عرض مشاركة واحدة
  #28  
قديم 07-04-2024, 12:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,817
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان


اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي:
يوسف بن تاشفين (28)


شريف عبدالعزيز الزهيري

أمير المسلمين
يوسف بن تاشفين
مؤسس دولة المرابطين، بطل الزلاقة ومنقذ الأندلس

يوسف الشرق ويوسف الغرب:
عندما تذكر البطولة والشجاعة والأعمال العظيمة فإنه سوف يتبادر إلى ذهن معظم المسلمين عدة أسماء بعينها يحفظونها ويكررونها في كل موطن، فمن الصحابة مثلًا خالد بن الوليد، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، وينسون أن جيل الصحابة كان في معظمه أبطالًا شجعانًا لا يثبت لهم العدو في القتال فواق ناقة، أما من بعد الصحابة فتجد الناس لا يعرفون إلا صلاح الدين الأيوبي، واسمه يوسف بن أيوب، وسيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، ثم تنقطع بعدهم الأسماء ولا يذكرون أحدًا غيرهم إلا قليلًا، وذلك على الرغم من أن هناك أبطالًا للمسلمين سجلوا أروع البطولات وقاموا بأعظم الأدوار في حماية الأمة، منهم صاحبنا "يوسف بن تاشفين" الذي أنقذ بلاد المغرب والأندلس من الضياع في فترة بالغة الحساسية، والعجيب أن الشهرة طارت كلها ليوسف الشرق الذي حرر بيت المقدس، والنسيان والإهمال كله كان من نصيب يوسف الغرب الذي كان له الدور الأكبر في إنقاذ دولة الإسلام في الأندلس من السقوط، وأجَّل هذا السقوط لأربعة قرون كاملة.

بلاد المغرب الممزقة:
منذ أن انطلقت الحملة الجهادية المباركة لفتح بلاد المغرب العربي وبلاد المغرب الواحدة تلو الأخرى تفتح أمام جيوش الصحابة والتابعين، وقبائل البربر الكبيرة والضخمة تدخل في دين الله أفواجًا تاركة ما كانت عليه من كفر وضلال وعادات عرفية تحكم حياتهم المظلمة، وأشرفت شمس الهداية على هذه القبائل الوثنية فتبدلت أخلاقهم وقلوبهم وسمت نفوسهم، وظلت بلاد المغرب العربي من ليبيا إلى الأطلسي ولاية تابعة للخلافة الأموية وشطرًا من الخلافة العباسية، ثم ظهر الطامعون واستبد المستبدون وقامت عدة دويلات من عباءة لخلافة العباسية المهترئة والضعيفة وقتها منها دولة الأغالبة ودولة الأدارسة ودولة الخوارج والدولة الفاطمية الخبيثة والدولة الرستمية، ولولا ضعف الخلافة العباسية بعد عصر المتوكل ما كان لهذه الدول أن تظهر أو تقوم.
وكانت قبائل البربر هي الضحية الأولى والكبرى لهذا التمزق الذي أصاب هذه البلاد الكبيرة من أمة الإسلام، إذ وجد البربر أنفسهم بعدما كانوا يدينون بالولاء لدولة الخلافة تمزقوا وتشرذموا وتفرقوا بين الدويلات العديدة التي ظهرت في بلادهم، وهذا أدى لتوقف عجلة تعليم البربر أصول الإسلام، فعاد الكثيرون منهم للعادات والأعراف البربرية القديمة وانتشر بينهم الجهل المطبق ولم يعد لهم نصيب من الإسلام سوى الاسم فقط لا غير، والجميع غارق في الشركيات والضلالات والخرافات.

