عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 09-12-2022, 03:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (8)



عبد العظيم محمود الديب







2 - عدم التفرقة بين الأبناء بعضهم وبعض:
اجتمع عند النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذرِّيَّتِه الأخوات الأربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وأما القاسم وعبد الله فقد ماتا صغيرين قبل البعثة أو بعدها بقليل.
يشهد لذلك سورة الكوثر: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ١ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ٣﴾[الكوثر: 1-3]. فقد كانوا يُعيِّرونه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أبتر؛ لا ولد له وسورة الكوثر من أوائل ما نزل من القرآن في أول البعثة.
والأخبار التي حفظت لنا معاملة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لبناته لم تفصِّل كثيراً شأن هذه المعاملة وكيف كانت، وكن متزوجات، فلم يرد لنا من مواقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينهن شيء نرجع إليه في ذلك (فيما نعلم) ولكن ما علَّمه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته في حديث النعمان بن بشير «لا أشهد على جَور» يؤكد لنا أنَّه يرى أنَّ الأبوة السليمة والفطرة المستقيمة هي التي لا تفرِّق بين الأبناء.
3 - أبوة حانية مُشفقة:
وأحسب أنَّ ما ضربه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجلُّ من المثل عن الوصف، ويسمو فوق كل تعليق أو بيان. وأنَّ ما ورد في هذا المجال من أخبار - لا شك - مجرد نماذج وأفراد وقائع رآها الرواة فسجَّلوها ورَوَوْهَا، وإلا فكم من وقائع، لم يشاهدها شاهد، ولم يرها راءٍ، بل كم من وقائع شاهدها المشاهدون ورآها الراؤون. ولم ينقلوها أو لم يدوِّنُوها.
وإنا لنعجب أشدَّ العجب حين نرى أبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لا تحجبها ولا تشغلها، ولا تسترها، ما كان في حياة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من نضال وجهاد، غزوات نحو الثلاثين، وسرايا، ووفود، ورسل وتعليم، وتبليغ، ووسط كل هذا تعلن الأبوَّة الأصيلة عن نفسها، وتجد لها مكانا بارزاً في حياته وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم.
إنَّ أي رجل الآن يلي منصباً ذا مسؤولية في دائرة من الدوائر نجده مهموماً مكروباً مشغولاً ليل نهار. ينسى ولده وأهله، وربما ينسى نفسه.
أما الأبوة عند محمد الإنسان صلى الله عليه وآله وسلم، فتجد لها مكاناً في خضم هذه الحياة الحافلة بصنوف الشدائد والأهوال. إنها الأبوَّة الكاملة، إنَّها أبوَّة قادرة على أن تعبِّر عن نفسها وتعلن وجودها. بل لعلها أيضاً كانت معركة من ضمن معارك النبوة.
يأتي الوفد من حيث أتى وفيهم سيدهم المطاع (الأقرع بن حابس التيمي) فلا يمنعه صلى الله عليه وآله وسلم ما هو فيه من شغل باستقبال هذا الوفد، من أن يعبِّر عن أبوَّتِه، فيداعب الحسن ويقبِّله، فيعجبُ الرجل، ويقول مُستغرباً: تُقبِّلون الصبيان؟ إنَّ لي عشرةً من الصبيان ما قبَّلت واحداً منهم.
وعلى الفور يجيئه الرد قاسياً بمقدار ما في قلبه من قسوة، عنيفاً بمقدار ما ينطوي عليه سلوكه تجاه أبنائه من عنف.
يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أوَ أملكُ لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (رواه البخاري) لم يقلْ له صلى الله عليه وآله وسلم قولاً لينا من مثل: لا شيء في تقبيل الأبناء أو أن تقبيلهم من المكرمات، أو أن تقبيلهم من الرحمة والرقة، وإنما جابهه مُباشرة بالسبب والسرِّ الذي جعله يسلك هذا السلوك، وهو أنَّه محروم، حرم الرحمة، ونزعها الله من قلبه والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هنا لا يعنف الأقرع مؤنباً له على شيء لم يرتكبه، وهو أنَّ الرحمة نزعت من قلبه. ذلك أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم على يقين من أن مقتضى الأبوة المستقيمة والفطرة السليمة، أما هؤلاء فقد كانوا يرضون أنفسهم على خنق صوت الأبوة، وطمر ينابيع الرحمة والشفقة، ووأد العاطفة إيثاراً للجفاء والغلظة، حتى يكون أبناؤهم جفاة غلاظاً يدَّخرونهم للصراع القبلي الضيِّق العطن، فكأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم رأى أنَّ نزع الله الرحمة من قلبه إنما بعملهم وسعيهم وإرادتهم.
وحين يعجب مُتعجِّب من المصطفى قائلاً له: تقبِّلون الصبيان؟ فيقول له صلى الله عليه وآله وسلم «من لا يَرْحم لا يُرْحَم» (رواه البخاري).
وكدأبه دائماً يُعلم أمته، ويدعوها إلى الهدى والرشد، فيجعل بر الأبناء والشفقة بهم عبادة يثاب عليها الآباء فعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «إذا نظر الوالد إلى ولده نظرة، كان للوالد عدل عتق نسمة» (رواه الطبراني في الكبير وهو حديث حسن).
