الموضوع: خاتم النبيين
عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 23-06-2022, 09:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (6)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة السادسة من برنامج (خاتم النبيين)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم إخواني وأخواتي الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة امتدادَ الدعوة الجهرية، وكيف قابلت قريش تلك الدعوة، فقد عمِلت على أساليب كثيرة لمواجهة هذه الدعوة وإحباطها، لكن الله عز وجل أراد نصر نبيه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، ولما تضايق المسلمون من مواقف كفار قريش، عزموا على الهجرة إلى الحبشة، فإن الحبشة تقع في الضفة الغربية للبحر الأحمر، وتُعرف اليوم بإثيوبيا وهي في القارة الإفريقية، وكان الأحباش فيها يدينون بالنصرانية، ويعبدون المسيح، وكانت تلك الهجرة في السنة الخامسة كما يرويه الواقدي، ونسبه ابن حجر إلى أهل السِّيَرِ وقيل في تاريخها غير ذلك، وعند التساؤل عن أسباب هجرة المسلمين إلى الحبشة، نقول: يكمن ذلك في عدة أسباب؛ منها:
السبب الأول: كثرة المسلمين بعد الجهر بالدعوة، فحين صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة، استجاب لها أعداد كثيرة من أهل مكة، وبدأ الناس يتحدثون عن الإسلام، فأغضب ذلك قريشًا، وثاروا على مَن آمَنَ يعذبونهم ويسجنونهم، كما يقوله الزهري، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لمن آمن: تفرقوا في الأرض، وأشار إلى أرض الحبشة، فكانت تلك الإجراءات من أسباب هجرتهم إلى الحبشة.

السبب الثاني في هجرة المسلمين إلى الحبشة: أن الحبشة دار أمنٍ وعدل، وفيها حاكم عادل، فرغِب المسلمون بذلك ليسلَموا بأنفسهم ودينهم، بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم عنده أحد، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا))، ولم تفرق قريش بين كبير ولا صغير، حتى أبي بكر، وهو مَن هو في قومه، أراد الهجرة إلى الحبشة لما ضايقته قريش، ولما سار قليلًا، لقيه ابن الدغنة، فقال: مثلك لا يخرج يا أبا بكر، فأدخله في جواره، ثم رجع إلى مكة.

السبب الثالث في هجرة المسلمين إلى الحبشة: الخشية من الافتتان في الدين، فلم تكن الهجرة لمجرد الأذى فقط، لكن كان الصحابة رضي الله عنهم وهم على أول إسلامهم يخشون من قومهم أن يفتنوهم عن دينهم؛ لأنهم حديثو عهد بإسلام؛ ولذلك قال مصعب بن عمير رضي الله عنه لأمه: "أفر بديني أن تفتنوني"، وكانوا تعرضوا لفتنة شديدة، وفي حديث عروة: "وكانت فتنة شديدة على المؤمنين".

السبب الرابع في هجرة المسلمين إلى الحبشة: نشر الدعوة في خارج مكة، فكما أنهم رضي الله عنهم فرُّوا خوفًا من الافتتان وخشية الأذى، فهم أيضًا قصدوا نشر دين الله تعالى، والمتأمل في مجريات أحداث الهجرة يرى أن المهاجرين كانوا يتحدثون عن الإسلام منذ وطئت أقدامهم أرضَ الحبشة، فهم دعَوا ملك الحبشة إلى الإسلام، وقرؤوا عليه القرآن، وحاوروه في عيسى، وكانت ديانة أهل الحبشة آنذاك هي النصرانية، بل في حديث أم سلمة الطويل أن جعفر رضي الله عنه قرأ على النجاشي صدر سورة مريم، فتأثر النجاشيُّ وبكى، وامتلأت لحيته بالدموع، وبكى أساقفته، وقال النجاشي: ((إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة))، ثم أمَّنهم في الحبشة، وبعدها آمن النجاشي بالرسالة، ودخل في الإسلام، وكان إسلامه مكسبًا كبيرًا للدعوة، ومؤشرًا عظيمًا في أرض الحبشة في دعوتهم للإسلام، هذه جملة من الأسباب جعلت المؤمنين المستضعفين في مكة يهاجرون إلى الحبشة، لكن يتبادر سؤال؛ وهو: لماذا الهجرة كانت إلى الحبشة؟ ألم يكن شيء أقرب وأنسب منها؟ ويرجع ذلك - والله أعلم - إلى أسباب عدة:
منها أولًا: أن ملكها النجاشيَّ رجل عادل لا يُظلم عنده أحد، والمهاجرون بحاجة إلى عدل يقف أمام ظلم قريش، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال بعضهم: إن عدل النجاشي وصل إلى حدِّ أن قريش إذا تخاصموا، تحاكموا إليه.

