عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-12-2022, 04:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء

الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء

للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، هو الملك الحق المبين، يحكم فلا معقّب لحكمه، ويقضي فلا راد لقضائه، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد لأن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد كلّما صلى عليه المصلون وكلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون وسلّم اللهم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
وإني لأسأل الله جل جلاله أن يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر وإذا أُبتلي صبر وإذا أذنب استغفر، فإن هؤلاء الثلاث هنّ عنوان السعادة لمن منحه الله جل وعلا إياهن.
كما أسأل الله جل وعلا أن يعيذنا أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أن نجهل أو يجعل علينا أو نظلم أو نظل، اللهم فاستجب إنّك سميع عليم.
أيها الإخوة موضوع هذه المحاضرة:

الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء

هذا الموضوع أُثير منذ أكثر من أربعة أشهر أو خمسة فيما أذكر، وكان ضمن هذه الدورة المباركة التي ينظّمها المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد في هذا الحيّ، وهذا من الجهود المباركة أن يُنشر العلم وتبث هذه المحاضرات والنّدوات التي تُنبه وتبين وتعلم الناس،ولا شك أن هذا الأمر أعني بثّ العلم وبثّ الدعوة في الناس يحتاجه الجميع يحتاجه المتعلم ويحتاجه غير المتعلم يحتاجه الرجل تحتاجه المرأة يحتاجه الصغير والكبير؛ بل حتى العالم والدّاعية يحتاج إلى ذلك لما فيه من تثبيته على الحق وتذكيره بأمر الله جل وعلا وأمر رسوله صَلَّى الله عليه وسلم، فالكل بحاجة قد صدق الله جل وعلا إذ يقول ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾[الفرقان:32]، فتلاوة كتاب الله وبيان معانيه وحديث النبي صَلَّى الله عليه وسلم وبيان شرحه وبيان كلام أهل العلم فيه تثبيت للفؤاد إذا أُخذ بحقّه فالكل ينتفع الملقي والملقى عليه والمعلّم والمتعلم، وإذا خَلُصت النيّات ضاعف الله جل وعلا ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة:11].
وهذا الموضوع عن الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء مهم في هذا الوقت بالذّات؛ لأنه كان الناس من قديم من عهد الصحابة فمن بعدهم كان الناس يتورّعون عن الفتوى وينزوون عنها، ويحرص المرء إذا أفتى أن لا يسمع بفتواه إلا الواحد وإلا الاثنان؛ لأجل أنه تعظم التّبعة بعظم انتشار الفتوى؛ لأن المفتي موقع عن رب العالمين؛ يعني أنه ينقل حكم الله جل وعلا في المسألة التي أفتى فيها، إما بشرع منزل، وإما باجتهاد له يقول إنه مطابق لقواعد وأصول الشرع المنزّل على نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن يرى في هذا الزمان يجد أن الناس تسارعوا وأسرعوا في الفتيا، حتى أصبح الأمر مختلطا أعظم الاختلاط، من جهة المفتين في العالَم، ومن جهة المستفتين أيضا في عدم مراعاة آداب الاستفتاء وما يُنجي المستفتي أمام ربه جل وعلا في استفتائه.
والمفتي كما أن له شروطا، وكما أن له آداب ويجب عليه أشياء، كذلك المستفتي فإن له وعليه، والناس اليوم ضعف علمهم في هذا الأصل العظيم، ولهذا تجد أن الصحابة رضوان الله عليهم المقرّبين من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَذكر الله عنهم في كتابه أنّهم سألوا نبيه إلا عن نحو اثنتي عشرة مسألة، وفي السنة شيء يزيد على هذا من جهة المطابقة، وإنما كان همّهم امتثال الأمر واجتناب النهي، وكانوا يفرحون أنه يأتي الرجل من الأعراب ليسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيستمعوا إلى ما يقول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وذلك لعظم شأن هذا الأمر فقد قال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته» وهذا من أجله هاب الصحابة ذلك.
فلذلك نقول: أن هذا الموضوع مهم فيما نرى من التسارع في الفتيا، فصار لكل قناة من القنوات الإذاعية صار لها مفتي أو أكثر، والقنوات الفضائية صار لها مفتي أو أكثر، والجرائد صار لها مفتي أو أكثر والمجلات صار لها مفتي أو أكثر؛ بل حتى إن المجلات التي تنشر الفسق يوجد فيها من يفتي.
