عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-08-2022, 06:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي القفلة في القصة القصيرة جدا

القفلة في القصة القصيرة جدا


د. جميل حمداوي




(مجموعة (نجي ليلتي) لميمون حرش نموذجا)





توطئة:
تتأسس القصة القصيرة جدا - معماريا- على البداية والعقدة والجسد والنهاية. بيد أن أهم عنصر في هذا الفن الأدبي الجديد هو النهاية أو القفلة التي تربك المتلقي بإيجازها وإضمارها وتكثيفها، وتخيب أفق انتظاره بجملها الصادمة، وتشتبك معه بعباراتها المستفزة. ولا تقتصر الخاتمة أو القفلة على العبارة أو الجملة الأخيرة من القصة، بل قد تكون عبارة عن نقط حذف أو علامة ترقيم أو مقطع أو فقرة أو متوالية أو مجموعة من الجمل المتراكبة أو المستقلة.


ومن ثم، تترادف القفلة مع النهاية أو الخاتمة أو الخرجة. لذا، تسمى النهاية بالقفلة عند أحمد جاسم الحسين[1]؛ لأن القفلة - في اللغة- تعني الغلق الأخير، أو سد الباب، أو ختم الكلام، أوالرجوع بالكلام على الصدر أو أول الكلام من النص. أما جمع قفلة، فهو أقفال وقفول وأقفل.


إذاً، ماهي أنواع القفلة في القصة القصيرة جدا بنية ودلالة ومقصدية من خلال مجموعة (نجي ليلتي) للمبدع المغربي ميمون حرش[2]؟

دراسات حول القفلة:
قليلة هي الدراسات النقدية التي اهتمت بالقفلة أو النهاية في الكتابات الإبداعية الشعرية والدرامية والسردية والفنية؛ نظرا لما تطرحه القفلة من مشاكل عويصة نظريا وتطبيقيا. ولقد همشت القفلة في الدرس الأدبي والنقدي والبلاغي منذ اليونان إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من هذا الإهمال الطويل، فثمة استثناءات كما هو الحال في كتاب (فن الشعر) لأرسطو الذي قابل بين البداية والنهاية، فاعتبر " النهاية على النقيض من ذلك، فهي التي تعقب بذاتها- وبالضرورة- شيئا آخر، إما بالحتمية، وإما بالاحتمال، ولكن لاشيء آخر يعقبها.[3]"


ولا ننسى ما قام به كتاب الثقافة العربية القديمة الذين اهتموا بالخطابة من جهة أولى، وصناعة الكتابة من جهة ثانية، وتجويد القفلة والخاتمة من جهة ثالثة، فقد أوردوا فصولا في هذا المجال بنوع من الإيجاز تارة، وبنوع من التفصيل تارة أخرى..


وإذا كان الدارسون والباحثون العرب قد اهتموا بهذه العناصر البنائية في القصيدة الشعرية القديمة والحديثة والمعاصرة، فإنهم أهملوا بشكل كبير دراستها في السينما والمسرح والسرديات سيما في الرواية، والحكاية الشعبية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا.


ومن الدراسات الحديثة التي أولت أهمية للخاتمة أو النهاية أو القفلة نستعرض خصوصا كتابين قيمين هما: (بداية النص الروائي) [4] لأحمد العدواني، وكتاب(البداية والنهاية في الرواية العربية) لعبد الملك أشهبون[5].


أما عن الدارسين الذين اهتموا بالنهاية أو القفلة في القصة القصيرة جدا، فنذكر كلا من: أحمد جاسم الحسين في كتابه (القصة القصيرة جدا)[6]، ويوسف الحطيني في كتابه (القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق)[7]، وجاسم خلف إلياس في كتابه (شعرية القصة القصيرة جدا)[8]، وجميل حمداوي في كتابيه: (من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا- المقاربة الميكروسردية)[9]، و(مقومات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري (مقاربة ميكروسردية)[10]...