السبب الثاني من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة: صلاح النجاشي، وقد شهِد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في رواية البخاري، بل كان صلاحه مشهورًا، فقد تأثر بالقرآن لمَّا سمعه، وبكى بكاءً كثيرًا، ويواسي المهاجرين ويحميهم، وقد جاء إسلامه بعد ذلك، فصلاحه قبل إسلامه هو برقَّة قلبه وعدله ورحمته، والوقوف مع المظلوم، ونحو ذلك، ثم أسلم فاستمر صلاحه، حتى لقيَ ربه رحمه الله.

ثالثًا: من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة أن الحبشة تعتبر متجرًا لقريش، وتربِطها بمكة عِلاقات تجارِية، وقد أكد ذلك الإمام الطبري، فقال: "هي متجر حسن لقريش، وقد كانت قريش ترحل إليها في الشتاء، فهي دفء لهم ومصدر رزق".

السبب الرابع من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة: أن الحبشة ليست تحت ولاية قريش، وكانت ديانتهم النصرانية، بينما ديانة قريش الوثنية، فالنصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وقد بشر عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب كتاب، فكانوا أقرب من غيرهم إلى المهاجرين؛ هذه جملة من الأسباب جعلت الحبشة خيارًا أوليًّا لمكان الهجرة.

وقد خرجوا من مكة إلى الحبشة سرًّا من قريش؛ حتى لا يفتنوهم، ولا يردوهم، وقد سارت قريش في إثرهم لردهم، ولكنهم لم يدركوهم، وكان المهاجرون حينها نحوًا من اثني عشر رجلًا، وخمس نسوة، ولكن كانت هجرة الحبشة الأولى أول هجرة إلى الله تعالى، وكانت من مناقب مَن هاجر، ولقد كانت الهجرة إلى الحبشة هجرتين.

الأولى: خرجوا متسللين سرًّا من قريش، منهم الراكب، ومنهم الماشي، فوصلوا البحر، فركبوا مع سفينة التجارة، فوصلوا إلى الحبشة، وأمِنوا وارتاحوا وعبدوا الله تعالى باطمئنان وسكينة، وقد مكثوا في هجرتهم تلك الأولى ثلاثة أشهر، ثم بلغهم أن أهل مكة أسلموا فرجعوا إلى مكة، فلما قربوا منها، بلغهم كذب ذلك الخبر، فرأى بعضهم الرجوع إلى الحبشة، ورأى آخرون الدخول إلى مكة بجوار، أو مستخفيًا، وبعد خروجهم إلى الهجرة الأولى أسلم حمزة، وأسلم أيضًا عمر رضي الله عنهما، وكان لإسلام هذين الرجلين العظيمين أثرُه في رجوع هؤلاء من الحبشة في الهجرة الأولى.

