عرض مشاركة واحدة
  #242  
قديم 04-03-2022, 03:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,424
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (240)

سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 305 إلى صـ 310


وبين في آيات كثيرة : أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم ، كقوله : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 8 \ 32 ] ، وقولـه : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، وأصل القط : كتاب الملك الذي فيه الجائزة ، وصار يطلق على النصيب : فمعنى عجل لنا قطنا أي : نصيبنا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك ، كالنصيب الذي يقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة ، ومنه قول الأعشى :


ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وقوله " يأفق " أي : يفضل بعضا على بعض في العطاء ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والقول الأول أظهر عندي ; لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة [ ص: 305 ] الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر ، والله تعالى أعلم ، وقد ذكرنا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله تعالى هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] ، وبين قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، بما حاصله باختصار : أن المانع المذكور في سورة " الإسراء " مانع عادي يجوز تخلفه ; لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب ، فالحصر في قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، حصر في المانع العادي ، وأما الحصر في قوله هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 \ 55 ] ، فهو حصر في المانع الحقيقي ; لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم ، وحكمه عليهم بذلك ، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : أو يأتيهم العذاب قبلا ، قرأه الكوفيون : وهم عاصم وحمزة والكسائي " قبلا " بضم القاف والباء ، وقرأه الأربعة الباقون من السبعة : وهم نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر " قبلا " بكسر القاف وفتح الباء ، أما على قراءة الكوفيين فقوله " قبلا " بضمتين جمع قبيل ، والفعيل إذا كان اسما يجمع على فعل كسرير وسرر ، وطريق وطرق ، وحصير وحصر ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :


وفعل لاسم رباعي بمد قد زيد قبل لام إعلالا فقد
ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف . ، إلخ .

وعلى هذا ، فمعنى الآية أو يأتيهم العذاب قبلا أي : أنواعا مختلفة ، يتلو بعضها بعضا ، وعلى قراءة من قرءوا " قبلا " كعنب ، فمعناه عيانا ، أي : أو يأتيهم العذاب عيانا ، وقال مجاهد رحمه الله " قبلا " أي : فجأة ، والتحقيق : أن معناها عيانا ، وأصله من المقابلة ; لأن المتقابلين يعاين كل واحد منهما الآخر ، وذكر أبو عبيد : أن معنى القراءتين واحد ، وأن معناهما عيانا ، وأصله من المقابلة ، وانتصاب " قبلا " على الحال على كلتا القراءتين ، وهو على القولين المذكورين في معنى " قبلا " إن قدرنا أنه بمعنى عيانا ، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مرارا ، وعلى أنه جمع قبيل : فهو اسم جامد [ ص: 306 ] مؤول بمشتق ; لأنه في تأويل : أو يأتيهم العذاب في حال كونه أنواعا وضروبا مختلفة ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : أن يؤمنوا في محل نصب ; لأنه مفعول " منع " الثاني ، والمنسبك في " أن " وصلتها في قوله : إلا أن تأتيهم سنة الأولين في محل رفع ; لأنه فاعل " منع " لأن الاستثناء مفرغ ، وما قبل " إلا " عامل فيما بعدها ، فصار التقدير : منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين ، على حد قوله في الخلاصة :


وإن يفرغ سابق إلا لما بعد يكن كما لو إلا عدما
والاستغفار في قوله : ويستغفروا ربهم هو طلب المغفرة منه جل وعلا لجميع الذنوب السالفة بالإنابة إليه ، والندم على ما فات ، والعزم المصمم على عدم العود إلى الذنب .
قوله تعالى : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما يرسل الرسل إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم بالنار ، وكرر هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 6 \ 48 ] ، وقد أوضحنا معنى البشارة والإنذار في أول هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله تعالى : لينذر بأسا شديدا من لدنه الآية [ 18 \ 2 ] ، وانتصاب قوله " مبشرين " على الحال ، أي : ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين .

قوله تعالى : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يجادلون بالباطل ، أي : يخاصمون الرسل بالباطل ، كقولهم في الرسول : ساحر ، شاعر ، كاهن ، وكقولهم في القرآن : أساطير الأولين ، سحر ، شعر ، كهانة ، وكسؤالهم عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، وسؤالهم عن الروح عنادا وتعنتا ، ليبطلوا الحق بجدالهم وخصامهم بالباطل ، فالجدال : المخاصمة ، ومفعول " يجادل " محذوف دل ما قبله عليه ; لأن قوله : وما نرسل المرسلين يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفا ، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز ، وواقع كثيرا في القرآن وفي كلام العرب : كما عقده في الخلاصة بقوله :


وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر
[ ص: 307 ] والباطل : ضد الحق وكل شيء زائل مضمحل تسميه العرب : باطلا ، ومنه قول لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
ويجمع الباطل كثيرا على أباطيل على غير القياس ، فيدخل في قول ابن مالك في الخلاصة :


وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكما رسما
ومنه قول كعب بن زهير :


كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيده إلا الأباطيل
ويجمع أيضا على البواطل قياسا ، والحق : ضد الباطل ، وكل شيء ثابت غير زائل ولا مضمحل تسميه العرب حقا ، وقوله تعالى : ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] ، أي : ليبطلوه ويزيلوه به وأصله من إدحاض القدم ، وهو إزلاقها وإزالتها عن موضعها ، تقول العرب ، دحضت رجله : إذا زلقت ، وأدحضها الله أزلقها ، ودحضت حجته إذا بطلت ، وأدحضها الله أبطلها ، والمكان الدحض : هو الذي تزل فيه الأقدام ؟ ومنه قول طرفة :


أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
وهذا الذي ذكره هنا من مجادلة الكفار للمرسل بالباطل أوضحه في مواضع أخر : كقوله : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم [ 42 \ 16 ] ، وقولـه جل وعلا : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 32 ] ، وقولـه تعالى : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 61 \ 8 ] ، وإرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم ، إنما هي بخصامهم وجدالهم بالباطل .

وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ما أراده الكفار من إدحاض الحق بالباطل لا يكون ، وأنهم لا يصلون إلى ما أرادوا ، بل الذي سيكون هو عكس ما أرادوه فيحق [ الحق ] ويبطل الباطل ، كما قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ 61 \ 9 ] ، وكقوله : ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 33 ] ، وقولـه : والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 32 ] ، [ ص: 308 ] وقولـه تعالى : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [ 21 \ 18 ] ، وقولـه تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] ، وقولـه تعالى : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [ 13 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحق سيظهر ويعلو ، وأن الباطل سيضمحل ويزهق ويذهب جفاء ، وذلك هو نقيض ما كان يريده الكفار من إبطال الحق وإدحاضه بالباطل عن طريق الخصام والجدال .

قوله تعالى : واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار اتخذوا آياته التي أنزلها على رسوله ، وإنذاره لهم هزؤا ، أي : سخرية واستخفافا ، والمصدر بمعنى اسم المفعول ، أي : اتخذوها مهزوءا بها مستخفا بها : كقوله : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 \ 30 ] .

وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا [ 45 \ 9 ] ، وكقوله تعالى : ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون [ 36 \ 30 ] ، وقولـه تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] ، وقولـه تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم الآية [ 9 \ 65 - 66 ] إلى غير ذلك من الآيات ، و " ما " في قوله " ما أنذروا " مصدرية ، كما قررنا ، وعليه فلا ضمير محذوف ، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ، تقديره : " وما أنذروا به هزوا " ، وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرها في الخلاصة بقوله :


كذلك الذي جر بما الموصول جر كمر بالذي مررت فهو بر
وفي قوله " هزوا " ثلاث قراءات سبعية قرأه حمزة بإسكان الزاي في الوصل ، وبقية السبعة بضم الزاي وتحقيق الهمزة ، إلا حفصا عن عاصم فإنه يبدل الهمزة واوا ، وذلك مروي عن حمزة في الوقف .
قوله تعالى ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ، ذكر جل [ ص: 309 ] وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد أظلم ، أي : أكثر ظلما لنفسه ممن ذكر ، أي : وعظ بآيات ربه ، وهي هذا القرآن العظيم فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، أي : تولى وصد عنها .

وإنما قلنا : إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله : أن يفقهوه ، أي : القرآن المعبر عنه بالآيات ، ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره ، ويكون الضمير في قوله : أن يفقهوه أي : ما ذكر من الآيات ، كقول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] ، أي : ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر ، ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعرى :


إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل أي
: كلا ذلك المذكور من خير وشر ، وقد قدمنا إيضاح هذا ، وقوله : ونسي ما قدمت يداه [ 18 \ 57 ] ، أي : من المعاصي والكفر ، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه ، كما قال تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد [ 58 \ 6 ] ، وقال تعالى : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ، وقال تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقال بعض العلماء في قوله : ونسي ما قدمت يداه أي : تركه عمدا ولم يتب منه ، وبه صدر القرطبي رحمه الله تعالى ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم ، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة من الإعراض عن التذكرة ، فمن نتائجه السيئة : ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلما ، ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق ، وعدم الاهتداء أبدا كما قال هنا مبينا بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] ، ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة ، كما قال تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون [ 32 \ 22 ] ، ومنها [ ص: 310 ] كون المعرض كالحمار ، كما قال تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة الآية [ 74 \ 49 - 50 ] ، ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، كما قال تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود الآية [ 41 \ 13 ] ، ومنها المعيشة الضنك والعمى ، كما قال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 124 ] ، ومنها سلكه العذاب الصعد ، كما قال تعالى : ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ 72 \ 17 ] ، ومنها تقييض القرناء من الشياطين ، كما قال تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا ، وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره ، القاصر نظره على الحياة الدنيا ، وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم ، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده ، وذلك في قوله تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم [ 53 \ 29 - 30 ] ، وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافل عنه في قوله : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ 18 \ 28 ] ، كما تقدم إيضاحه .

وقولـه في هذه الآية : ما قدمت يداه أي : ما قدم من أعمال الكفر ، ونسبة التقديم إلى خصوص اليد ; لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء ، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم ، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب ، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزاول باليد كالزنا ، وقد بينا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه الآية [ 18 \ 57 ] ، وقولـه : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان : أحدهما أن كل من قال الله فيه : ومن أظلم ممن فعل كذا ، لا أحد أظلم من واحد منهم ، وإذا فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضا ، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه ، والثاني أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله ، وعليه فالمعنى في قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه [ ص: 311 ] فأعرض عنها ، وفي قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وهكذا الأول أولى ; لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه ، وممن اختاره أبو حيان في البحر .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.82 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]