ظهور حركة المرابطين:
ظلت بلاد المغرب مسرحًا للخلافات الداخلية بين الدويلات القائمة بعضها بعضًا، وظلت قبائل البربر تنحدر في هاوية الجهل والضلال حتى كأنها عادت للجاهلية الأولى، وظل الوضع يسير من سيء لأسوأ حتى ظهرت حركة المرابطين سنة 434 هجرية – 1042 ميلادية على يد فقيه ورع زاهد اسمه "عبد الله بن ياسين" عمل على نشر الدين الصحيح في صفوف البربر، فلم يجد استجابة منهم إلا القليل، فأنشأ رباطًا للعبادة في جزيرة بنهر النيجر وانقطع فيه للعبادة والعلم هو ومجموعة صغيرة من تلاميذه الذين أخذوا في الازدياد يومًا بعد يوم حتى صاروا عدة آلاف وعندها قرر "عبد الله بن ياسين" محاربة القبائل البربرية الخارجة عن تعاليم الإسلام وذلك بمساعدة أمير قبيلة "لمتونة" البربرية وهي إحدى بطون قبيلة صنهاجة الكبرى الأمير "يحيى بن عمر اللمتوني" وهكذا أصبحت حركة المرابطين حركة جهادية خالصة تقوم على نشر الإسلام ومحاربة الضلال والشركيات وتوحيد بلاد المغرب من جديد.
في هذه البيئة الجهادية والجو الإيماني وفي رباط نهر النيجر وعلى يد الشيخ الزاهد "عبد الله بن ياسين" ظهر بطلنا صاحب الدور الأروع في هذه الفترة من حياة الأمة "يوسف بن تاشفين اللمتوني" فقد توفي الأمير "يحيى بن عمر" سنة 447 هجرية وتولى مكانه أخوه "أبو بكر بن عمر" فواصل عمل أخيه من توحيد البلاد ومحاربة الضالين، وجعل قائد جيوشه ابن عمه الأمير المقدام "يوسف بن تاشفين" وذلك سنة 448 هجرية وكان وقتها في الثامنة والأربعين من العمر إذ إنه من مواليد سنة 400 هجرية.
يوسف مؤسس دولة المرابطين:
استشهد "عبد الله بن ياسين" في قتاله ضد قبيلة "براغوطة" الوثنية سنة 451 هجرية – 1059 ميلادية وآلت رياسة حركة المرابطين لأبي بكر بن عمر الذي واصل السير على نهج ابن ياسين، فافتتح العديد من مدن المغرب وأعادها للإسلام الصحيح، ثم ما لبث أن اضطر للعودة إلى قلب الصحراء للإصلاح بين قبيلتي "لمتونة" و"مسوفة"، وهما عماد حركة المرابطين، وترك قيادة المرابطين لابن عمه وقائد جيوشه "يوسف بن تاشفين" وذلك سنة 453 هجرية وقد وافق شيوخ المرابطين على هذا الاختيار لما يعلمونه عن يوسف من ديانة وشجاعة وفضل وحزم وعدل وورع وسداد رأي ويمن نقيبة.

عمل "يوسف بن تاشفين" من أول يوم له لقيادة المرابطين على تحويل الحركة المرابطية من حركة جهادية معنية بنشر الإسلام الصحيح إلى دولة كاملة الأركان، متينة الأسس بالمعنى الشامل لمفهوم الدولة، وذلك على أساس الجهاد لنشر الدين ومحاربة المرتدين وتوحيد بلاد المغرب الشاسعة تحت راية دولة واحدة تقوم على الكتاب والسنة.
اتبع يوسف بن تاشفين سياسة بارعة في إقامة الدولة، تقوم على تقسيم جيوشه البالغ عددها أربعين ألف مقاتل لعدة أقسام، يوجه كل قسم إلى جزء معين من بلاد المغرب، وشرع في بناء عاصمة للدولة المرابطية، وكانت مدينة "مراكش" الشهيرة هي عاصمة الدولة الجديدة سنة 454 هجرية ومعناها بلغة قبيلة المصامدة البربرية "امش مسرعًا" وكان موقع مراكش بالغ التحصين في قلب بلاد المصامدة أكثر قبائل المغرب قوة وعددًا وكانوا عماد جيش المرابطين.
واصل يوسف بن تاشفين مشروعه الكبير لتوحيد بلاد المغرب تحت راية واحدة هي الدولة المرابطية، فلم يهنأ براحة ولا عرف دعة أو سكونًا، ولا تنعم بمأكل أو مسكن رغم اتساع ملكه، فلم يلبس طوال حياته إلا الصوف، ولا يأكل سوى الشعير ولحوم الإبل وألبانها، دائب التفقد لبلاده وثغوره وأحوال المسلمين، لا يحكم إلا بالشرع، وظل يوسف بن تاشفين مجاهدًا من أجل تحقيق حلمه منذ سنة 454 هجرية حتى سنة 474 هجرية أي عشرين سنة متصلة حتى أقام بالمغرب دولة واحدة كبيرة ممتدة من تونس شرقًا حتى الأطلنطي غربًا، ومن البحر المتوسط شمالًا حتى ثلث أفريقيا الشمالي تقريبًا (حدود مالي وتشاد والنيجر والسنغال)، وقد تم القضاء على سلطان سائر الأمراء المحليين الذين مزقوا المغرب تحت أطماعهم وأهوائهم وحولوها لدويلات ضعيفة هزيلة متفرقة.