الهجرة الثانية: وقد كان سببها أنهم لما رجعوا من الهجرة الأولى، وجدوا أذًى شديدًا من أقوامهم وعشائرهم، فأذِن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية إلى الحبشة، وقد كان عددهم في هذه الهجرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلًا، وسبع عشرة امرأة، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، رجع منهم أناس، وبقيَ آخرون، ولما مات النجاشي، نعاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وصلى عليه، وأثنى عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مات اليوم رجل صالح فصلوا على أخيكم أصْحَمَة))؛ [رواه البخاري]، وأصحمة هو اسم النجاشي، وكانت وفاته رحمه الله في السنة التاسعة من الهجرة، وقد حكت أم سلمة رضي الله عنها في حديثها الطويل حالتهم هناك، وكيف لحقتهم قريش، وماذا كان واقع النجاشي مع قريش، وهو حديث طويل ذكره أهل السير، فليُرجع إليه، ففيه دروس عظيمة وعِبر قويمة، مع انتصار الحق على الباطل، وكذلك الحوار الذي جرى بين جعفر بن أبي طالب والنجاشي؛ ففي هذين الحديثين أسباب للثبات على الحق، ومعرفة للدين، وكان من نتائج الهجرتين مخرجات عظيمة.

أولها: أن الصحابة رضي الله عنهم عبدوا ربهم في الحبشة بطمأنينة وسكينة وسلام، وثاني المخرجات من الهجرة إلى الحبشة: أن الدعوة خرجت من مكة إلى غيرها كالحبشة؛ فامتدت واتسعت، وثالث المخرجات: إسلام النجاشي، وقد أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب، ورابع المخرجات: إسلام من أسلم من أهل الحبشة، إلى غير ذلك من المخرجات والمكاسب، وبعد تلك الجولة المختصرة للهجرتين إلى الحبشة، جاء الحصار للمسلمين في شِعب بني هاشم، وهذا ما سنطرحه بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

أما الدروس المستفادة من دراسة تلك الهجرتين فهي كثيرة ومنها:
الدرس الأول: أن العدل قيمة من القيم الإيجابية، ومعها تنتظم عدد من الخِلال والصفات الطيبة؛ ولذلك لما اتصف النجاشي رحمه الله بالعدل وعدم الظلم، أشار النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليه، فعلينا جميعًا التمسك بتلك الصفة مع أولادنا وزوجاتنا ومع الآخرين في معاملاتنا، فما قامت قائمة لأحد إلا بالعدل، بخلاف الظالم وغير العادل، فهو ممحوق البركة، وسيئ الخصال.

الدرس الثاني: يتعين على المسلم أن يكون خائفًا من الزيغ وعدم الثبات، خصوصًا زمن الفتن، وليعلم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويدعو دائمًا بالثبات على دين الله في الدنيا والآخرة، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما أسلموا بمكة، خشوا على أنفسهم من الفتنة عن الدين، ولذلك هاجروا إلى الحبشة؛ فرارًا بدينهم، بعدما أشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا لما سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لحذيفة، جاءه عمر يسأله: هل هو منهم؟ وهو عمر فكيف بمن دونه؟ فعلى المسلم أن يكون مكثرًا من الطاعات والخير؛ حتى تكون تلك الطاعات مثبتات له على الحق بإذن الله تعالى، ولا يغتر، ولا يعجب بعمله، حتى تسلم له حسناته.

الدرس الثالث: قد يعمل المسلم العملَ الواحد، ويحقق فيه أهدافًا ونيات عديدة، وهذا توفيق من الله تعالى لبعض عباده، وبركة تكون عليهم؛ فهؤلاء الصحابة جمعوا عدة أهداف عندما هاجروا إلى الحبشة؛ فهم جمعوا الفرار من الأذى، وأيضًا خشية الافتتان عن الدين، وأيضًا للدعوة إلى الله عز وجل، وكذلك ليحصل لهم الأمن والطمأنينة والسكينة، فهذه أهداف عدة في عمل واحد؛ وهو الهجرة، فيمكن للمسلم أن يعمل عدة عبادات في آن واحد؛ كمن يمشي إلى الصلاة وهو يقرأ القرآن، أو يذكر الله تعالى، وربما أيضًا كان صائمًا، فهذه عبادات متعددة في آن واحد، وهذا الجانب يسمى تجارة العلماء والعباد، فمن كثر علمه وعبادته وإدراكه، أدرك كثيرًا من الأجور في آن واحد، وهذا كثير عند التأمل، فتأمل هذا في ذهابك وإيابك، ومناسباتك ومعاملاتك مع الآخرين.