أنواع القفلة في القصة القصيرة جدا:
وظف ميمون حرش في مجموعته القصصية القصيرة جدا (نجي ليلتي) أنواعا مختلفة من القفلة، ويمكن حصرها في الأنواع التالية:
القفلة السردية:
من الطبيعي أن تكون نهاية القصة القصيرة جدا نهاية سردية، مادامت بدايتها سردية. والأصل في القصص - كما هو معلوم- أن تكون محكية ومسرودة. ومن الأمثلة على النهاية السردية قصة (الفيلم):
" استهوتنا رقصة "زوربا" في الفيلم
رقصنا مثله وجها لوجه
وظهرا لظهر...
انتهى المشهد.تعبت ونمت..
وظلت هي ترقص على روحي بقية الفيلم.."[11].
وهكذا، تنتهي هذه القصة القصيرة جدا بنهاية سردية تجمل الحكاية القصصية ختما وإنهاء، وتعلن المنجز الأخير من الحبكة السردية التي تترابط فنيا وجماليا مع بداية القصة.

القفلة الفضائية:
نعني بالقفلة الفضائية تلك النهاية المتعلقة بالزمان والمكان.أي: تلك الخاتمة التي تؤثث الحبكة السردية سياقا وحدثا كما في قصة (الحوت).
" سألتني:
هل قرأت موبي ديك؟
لم أجب..
لكني نظرت إلى الحيتان من حولنا..
ومن حولنا كان بحر. وكان الناس يغرقون.[12]"


تنبني الخاتمة في هذه القصة على فضاء البحر بعوالمه الكابوسية المخيفة، باعتباره إطارا مكانيا يتحكم في الحبكة السردية احتواء وسياقا وجهة. وبهذا، يكون ميمون حرش قد استرجع ذاكرته السردية التي تتلاقح مع كتابات حنامينه وهامينغواي وعبد الحكيم معيوة وغيرهم من كتاب الرواية الذين تناولوا البحر تخييلا وتحبيكا وتخطيبا.


ومن جهة أخرى، تنبني القفلة الفضائية على توظيف الزمان لتأطير الحدث كما في قصة (حيرة):
" نظر إلى حقيبة السفر فحار بين عقلين، الأول يقترح عليه العودة، والثاني يجمل له تأجيلها إلى أجل غير مسمى...


نظر في المرآة، ألفى نفسه يحمل رأساً واحدة، لكن بعقلين، حمد الله لأن غيره يعدمهما معاً، ومع ذلك استسلم لعقل ثالث أصدر حكماً كحد السيف، فحسم أمره وقرر السفر في الغد..


بالليل عكر صفوَه حلم مزعج فغير رأيه وآثر البقاء كرْمى عقلِه الرابع.[13]"


ترتكز هذه القفلة على البعد الزمني (الليل) لتسييج الحدث فضائيا، وتأثيثه بالتفاصيل السردية إيجازا وتبئيرا وتكثيفا.

القفلة الحوارية:
تستند القفلة الحوارية إلى توظيف صيغة الحوار المبني على فعل القول، بغية التعبير عن اختلاف وجهات النظر، أو استجلاء الفعل البوليفوني المتعدد، أو استكشاف الصراع الإيديولوجي، كما يظهر ذلك بينا في قصة (الوسادة الخالية):
" بلغا من الكبر عتياً ومع ذلك للشيخوخة نزوتها، ورحم الله موقظها.
تنظر إليه، وينظر إليها.. ثمنزوة تبغي كشف عورة.
قالت له:
"سيدي الحاج، غازلني وخذني إليك كما في فيلم "الوسادة الخالية".
قال:
"المشكل ليس في الوسادة فقط، فليست وحدها الخالية[14]."
تحمل هذه القفلة الحوارية في طياتها سخرية صامتة موحية، تفصح عن العجز الذاتي، وعقم المشاعر الإنسانية، خاصة إذا حلت الشيخوخة محل الشباب، وحاصرت نضارة الزمان.

القفلة المضمرة:
نعني بالقفلة المضمرة تلك النهاية القائمة على الحذف والإضمار، حيث يلتجئ إليها السارد من أجل استدراج المتلقي لممارسة لعبة التأويل، وملء الفراغ والبياض، كما يبدو ذلك جليا في قصة (راعيان) التي تمتلئ بعلامات الحذف.


