال فيهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة، في كتابه (الصارم المنكى) بعد إيراده ما تقدم: يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك، صرحوا بأن القصد هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا: من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره. فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف، بواسطة مقابلته.

وهذا المعنى بعينه، ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور. وتلقاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج . ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشاده للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.

[ ص: 4038 ] ثم قال عليه الرحمة: ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به، لم يكن ذلك تعظيما. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، وأثبت لهم خصائص الربوبية، ونزههم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظم مخلوقا بما يكرهه ذلك المعظم ويبغضه، ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان: أحدهما ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلو مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح . بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبي صلى الله عليه وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه. فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم. وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد ! يا سيدنا! وابن سيدنا! وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل » . وقال صلى الله عليه وسلم: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله » وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما وهو مريض. وقال: « إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم. [ ص: 4039 ] يقومون على ملوكهم » وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلو مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[22] سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا .

سيقولون أي: الخائضون في قصتهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بالحقيقة:ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون أي: بعض آخر منهم: خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب أي: رميا وتلفظا بالذي غاب عنهم. يعني ظنا خاليا عن اليقين. قال ابن كثير : كالذي يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد: ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم حكاية لقول فريق آخر كان يرى عدتهم هذه: قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل أي: ممن أطلعه الله عليه: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي: لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف، إلا جدالا ظاهرا لينا غير متعمق فيه. وذلك على قدر ما تعرض له التنزيل الكريم من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي، وتفويض العلم إلى الله سبحانه، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف بهم، في الرد عليهم كما قال: وجادلهم بالتي هي أحسن فإن الأمر [ ص: 4040 ] في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. قيل: المماراة المجادلة. وقيل بالفرق. فالمجادلة المحاجة مطلقا. والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي: تردد، لأنها من (مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها للحليب: ولا تستفت فيهم منهم أحدا أي: لا تسأل أحدا منهم عن نبئهم. لأن السؤال إما للاسترشاد، أو للتعنت والمحاورة. ولا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه رجما بالغيب. من غير استناد إلى كلام معصوم. والتعنت للرد على الخصم وتزييف ما عنده، ينافي مكارم الأخلاق. والمعنى: جاءك الحق الذي لا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على ما تقدم من الكتب والأقوال.

تنبيهات:

الأول: ذهب أكثر المفسرين إلى أن قول الخائضين الأخير، وهو أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، هو الحق. لأنه لم يوصف بكونه رجما بالغيب كما وصف الأولان.

ولتخصيصه بالواو في قوله: وثامنهم وهي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، لإفادة تأكيد لصوق الصفة بالموصوف. والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وأنه لا عدد وراءه. كما قال ابن عباس : حين وقعت الواو انقطعت العدة. وأقول: لا يخفى ضعف التمسك بهذين الوجهين لتقوية القول الأخير. فإن عدم وصفه بالرجم بالغيب إنما هو لدلالة ما قبله عليه. وفي إعادته إخلال بالبلاغة. ومسألة الواو أوهى من بيت العنكبوت. فإن مثل هذا النزاع لا يكتفى بحسمه بمثل هذا الإيماء الدقيق القريب من الإلغاز. كما لا يخفى على من تتبع مواقع حسم الشبه في الكتاب والسنة وكلام البلغاء. لا سيما والواو من المحكي لا من الحكاية. فيدل على ثبوته عند القائل لا عند الله، فلا يكون من الإيماء في شيء. وجواب بعضهم بأنه تعالى لما حكى قولهم قبل أن يقولوه هكذا، لقنهم أن يقولوه إذا أخبروا عنه بهذه العبارة، وبأنه لا مانع أن تكون من الحكاية -بعيد غاية البعد، وتكلف ظاهر، وإغراب في القول.