الدرس الرابع: كان الصحابة رضي الله عنهم في هجرتهم خائفين وجِلين، وغرباء فقراء، وفي أرض ليست أرضهم، وعند أُناس ليسوا من أقوامهم، وعلى غير دينهم أيضًا، ومع تلك العوامل المؤثرة
كانوا رضي الله عنهم حريصين على الدعوة أشدَّ الحرص، وهكذا شأن المسلم أينما حلَّ نفع، ولا ينبغي أن تكون العوامل المانعة نسبيًّا عائقًا له عن الدعوة إلى الله تعالى، فيا أخي الكريم في مناسباتك وذهابك وإيابك واختلاطك بالآخرين، اجعل لك بصمة تربوية أو إيمانية أو اجتماعية أو غيرها على الآخرين، فما أحوجنا لذلك! وأوصيك بألَّا تحضُرَ مجلسًا من المجالس إلا ويكون لك فيه غرس وصدقة جارية، ودلالة على الخير، ولو بكلمة واحدة.

الدرس الخامس: في أحداث الهجرة تظهر جليًّا شفقة الراعي على الرعية، وهذه الشفقة قد يصحبها الدعاء لهم، والسؤال عنهم، ونحو ذلك، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُشفق على المهاجرين، ويسأل عنهم القادمين من أرض الحبشة، ويتوجس أخبارهم، وهذا من أهم الروابط بين الراعي والرعية.

الدرس السادس: أن الله تعالى يحفظ أولياءه وعباده المؤمنين من كيد الكائدين، فهؤلاء الصحابة هاجروا ووصلوا إلى الحبشة، واطمأنوا وسكنوا وأمِنوا على أنفسهم بحفظ الله تعالى لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((احفظ الله يحفظك، ومن توكل على الله، كفاه، ومن استعان بهِ، أعانه))، فالله عز وجل مع أوليائه يحفظهم وينصرهم ويسددهم، ويعلم حالهم، فاستشعار ذلك من المثبتات على الدين.

الدرس السابع: أهمية الشورى والاستشارة والتشاور في كثير من الأمور الجماعية والفردية؛ فإن استشارتك للآخرين هي كسب لعدة عقول في قضية واحدة، وهذا لا شك أنه سبب نجاح وتسديد، فالصحابة المهاجرون رضي الله عنهم عندما طلب النجاشي حضورهم لم يحضروا مباشرة، وإنما تشاوروا واستشاروا فيما بينهم، وظهر خلاصة عقولهم، فاستشارتك لمن تراه مناسبًا في كثير من أمورك هي من أسباب نجاحك، وقد ترى بعقلك الشيء حسنًا، لكنك عندما تستشير قد تظهر لك أمور لم تكن في حُسبانك؛ فاستثمر عقول الآخرين المناسبين باستشارتهم، ومِثلُ ذلك تلك السُّنَّةِ شبه المهجورة عند بعض الناس؛ وهي صلاة الاستخارة، فمن استشار واستخار في أموره، فهو موفَّق ومسدد، بخلاف من استقل برأيه بلا استشارة ولا استخارة، فقد يندم أو قد يحقق هدفه، لكنه يفوته كثير من المصالح كان يجهلها، والواقع شاهد بذلك.

الدرس الثامن: إن من الواجب على المسلم أن يلتمس رضا الله تعالى، ولو أسْخَطَ الناسَ، ما دام يدعو بالحكمة والآداب المرعية، ولذلك المهاجرون ذكروا للنجاشي الحقَّ الذي يرضي الله عز وجل، ولم ينظروا إلى رضا النجاشي، مع أنه كان حينها على النصرانية، ولذلك كانت النتيجة أن رضي الله عنهم، وأرضى عنهم النجاشي، فاحذر أن تسخط الله تعالى برضا الناس؛ ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من التمس رضا الله بسخط الناس، رضِيَ الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس))؛ [صححه الألباني]، فالقضية محسومة، فاتبع رضا الله عز وجل تنجح في جميع أمورك، لكن لتكن تلك التعاملات بأدب جمٍّ، واحترام متبادل، ومقال رصين، وقصد لرضا الله عز وجل.