بعد أن حقق "يوسف بن تاشفين" مشروعه الكبير بتوحيد بلاد المغرب العربي أشار عليه بعض الناس أن يتخذ سمة الخلافة بحكم أنه أقوى رجل في العالم الإسلامي وقتها وأكثره ملكًا، ولكن البطل رفض ذلك فهو على دين وورع وزهد لا يريد من جهاده دنيا ولا مناصب بل أصر على أن تكون ولايته على بلاد المغرب مدعومة بموافقة الخليفة العباسي وقتها "المستظهر بالله" الذي أرسل إليه بالتقليد والعهد بالولاية وتلقب "يوسف بن تاشفين" من يومها باسم أمير المسلمين وناصر الدين.
من توحيد المغرب لإنقاذ الأندلس:
في الفترة التي كان يعمل فيها "يوسف بن تاشفين" على توحيد بلاد المغرب الممزقة وإعادة القبائل البربرية للإسلام الحق، كانت دولة الإسلام في الأندلس تمر بمرحلة دقيقة وخطرة في حياتها ووجودها، إذ أصابها ما أصاب بلاد المغرب من التشرذم والتفرق ولكن بصورة أكبر وأخطر، وهذه المرحلة المعروفة تاريخيًا بعصر ملوك الطوائف، والتي تحولت فيه دولة الإسلام في الأندلس لعدة دويلات صغيرة على رأس كل واحدة منهن أسرة حاكمة يتوارث أبناؤها الحكم والرياسة، وكانت السمة الغالبة لملوك الطوائف هي ضعف الوازع الديني والانغماس في الشهوات والمفاسد والملذات، والرتع في الدنيا مع رقة الدين، أضف لذلك كثرة الخلافات الجانبية بين الملوك مما أدى لكثرة القتال الداخلي بينهم على الحدود أو الحصون أو النفوذ، وهذا أدى بدوره لنتيجة في غاية الخطورة وهي تسلط نصارى إسبانيا على مسلمين الأندلس واتساع رقعتهم على حساب دولة الإسلام بالأندلس.
ومع مرور الأيام واتساع الخرق في وضع المسلمين بالأندلس، ازداد تسلط النصارى عليهم، وملوك الطوائف بلغ بهم الضعف والهوان لأن يدفعوا الجزية، لملك إسبانيا الكبير "ألفونسو السادس" الذي كان يخطط لمشروعه الصليبي الكبير، والذي عرف تاريخيًا باسم "حرب الاسترداد" أي استرداد الأندلس من المسلمين، وقد حقق "ألفونسو السادس" قفزة كبيرة في مشروعه عندما استولى على مدينة "طليطلة" عاصمة إسبانيا القديمة وذلك سنة 476 هجرية، وعندها توجهت القلوب والأنظار كلها نحو عدوة المغرب بحثًا عن المنقذ والمنجد بعد الله عز وجل.

الأمير مستجاب الدعوة:
انهالت الاستغاثات من أهل الأندلس وأيضًا من ملوكها على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي هالته الأخبار القادمة من هناك على وضع دولة الإسلام وتسلط الصليبيين على المسلمين، فجمع يوسف الفقهاء ومشايخ المرابطين واستشارهم في ذلك فأجابوه جميعًا بوجوب نصرة المسلمين فأرسل في بلاد المغرب مستنفرًا للناس للجهاد في سبيل الله ونجدة الدين.
في ضحى يوم الخميس سنة 479 هجرية عبر أمير المسلمين بجيوشه البحر، وما إن ركب البحر حتى اضطرب وتعالت أمواجه وهدرت منذرة بصعوبة العبور، فنهض الأمير زعيم المرابطين وسط سفينته ورفع يديه إلى السماء مناجيًا ربه عز وجل قائلًا: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا هذا خيرة للمسلمين، فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه"، فما كاد أن يتم دعاءه حتى هدأ البحر وسكن الريح وعبرت الأساطيل بسهولة، وهكذا نرى هنا البطل العجوز المجاهد، المتوكل على ربه، المستعين به في الشدائد، ما يكون بينه وبين ربه إلا أن يقول: "يا رب" فيقول المولى عز وجل: "أجبتك عبدي".