وهذا يبيّن أن الأمر جدُّ خطير، إذا ظلّ الناس على هذا فإنه يأتي قوم يتسارعون أكثر وأكثر، فحينئذ يحل الحرام ويحرم الحلال والعياذ بالله.
وقد قال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ هذا الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُور العُلماء؛ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وهذا يعني أنه يجب على طلبة العلم بخاصة وعلى العلماء أيضا أن يبينوا للناس خطر الفتوى.
وينبغي أيضا عليهم أن يعلّموا الناس أن لا يتبعوا في السؤال وهم أيضا أن لا يتبعوا في الإجابة؛ لأن الناس إذا رأوا المفتي يفتي في كل حال، فإنهم يحرصون على السؤال عما وقع وعما لم يقع وعن كل شيء سيقع الكثير من البلبلة.
قد كان من هدي سماحة الشيخ الجد محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى أنه كان لا يفتي وهو واقف ولا يفتي وهو في السيارة، وإنما أراد أن يفتي تربّع واستحضر واجتمع قواه وطلب من السائل أن يلقي عليه المسألة فأفتى، وكان المشايخ في الإفتاء يقولون عنه أنه ربما أخر الفتوى شهرا إذا كان لها صلة بأمر عظيم حتى ينظر فيها ويستخير، وكانت بعض المسائل يريد أن يجيب فيها فيمكث في السطر أو السطرين يمكث فيها دقائق ليملي؛ مخافة أن يكون في لفظ منها زيادة أو نقص، وهذا على نهج السلف الصالح هذا الأصل من التورع والتثبت في الفتيا لما لها من الآثار.
الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء، ما هي الفتوى؟ وما هو الشرع؟ وما هي الأهواء المرادة هنا؟
أما الفتوى فإن مدارها في اللغة وفي مصطلح أهل الأصول على أن الفتوى تعود على إبانة الأمر وإيضاحه، أفتى فلان فلانا؛ يعني أبان له وأوضح الطريقة أو المسألة أو ما أشكل عليه، سواء أكان ما أشكل عليه لغويا أو كان شرعيا، ثم في الشرع جاء هذا اللفظ ليُخص بأنه إيضاح وإبانة أحكام الله جل وعلا التي يسأل عنها العباد فيما وقع من شأنهم.
لهذا قال ابن فارس في مقاييس اللغة قال يقال فَتْوَى وفُتِيَا وفُتْوَى أيضا، ويقال أفتى الفقيه في المسألة إذا بين حكمها، واستفتيتُ إذا سألت عن الحكم قال الله جل وعلا ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ﴾[النساء:176]، وأفتاه في الأمر يعني أبانه وأوضحه.
أما الشرع فإن المراد بالشرع هنا هو الشرع المنزل، أو ما يؤول إلى الشرع المنزل، والشرع المنزل هو الشريعة التي أنزلها الله جل وعلا على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال سبحانه ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة:48] وهذه الشريعة هي التي شرعها الله جل وعلا وبلغها رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا كان الحكم منصوصا عليه في الكتاب أو في السنة فيقال هذا شرع منزل، وسيأتي تفصيل ما يترتب على هذه الكلمة.
وأما ما اجتهد فيه العلماء من مسائل، فإن اجتهاد العلماء يعود إلى الشرع المنزل فيما لم يأت دليل به؛ يعني إذا كانت المسألة التي اجتهدوا فيها لم يأت دليل ينص عليها فإن اجتهاد العالم في المسألة مطلوب، لقوله تعالى ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ يعني العلماء؛ لأن الرسول هو ولي الأمر الأكبر والعالم هو ولي الأمر في مسألة العلم قال ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[النساء:83].
فاجتهاد العلام يقال له شرع أيضا، من أهل العلم من يسميه شرع مُجتهَد فيه، ومنهم من يسميه الشرع المؤول بتأويل صحيح يعني الذي يعود إلى أصل أو قاعدة من قواعد الشرع المنزّل.
أما الأهواء فإنّ الأهواء هو كل ما أراد به المرء غير الحق، كل ما أراد به المرء ما ينصر به نفسه أو ما يحتال به على الشريعة أو ما هو يشتهيه هو ويريده في أمر الدين أو في أمر الدنيا، والأهواء كثيرة متعدّدة ولذلك جمعت هنا.
