عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-09-2021, 09:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,346
الدولة : Egypt
افتراضي السنة النبوية وحقوق الإنسان

السنة النبوية وحقوق الإنسان


د. محمود بن أحمد الدوسري







الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فإنَّ المتأمل في السنة النبوية بإنصاف يلحظ أنها أنموذجًا فريدًا ومتكاملًا في تشريع حقوق الإنسان، وحمايتها، وحفظها، والاعتراف بأهميتها؛ بل كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم نفسُه أنموذجًا فريدًا يُحتذى به في هذا الشأن؛ حيث تجسَّدت فيه جميع معاني الإنسانية السامية في كافة جوانب حياته المباركة؛ فلم تُكذِّب أقوالَه أفعالُه، ولم يهضم الناسَ حقوقهم أبدًا، ولم يعتد على حريات الآخرين؛ مسلمين وذِمِّيين ومعاهدين وغيرِهم، وحاشاه ذلك، وهو صاحب الخُلُق العظيم، والدِّين القويم.

بل لم يَعرف التاريخ الإنساني - عبر الأجيال والقرون الطويلة – نبيًّا، ولا مُصلِحًا، أكمل من نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، من جهة تطبيقه لمبادئ وحقوق الإنسان، وكذا لم يعرف التاريخُ حتى اليوم، وإلى قيام الساعة؛ أُمَّةً اهتمت بحقوق الإنسان ورعتها حقَّ رعايتها مثل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والحديث هنا عن أهم مظاهر "حفظ حقوق الإنسان" في السنة النبوية:

أوَّلًا: تحرير الإنسان من الرِّق:
جاء الإسلام بعد مَبعَث النبي صلى الله عليه وسلم ووجد نظام الرَّقيق قائمًا على ساقه، ولقد تنوَّعت وتعددت طوائف الأرقاء؛ زِنجًا، ورومًا، وفُرسًا...، وتعدَّدت روافده وطرقه عندما وُجِدت الحروب القبلية، بجعلها الرَّقيق مصدرًا للغنيمة، وساهم الفقر في رواج بضاعة الرَّقيق، فهذه الظاهرة الاجتماعية كانت ظاهرة عالميَّةً معروفة عند الأمم وقت بعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

والإسلام لم يَدْعُ إلى الرِّق ابتداءً - كما يُروِّج له المستشرقون - بل جاء الإسلامُ ونظام الرِّق قائمًا مستقرًا، فعمل من خلال تشريعاته وآدابه في تقليص هذا النظام، فبدأ بتجفيف منابعه، والتقليلِ من أعداد الأرقَّاء الجدد، ثم عمل على تحرير الأرقَّاء الواقعين تحت وطأة الرِّق من خلال عدَّة أحكام سيأتي ذِكرها، ثم حثَّ على التعامل الطَّيِّب والمعاشرة الحسنة لهؤلاء الأرِقَّاء، وبهذا لم يُصادم الإسلام الواقعَ ولم يفتعل المشاكل التي قد تترتَّب على إلغائه جملة واحدة، وإنما عمد إلى حلولٍ واقعية، وبعد تطبيقها تقلَّص الرِّقُّ وكاد أن ينتهي تمامًا، وقد ساهم مساهمةً فاعلة في علاج هذه القضية عندما دعا إلى تحرير الإنسان من الرِّق، والإحسان إليه على أقل تقدير، والتحذير من ظُلمِه وبخسِ حقوقه، واتَّخذ في ذلك وسائل عدَّة، من أهمها:
الوسيلة الأولى: الترغيب في تحرير الرِّقاب:
رغَّبت السنة النبوية في تحرير الرقاب؛ حيث اعتبرته عملًا يُنقذ صاحبَه من النار، وذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ). قال سَعِيدُ بن مَرْجَانَةَ: فَانْطَلَقْتُ بِهِ إلى عَلِيِّ بنِ حُسَيْنٍ، فَعَمَدَ عَلِيُّ بنُ حُسَيْنٍ رضي الله عنهما إلى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عبدُ اللَّهِ بنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ أو أَلْفَ دِينَارٍ فَأَعْتَقَهُ[1].

