الموضوع: اللغة في الشعر
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 05-12-2022, 04:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اللغة في الشعر

اللغة في الشعر



د. إبراهيم عوض







وتهكمه بالأعراب في رائيته في ابن العميد، وأولها:
(بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا).

ولقد كفانا المتنبي المؤونة حين صرح في مصر قائلًا:
وكل امرئ يولي الجميل محببُ ♦♦♦ وكل مكان ينبت العز طيبُ

والبادية لم توله جميلًا ولا أنبتت له عزًّا، بل فقرًا وهوانًا، وفوق ذلك السجن لأول وآخر مرة في حياته، فكيف ننتظر منه أن يحبها أو يحب عيشها وأهلها؟ (وهذا لا ينافي أن حياة البادية وشظف عيشه بها قد طبعا بطابع الخشونة، كما أشرت في كتابي السابق عنه).

لم يكن المتنبي إذًا بدويَّ المنزع، بل هو رجل متحضر، وإن عاش في البادية سنتين في صباه، إنه متعلق بالمدينة والثقافة، ومخالطة العلماء، والشهرة والمال الكثير، ثم الولاية عندما كان في مصر.

إنما الأمر هو أن إقامته في البادية في فترة من عمره قد أمدَّته بفيض من غريب الكلام ووحشيِّه، فاستغلَّه في بعض الأحيان في الخروج على المألوف؛ لإدهاش مَن حوله من المستمعين والنقاد والأدباء، وتحييرهم وشغلهم بشعره، يقلِّبون فيه النظر والأذهان، وللمباهاة باتساع معرفته باللغة اتساعًا ليس متوفرًا إلا للقليلين من أمثاله، وفرق بين هذا وبين القول إنه كان بدويًّا، فإنه حتى من جهة العبارة كان يميل أحيانًا إلى التعقيد في تراكيبه والغموض في معانيه، وليس هذا صنيع البدوي البسيط العقلية، المباشر العبارة، الذي لا يعرف التعمق في المعنى والتفلسف فيه.

كذلك فنحن نعرف أنه كان يحب في بعض الأحيان أن يتبع مذهب الكوفيين في النحو، ومعلوم أن الكوفيين لم يكونوا يتشددون مثل البصريين، فيقتصروا على الأخذ عن الأعراب، بل كانوا يأخذون عن النازلين في الحضر أيضًا، كما كانوا يتوسَّعون في الشاذ ويقيسون عليه بما يخرج نحوهم في بعضه عن قواعد اللغة كما يعرفها الأعراب والعرب القدماء[24].

أما اتخاذ تغزله بالأعرابيات دليلًا على ميله للبداوة وحبه للأعراب، فيبدو لي أنه إبعاد في الاستنتاج، فإن هذا تقليد شِعري كان يأخذ به كثير من الشعراء الإسلاميين المتحضرين؛ جريًا على سنة الجاهليين في الوقوف على الأطلال وبكاء الدمن، ووصف العيش والظعائن، وما إلى ذلك[25].

وهل أدل على ذلك من أن اثنين في الذروة من التحضر والترف بين الشعراء؛ كالشريفين الرضي والمرتضى، قد اشتهرا بالتغزل في الأعرابيات، وأكثرا من ذكر نجد والخيام وما أشبه؟[26].

ولو كان الأمر أمر إقامة في البادية، لقد أقام البحتري في البادية زمنًا، وهاهم النقاد يضربون به المثل في السهولة والسلاسة، وإن رأينا أن شعره هو أيضًا لا يخلو من اللفظ الغريب الخشن، ثم إن شعر المتنبي عندما كان في البادية - بل وعندما كان لا يزال قريب عهد بها - هو من أقل شعره حظًّا من الحوشي الغريب.

وأول قصيدة ضمت عدة ألفاظ وحشية (أربعة ألفاظ على أقصى تقدير)، هي قصيدته (هذي برزت لنا فهجت رسيسًا)، وقد قالها بعد خروجه من السجن وتركه البادية بوقت طويل، وسوف نتناول هذه النقطة بالتفصيل بعد قليل، بل إن الغريب الخشن في ألفاظ المتنبي قليل بالقياس إلى شعره، وإن كان كثيرًا بإزاء بعض الشعراء الآخرين من معاصريه، ليس ذلك فحسب، فإنه كما استخدم الغريب الوحشي، قد استعمل أيضًا المولد، وانتقد عليه بعض نقاده ما عدُّوه لجوءًا منه إلى العامي من الألفاظ والعبارات[27].

وعلى أي حال فإن القاعدة في شعره هي اللفظ المعتاد والوضوح، ولكن كثرة الغريب النسبية في شِعره هي التي أوهمت امتلاءه به كما ردد بعض مَن كتبوا عنه.

ومع ذلك، فليست إقامته في البادية هي العامل الوحيد في هذه المسألة، بل هناك تلمذته على شعر أبي تمام في بداية حياته الشعرية قبل أن يستقل بفنه ومذهبه، والمعروف كما سبق القول أن أبا تمام كان من المُكثِرين من الغريب (إلى أن جانب تعقيده وغموضه مما يتشابه معه المتنبي فيه أيضًا)[28].