بطل الزلاقة:
عبر زعيم المرابطين "يوسف بن تاشفين" بجيوشه الكبيرة المتحمسة للجهاد ضد أعداء الإسلام ونجدة المسلمين، وكان لنزوله على أرض الأندلس رجة كبيرة، إذ أعلن "ألفونسو السادس" هو الآخر النفير العام في صليبيي إسبانيا وأوروبا، فجاءه المتطوعون بالآلاف من أنحاء إسبانيا وفرنسا وإيطاليا بعدما استمد المعونة من بابا روما، ولما شعر "ألفونسو" باجتماع قوة كبيرة عنده، أرسل برسالة طويلة للزعيم "يوسف بن تاشفين" يتهدده فيها ويتوعده ويصف له قوة جيوشه وكثرة جنوده، فرد عليه البطل المحنك برسالة مكونة من ثلاث كلمات كان لها وقع الصاعقة على ألفونسو، حيث كتب على ظهر رسالته الطويلة: "الذي يكون ستراه"، فارتاع ألفونسو بشدة وعلم أنه بُلي برجل له عز وحزم.
وفي يوم 12 رجب سنة 479 هجرية، وكان يوم جمعة، كانت بلاد الأندلس على موعد مع واحدة من أكبر وأعظم المعارك وواحدة من اللقاءات الحاسمة والمصيرية بين الإسلام والنصرانية، المسلمون من أندلسيين ومغاربة تحت قيادة البطل المجاهد "يوسف بن تاشفين" وقد بلغ الثمانين من العمر، وهو مع ذلك ما زال يجاهد من على صهرة جواده، شاهرًا سيفه، محمسًا لجنوده، والنصارى من إسبان وطليان وفرنسيين وغيرهم تحت قيادة "ألفونسو السادس" عاهل صليبيي إسبانيا، وكانت معركة عارمة قاسية في منتهى العنف، ثبت كلا الفريين في قتال لا فرار فيه ولكن الخطة الذكية التي وضعها "يوسف بن تاشفين" والتي قامت على استدراج الجيش الصليبي ثم مهاجمة مؤخرة الجيش والنفاذ منها إلى قلب الجيش الصليبي والدفع بكتيبة الحرس الأسود شديدة الشراسة في القتال للقضاء على ما تبقى من مقاومة لدى الصليبيين، وانتهت المعركة بنصر خالد للمسلمين على الصليبيين، وذلك كله بفضل الله عز وجل ثم القيادة البارعة والحكيمة للبطل العجوز "يوسف بن تاشفين".
مصيبة البطل:
بعد النصر العظيم الذي حققه أمير المسلمين "يوسف بن تاشفين" على صليبيي إسبانيا في الزلاقة كان من المقرر أن يواصل الفتح حتى يستعيد مدينة "طليطلة" العريقة، ولكنه وفي نفس يوم الفتح والنصر العظيم بالزلاقة والبطل في قمة سعادته بنصر الإسلام والمسلمين، إذ بالخبر المفجع يقطع سعادته ويبدد فرحه، إذ جاءه خير وفاة ولده الأكبر وولي عهده الأمير "أبى بكر" وقد تركه أميرًا على بلاد المغرب.
وبعد مجيء هذا الخبر المفجع اضطر "يوسف بن تاشفين" أن يعود إلى المغرب ليضبط البلاد حتى لا تضطرب بعد وفاة أميرها، فعاد إليها بعد أن ترك حامية مرابطية تقدر بثلاثة آلاف مقاتل تحت تصرف ملك إشبيلية "المعتمد بن عباد" وبذلك توقفت سيرة فتح المرابطين والتقط الصليبيون أنفاسهم بعودة "يوسف" إلى المغرب.
صرخات أندلسية:
بعد أن قام أمر المرابطين بمهمته المقدسة في نجدة المسلمين بالأندلس، عاد إلى بلاده ومكث بها عدة شهور ولكنه ما لبث أن جاءته رسائل استغاثة من أهل شرق الأندلس خاصة من أهل بلنسية ومرسية ولورقة الذين وقعوا تحت تهديد النصارى، ولقد علم المسلمون بالأندلس أنه لا ناصر لهم ولا منقذ لهم بعد الله عز وجل إلا الأمير المجاهد "يوسف بن تاشفين" فأرسلوا إليه بصرخاتهم وهم يعلمون أنه لن يتخلف أبدًا عن نجدتهم.
عاد "يوسف بن تاشفين" بجيوشه للأندلس في شهر ربيع الأول سنة 481 هجرية وأرسل إلى ملوك الطوائف يطلب منهم الاستعداد للجهاد، وكان الهدف تطهير منطقة شرق الأندلس من التهديدات الصليبية ولكن اختلاف أمراء الطوائف فيما بينهم وكثرة شكاويهم من بعضهم البعض، بل وصل الأمر أن تعاون بعضهم في السر مع "ألفونسو السادس" من أجل إفشال هذه الحملة المباركة، وهذه الأمور أغضبت أمير المرابطين "يوسف بن تاشفين" الذي ساءه ضعف الوازع الديني لدى هؤلاء الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا أغير الناس على المسلمين وحرماتهم، وقرر "يوسف بن تاشفين" العودة إلى بلاد المغرب ولكنه كان يضمر شيئًا آخر.

