عرض مشاركة واحدة
  #446  
قديم 29-12-2022, 04:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,423
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (444)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 253 إلى صـ 260






فعلى المحتج بحديث جابر المذكور ، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة ، وأقرها على ذلك ، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك . وقد روى القصة المذكورة غير جابر ، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها ، وقد ذكر مسلم في " صحيحه " ممن رواها غير جابر أبا سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، وذكره غيره عن غيرهم . ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين ، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور . وقد قال النووي في شرح حديث جابر هذا عند مسلم ، وقوله : فقامت امرأة من سطة النساء ، هكذا هو في النسخ ( سطة ) بكسر السين ، وفتح الطاء المخففة . وفي بعض النسخ : واسطة النساء . قال القاضي : معناه : من خيارهن ، والوسط العدل والخيار ، قال : وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم ، وأن صوابه من سفلة النساء ، وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده ، والنسائي في سننه . في رواية لابن أبي شيبة : امرأة ليست من علية النساء ، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده : سفعاء الخدين هذا كلام القاضي ، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول ، بل هي صحيحة ، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسره به هو ، بل المراد : امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن . قال الجوهري وغيره من أهل اللغة : يقال : وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة ، أي : توسطتهم ، اه منه . وهذا التفسير الأخير هو الصحيح ، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة ، ويحتمل أن جابرا ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها ; لأن سفعة الخدين قبح في النساء . قال النووي : سفعاء الخدين ، أي : فيها تغير وسواد . وقال الجوهري في " صحاحه " : والسفعة في الوجه : سواد في خدي المرأة الشاحبة ، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة ، قال حميد بن ثور :


من الورق سفعاء العلاطين باكرت فروع أشاء مطلع الشمس أسحما


قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب : أنها سواد وتغير في الوجه ، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد ، ومن ذلك قول متمم بن نويرة التميمي يبكي أخاه مالكا :


تقول ابنة العمري ما لك بعدما أراك خضيبا ناعم البال أروعا


[ ص: 254 ]
فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ولوعة وجد تترك الخد أسفعا


ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور ، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :


أهوى لها أسفع الخدين مطرق ريش القوادم لم تنصب له الشبك


والمقصود : أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه ، وبعض أهل العلم يقول : إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها ، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا .

ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك ، حديث ابن عباس الذي قدمناه ، قال : أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفق الفضل ينظر إليها ، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا . . . الحديث ، قالوا : فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها .

وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين :

الأول : الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه ، وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة ، وفي بعض روايات الحديث : أنها حسناء ، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك ، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد ، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها ، كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين . ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها ، ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روي عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه ، لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل ، وهو لم يقل له : إنها كانت كاشفة عن وجهها ، [ ص: 255 ] واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها ، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها ، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها .

فإن قيل : قوله : إنها وضيئة ، وترتيبه على ذلك بالفاء قوله : فطفق الفضل ينظر إليها ، وقوله : وأعجبه حسنها ، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها ، وينظر إليه لإعجابه بحسنه .

فالجواب : أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما ، لا ينفك أنها كانت كاشفة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك ، وأقرها ؛ لما ذكرنا من أنواع الاحتمال ، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة ، وذلك لحسن قدها وقوامها ، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط ، كما هو معلوم . ولذلك فسر ابن مسعود : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ 24 \ 31 ] ، بالملاءة فوق الثياب ، كما تقدم . ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر :


طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا


فقد بالغ في حسن قوامها ، مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا .

الوجه الثاني : أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها ، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليه ، وعليها ستره من الرجال في الإحرام ، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن ، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما ، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها ، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور .

فإن قيل : كونها مع الحجاج مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة ; لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج ، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال .

فالجواب : أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء ، فلا مانع عقلا ولا شرعا ولا عادة ، من كونها لم ينظر إليها أحد منهم ، ولو نظر إليها لحكي كما حكي نظر الفضل إليها ، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها ، أنه لا سبيل إلى ترك [ ص: 256 ] الأجانب ينظرون إلى الشابة ، وهي سافرة كما ترى ، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم .

وبالجملة ، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب ، مع أن الوجه هو أصل الجمال ، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة ، والوقوع فيما لا ينبغي ، ألم تسمع بعضهم يقول :


قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم


أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ، ولقد صدق من قال :
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة أعني آية الحجاب هذه
اعلم : أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يصافح امرأة أجنبية منه .
ولا يجوز له أن يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها .
والدليل على ذلك أمور :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال : " إني لا أصافح النساء " ، الحديث . والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، فيلزمنا ألا نصافح النساء اقتداء به صلى الله عليه وسلم ، والحديث المذكور موضح في سورة " الحج " ، في الكلام على النهي عن لبس المعصفر مطلقا في الإحرام وغيره للرجال . وفي سورة " الأحزاب " ، في آية الحجاب هذه .
وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أن الرجل لا يصافح المرأة ، ولا يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها ; لأن أخف أنواع اللمس المصافحة ، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة ، دل ذلك على أنها لا تجوز ، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره .




وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، فلا يصح إخراجها بمخصص ، وروي عن مالك أنها ظنية الدخول ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :



واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب


فالحق أنهن داخلات في الآية ، اهـ . من ترجمة هذا الكتاب المبارك .

والتحقيق إن شاء الله : أنهن داخلات في الآية ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .

أما الدليل على دخولهن في الآية ، فهو ما ذكرناه آنفا من أن سياق الآية صريح في أنها نازلة فيهن .

والتحقيق : أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ; كما هو مقرر في الأصول .

ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت ، قوله تعالى في زوجة إبراهيم : قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت [ 1 \ 73 ] .

وأما الدليل على دخول غيرهن في الآية ، فهو أحاديث جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في علي وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ، ودعا لهم الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا . وقد روى ذلك جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - وأبو سعيد ، وأنس ، وواثلة بن الأسقع ، وأم المؤمنين عائشة ، وغيرهم رضي الله عنهم .
وبما ذكرنا من دلالة القرآن والسنة تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولعلي وفاطمة والحسن والحسين ، رضي الله عنهم كلهم .
[ ص: 238 ] تنبيه .

فإن قيل : إن الضمير في قوله : ليذهب عنكم الرجس ، وفي قوله : ويطهركم تطهيرا ، ضمير الذكور ، فلو كان المراد نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيل : ليذهب عنكن ويطهركن .

فالجواب من وجهين : الأول : هو ما ذكرنا من أن الآية الكريمة شاملة لهن ولعلي والحسن والحسين وفاطمة ، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها ، كما هو معلوم في محله .

الوجه الثاني : هو أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله تعالى في موسى : فقال لأهله امكثوا [ 20 \ 10 ] ، وقوله : سآتيكم [ 27 \ 7 ] ، وقوله : لعلي آتيكم [ 20 \ 10 ] ، والمخاطب امرأته ; كما قاله غير واحد ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :


فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا


وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لسن داخلات في الآية ، يرد عليه صريح سياق القرآن ، وأن من قال : إن فاطمة وعليا والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها ، ترد عليه الأحاديث المشار إليها .

وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة ، والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت الآية ، يعني : أنه يذهب الرجس عنهم ، ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله ، وينهى عنه من معصيته ; لأن من أطاع الله أذهب عنه الرجس ، وطهره من الذنوب تطهيرا .
وقال الزمخشري في " الكشاف " : ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المآثم ، وليتصونوا عنها بالتقوى ، واستعار للذنوب الرجس وللتقوى الطهر ; لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما الحسنات فالعرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر ، وفي هذه الاستعارة [ ص: 239 ] ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ، ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما يرضاه لهم ، وأمرهم به . وأهل البيت نصب على النداء أو على المدح ، وفي هذا دليل بين على أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته .



[ ص: 257 ] الأمر الثاني : هو ما قدمنا من أن المرأة كلها عورة يجب عليها أن تحتجب ، وإنما أمر بغض البصر خوف الوقوع في الفتنة ، ولا شك أن مس البدن للبدن ، أقوى في إثارة الغريزة ، وأقوى داعيا إلى الفتنة من النظر بالعين ، وكل منصف يعلم صحة ذلك .