قال المُهَلَّب رحمه الله: (في هذا الحديث فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومِمَّا يُنجِّي اللهُ به من النار، وفيه أنَّ المجازاة قد تكون من جِنس الأعمال، فجُوزيَ المُعتِق للعبد بالعتق من النار)[2].

وهذا الحديث فيه لطيفةٌ بديعة، وهي أنه لمَّا أعتق أخاه من الرِّق، فكأنَّما أحياه، فكان الجزاء من جنس العمل، فضَمِنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم له البقاءَ والخلودَ في الجنة وعدم دخول النار.

ويدلُّ على أنَّ الحرية الممنوحة للمملوك تُعادِل الحياة ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)[3]، فهذا الحديث جعل الشَّيء الوحيد الذي يُكافئ به الولدُ والديه هو أنْ يكونا مملوكين فيعتقهما، فإنْ كانا قد مَنَحاه الحياةَ ابتداءً، فهو قد أعادهما إلى الحياةِ بتحريرهما من الرِّق، وبهذا يتكافآن، وفي هذا دليلٌ على مدى احتفاء السنة النبوية بالحريَّة إذ جعلتها مُعادِلة للحياة، ومن فقد حُريَّته فَقَدْ فَقَدَ حياتَه.

الوسيلة الثانية: جُعِلت كفارةُ مَنْ لَطَم مملوكَه أنْ يُعتِقَه:
عن زَاذَانَ؛ أَنَّ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما دَعَا بِغُلاَمٍ لَهُ، فَرَأَى بِظَهْرِهِ أَثَرًا، فقال له: أَوْجَعْتُكَ؟ قال: لا، قال: فَأَنْتَ عَتِيقٌ، قال: ثُمَّ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ فقال: مَا لِي فِيهِ مِنَ الأَجْرِ مَا يَزِنُ هذا[4]، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ ضَرَبَ غُلاَمًا لَهُ، حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ[5]، أَوْ لَطَمَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ)[6].

قال النووي رحمه الله: (في هذا الحديث الرِّفقُ بالمماليك، وحُسْنُ صحبتِهم، وكفُّ الأذى عنهم، وأجمع المسلمون: على أنَّ عِتْقَه بهذا ليس واجبًا، وإنَّما هو مندوب؛ رجاءَ كفارةِ ذنبِه فيه، إزالةَ إثمِ ظُلمِه)[7].

الوسيلة الثالثة: النهي عن استرقاق الأحرار ظلمًا وعدوانًا:
من صير حرًا عبدًا فقد ارتكب جرمًا عظيمًا، يستحق فاعله أن يكون الله تعالى خصمًا له يوم القيامة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللهُ تعالى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ)[8].

قال ابن بطال رحمه الله: (إنما عَظُم الإثمُ فيمَنْ باع حرًّا؛ لأنَّ المسلمين أكفاء في الحرمة والذِّمة، وللمسلم على المسلم أن ينصره ولا يظلمه، وأن ينصحه ولا يُسلمه، وليس في الظلم أعظم من أن يستعبده أو يُعرِّضه لذلك، ومَنْ باع حُرًّا فقد مَنَعَه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه حال الذِّلة والصَّغار، فهو ذنب عظيم، يُنازَعُ اللهُ به في عباده)[9]، وهذا من أبواب تجفيف المنابع، وتقليص الدَّاخلين في الرِّق ابتداءً.

الوسيلة الرابعة: تسوية الرَّقيق بغيره في كثير من الحقوق:
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرقيق خيرًا، وأوجب معاملته بالحسنى، ونهى عن ظلمه، في غير ما موضع، ومن ذلك:
أ‌- قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلاَيَ، ولا يَقُلْ: أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ، وَفَتَاتِي، وَغُلاَمِي)[10].