ويضاف إلى ذلك غرام المتنبي بالدراسات اللُّغوية وعكوفه على كتبها وتبحره فيها[29]، وكان وهو ينظم شعره يضع علماءها في حسابه.
وقد وصفه البغدادي بأنه (من حفَّاظ اللغة)[30].

وقال عنه ابن رشيق: إنه كان يلجأ إلى مثل هذه الألفاظ عامدًا؛ ليدل على علمه باللغة وبراعته فيها[31].
كما قال عنه العكبري: إنه كان يستخدم الألفاظ غير المألوفة ليلفت بها أنظار الفضلاء من العلماء والأدباء[32].

ثم علينا ألا نغفل دواوين الشعراء السابقين من جاهليين وأمويين وعباسيين، فإن لصوق الألفاظ بالذاكرة عن طريق النصوص - وبخاصة النصوص الشعرية - أسرع وأدوم، بل إنه يجعلها تقفز إلى سن قلم الشاعر أو طرف لسانه عندما ينظم، بغير استجلاب منه ولا استكراه؛ كما هو الحال لو أنه استمدها من المعاجم وكتب اللغة، فإنها في موقعها من الشعر تكتسي حياة بل وحيوية.

والسؤال الآن:
ما مدى انتشار الغريب في شعر المتنبي؟
وهل يستوي شعر الشاعر في مراحل حياته المختلفة في حظه منه؟

إن مؤرخي الأدب ونقَّاده مختلفون في هذا، فبعضهم يحصر الغريب في ثلاثة عشر موضعًا فقط، وبعضهم يقول: إن الغريب يكثر في شعر الشباب، وبعضهم يرى أن شعره في حلب هو أكثر شعره غريبًا، وبعض ثالث يؤكد أن الأراجيز هي التي تستحوذ على نصيب الأسد، وهلم جرًّا.

إن الدكتور النعمان القاضي يقول: إن ما أخذ على المتنبي من الغريب (لا يتجاوز ثلاثة عشر بيتًا، أحصاها الثعالبي تحت عنوان (استعمال الغريب الوحشي)، وليس فيها من الكافوريات سوى قوله:
أعزُّ مكان في الدنا ظهرُ سابحٍ ♦♦♦ وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ[33]

مما يفهم منه أن الغريب في ألفاظ المتنبي جد قليل، وهي ملاحظة غير دقيقة، فإن الثعالبي فيما أفهم لم يحاول أن يتقصى كل ما أخذ على الشاعر في هذا المجال، وإنما اكتفى بعدة أمثلة كما سبق أن قلت، وإلا ففي استطاعتي أن أذكر للقارئ أمثلة أخرى أكثر من ذلك؛ مثل: الخيزلي، والهيدبي، والمخشلب، والتامور، والكتد، والطرطبة، والغلبة، وتيبه (فعل مضارع، بمعنى تشعر)، وسنبة، والتوس، وغلت، والمبطوح، وسدك، والشاكد، وتسئد، ويستوبي، وهي مجرد عيِّنة التقطتها من الجزء الأول وحده من شرح العكبري (4 أجزاء).

لكن هل معنى هذا أن شعر المتنبي تغلب عليه مثل هذه الألفاظ الغريبة؟
ولا ذاك أيضًا، وقد سبق أن قلت: إن المتنبي إن كان يكثر في شعره الغريب بالنسبة إلى بعض الشعراء الآخرين، فإن هذا الغريب بالنسبة إلى شعره كله قليل، ومِن هنا فإننا لا نوافق الأستاذ عباس حسن الذي يرى أن شعره كله تقريبًا تعيبه خشونه اللفظ[34].

أما متى تكثر هذه الألفاظ الغريبة في شعر المتنبي، فقد رأى بعض النقاد - كاليازجي - أن ذلك كان في أوائل شعره، وإن استدرك فقال: (إنه لم يزل في ملكته شيء من ذلك القديم أشبه بعداد السليم ويعاوده؛ حيث يحتفل ويقصد الإغراب والمبالغة في الإحسان فيأتي كلامه معقدًا بادي التكلف)[35]، ثم أضاف إلى ذلك أراجيزه؛ لأنه كما قال كان يقصد بها محاكاة البدويات[36].

ومن الذين قالوا إن الإدلال بالغريب والميل إلى الإغراب من خصائص شعر الشباب عند المتنبي، المرحوم الدكتور عبدالوهاب عزام[37].

أما أنيس المقدسي، فإنه يرى أن شعره في طوره الأول (أي قبل اتصاله بسيف الدولة) يكثر فيه التعقيد اللفظي والمعنوي، وإن تكلف في حلب أيضًا استعمال الغريب أحيانًا[38]، بَيْدَ أن الدكتور شوقي ضيف لا يحدد زمنًا معينًا تبرز فيه السمة الأسلوبية في شعر الشاعر، وربما فهم من كلامه أن هذه السمة موجودة بوضوح في كل شعر المتنبي طوال حياته، ومع ذلك فقد رأى أن أراجيزه يكثر فيها الغريب كثرة مفرطة، وأنه لعله كان ينظمها محاكاة لرؤبة والعجاج وأبي النجم، حتى يثبت مهارته وتفوقه في اللغة، وأن قصيدته (ألا كل ماشية الخيزلي) قد حشدت فيها الألفاظ الغريبة حشدًا)[39].