أعظم أعمال البطل:
عاد "يوسف بن تاشفين" إلى المغرب سنة 482 هجرية وقد اطلع أكثر فأكثر على أحوال الأندلس وأمرائها، ومن خلال النظرة الثاقبة للبطل المحنك الذي جاوز الثمانين، قرر "يوسف بن تاشفين" القيام بأعظم أعماله على الإطلاق وهو إسقاط دولة ملوك الطوائف الهزيلة وتوحيد الأندلس تحت راية واحدة قوية تمامًا مثلما فعل من قبل ببلاد المغرب الممزقة.
ولكن ما هي البواعث التي حملت "يوسف بن تاشفين" على اتخاذ هذا القرار الكبير الخطير؟.
الباعث الأول والأهم: الحفاظ على دولة الإسلام في الأندلس وإنقاذها من المحو والضياع، فلقد تأثر "يوسف بن تاشفين" منذ البداية بما شهده من اختلال أمراء الطوائف وضعف عقيدتهم، وانهماكهم في الترف والفسق، ورتعهم في الشهوات، وما يقتضيه ذلك من إرهاق شعوبهم بالمغارم الجائرة، وأدرك "يوسف" أن هذه الحياة الماجنة والعابثة التي انغمس فيها رؤساء الأندلس قد أثرت على شعوبهم فاقتدوا بهم وعمت الميوعة والترف حياة سائر الأندلسيين، وأن هذا الترف والنعومة هي التي قوضت منعتهم، وفتت في رجولتهم وعزائمهم وقعدت بهم عن متابعة الجهاد ومدافعة العدو المتربص بهم على الدوام، وأن الشقاق الذي استحكم بينهم ولم ينقطع حتى بعد الزلاقة، سوف يقضي عليهم جميعًا، وإذا تركت الأمور في مجراها فلسوف يستولي الصليبيون على الأندلس كلها ويعيدونها نصرانية مرة أخرى.
الباعث الثاني: وهو استراتيجي تكتيكي يكشف عن عقلية عسكرية متقدمة وفائقة عند أمير المرابطين "يوسف بن تاشفين"، وهو في حالة سقوط الأندلس فسوف تمتد الأطماع الصليبية لعدوة المغرب، والأندلس بالنسبة للمغرب بُعدًا استراتيجيًا دفاعيًا في غاية الأهمية، وهذه فطنة غابت عن حكام المسلمين اليوم، وهم يتركون مكرهين أو راضين بلاد العراق وأفغانستان تسقط لقمة سائغة بيد الصليبيين، وقد كشفت الأيام عن خطورة هذا الترك، فها هي أمريكا تتهدد سوريا وتعد مشروعًا كبيرًا لاحتلالها والبقية تأتي، فيا ليتنا نقرأ التاريخ لنستفيد من تجارب السابقين.
وفي أوائل سنة 483 هجرية بدأ البطل العجوز في أعظم أعماله وإنجازاته:
توحيد الأندلس، وإزاحة دولة الطوائف الذليلة الخانعة.