وأخبار أبوته الحانية، ورقته ورحمته بالأولاد لا يتسع المقام هنا للإحاطة بها أو إحصائها، ولكنَّا نكتفي بإيراد أمثلة وشواهد لها:
فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». قَالَ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «عَثَرَ أُسَامَةُ بِعَتَبَةِ الْبَابِ ، فَشُجَّ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَمِيطِي عَنْهُ الْأَذَى) فَتَقَذَّرْتُهُ، فَجَعَلَ يَمُصُّ عَنْهُ الدَّمَ وَيَمُجُّهُ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ» (رواه ابن ماجة).
فهنا نرى حُبَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وإشفاقه، وتدليله لأسامة حتى يتمنَّى أن لو كان بنتاً فيزيِّنُه، ويجمِّلُه بالملابس والحلي، حتى يروجها للخُطَّاب.
وفي قوله هذا من العتاب لعائشة رضي الله عنها ما فيه، فحيث (تَقَذَّرَتُه) هي، وضع فمه ومصَّه، ثم حيث أنفت هي واشمأزَّت رآه جميلاً حتى أنَّه لو كان بنتاً لكان جديراً بالحلي والزينة.
ويبدو أنَّ عائشة رضي الله عنها وعت الدرس جيداً، فقد غيَّرت موقفها في المرَّة الثانية، حيث روت رضي الله. عنها: «أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينحي مخاط أسامة، قالت عائشة رضي الله عنها: دعني حتى أنا أفعله. قال: يا عائشة أحبيه، فإني أحبه» رواه الترمذي.
فهنا لم يطلب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من عائشة رضي الله عنها، بل هي التي طلبت أن تُنحي مخاط أسامة، مع أنَّها في المرة الأولى طلب منها النبيّ، ولكنها (تقَذَّرَتُه) ونستطيع أن نلمح في هذا الحديث أنَّها استحت من رفض طلب النبيّ في المرة الأولى، وأرادت أن تجامله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرة، وطلبت هي من النبيّ أن يدعها تقوم بإزالة مخاط أسامة.
ويلفت النظر أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يعرض عن طلبها، ولا يلتفت إلى إجابتها، لا بقبول ولا رفض، ولكن يوجهها إلى ناحية أخرى، إلى أساس الأمر وعموده: «أحبيه يا عائشة، فإني أحبه» فكأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أدرك أنَّها لا تقوم بهذا العمل عن رغبة فيه ورضا به، وقبول له، وإنما إرضاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، ولعله أشفق عليها أن تكلِّف نفسها ما لا تطيق، ولذا وجَّهها إلى ما يرجوه فعلاً منها (أحبيه)، فإذا أحبَّته سهل حينئذ أن تؤدي له كل ما يرجى من إماطة الأذى أو إزالة مخاط.
والأخبار عن حمل الحسن والحسين، وعن نزوله عن المنبر من أجل أحدهما، وإطالة السجود لركوب الحسن ظهره، والتردُّد على بيت فاطمة لتعهدها والاستمتاع بمرآها وشمِّها، وكذا ما كان منه تجاه ابنه إبراهيم، من فرح ميلاده وحب له في حياته، وحزن عليه عند مماته - الأخبار في هذه المجالات ونحوها لا يتسع لها الوقت ولا المجال ولذا نكتفي بالإشارة إليها.
خاتمة
وبعد:
ما زال أمام البحث أشواط طوال حتى يبلغ غايته، ولكنا نمسك الآن التزاماً بالعدد المتاح لنا من الصفحات. وانتظاراً لفرصة تسنح، نتم فيها ما بدأنا بفضل الله وعونه.
وإذا كان لنا من كلمة نتوجَّه بها إلى علماء المسلمين من خلال المؤتمر الموقَّر، فهي قولنا: أنَّ سيرة نبيّنا لم تُدرس بعد، وأن كل ما كتب فيها - لا يعدو أن يكون قطرة من بحر. وأنَّ المسلمين في حاجة إلى الاستضاءة بنور هذه السيرة العطرة فهي النموذج الحي، والمثال العملي لتطبيق رسالة السماء الذي جعل المثل صوراً حية، وواقعاً متحركاً، يُنير السبيل أمام العاملين ويشهد على المتراخين والمتشككين، الذين يدَّعون صعوبة تنفيذ الشريعة، والعمل بها، ويرونها مثلاً زاهية، ونظماً رائعة، ولكنها أكبر وأعظم من أن تُطبَّق على وجه الأرض. إنَّ سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ترد على هؤلاء، بما تحقق من تطبيق وتنفيذ لشريعة الله.
وإننا ندعو المؤتمر الموقَّر أن يضع خُطَّة لدراسة السيرة النبويَّة الشريفة، وذلك بتقسيمها إلى جوانب أو موضوعات جُزئية يختصُّ كلُّ منها بجزئية، أو مساحة صغيرة من السيرة يدرسها بعمق، واستقصاء، ويستخرج العبرةَ والعظة منه، وحبَّذا لو وضعت مُواصفات، وشروط واضحة مُفصَّلة يهتدي بها الدارسون في كل موضوع. على أن يعلن ذلك على العالم الإسلامي بكل وسائل الإعلان - ويدعى إلى الدراسة والكتابة بصفة عامَّة، لكل من شاء أو أنس من نفسه القدرة، ويكون لهذا المؤتمر أمانة دائمة، توجِّه النصح والإرشاد بواسطة عدد من الخبراء في هذا المجال.
أما بالنسبة للسنة النبويّة المطهرة، فكم أتمنى أن يقوم مركز دراسات السنة في أي دولة إسلامية، وليكن في جامعة قطر الفتية على أن يستفيد من وسائل (الحاسب الآلي) على نحو ما اقترحته في المشروع المقدم للمؤتمر الكريم، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.61 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]