" يلتقيان كل مساء، يتندران.
قطعانهما تتمايل لعزفهما، وتثغو لفرحهما..
وذات يوم ربيعي اختلطت فيه القطعان..
كبر الأول، وحولق الثاني.
قال الأول:
يا إلهي، كيف نحسبها..
رد الثاني:
المشكل هو كيف نتعرفها..
أثناء عملية العزل اختلفا، فتشاجرا، وتقاتلا..
والذئب، من بعيد، متربصا كان يرقب المشهد...
و..."[15].


وهكذا، يختم السارد قصته بنقط الحذف التي تحمل في طياتها إرسالية مضمرة، موجهة إلى القارئ بأن يستكمل خاتمة الحبكة السردية، وفق الخطاطة القصصية المقدمة في بداية القصة وعقدتها وجسدها. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى وعي الكاتب بجمالية التلقي، وتمكنه من اختبار آلياتها النظرية والتطبيقية.

القفلة الشاعرية:
نقصد بالقفلة الشاعرية تلك النهاية التي تكون ذات طابع شاعري قائم على الصور البلاغية والمجازية والاستعارية، وتكون فيها المشابهة حاضرة بشكل جلي، كما يبدو ذلك واضحا في قصة (الحصاد):
" شاباً ضربت في الأرض غورًا ونجدًا..
أبحث عن " نبتة الخلود"..
وكهلاً ساقتني الريح حيث حصدت بقايايَ
وكل الباحثين بعدي..
كل العاشقين الحيارى..
كل السكارى..
سيعرفون أن "الحب" هو الأيكة المفقودة.[16]".
تنتهي هذه القصة بتعبير بلاغي استعاري أكثر إيحاء وتضمينا، يتأسس على المشابهة دالا ودلالة ووظيفة.

القفلة المتطابقة:
يتشغل ميمون حرش النهاية المتطابقة القائمة على التضاد والطباق، كما في قصة (ليل) التي يتقابل فيه النهار والليل تعبيرا عن المأساة، ودلالة عن رؤية سوداوية متشائمة:
" في ليل مدلهم، تخرج تهيم..
في وضح النهار..لا أحد يكترث لها..
يمرون بها ولا يرونها..
هي الآن تجرب حظها مع الظلام لعل بدر ليلها يقمر
لكن صوتا هاتفا من السحر يناديها:
" ارجعي أدراجك سيدتي... الليل والنهار، في بلاد العرب، وجهان يبكيان.."[17].


وهكذا، تنتهي قفلة القصة باستعراض ثنائية ضدية قائمة على التقابل المأساوي بين الليل والنهار، وإن كان المشترك هو الحزن والمعاناة والبكاء الهستيري.

القفلة الفانطاستيكية:
تكثر الخاصية الفانطاستيكية في قصص ميمون حرش الدالة على سريالية العوالم السردية عند المبدع؛ وتتراوح هذه القصص بين التعجيب والتغريب. ولا تقتصر هذه الخاصية على الاستهلال والجسد القصصي فقط، بل تتعدى ذلك إلى القفلة والخاتمة، كما يبدو ذلك بينا في قصة (لعنات):
" الناس من حوله لا ملامح لهم، يمشون على رؤوسهم،أرجلهم ترسم علامة النصر مُرسلة للسماء..


على مقربة منه كلب يعوي بالمقلوب،وأمامه مباشرة أثر أقدام ممسوخة.. يبدو أنها سحقت طيراً..


يتطلع لنفسه، لم يعرف سر وجوده بينهم.. ولا من يكون؟..


الأشكال حوله لا شكل لها..


وحده الفضاء كغول يفتح ذراعْيه له ليس بالهبات..
لكن باللعنات..[18]".
تجسد هذه القفلة رؤية امتساخية سوداوية، تعبر عن انحطاط الإنسان كينونيا، وانبطاحه وجوديا وقيميا وفضائيا.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.19 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.04%)]