والشرع واحد فالشرع يجب أن تطابقه الفتوى، وأما الهواء فهي كثيرة لكل قوم ولكل فئة هوى.
إذا تبين ذلك فإن الله جل وعلا نص في كتابه على كثير من أصول الإفتاء والاستفتاء والحكم والتحاكم، قال جل وعلا في آخر سورة التوبة ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة:122] قال ابن حزم رحمه الله على هذه الآية في كتابه الإحكام في أصول الأحكام: بيّن الله جل وعلا في هذه الآية وجه التفقه كله وأنه ينقسم قسمين:
أحدهما يخص المرء في نفسه وذلك مبين في قوله تعالى ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ﴾ فهذا معناه تعلمين أهل العلم لمن جهل الحكم بما يلزمه.
والثاني تفقه من أراد وجه الله تعالى بان يكون منذرا لقومه وطبقته قال تعالى ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ففرضٌ على كل أحد طلبُ ما يلزمه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرّف ما ألزمه الله إياه.
وقال الله جل وعلا فبيان وصف نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم:3-4]، فدلت الآية على أن ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحي يوحى إليه، وهذا هو الشرع وأنّ ما يقابله هو الهوى، قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات أيضا هنا لقد حصر الأمر في شيئين الوحي وهو الشريعة والهوى فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك فهما متضادان وحين تعيّن الحق في بالوحي توجه للهوى ضده فاتباع الهوى مضادّ للحق.
ومن الآيات في هذا الباب قول الله جل جلاله ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فأوجب على المسلم أن يسأل العالم إذا كان لا يعلم، وهذا الأمر بإيجاب السؤال هذا يتعين عليه أن من لم يعلم العلم المنزّل أو المجتهَد فيه فإنه يجب عليه حينئذ السؤال.
وقال الله جل وعلا أيضا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[النساء:59]، فدلّت الآية على أن هذا الضابط بالرد عند التنازع إلى جل وعلا وإلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
دلّ أولا على أنه هو الواجب.
وثانيا أنه مخلص للإنسان عن الهوى لنه إذا تنازع الناس في شيء فإنه تأتي الأهواء، فإذا كان الحرص على تتبع أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنّ المسلم حينئذ يرتفع عن هواه ويذهب إلى شرع الله جل وعلا.
ومن الآيات في هذا قول الهل جل وعلا ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾[النحل:116]، وهذا يبين لكل شدة خطر القول هذا حلال وهذا حرام، كما عُنون في بعض الكتب؛ ألفت بعض الكتب بهوان هذا حلال وهذا حرام، وهذا من أشد الأشياء أن يقال إن المرء لا يجزم بموافقة حكم الله جل وعلا في المسائل الاختلافية أو في المسائل المجتهد فيها.
ولهذا نقول: إن فعل السلف في هذه المسائل هو الورع وهو الدين؛ لأنهم لا يقولون هذا حلال إلا لما اتّضح دليله وأنه حلال بدليل من أدلة الشرع، ولا يقولون هذا حرام إلا إذا اتّضح دليله، وكثير منهم يعبّر بتعبير: أكرهه، لا أحبه، أو يقول لا يجوز هذا، من يفعل هذا، ونحو ذلك، وذلك بُعْدٌ منهم خلوص من استعمال لفظ الحلال ولفظ الحرام.
ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى فيما بعد في تخريج كلام الأئمة ككلام الإمام الشافعي والإمام أحمد ونحوهما قالوا إنهم يريدون كراهة التحريم؛ لأن هذا ليس مكروها بمعنى أنه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله؛ لكنه يدخل في قواعد الشرع في أنه في تلك المسألة أنه يعاقب فاعله؛ لكنهم لم ينصّوا على التحريم تورعا وخوفا من الله جل وعلا، وهذا من الأدب الرّفيع بل من امتثال الآية والخوف من الكذب على الله جل وعلا.
وقد قال سبحانه أيضا بعد صدر الآية ﴿آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾[يونس:59-60]، قال أحد العلماء في تفسير هذه الآية: كفى بهذه الآية جازرة جزرا بليغا عن التجوّز فيما يسأل من الأحكام، وكفى بها باعثة على وجوب الاحتياط للأحكام، وأن لا يقول أحد في شيء هذا جائز أو غير جائز إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفترٍ على الله عز وجل، وهذا من شديد الوعيد.