الدرس التاسع: إذا أراد الله تعالى أمرًا هيَّأ أسبابه وطرقه؛ ولذلك لما أراد الله تعالى إسلام النجاشي، هيأ السبب لذلك، فقدَّر هجرة المهاجرين ولقاءهم بالنجاشي، ومحاورتهم له، ونحو ذلك، فعندما يقع لك أي أمر من الأمور، فلا تجزَع وتحزن، ولو كنت تكرهه، فقد يكون سببًا لحصول خير لك وأنت لا تعلم؛ فكن متفائلًا، وانظر إلى الجوانب الإيجابية في حصول ما تكرهه، فإن ذلك يخفف عنك وطأته، فقد يريد الله تعالى لك تكفير سيئاتك، فيصيبك بالمرض، فانظر إلى ذلك المرض بالمنظار الإيجابي، وهو أنه تكفير للسيئات، فجعل الله تعالى المرض سببًا للتكفير، فإن هذا المسلك في جميع المصائب التي تصيب الإنسان يخفف وطأتها عليه، وأيضًا يسليه بخلاف من ينظر إلى السلبية فقط في ذلك المصاب، فإنه يزداد حزنه حزنًا، وضيقه ضًيقا، وهمه همًّا، ويبدأ معه الشيطان بوساوسه.

الدرس العاشر: أن من عمِل بحقل الدعوة فقد يجد نَصَبًا وتعبًا، ويبذل جهدًا، بل وقد يجد أحيانًا عقبات من الآخرين؛ فإنه مأجور عليه بقدر ذلك، ومأخذ هذا أن المهاجرين رضي الله عنهم لقوا ما لقوا من المتاعب في خروجهم إلى الحبشة على خوف ووجَلٍ من قريش، ولكن الله تعالى يسر أمرهم وسلمهم، وفي قدومهم من الحبشة كذلك واجهوا شيئًا من ذلك، لكنهم ثبتوا بتثبيت الله تبارك وتعالى لهم، وحُفظوا بحفظ الله عز وجل لهم، فعلى الداعية أن يذلل العقبات، وليعلم بيقين أنه مأجور بقدر نصبه؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((أجرك على قدر نصبك))، ولماذا نقول ذلك؟ لأن الداعية عندما يدعو إلى ربه إنما يملأ ميزانه بالحسنات، ويجعل له أوقافًا معنوية في الدنيا يجري له أجرها، أرأيت إذا علَّمت أحدًا عملًا فاضلًا من الأعمال، فهذا الشخص المدلول على الخير هو وقف لك، ما دام يعمل بما دللته عليه؟ ولو تأملنا ذلك كثيرًا، لأسرعنا إلى تعليم الآخرين ذلك الخير، وإنني أقترح عليك - أخي الكريم - مقترحًا ثمينًا؛ وهو أن تجمع صغار أسرتك بمسماها العام أو بمسماها الخاص أو صغار الجيران، ولو يومًا في الأسبوع لنصف ساعة، فتعقد لهم ذلك المجلس، فتدلهم على عمل فاضل، وعلى آداب يحتاجونها، وقد يصححون عليك بعض الآيات من القرآن، مع قصة يستخرجون منها الدروس والعبر، ولا يمنع أن يصحب ذلك شيء من المأكول أو المشروب الخفيف، فإنك من خلال ذلك البرنامج جعلت هؤلاء وقفًا، ولن ينسَوه بعد ذلك، وربما تسلسل في أولادهم وأحفادهم، وهكذا كان المهاجرون والأنصار يعلِّمون أولادهم وأهاليهم وعشيرتهم، فما أجمل تلك اللقاءات الإيمانية؛ تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، ويذكر الله أصحابها فيمن عنده!

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، واغفر لنا ذنوبنا وارحمنا يا كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.31%)]