ب‌- وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي؛ فَكُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: فَتَايَ، وَلاَ يَقُلْ الْعَبْدُ: رَبِّي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ سَيِّدِي)[11].

قال النووي رحمه الله: (قال العلماء: مقصود الأحاديث شيئان: أحدهما: نَهَى المملوكَ أن يقول لسيده: ربِّي؛ لأنَّ الربوبية إنما حقيقتها لله تعالى، لأنَّ الرَّب هو المالِك، أو القائم بالشيء، ولا يوجد حقيقةُ هذا إلاَّ في الله تعالى... الثاني: يُكره للسيد أن يقول لمملوكه: عبدي، وأمتي، بل يقول: غلامي، وجاريتي، وفتاي، وفتاتي؛ لأنَّ حقيقة العبودية إنما يستحقها اللهُ تعالى، ولأنَّ فيها تعظيمًا بما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه، وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم العِلَّةَ في ذلك، فقال: "كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ" فنهى عن التطاول في اللفظ، كما نهى عن التطاول في الأفعال، وفي إسبال الإزار وغيره، وأما: غلامي، وجاريتي، وفتاي، وفتاتي، فليست دالة على المُلك كدلالة عبدي، مع إنها تُطلق على الحُرِّ والمملوك، وإنما هي للاختصاص، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ﴾ [الكهف: 60]، ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ﴾ [الكهف: 62]، ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ الأنبياء: 60]، وأما استعمال الجارية في الحُرَّة الصغيرة فمشهور معروف في الجاهلية والإسلام، والظاهر: أنَّ المراد بالنهي مَن استعمله على جهة التعاظم والارتفاع، لا للوصف والتعريف)[12].

وفيه مراعاةٌ لمشاعر تلك الفئة الضعيفة وجَبرٌ لخاطرهم، بالإحسان إليهم في الكلام والتَّلطُّف بهم عند النداء، ومراعاةُ المشاعرِ والحرصُ عليها أدبٌ رفيع من آداب الإسلام في التعامل مع هذه الفئة الضعيفة.

ج- عن الْمَعْرُورِ بن سُوَيْدٍ قال: مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ، فَقُلْنَا: يا أَبَا ذَرٍّ! لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كانَتْ حُلَّةً، فقال: إِنَّه كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلاَمٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: (يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ). قلتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ؛ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ. قال: (يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)[13].

قال النووي رحمه الله: (قوله: "رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي": فمعناه رجل من المسلمين، والظاهر: أنه كان عبدًا، وإنَّما قال: " مِنْ إِخْوَانِي" ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ...، فَمَنْ كان أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ)[14].

قوله صلى الله عليه وسلم: (فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) أي: هذا التعيير من أخلاق الجاهلية، ففيك خُلُقٌ من أخلاقهم، وينبغي للمسلم ألاَّ يكون فيه شيء من أخلاقهم، ففيه النهي عن التعيير، وتنقيص الآباء والأمهات، وأنه من أخلاق الجاهلية.

قوله صلى الله عليه وسلم: (هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ): الضمير في (هُمْ إِخْوَانُكُمْ): يعود إلى المماليك، والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد، وإلباسهم مما يلبس محمول على الاستحباب، لا على الإيجاب، وهذا بإجماع المسلمين، وأما فِعْلُ أبي ذرٍّ رضي الله عنه في كسوة غلامِه مثلَ كسوتِه، فعَمِلَ بالمُستحب)[15].

وقال ابن حجر رحمه الله: (المراد المواساة، لا المساواة من كلِّ جهة، لكن مَنْ أخذ بالأكمل؛ كأبي ذرٍّ رضي الله عنه فَعَل المساواة، وهو الأفضل، فلا يستأثر المرء على عياله من ذلك، وإن كان جائزًا)[16].