﴿آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾، وهذا يوجب الخوف من الدخول في الفتيا في كل ما يسأل عنه الناس.
وهناك غير هذه من الآيات.
ومن الأحاديث ما ذكرنا لك من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ هذا الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُور العُلماء» الحديث.
وفيه أيضا ما رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داوود في السنن وابن ماجة أيضا في السنن والدارمي وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال «من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه»، نسأل الله العافية والسلامة.
ولقد أحسن الشعبي رحمه الله حين أجاب تلميذه داوود، قال داوود: سألت الشعبي: كيف تصنعون إذا سئلتم؟ والشعبي من كبار التابعين ممن أدرك جل الصحابة، فيقول: كيف تصنعون إذا سُئلتم؟ فقال له وهو يربي تلميذه قال له: على الخبير وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم. فلا يزال حتى يرجع الأمر إلى الأول.
وكان عدد من الصحابة يجلسون في المسجد فيأتي السائل فيسأل الأول فيقول له: اسأل فلانا، فيذهب إلى الصحابي الثاني حتى يذهب إلى سبعة أو إلى عشرة، ثم يعود إلى الأول كل واحد يحيل إلى أخيه.
واليوم أصبحت الفتوى مسخرة، أن هذا يفتي والهاتف لا يسكت، ويتكلم بغير إيقان ولا إتقان، وربما أفتى وهو يأكل وربما أفتى وهو ينظر إلى شيء أو وهو يكتب، وهذا أمر في الحقيقة يخشى على المرء فيه أن يعاقبه الله جل وعلا بذهاب نور الإيمان في صدره.
قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى: لقد أدركتُ في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم أحد يُحدث بحديث إلا ودّ أن أخاه كفا الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلى ودّ أن أخاه كفاه الفتيا.
وتلك كانت سنة السلف رحمهم الله تعالى في هذه الأصول العظيمة.
لهذا ينبغي لنا حينئذ أن نعلم أن الكتاب والسنة وأن هدي السلف الصالح وما كان عليه أئمتنا رحمهم الله تعالى هو التشديد في أمر الفتوى، وأن المرء يجب عليه أن يربأ بنفسه أن يعرّض دينه وأن يعرّض حسناته للذهاب بذنب يحدثه في الأمة أو ينقل، وكثير اليوم ما نسمع بأنّه يقول السائل: أنا سألت فلان فأجابني بكذا وسألت الشيخ فلان فأجابني بكذا، وإذا المفتون بدل أن يكونوا كذا وكذا من العدد إذا بهم مئات في عرض البلاد وطولها، هذا لاشك أنه يخالف الدين ويخالف الورع، فالتعليم والبحث هذا شيء، وأما الفتوى فإن المرء لا يسوغ له أن يفتي في كل ما يسأل، أما إذا تعينت عليه الفتوى فهذا له بحث يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
هناك فروق مهمة ينبغي إيضاحها، هذا الموضوع ينبغي أن يكون علميا ولغته لغة علمية؛ لأنه ليس للترغيب ولا للترهيب فقط، ولكنه علم فيه الترغيب والترهيب في هذا الأمر الجلل الخطِر.
من الفروق المهمة في هذا الأمر:
الفرق بين الفتوى والقضاء

الفتوى باب، والقضاء باب آخر، الفرق بينهما:
أن القضاء يكون بين متخاصمين في إلزام أحدهما بالحق له أو لصاحبه، والذي يحكم بينهما هو القاضي الذي نصبه ولي الأمر ليقضي بين الناس فيما اختلفوا فيه وتشاجروا عليه.
أما المفتي فإنه لا يلزم، المفتي يخبر بالحكم دون إلزام، ويترك العمل بالفتوى أو عدم العمل بالفتوى لما يكون من روع المستفتي وتقواه، فلا يبحث المفتي عن حال المستفتي هل التزم أم لم يلتزم، أما القاضي فإنه يلزم بتنفيذ الحكم بما فوضه إليه ولي الأمر.
