عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 16-11-2022, 03:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على من جاء بعدهم

الأصول العقليَّة الدالة على وجوب تقديم فهم الصحابة على من جاء بعدهم (1)



أرسل الله رسوله محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بخاتِمة الرسالات، وأعظم الكُتب على الإطلاق؛ ليكون نبراسًا للبشرية إلى قيام السَّاعة، فبلَّغ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح أمَّته، وتركها على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك، وقد تلقَّى هذا الدين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناسٌ اختارَهم الله ليكونوا أصحاب خيرة رسله، وآخر رسالاته، فأخذوا الدِّين بحق، ونقلوه لنا بأمانةٍ وصدق، وقد عاينوا التَّنزيل، وصحبوا الرسول -[-، وشهدوا ظروف الوحي وحيثيَّاته، فكان فهمهم أصوب الفهوم، وبيانهم أبلغ البيان، فلم يختلط لسانهم بعُجمة، ولم يختلط فكرهم بفلسفة وضعية أو أصول كلاميَّة، كل هذا مع ثناء الشرع عليهم، وأمره باتِّباعهم، ولأجل ذلك كانَ من أبرز أصول أهل السُّنة والجماعة: الأخذُ بفهم الصَّحابة للدين، وتقديمُه على كل رأيٍ حدث بعدهم.
والمراد بفهمهم: الفهم الذي أجمعوا عليه؛ فيُمنع إحداث قول يناقضُ إجماعهم، أما إذا اختلفوا في المسألة؛ فيُمنع أن يُؤتى بقول جديد يناقض أقوالهم كلها ويبطلها، هذا ما عناه أهل السنة والجماعة حين احتجُّوا بفهم الصحابة؛ إذ إنَّهم لم يقصدوا: اتباع فهم آحاد الصحابة - وفي حجية ذلك نزاعٌ مشهور - لكن قصدوا: أنَّ الصَّحابة إذا اتفقوا على فهمٍ فإنَّه لا يجوز لنا أن نخرج عن ذلك الفهم بشيءٍ يبطله، وعلى هذا كانت تقريرات سائر علماء الأمَّة.
وجوب تقديم فهم الصحابة
وفي هذه الورقة المختصرة نعرِّج على أصولٍ عقليَّة دلَّت على وجوب تقديم فهم الصحابة على كل من جاء بعدهم، وهي أصولٌ يشترك جميع العقلاء في إدراكها، ومعرفة أهمِّيتها، ومن وعاها وأذعن للحجج فيها، ازدادت قناعتُه بما بيَّنته الشَّريعة من وجوب اتباع فهم الصحابة، وهذه الأصول العقليَّة يمكن بيانها في الآتي:
الأصل الأول: التَّعايش مع الوحي
الصَّحابة الكرام تميَّزوا بخصيصةٍ لا توجد في أي جيلٍ بعدهم وهو: أنَّهم تعايشوا مع الوحي، فقد تلقوا القرآن غضًّا طريًّا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشهدوا نزوله، وحضروا بلاغ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأوا حالات الوحي إليه، وعاينوا الأحداث التي أحاطت بنزولِ بعض الآيات، وتعايشوا معه تعايشًا كاملًا؛ فكان النصُّ هو الحاكم على حركاتهم وسكناتهم.
رؤيتهم لنزول الوحي
ولا شكَّ أنَّ رؤيتَهم لنزول الوحي، ومعايشتهم لأحداث نزولِه يعطيهم أفضليَّة في فهمه، وإدراكِ معانيه، فليس من حضَرَ ورأى وعرَفَ الأسباب، واستمَع إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وعاش مع النَّص، كمن جاء بعدهم ممَّن بلغهم النَّص دون كل ما احتفَّ به من طريقةِ نزولٍ، وسبب، وبيان، وتداول حديث حوله، وعلى هذا المعنى اعتمَد أهل السُّنة والجماعة في بيان حجيَّة فهم الصحابة، بل اعتمد ذلك الصحابة أنفسهم -رضوان الله عليهم-، فهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- حين ذهب يحاور الخوارج زمن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- بيَّن لهم أنَّه جاء من عند من فهم النُّصوص الشرعية؛ لأنَّها أنزلت عليهم، فقال: «أتيتكم من عند أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: المهاجرين، والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد»، فهذا اعتمادٌ على هذا الأصل في تقديم فهم الصَّحابة الكرام.
الصحابة عاينوا التنزيل
كذلك اعتمد الشَّافعي -رحمه الله- على أنَّ الصحابة قد عاينوا التنزيل، وبناءً عليه فلا شكَّ أنَّ فهمهم وإدراكهم أعظم من فهم من جاء بعدهم؛ لاختصاصهم بما أحاط بالوحي عمَّن دونهم، يقول - رحمه الله -: «وقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والتَّوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدهم، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصِّديقين والشُّهداء والصالحين، أدوا إلينا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه؛ فعلموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامًّا وخاصًّا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنَّته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهادٍ وورعٍ وعقلٍ وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسِنا، ومن أدركنا ممَّن يُرضَى أو حُكِي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه سنَّة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم».
فلهُم إذا فهمٌ عالٍ للنَّصِّ الشرعي لِما عاينوه، وفي هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «وللصحابة فهمٌ في القرآن يخفى على أكثر المتأخِّرين، كما أنَّ لهم معرفة بأمورٍ من السُّنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخِّرين؛ فإنَّهم شهدوا الرَّسول والتنزيل، وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه ممَّا يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخِّرين الذين لم يعرفوا ذلك».