شبهة وردُّها:
والسؤال الذي يتبادر إلى الذِّهن في هذا الشأن: لماذا لم يُصْدِر الإسلامُ تشريعًا صريحًا بتحرير الرقيق وتحريم الرِّق دفعة واحدة؟
والجواب على ذلك لا يحتاج إلى عناء أو مشقَّة؛ إذ أنَّ الشريعة الإسلامية مبنية على درء المفاسد وجلب المنافع، فما يُحقِّق منفعةً تجلب معه مفسدة لا يجوز الابتداء به، وإنما تفويت المنفعة مع ما يصحبها من مفاسد أَولى، وليس يخفى على أحد أنَّ أعداد الرَّقيق كانت متزايدة في بداية الإسلام، ولو صدر تشريع بتحريرهم لأدَّى إلى كارثة؛ إذْ يصبح الآلاف منهم بلا مأوى ولا عمل، فينتشرون في الشوارع والطرقات، وربما ارتكبوا من الجرائم والمفاسد ما يؤدِّي إلى إحداث خلل اجتماعي، ومن ثَمَّ اقتضت المصلحة بقاء حالهم كما هو مع اتِّخاذ تدابير تدريجية لتحسين أوضاعهم وإعدادهم نفسيًّا ومهنيًّا؛ كي يتمكَّنوا من مواجهة الحياة وخوص غمارها.

ثانيًا: ضمان حرية المعتقد.
من أبشع ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل ظاهرة الاضطهاد الدِّيني، وإكراه الناس على ترك معتقداتهم؛ ومن أجل ذلك سُلِّطت عليهم كلُّ أنواع التعذيب الوحشي من أجل التخلِّي عمَّا اعتقدوه، ولمَّا ظهر الإسلام بمكة اعتدى المشركون على المستضعفين من المسلمين بالأذى والفتنة في دينهم، وكان المسلمون إذا اشتدَّ عليهم اضطهاد المشركين يشكون حالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يستنصر الله لهم، فكان يُهوِّن عليهم الذي يلقونه من قريش بما يقصُّ عليهم من أخبار الأمم السابقة، وصبر المؤمنين على هذا العذاب الأليم[17].

والإسلام برغم تعرُّض أتباعه لكلِّ وسائل القهر والتَّسلُّط والتَّعذيب والإيذاء والإجبار على عدم اعتناقه، فقُتِّلُوا وشُرِّدوا وطُرِدوا، برغم هذا كلِّه جعل حريَّةَ الاعتقاد مكفولة للجميع، فلم يُجبَر أحد على اعتناقه، ولم يُعامِلْ أعداءه بمثل ما هم بادؤوه به، بل جعل حريَّة الاعتقاد حقًّا مكفولًا لهم بقرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة؛ حيث إنَّ الله تعالى أرشد المؤمنين إلى عدم إكراه الناس في الدِّين؛ كما في قوله سبحانه: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256].

ومما جاء في تفسير الآية الكريمة؛ قول ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ﴾ أي: لا تُكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بَيِّنٌ واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه، بل مَنْ هداه الله للإسلام وشرح صدره، ونَوَّر بصيرته، دخل فيه على بَيِّنَة، ومَنْ أعمى اللهُ قلبَه، وخَتَم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدِّين مُكرها مقسورًا، وقد ذكروا أنَّ سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإنْ كان حُكْمُها عامًّا)[18].