ولهذا قال العلماء: القاضي لا يصح له أن يفتي في المسائل التي يقضي فيها. يعني أن القاضي لا يصح أن يفتي في البيوع، لا يصح أن يفتي في مسائل النكاح، لا يصح أن يفتي في مسائل التركات، لا يصح أن يفتي في مسائل القتل، لا يصح أن يفتي في مسائل الأعراض، لماذا؟ لأن الناس إذا علموا فتوى القاضي في هذه المسائل فإنهم يؤولون أمورهم عند الرفع إليه وعند التنازع بما يوافق فتواه.
ولهذا نص ابن قدامة في المغنى في كتاب القضاء على أن القاضي لا يفتي؛ لكن يفتي في أمور العبادات فيما بين المرء وبين ربه جل وعلا، نعم، أما في المسائل التي يكون فيها خصومة، كما أن المفتي لا يفتي في المسائل التي فيها خصومة، وأنتم تسمعون المشايخ إذا عُرضت مسألة فيها خصومة، يقول أنا اختلفت أنا وأخي في كذا أو اختلفت أنا ووالدي في كذا أو حصل بيننا كذا، فيقول هذه خصومة مردها إلى القضاء، فيحيل ذلك إلى الحاكم الشرعي أو إلى القاضي الشرعي.
أما المفتي فإنما يتكلم في المسائل التي لا تتعدى المستفتي إلى غيره مما له عليه أو معه خصومة فإذا تعدت فإن المسألة حينئذ لا تكون بابها الإفتاء بل تكون بابا آخر.
وينبني على هذا تصرفات المفتي والقاضي، لهذا بحث العلماء في مسألة مهمة في تصرفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هل تصرفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاءنا في السنن، هل تبنى على أنه إمام المسلمين وولي الأمر، أم تبنى على أنه قاض ويحكم ويلزم، أو تبنى على أنه مفتٍ، أم تبنى على أنه داعٍ إلى الرشد، أم تبنى على أنه ينصح ويرغب ؟ فهل تبنى على هذا أو على هذا؟
وقد حقق أهل العلم الراسخون في هذا الباب أن أفعاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأحكامه في السنة تدور عليها هذه الأحوال؛ تارة يلزم أو يعمل باعتباره ولي الأمر الأعظم باعتباره الإمام الأعظم، تارة باعتباره مفتيا، وتارة باعتباره قاضيا.
لهذا يقول «لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيء فإنما هي قطعة من النار فليأخذ أو ليدع» هنا منصبه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في منصب في عمل القاضي، وهو نبي يوحى إليه؛ لكن الله جل وعلا يبين لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المقام هنا ليس هو مقام إيضاح للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المصيب من المخطئ من الذي معه الحق من الباطل وإنما اعتبار الظاهر ليكون هذا سنة لأمته وليعمل به القضاة من بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مهم في تصرفاته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وفي أفعاله، بماذا نحمل أفعاله على أي باب؟ هل هو على أنه نبي يوحى إليه بالغيب، أو على أنه إمام نبي أو على أنه مفتٍ أو قاضٍ أو داعٍ أو ناصح يختلف باختلاف المقام، والصحابة فهموا ذلك.
فلما جاءت المرأة وأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها أن ترجع إلى زوجها فقالت: أحتم يا رسول الله؟ يعني تلزمني أن أرجع قال «لا» قالت: فإني أكرهه. أو كما جاء في الحديث.
فهو عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ تارة ينصح ولا يلزم وتارة يفتي وتارة يقضي إلى آخره.
من الفروق المهمة في هذا الباب:
الفرق ما بين الاجتهاد المطلق والاجتهاد المذهبي النسبي والتقليد

أما الاجتهاد المطلق فهو أن يجتهد العالم في إدراك الأحكام الشرعية من الأدلة بعد معرفة الأدلة ومعرفة أصول الاستنباط واللغة، وهذا إنما هو لعدد قليل من الأئمة في الإسلام.
والقسم الثاني المجتهد المذهبي؛ يعني مجتهد في مذهب؛ يعرف مذهبا من المذاهب المذهب الحنبلي المذهب الشافعي إلى آخره، ويجتهد في هذا المذهب فيختار في هذا المذهب ما هو موافق للدليل، ما هو موافق لقواعد الشرع؛ لكن لا يخرج في أصوله عن هذا المذهب، والذي لا يعلمه هنا يبني فيه على المذهب.
والثالث التقليد، عرفه العلماء بأنه قبول قول الغير من غير حجة.