معرفتهم بمعاني القرآن والسنة
فمعرفتهم إذًا بمعاني القرآن والسنة أكمل من معرفة من أتى بعدَهم، بل حصل لهم من المعارف ما لم تحصل لغيرهم؛ وذلك لمعايشتهم الوحي كما بينَّا، ورؤيتهم للأمور التي اقترنت بالخطاب الشَّرعي عند نزوله، والظُّروف التي أحاطت به، وعرفوا وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النِّقاب عن معاني الكتاب، وكل ذلك لا يتأتَّى لغيرهم بالقوة والغزارة نفسها، وعلى هذا اعتمد الشاطبي في بيان حجيَّة قول الصَّحابي، يقول الشاطبي: «وأمَّا بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه فلا إشكال في صحته أيضًا، وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجَّة، أم لا؟ هذا فيه نظرٌ وتفصيل، ولكنَّهم يترجح الاعتماد عليهم لمباشرتهم للوقائع والنَّوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسُّنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التَّنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرُهم بسبب ذلك، والشَّاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه صواب، وهذا إن لم يُنقل عن أحدٍ منهم خلافٌ في المسألة، فإن خالف بعضهم، فالمسألة اجتهاديَّة».
فهم الجيل القرآني
ففهم الجيل القرآني الذي تربَّى على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأوا ما لم يره من بعدهم، مقدَّم على كل فهم، وكلُّ فهمٍ يبطل قولهم، أو يخالفه، بما يجعلهُ خطأ والقول الآخر هو الصواب؛ فإنه أيضًا باطل، وكانت مشاهدتهم للوحي عاملا مهمًّا في تأثُّرهم المباشر بهذا الدين تأثرًا كان نتيجته الرسوخ واليقين، ولذلك نجد أنَّ الصَّحابة لم يختلفوا في أصول العقائد والأحكام، وفي هذا يقول (طاش كبري زاده): «الصَّحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، على عقيدة واحدة؛ لأنهم أدركوا زمان الوحي، وشرف صحبة صاحبه».
الأصل الثاني: بناؤهم المنهجي ووجود الضَّامن
ويعني: أنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم الكرام- قد بنوا فهمهم على ما سبق بيانه من معايشة النَّص الشرعي، ومعرفة كل ما يحيط به، وزادوا على ذلك بأنَّهم لم يعتمدوا على أنفسهم فقط، وإنما هم نتاج تربية النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد رأوه وهو يعمل بالنَّص الشرعي، ويحكم بموجبِه، وكانوا إن أشكل عليهم شيئًا في فهم النَّص الشرعي سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا بناءٌ منهجيٌّ سليم يُبعدهم عن الخطأ.
وإضافةً إلى بنائهم المنهجي السَّليم فإنَّه يوجد ضامنٌ على فهمهم، وهو تصحيح النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهم إن فهموا فهمًا للنَّص الشرعي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه لا يخلو من أمرين:
- إمَّا أن يكون هذا الفهم صحيحًا مستقيمًا، وهو مراد الله ورسوله، فيقرون عليه.
- وإما أن يكون فهمهم هذا فهمًا خطأ، فيُصحَّح لهم ذلك الفهم.
فعلى الاحتمالين فهمهم سليمٌ صحيحٌ مصيبٌ للحق.
تصحيح النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أخطاء أصحابه
وقد كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يصحح لأصحابه ما يقعون فيه من خطأ في الفهم، كما صحَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر حين فهم التيمُّم خطأ، فعن سعيد بن عبدالرحمن، عن أبيه، قال: «جاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب، فقال: إنِّي أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنَّا كنا في سفر أنا وأنت، فأمَّا أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصلَّيت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما كان يكفيك هكذا» فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفَّيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه»، وكما صحَّح النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم - رضي الله عنه - حين فهم قوله -تعالى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187) فهمًا خطأ، فصحح له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الفهم؛ فإنَّه لما نزلت هذه الآية جاءه عدي في الفجر فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إنِّي أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النَّهار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل، وبياض النهار».
فتلقِّي الصَّحابة الكرام العلم والفهم من النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وسؤالهم له عمَّا أشكل عليهم، والضَّمان الذي كان على فهمهم بتصحيح النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، يجعل فهمهم هو المقدَّم، ولا يمكن أن يأتي فهمٌ يبطل فهمهم للنَّص الشرعي، وعلى هذا اعتمد أهل السنة والجماعة في بيان حجية فهم الصحابة -رضوان الله عليهم-، ففهم الصَّحابة إذًا مقدَّم؛ لأنهم فهموا النص الشرعي، وعرفوا ملابساته، وأمكنهم التحقق من سلامة فهمهم بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ببيانه لهم، وهي خصيصة لم توجد إلا عندهم.

إبراهيم بن محمد صديق

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.51 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]