ثم قيل: إن هذه الجملة لا تتعين للوصفية. لجواز كونها حالا من النكرة، لأن اقترانها بالواو مسوغ. ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ المحذوف. لأنه يجوز في مثله إيراد الواو [ ص: 4041 ] وتركها. على أنه إنما يتم ما ذكروه لو لم يتبع قولهم بقوله تعالى: قل ربي أعلم بعدتهم فإن في تأثره للأقوال المتقدمة كلها، برهانا ظاهرا على أنهم لم يهتدوا لعدتهم، وإرشادا إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام، رد العلم إليه تعالى.

وإشارة إلى أنه لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم بين وبرهان نير. وإنه إذا أوقفنا على الفيصل قلنا به، وإلا وقفنا. وقد تأكد هذا بقوله سبحانه بعده: ما يعلمهم إلا قليل فإن فيه دلالة على أنه يعلمهم البعض ممن لم يشأ الحق تعيينه. وهو إما نبي، أو من كان في مدتهم، أو من نقب عن نبئهم بإثارة صحيحة أو تلق عن المعصوم. وفيه إعلام بأنه لم يضرب على الناس بسد من جهالة شأنهم.

وبالجملة، فالنظم الكريم، بأسلوبه هذا، لا يدل على أن الأخير هو الحق كما علمت. وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل. كانوا سبعة -فهو من الموقوف عليه. ولو رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصح سنده لقلنا به على أنه اختلف على ابن عباس في عدتهم. فروي عنه أنهم ثمانية، حكاه ابن إسحاق عن مجاهد عنه. وروي عنه سبعة. وهو حكاية قتادة وعكرمة عنه. ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي أنه قال: إن كان - ابن عباس - قد عرفه ببيان الرسول، صح. وإن كان قد تعلق بحرف الواو فضعيف. انتهى. هذا ما ظهر لي الآن.

وبعد كتابتي لما تقدم بمدة، وقفت على نبئهم في (طبقات الشهداء المسيحيين) وأن عدتهم سبعة عندهم كما ستراه في آخر الآيات فيهم. فسنح لي أن ابن عباس إنما جزم بما جزم به، مما قوي عنده من إشارة الآية، كما ذكره أولئك الأكثرون، ومن تواتر عدتهم من قومهم وممن أثر عنهم. ثم حققه وصدقه عدم النكير فيه. وكذلك جزم بمثله الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله. حيث قال في (قاعدة له في التفسير): اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام -مقام حكاية الأقوال وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة [ ص: 4042 ] أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث. فدل على صحته. إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما. ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته. فيقال في مثل هذا: قل ربي أعلم بعدتهم فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه. فبهذا قال: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل. ويذكر فائدة الخلاف وثمرته ، لئلا يقع النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص. إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا. انتهى كلامه رحمه الله، وهو الفصل في هذا المقام.

الثاني: قال الرازي : ذكروا في فائدة الواو في قوله: وثامنهم وجوها:

الأول: ما ذكروه أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال. وقد عرفت ما فيه.

وثانيها: أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد. وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدل على الاستئناف، فقالوا: وثمانية. فجاء هذا الكلام على هذا القانون. قالوا: ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات، وهي قوله: والناهون عن المنكر لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة. وقوله: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله: ثيبات وأبكارا لأن قوله: وأبكارا هو العدد الثامن مما تقدم. والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ومعناه ما ذكرناه.

[ ص: 4043 ] قال القفال: وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ولم يذكر الواو في النعت الثامن. انتهى.

وقال في (الانتصاف): الصواب في الواو ما تقدم من كونها لتأكيد اللصوق. لا كمن يقول إنها واو الثمانية. فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم. ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة: وفتحت أبوابها قالوا لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي إلى الثامن فتصحبه الواو؟ وربما عدوا من ذلك: والناهون عن المنكر وهو الثامن من قوله: التائبون وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي: الآمرون بالمعروف لما بينهما من التناسب والربط. ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما؟ كقوله: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكقوله: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وربما عد بعضهم من ذلك، الواو في قوله: ثيبات وأبكارا لأنه وجدها مع الثامن. وهذا غلط فاحش. فإن هذه واو التقسيم. ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا لم يستد الكلام. فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة، واردة لغير ما زعمه هؤلاء. والله الموفق... انتهى.