والأول والثاني من العلماء المجتهد المطلق أو المجتهد المذهبي هؤلاء من العلماء.
أما المقلد وهو الذي نقل كلام أهل العلم بلا حجة ولا يعرف من أين أخذوا فقد قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى أجمع العلماء على أن المقلد ليس بعالم؛ يعني الذي يقلد في كل مسألة، ما يعرف الأدلة ما بعرف الاستنباط ما يعرف الراجح من المرجوح في المذهب المعين، من أين أخذ علماء المذهب هذه المسألة؟ ما أصول المذهب؟ ما قواعده في ذلك؟ بمعنى أنه يقبل هكذا لأنه قول صاحب الكتاب الفلاني أو نص عليه في الروض أو التنبيه للشيرازي أو قاله النووي في المجموع ونحو ذلك فهؤلاء مقلدة إذا نصوا على مسألة.
أما إذا اجتهد في مذهب من المذاهب فهذا يقال له مجتهد نسبي.
إذا كان كذلك فالمقلد ليس بعالم، فليس للمقلد أن يفتي.
أما المجتهد المطلق فهذا لاشك أن له حقا أن يفتي لما معه.
أما المجتهد النسبي أو المذهبي فإنه يفتي، ويجب عليه أن يتحرى الحق الموافق لمطابقة هذه الفتوى، ولا يثق بأول خاطر بأن هذه المسألة نصوا عليها مع سعة الوقت للفتوى ويستعجل في الإفتاء؛ بل يجب عليه أن يتأنى فإذا استبان له وتحقق في المسألة بإتقان وإيقان فإنه حينئذ يبين ذلك لمن سأله إذا أراد ذلك.
الفرق الثالث:
الفرق ما بين ترك الفتوى والسكوت عن الحق

لاشك أن الصحابة لم يسكتوا عن حق تعيّن، وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم تركوا الفتوى طلبا للسلامة.
والفرق بينهما أن ترك الفتوى عند عدم التعين تعين الإفتاء فيها أن هذا يقتضيه الورع وهذا هدي السلف الصالح، أما إذا تعينت عليه بحيث إنه عنده علم وإذا تكلم في المسألة لم يفتِ فإنه يؤول المستفتي إلى الجهل أو يأخذ بالهوى أو بالرأي أو نحو ذلك أو يسأل من لا علم عنده، فحينئذ يلزمه أن يفتي لأنه تعينت عليه ذلك، أما السكوت عن الحق فإن هذا مرتبط بسعة الوقت ومرتبط بالإمكان والمصالح التي يراها والمفاسد، وبالجملة فإن كتمان العلم وتأخير البيان عن وقت الحاجة هذا سكوت عن الحق في وقته، وهذا يختلف عن الفتوى، فليس لأحد أن يسكت عن بيان الحق باللسان؛ بالأسلوب الشرعي الذي أمر الله جل وعلا به في كتابه وسنّه نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نحو قوله «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من تشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» كما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة في قصة عتق بريرة المعروفة.
المسألة السادسة
قواعد في هذا الأمر

أعني في الفتوى، القواعد كثيرة لكن نأخذ منها المهم بما يناسب المقام.
القاعدة الأولى: لا اجتهاد مع النص.
والعلماء نصوا على هذه القاعدة في كتبهم، وبينوا أن النص إذا ورد فإنه ليس للعالم أن يجتهد؛ لأن الله جل وعلا قد حكم فيها وحكم فيها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه حينئذ لا قول لأحد بعد ورود قول الله جل وعلا أو قول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا تكلم ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، أو معالم الموقعين عن رب العالمين؛ يعني معالم عن طريق الإفتاء للذين يوقعون ويفتون عن رب العالمين تكلّم عنها بكلام طويل في هذا الكتاب.
ومن فروع هذه القاعدة أنه لا تجوز الفتوى على خلاف النص.
وهنا نجد أن هناك اجتهاد مع النص عند كثير من المنتسبين للعلم، والاجتهاد إذا ورد مع النص فله أحوال:
الحال الأولى: أن تكون المسألة المنصوص عليها هي عين المسألة المسؤول عنها، فهذه حينئذ لا يجوز الاجتهاد مع النص في ذلك.
مثلا هل المجلس فيه خيار؟ يعني إذا باع الإنسان بيعا، فهل له خيار المجلس، فهل يجتهد أم لا يجتهد؟ نقول هنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص فقال «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» هنا نأتي لهذا الحديث.