الأمر الثالث : أن ذلك ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية ، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة ، وعدم التورع عن الريبة ، وقد أخبرنا مرارا أن بعض الأزواج من العوام ، يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويسمون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع سلاما ، فيقولون : سلم عليها ، يعنون : قبلها ، فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها ، ومن أكبرها لمس الرجل شيئا من بدن الأجنبية ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها ; كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :
سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم

قوله تعالى : يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله . أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس الذين يسألونه عن الساعة : إنما علمها عند الله ، ومعلوم أن إنما صيغة حصر .

فمعنى الآية : أن الساعة لا يعلمها إلا الله وحده .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء واضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية [ 31 \ 34 ] .

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الخمس المذكورة في قوله : إن الله عنده علم الساعة الآية ، هي المراد بقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، وكقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 7 \ 187 ] ، وقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها [ 79 \ 42 - 44 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 258 ] إليه يرد علم الساعة الآية [ 41 \ 47 ] ، وفي الحديث : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . قوله تعالى وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الساعة التي هي القيامة لعلها تكون قريبا ، وذكر نحوه في قوله في " الشورى " : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] ، وقد أوضح جل وعلا اقترابها في آيات أخر ; كقوله : اقتربت الساعة الآية [ 54 \ 1 ] ، وقوله : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 21 \ 1 ] ، وقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية [ 16 \ 1 ] .
قوله تعالى إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ، إلى قوله : لعنا كبيرا . تقدمت الآيات الموضحة له مرارا .
قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة ، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال ، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها ، أي : خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه ، وهذا العرض والإباء ، والإشفاق كله حق ، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكا يعلمه هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمه ، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها ، وأبت وأشفقت ، أي : خافت .

ومثل هذا تدل عليه آيات وأحاديث كثيرة ، فمن الآيات الدالة على إدراك الجمادات المذكور : قوله تعالى في سورة " البقرة " ، في الحجارة : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] ، فصرح بأن من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وهذه الخشية التي نسبها الله لبعض الحجارة بإدراك يعلمه هو تعالى .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الآية [ 17 \ 44 ] ، [ ص: 259 ] ومنها قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن [ 21 \ 79 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك قصة حنين الجذع ، الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم لما انتقل بالخطبة إلى المنبر ، وهي في صحيح البخاري وغيره .

ومنها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي في مكة " ، وأمثال هذا كثيرة . فكل ذلك المذكور في الكتاب والسنة إنما يكون بإدراك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه ; كما قال تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، ولو كان المراد بتسبيح الجمادات دلالتها على خالقها لكنا نفقهه ، كما هو معلوم ، وقد دلت عليه آيات كثيرة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ، الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، راجع للفظ : الإنسان ، مجردا عن إرادة المذكور منه ، الذي هو آدم .

والمعنى : أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة كان ظلوما جهولا ، أي : كثير الظلم والجهل ، والدليل على هذا أمران :

أحدهما : قرينة قرآنية دالة على انقسام الإنسان في حمل الأمانة المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده ، متصلا به : ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 73 ] ، فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان هو المعذب ، والعياذ بالله ، وهم المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، دون المؤمنين والمؤمنات . واللام في قوله : ليعذب : لام التعليل ، وهي متعلقة بقوله : وحملها الإنسان .

الأمر الثاني : أن الأسلوب المذكور - الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي - معروف في اللغة التي نزل بها القرآن ، وقد جاء فعلا في آية من كتاب الله ، وهي قوله تعالى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ; [ ص: 260 ] لأن الضمير في قوله : ولا ينقص من عمره ، راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي ; كما هو ظاهر ، وقد أوضحناه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] ، وبينا هناك أن هذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كما ترى . وبعض من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، عائد إلى آدم ، قال : المعنى أنه كان ظلوما لنفسه جهولا ، أي : غرا بعواقب الأمور ، وما يتبع الأمانة من الصعوبات ، والأظهر ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.23 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]