سبب نزول الآية: هناك ثلاثة أقوال في سبب نزول الآية:
الأول: عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: (كانت الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلاَتًا[19]، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ لها وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فلمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ، كان فِيهِمْ من أَبْنَاءِ الأنْصَارِ، فَقَالُوا: لاَ نَدَعُ أَبْنَاءَنَا! فَأَنْزَلَ الله عز وجل: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256][20]. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمه الله: (فَمَنْ شَاءَ لَحِقَ بِهِمْ، وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ)[21]. (قال الخطابي رحمه الله: في الحديث دليل على أنَّ مَن انتقل من كفرٍ وشركٍ إلى يهوديةٍ أو نصرانية، قَبْل مجيء دين الإسلام؛ فإنه يُقَرُّ على ما كان انتقل إليه، وكان سبيلُه سبيلَ أهل الكتاب؛ في أخذ الجزية منه، وجواز مناكحتِه، واستباحة ذبيحته، فأمَّا مَن انتقل من شركٍ إلى يهوديةٍ أو نصرانيةٍ بعد وقوع نسخِ اليهودية، وتبديلِ مِلَّةِ النصرانية؛ فإنَّه لا يُقَرُّ على ذلك)[22].


الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ قال: (نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف، يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ألا أستَكْرِهُهما؛ فإنَّهما قد أبيا إلاَّ النصرانية؟ فأنزل اللهُ فيه ذلك)[23].

الثالث: عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ﴾ قال: كان ناسٌ من الأنصار مُسترضعين في بني قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت: ﴿لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[24]. قال الإمام الشافعي رحمه الله: (لاَ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ من انْتَقَلَ من كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ، إنَّمَا يُقْتَلُ من خَرَجَ من دِينِ الإسْلاَمِ إلَى الشِّرْكِ، فَأَمَّا من خَرَجَ من بَاطِلٍ إلَى بَاطِلٍ؛ فَلاَ يُقْتَلُ)[25]، وقال أبو جعفرٍ الطحاوي رحمه الله: (إذا انتقل من كفرٍ إلى كفرٍ؛ يجوز إقراره عليه به)[26].

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أبرم مع اليهود بالمدينة كتابَ مُوادعة، ونَصَّ فيه على كفالة حريَّة المعتقد، ودعا فيه إلى التَّعايش السِّلمي، وحُسْنِ الجوار، ومما ورد فيه: (مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلاَ مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ... وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ، مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلاَّ مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُوتِغُ[27] إلاَّ نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ إلاَّ مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُوتِغُ إلاَّ نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ... وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الإِثْمِ... وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، فَإِنَّهُمْ يُصْلِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، وَإِنَّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلاَّ مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ)[28].

وكانت عهود النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه للذِّمِّيين دليلًا قاطعًا على كفالة الحرية الشاملة لهم، وخاصَّة حرية المعتقد؛ ومن أوضح أمثلته عهدُ النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران[29].

ومن أمثلته أيضًا؛ ما جاء عن هِشَامٍ عن أبيه قال: مَرَّ هِشَامُ بنُ حَكِيمِ بنُ حِزَامٍ على أُنَاسٍ من الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قد أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فقال: مَا شَأْنُهُمْ؟ قالوا: حُبِسُوا في الْجِزْيَةِ. فقال هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا)[30].

والإكراه لا يُؤسِّس عقيدةً؛ لأنه لا يُمكن أن تنشأ عقيدةٌ ما بالإكراه، ولأنَّ العقيدة عنصر نفْسِيٌّ لا يُمكن أن يكون للإكراه إليه سبيلًا؛ ومن أجل ذلك حرَّم الإسلام الإكراه تحريمًا قطعيَّا.


كما أنَّ الإكراه قد منعه الله تعالى في حقِّ نفسه، وهذا من تمام عدله سبحانه، فلم يُكرِه أحدًا على الإيمان به سبحانه وهو الخالق والرازق، وليس أحد أغير منه سبحانه على دِينه؛ ذلك لأنَّ الله تعالى إنما يُريد من العبد قلبَه لا قالبه، فقد يتظاهر البعض بالدخول في الدِّين تحت وطأة الخوف والقهر، وقلبُه خاليًا من الإيمان، وهذا لا حاجة لله تعالى فيه، فأصل الاعتقاد في القلب، وهو مراد الله سبحانه وتعالى.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.89%)]