بتمثيل آخر بأن بعض العلماء اجتهدوا مع ورود النص فقالوا لا خيار في المجلس، لماذا؟ قالوا لأن قوله هنا (ما لم يتفرقا) ليس المقصود به التفرق في المجلس ولكن التفرق في القول بإمضاء المشتري شراءه وإمضاء البيع بيعه، وهذا مذهب الإمام مالك، رحمه الله تعالى حتى إن ابن أبي ذئب رحمه الله وكان بينه وبين الإمام مالك بعض ما يكون بين العلماء سئل عن هذه المسألة وقول مالك في إنكار مجلس الخيار والإمام مالك من هو، فقال: يستتاب مالك فإن تاب وإلا قتل. وهو الإمام مالك رحمه الله تعالى، هو لا يريد بهذا إلا أن يشنّع على الذين يريدون أن يخالفوا النص، لأن النص أعظم من شأن العالم، والعلماء عدوا هذه من أبي ذئب من عباراته التي لا تسلم له.
المقصود هنا أن الاجتهاد مع النص إذا كانت المسألة عين المسؤول عنها موجود في النص فلا يجوز الاجتهاد، أما إذا كان النص محتملا للاجتهاد فحينئذ يكون الاجتهاد ليس في المسألة وإنما الاجتهاد في فهم الدليل وهذا له بحث.
القاعدة الثانية: لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
العلماء نصوا في قواعد هذا الباب على أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها.
وتتبع هذه القاعدة بقاعدة أخرى وهي: لا إنكار في مسائل الخلاف.
وهنا تحتاج هذه إلى شيء من التفصيل أما مسائل الاجتهاد فلا إنكار فيها بمعنى أن المسألة لم يرد فيها دليل من الكتاب أو السنة لم ينص فيها على شيء، ونزلت نازلة واجتهد العلماء فيها، فهنا لا ينكر على المجتهد في هذه المسألة، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أما مسائل الخلاف فمن أهل العلم من قال لا إنكار في مسائل الخلاف، وهذا ليس بجيد وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية وبين تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذا قول من لم يحقق.
أما أهل التحقيق والدراية بكلام أهل العلم بالفتوى والحكم والاجتهاد والخلاف العالي والنازل فإنهم يقولون لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
أما مسائل الخلاف فهي التي اختلف فيها العلماء، والعلماء اختلفوا في مسائل كثيرة جدا، المسائل المجمع عليها قليلة، أما المسائل المختلف فيها فهي بالألوف كما هو معلوم لمن يعلم الخلاف العالي فضلا على الخلاف النازل.
فهنا هل يقال لا إنكار في مسائل الخلاف نقول: المسألة فيها تفصيل الخلاف على نوعين:
خلاف قوي، وخلاف ضعيف.
أما الخلاف القوي: فهو ما كان المجتهد فيه أو ما كان قائل هذا القول له شبهة من الدليل؛ لكنه اجتهد في فهم الدليل، ولاجتهاده مساغ، فخالف فهذا نقول فيه خلاف قوي.
مثلا زكاة الحلي هل يجوز زكاة الحلي أم ما تجوز زكاة الحلي؟ واحد قال: ما أقول يزكون عن الحلي ما يكون. وآخر يقول: لا لابد يزكون الدليل فيها كذا.
هنا هذه المسألة الخلاف فيها قوي فبذلك لا إنكار فيها.
مسألة قراءة الفاتحة للمأموم وراء الإمام في الصلاة الجهرية واحد يقرأ والآخر لا يقرأ، هل نقول للذي لم يقرأ أعد صلاتك والقراءة في الفاتحة ركن على القول الآخر؟ نقول: لا، هذه من المسائل التي خلاف فيها قوي ولهذا لا إنكار فيها.
وهكذا في مسائل كثيرة.
النوع الثاني المسائل التي الخلاف فيها ضعيف: فيه خلاف ولكنه ضعيف.
من مثل المعازف، سِماع المعازف ولا تقل سَماع؛ سِماع المعازف يعني الإنصات إليها واستماع المعازف، فهذا هناك من قال من التابعين وممن بعدهم قالوا بجواز ذلك، وذهب إليه بعض المشهورين وابن حزم وجماعة وكَتَب بعض أهل العلم في نصرة هذا القول؛ لكن هذا القول وإن كان خلافيا؛ لكنه خلاف في معارضة الدليل، والأدلة واضحة في تحريم هذا الأمر، فحينئذ نقول الخلاف في هذه المسألة ليس قويا؛ بل هو خلاف ضعيف فيه إنكار.