فهل يدري المسلمون ما فعله أمراء الطوائف؟
ما فعلوه يؤكد على صدق توقع "يوسف بن تاشفين" وصدق عمله وأهمية وضرورة ما سيقدم عليه، لقد قام أمراء الطوائف بالتعاون والاتفاق مع زعيم الصليبيين "ألفونسو السادس" على حرب المرابطين، إخوانهم المسلمين، وذلك نظير أموال طائلة وبلاد ومدن وحصون يؤدونها إلى هذا العدو الصليبي، فهل يصلح هؤلاء الطغاة للبقاء، ولقد استفتى "يوسف بن تاشفين" علماء زمانه أمثال الغزالي والطرطوشي وغيرهم فيما هو سيقدم عليه، فأجاب الجميع بوجوب قيامه بإزاحة ملوك الطوائف، بل إن علماء الأندلس وفقهاءها كتبوا بنفس المعنى ليوسف بن تاشفين.
وظل أمير المجاهدين يعمل على إزاحة ملوك الطوائف وإعادة الأندلس دولة واحدة من سنة 483 حتى سنة 495 هجرية تقريبًا أي اثني عشر سنة متواصلة من العمل الدؤوب لاستئصال هذا الورم السرطاني من جسد الأمة حتى تم له ذلك، واستقبلت الأندلس عهدًا جديدًا من القوة والوحدة، وانقمع الصليبيون حينًا من الدهر.
ولم يؤثر المجاهد الكبير الذي أصبح على مشارف المائة أن ينهي حياته بلا جولة جديدة مع كبير صليبيي إسبانيا "ألفونسو" وأراد أن يفتح مدينة "طليطلة" العريقة، فالتقى معه في معركة قوية سنة 491 هجرية وهزمه هزيمة فادحة، حطم بها قواه لفترة طويلة ولكنه لم يفتح "طليطلة" للأسف الشديد، ثم آثر أن يولي ابنه وولي عهده من بعده الأمير "علي" إمارة الأندلس للتأكد من سلامة الأوضاع فيها.

رحيل البطل:
وفي 1 محرم سنة 500 هجرية أي وهو في المائة من العمر، قرنًا كاملًا من الزمان، رحل البطل، وترجل الفارس الشجاع، وموحد الأمة بعد أن أتم أمير المرابطين عمله الذي عاش وجاهد من أجله، ووحد بلاد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، وأعاد الإسلام الصحيح في ربوع المغرب، وأزال الظلمة والطواغيت والمتسلطين على رقاب العباد، وصد الصليبيين عن مسلمي الأندلس، وأوقف حرب الاسترداد الإسبانية فترة من الزمان، ورفع شأن المسلمين بالمغرب في الوقت الذي كانت أمة الإسلام بالمشرق تعاني من الضعف ومن التفرق، وقد سقط بيت المقدس بيد الصليبيين، ولو قدر أن يكون "يوسف بن تاشفين" بأرض المشرق لتغيرت مسيرة الحملات الصليبية تمامًا، ولربما تغيرت الأمور كلها هناك لما يحمله هذا الرجل من مشروع كامل وقوي لوحدة المسلمين وإقامة الدولة الإسلامية على أساس الكتاب والسنة.
فرحمة الله الواسعة على هذ البطل المنقذ الذي حفظ الله عز وجل به أمة الإسلام في جزء كبير من أرضها وتاريخها.

المراجع والمصادر:
1- نفح الطيب.
2- الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى.
3- تاريخ ابن خلدون.
4- روض القرطاس.
5- الحلل الموشية.
6- المعجب في تلخيص أخبار المغرب.
7- البيان المغرب.
8- الكامل في التاريخ.
9- الروض المعطار.
10- أعمال الأعلام.
11- سير أعلام النبلاء.
12- وفيات الأعيان.
13- شذرات الذهب.
14- دولة الإسلام في الأندلس.
15- أيام الإسلام.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.99 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.93%)]