عرض مشاركة واحدة
  #356  
قديم 17-02-2024, 03:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,817
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»[11].

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل ﷲ»[12].

وفي قوله: ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ دلالة على أنه لا يقبل من أحد أن يدين لغير الله، أي: لا يقبل من أحد أن يدين بغير الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19].

﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ أي: فإن انتهوا عن كفرهم، وقتالكم، وما هم عليه من الظلم، والصد عن دين الله، ودخلوا في دين الله، أو بذلوا الجزية.

﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم؛ لأن العدوان لا يجوز إلا على الظالمين، الكفار المقاتلين.

والمراد بالعدوان على الظالمين: المقاتلة لهم، أي: لا مقاتلة إلا للظالمين، وإنما سمي قتال الظالمين «عدوانًا» من باب المشاكلة، ومقابلة الشيء بمثله لفظًا؛ لأنه سببه، كما في قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

وليس معناه أن مقاتلة الظالمين من العدوان، بل هي من الحق الواجب، لكن فيه إشارة واضحة إلى أن قتالهم بعد انتهائهم عما هم عليه من الظلم، هو من العدوان عليهم والظلم لهم.

وقيل: معنى ﴿ فَلَا عُدْوَانَ ﴾ أي: فلا سبيل؛ كما في قوله تعالى في قصة موسى: ﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 28]؛ أي: فلا سبيل عليَّ.

والظلم في الأصل: النقص، كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا.

وهو أيضًا: وضع الشيء في غير موضعه، على سبيل العدوان، وأظلم الظلم الشرك بالله، كما قال لقمان لابنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

منع المشركون رسول الله وأصحابه عام الحديبية، سنة ست من الهجرة، في ذي القعدة، من دخول مكة، وصدوه عن البيت، فقاضاه الله، وأقصه منهم سنة سبع من الهجرة، في شهر ذي القعدة، فدخل مكة، وقضى عمرته، فأنزل الله - عز وجل - قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ[13].

قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ «ال» في «الشهر» للجنس؛ لأن الشهر الحرام ليس شهرًا واحدًا وإنما هي أربعة أشهر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [التوبة: 36]، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[14].

وسميت هذه الأشهر بالأشهر الحرم؛ لأن الله حرم فيها القتال، والاعتداء والظلم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].

﴿ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ الباء: للتعويض، كما يقال: صاعًا بصاع، أي: أنه لما منعكم المشركون من دخول مكة في الشهر الحرام «ذي القعدة» سنة ست من الهجرة، قاضاكم الله بالدخول من قابل، سنة سبع من الهجرة في «ذي القعدة» أي: هذا بهذا.

وفي هذا تطييب لقلوب الصحابة رضي الله عنهم بتمام نسكهم.

ويحتمل أن المعنى: إذا قاتلكم الكفار في الشهر الحرام، فقاتلوهم فيه، أو إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه، وهم المعتدون، فلا حرج عليكم في قتالهم فيه.

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، أو يغزو فإذا حضر أقام حتى ينسلخ»[15].

﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ معطوف على ما قبله، من عطف العام على الخاص.

والحرمات: جمع حرمة، وهي كل ما يجب احترامه، من زمان أو مكان أو أشخاص أو منافع أو أعيان، ومنها حرمة الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، وحرمة المسلم والذمي، والمعاهد والمستأمن.

والمعنى: أن هذه الحرمات إذا انتهك شيء منها أو اعتدي عليه يقتص من المعتدي بمثله، فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل في الشهر الحرام، ومن اعتدى في الحرم اقتص منه في الحرم، ومن اعتدى على مسلم أو ذمي ونحوه في بدنه أو عرضه أو ماله اقتص منه، وهكذا.

ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أن عثمان رضي الله عنه قد قتل- وكان بعثه برسالة إلى قريش ليبلغهم أنه صلى الله عليه وسلم ما جاء لقتال- بايع أصحابه تحت الشجرة وكانوا ألفًا وأربعمائة على قتال المشركين، وعدم الفرار، فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك، وتم الصلح بينه وبينهم.

﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾: الفاء عاطفة، تفيد التفريع، و«من» شرطية، والفاء في قوله: ﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴾ رابطة لجواب الشرط، لأنه جملة طلبية، وهذه الآية توكيد وتقوية لقوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ والاعتداء مجاوزة الحد، أي: فمن اعتدى عليكم من الكفار بقتال، أو قتل، أو انتهاك عرض، أو سلب مال، أو غير ذلك.

﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ الباء للمقابلة، والبدل، و«ما» مصدرية أو موصولة، أي: فخذوا حقكم منه بمثل اعتدائه عليكم، أو بمثل الذي اعتدى عليكم به، في هيئته وفي كيفيته، وفي زمانه، وفي مكانه، وغير ذلك، سواء بقتال أو قتل، أو غير ذلك، في الشهر الحرام، أو البلد الحرام، أو حال الإحرام، أو غير ذلك.

وسمى أخذهم بحقهم اعتداء؛ لأن سببه الاعتداء عليهم، وأيضًا من باب المجانسة والمشاكلة اللفظية، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

والأمر في قوله تعالى: ﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ للإباحة، بدليل قوله تعالى في آخر آية سورة النحل المذكورة: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾، وقوله تعالى في آخر آية سورة الشورى المذكورة: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، إلى غير ذلك.

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك عدم القتال في الشهر الحرام، والبلد الحرام، ما لم يعتد عليكم فيهما، وعدم تجاوز الحد في القصاص ممن اعتدى، وعدم الاعتداء على من لم يعتد.

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ الأمر للوجوب، أي: يجب أن تعلموا علم يقين أن الله عز وجل مع المتقين خاصة بنصره وعونه، وتأييده وتوفيقه؛ ليحملكم ذلك على تقوى الله عز وجل كما أنه عز وجل مع المتقين، ومع جميع خلقه بإحاطته بهم، علمًا وسمعًا وبصرًا وقدرة، وغير ذلك من معاني ربوبيته- عز وجل- العامة لجميع خلقه.

قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾.

سبب النزول:
عن أسلم أبي عمران قال: «حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهما، فنزل فينا: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد»[16].

قوله: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الإنفاق: إخراج المال وبذله، والأمر للوجوب.

﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: في الجهاد لإعلاء كلمة الله- عز وجل- وذلك بتجهيز الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وهذا من الجهاد بالمال الذي قد يكون أهم وأوجب من الجهاد بالنفس؛ ولهذا يقدم في الذكر في القرآن- غالبًا- على الجهاد بالنفس، وجعله الله أحد مصارف الزكاة الثمانية.


وفي الحديث: «من جهز غازيًا فقد غزا»[17]. ولما جهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارًا»[18].

كما يشمل الأمر بالإنفاق في سبيل الله جميع وجوه البر الواجبة من إخراج الزكاة والنفقات الواجبة والكفارات والصدقات والنفقات المستحبة في وجوه الخير كلها، فكل ذلك في سبيل الله عز وجل.

﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية. أي: ولا تلقوا بأنفسكم وتفضوا بها إلى الهلكة، أو إلى الهلاك، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة معناه: الإلقاء بالنفس، وإنما يعبر بالأيدي وباليدين وباليد ونحو ذلك عن النفس، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [الأنفال: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [النبأ: 40].

كما يعبر بالوجه عن الذات كلها، كما قال عز وجل: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 27].

ولا يقال في مثل هذه الإطلاقات: إنها من المجاز، بل هي من الحقيقة، والسياق يدل على هذا.

والتعبير بالإلقاء فيه إشارة إلى إذلال من سلك هذا المسلك لنفسه، وهوانها عليه، فألقاها من غير اعتبار لها ولا مبالاة بها، وإذا هانت على المرء نفسه فمن ذا الذي يكرمها ويعزها، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها»[19].

وقد أحسن القائل:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هوانًا بها كانت على الناس أهونا[20]



وقال الآخر:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام[21]




والتهلكة والهلكة والهلاك نوعان: هلاك حسي بالموت، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34].

وهلاك معنوي: بالكفر والمعاصي، وترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله والعمل للآخرة، والتعرض لعذاب الله، والحرمان من ثوابه. وهذا أشد وأعظم.

وهذا هو المراد بالتهلكة في الآية، كما قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في سبب نزول الآية: «فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد».

وكما قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب»[22].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.73 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.14%)]