ومنه كشف وجه المرأة السفور إذا كان يفضي إلى الفتنة، فإن العلماء أجمعوا إلا من شذ أن وجه المرأة إذا كان فيها جمال أو أنه يفضي إلى تعرّض الناس لها أو تعرض الفسقة لها أو التلذذ بهذا النظر، فإنه لا يجوز لها الكشف، هذا باتفاق أهل العلم، إلا من شذ فقال الأصل فيه أنه يجوز كشفه، فنقول هنا هذه المسألة لا يقال فيها لا إنكار في مسائل الخلاف؛ لأن الخلاف فيها ضعيف؛ لأن كشف الوجه إذا كان سيفضي إلى شهوة أو إلى فتنة أو إلى تعرض عليها، أو إلى من المفاسد فإنه حينئذ لا ينبغي أن يجعل الخلاف فيه قويا، أو أن الخلاف فيه معتبرا؛ بل يجب أن ينكر في مثل هذه المسائل لأنه يفضي إلى الفتنة.
من القواعد أيضا المهمة في باب الفتوى، هذه قاعدة كلية أجمع عليها العلماء: أن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.
الشريعة جاءت بتحصيل المصالح كل مصلحة في دين الناس أو في دنياهم فإن الشريعة جاءت بها وكل مفسدة في دين الناس أو في دنياهم فإن الشريعة جاءت بالنهي عنها، وأصول الشرع وكليات الشرع الخمس تعود إلى هذا سواء كانت هذه الكليات راجعة إلى الضروريات أو راجعة إلى الحاجيات أو راجعة إلى التحسينات كما هو التقسيم المعروف في هذا الباب.
فإذا كان كذلك، فإن الفتوى يجب أن تعمل هذه القاعدة، في أن الفتوى مرتبطة بأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح، فيكون المفتي إذا أفتى ينظر بأن الفتوى تحصل المصلحة وتدفع المفسدة.
مثلا هناك من يقول وهذا أحد الفتاوى الموجودة، وهذا يعظم إذا كانت الفتاوى في العقيدة، في عدم رؤية المصالح والمفاسد، أو كانت المسألة في أمر يترتب عليه أمر من الحدود أو كبيرة من الكبائر، قال قائل من أهل هذا الزمان في غير هذه البلاد: إن الرجل إذا وضع على ذكره عازلا يمنع الحبل فحينئذ يكون قد جامع المرأة بحائل، والعلماء نصوا على أن جِماع المرأة بحائل أنه لا حد فيه.
وهذا لاشك أنها فتوى أو حكم باطل؛ لأنه يفضي إلى مفاسد جاءت الشريعة بصدّها، مع أنه في مبناه ليس على فهم لكلام أهل العلم؛ يعني تفصيل الكلام في المسألة يطول؛ لكن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فإذا قبل بهذا فإنه مع منافاته لحقيقة الزنا؛ لأن الزنا هو التلذذ بالجماع في الفرج وهذا حصل، فإنه أيضا يفضي إلى ما لا حد له منه المفاسد والاستحلال والعياذ بالله.
أيضا إذا كانت المسألة متعلقة بالعقائد، أو كانت المسألة متعلقة بعالم من أهل العلم في الفتوى في شأنه بأمر من الأمور، فإنه هنا يجب النظر فيما يؤول إليه الأمر من المصالح ودفع المفاسد، لهذا ترى أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى من وقت الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أحد الأئمة المشهورين إلى وقت الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى إذا كان الأمر متعلقا بإمام أو بعالم أو بمن له أثر في السنة فإنهم يتورعون ويبتعدون عن الدخول في ذلك.
مثاله الشيخ الصديق حسن خان القنوجي الهندي المعروف عند علمائنا له شأن ويقدرون كتابه الدين الخالص مع أنه نقد الدعوة في أكثر من كتاب له؛ لكن يغضون النظر عن ذلك ولا يصعدون هذا لأجل الانتفاع بأصل الشيء وهو تحقيق التوحيد ودرء الشرك.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.40 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]