الثالث: حكي في (الإكليل) عن مجاهد في قوله تعالى: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا إلا بما أظهرنا لك. ومثله قول السدي: إلا بما أوحي إليك. وإن فيه تحريم الجدل بغير علم وبلا حجة ظاهرة .
وقوله تعالى:

[ ص: 4044 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[23] ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [24] إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا .

ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت في هذه الآية وجوه من المعاني. منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول، فتكون قائلا بمشيئته، فالمشيئة على هذا بمعنى الإذن. لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي: إعلامه به. ومنها لا تقولن لما عزمت عليه من فعل، إني فاعل ذلك غدا إلا قائلا معه إن شاء الله تبرؤا من لزوم التحكم على الله، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله، فتكون فاعلا بمشيئته. ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى. ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعا بفعله وباتا له. لأنه: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه.

وقوله تعالى: إلا أن يشاء الله أي: أن تقول ذلك القول البات نسيانا فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره. ولذا قال: واذكر ربك إذا نسيت وعلى هذه الوجوه كلها فـ: " لا تقولن " نهي معطوف على النهيين قبله. قال الجاحظ في كتاب (الحيوان): إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول: إن شاء الله، ليبقي عادة للمتألي، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني، وعلى أن يكون عبده ذاكرا لله. لأنه عبد مدبر، ومقلب ميسر، ومصرف مسخر.

وبقي وجه آخر: وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول. والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله. كقوله تعالى: [ ص: 4045 ] وما تشاءون إلا أن يشاء الله وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قاله في (الانتصاف) وفي المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان هم بأمر ما في نبأ هؤلاء الفتية، وعزم على أمر في غد المحاورة به.

ولعله الاستفتاء عنهم. فلما نهى عنه أخبر بأن كل شيء كائن بمشيئته تعالى، ليدخل فيه ما كان قاله دخولا أوليا. أي: ما قلته وعزمت على فعله كان بمشيئة الله، إذ شاء الله أن تقوله. فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب، إثر ما يومئ إليه النهي إليها من رقيق ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم، ولاحق الأمر بذكره تعالى إذا نسي، أي: نسي ما وصي به. وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه.

فدعوى الناصر في (الانتصاف) أنه ليس هو الغرض، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقرونا بمشيئته تعالى- قصر للآية على أحد معانيها، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها. وقد ظهر قوة المعنى الأخير لموافقته لآية: وما تشاءون إلا أن يشاء الله والقرآن يفسر بعضه بعضا. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا أي: خيرا ومنفعة. والإشارة للنبأ المتحاور فيه.

تنبيهات:

الأول: روي أنه صلوات الله عليه سئل عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين، فقال: « أجيبكم عنها غدا » ولم يستثن. فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما، ثم نزلت: ولا تقولن الآية . وقد زيف هذه الرواية القاضي -كما حكاه الرازي - من أوجه. والحق له. لأنها من مرويات ابن إسحاق مجهول. كما ساقه عنه ابن كثير وغيره، والله أعلم.

الثاني: يشير قوله تعالى: وقل عسى أن يهديني ربي الآية، إلى أن هذا النبأ ليس مما تنبغي العناية بتحقيقه وتدقيق أطرافه، وابتغاء الرشاد فيه، حتى يتكلف لفتوى أهل [ ص: 4046 ] الكتاب فيه. العزم على فعل شيء مما يلابسه في المستقبل، لأنه من الأمور الغابرة التي حق الخائض فيها أن ينظر منها إلى وجه العبرة والفوائد التي حوتها، كما أحكمته آيات التنزيل في شأنها.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 449.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 443.67 كيلو بايت... تم توفير 5.70 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]