وهناك عبارة للدكتور صلاح عبدالحافظ قد يفهم منها أنه يرى أن المتنبي كان يستعمل الغريب الوحشي في الموضوعات البدوية، وإن كان في كلامه تناقض كما سنبين بعد قليل، ونص العبارة - وقد قالها تعليقًا على استخدام المتنبي للفظتي (مطلخم) و(مثعنجر) في البيت التالي:
ملطخم الروقين مثعنجر الوَدْ ♦♦♦ قِ مسف الجهامِ داني الربابِ

هو: (فالبيت... يحوي لفظتين نافرتين بطبعهما، نابيتين عن السياق فيه، وليس هناك من داعٍ لذكرهما بهذه الصورة، ولا من حاجة إليهما سوى كلف المتنبي... ببدوية الألفاظ وغريبها، ثم إننا نلاحظ أيضًا أنهما في وصف الغيث، مثلما رأينا في وصف (الساحي)، فكأن المتنبي يعطي لكل وصف ما يلائمه من لفظ، فوصف الغيث والسحاب من بيئة البدو، ومن علامات الصحراء والبيادي (كذا)، فإذا هو تحدث عنها أتى بما يناسبها من ألفاظ؛ لأننا نجد هذه الألفاظ تقل أو تكاد تنعدم إذا كان يتحدث عن نفسه مثلًا أو عن تجرِبة معينة أو حكمة)[40].

ووجه التناقض هو أنه على حين يرى أن هاتين اللفظتين نابيتان عن السياق، ولا داعي لذكرهما على هذه الصورة، إذا به بعد نصف سطر يعود فيرى أنهما مناسبتان لموضوع الكلام، وهو وصف السحاب الذي يراه من علامات الصحراء، وكأن أحدًا لا يصف المطر والسحاب سوى أهل البادية، فاللفظتان في نظر الكاتب هما مرة نابيتان عن السياق، ومرة هما في موضعهما المناسب.

ونعود فنتناول آراء النقاد في الفترة أو القصائد التي يكثر فيها الغريب في شعر الشاعر.

فأما دعوى اليازجي أن ذلك يكثر في أوائل شعره، فيبدو لي أن قصائد الصبا تقول غير هذا، فعبثًا يفتش الإنسان في قصائد المتنبي ومقطوعاته في تلك الفترة؛ إذ لا يكاد يجد شيئًا[41]، وكل الذي يجده في الخمس عشرة قصيدة والخمس والعشرين مقطوعة الأولى التي تلي ذلك مباشرة سينيته في مدح محمد بن زريق الطرسوسي، لا يعدو تسعة ألفاظ غريبة، غريبة بالنسبة إلينا نحن، وربما لم تكن كلها غريبة في عصر المتنبي، وهذه الألفاظ هي:
قَرْدَد (بفتح القاء والدال الأولى وسكون الراء: الأرض المرتفعة، وقد وردت في ثاني قصيدة في ديوانه وهي من ألفاظ القافية).
تغشمرت: (تعسفت).
بُخْنُق (بضم الباء والنون وسكون الخاء: قطعة قماش تلف على رأس المولود وتشد تحت حنكه).
المخش (صيغة مبالغة: الجريء على الليل).
النَّدُس (بفتح النون وضم الدال: الذكي الفطن).
سَم (بفتح السين وعدم تشديد الميم: لغة في (اسم).
القِرضاب (بكسر القاف: القاطع، وقد عددتها من الغريب تجوزًا).
وإِسًى (بكسر الهمزة وفتح السين وتنوينها: الدواء).
الهواجل (جمع هوجل: الفلاة لا أعلام لها).

وقد وردت هذه الألفاظ التسعة في ثلاثمائة وستين بيتًا ونيِّف، وأظن أن هذه الأرقام ناطقة بنفسها، فهذا أول شعر المتنبي إلى ما بعد خروجه من السجن بوقت طويل، ثم تلي ذلك سينيته في مدح محمد بن زريق الطرسوسي[42]وأبياتها ثلاثون، وفيها أربعة ألفاظ، وهي أول قصيدة، كما سلف القول، فيها هذا العدد؛ وهذه الألفاظ هي:
الرسيس: (ابتداء الحب).
والنسيس: (بقية الروح).
والدِّعِّيس (بكسر الدال والعين مع تشديدها: الكثير الطعن).
والناووس: القبر.
وكلها من ألفاظ القافية.

ثم تلي هذه القصيدة عشر قصائد وأربع مقطوعات، مجموع أبياتها يتجاوز المائتين والخمسين بيتًا، وليس فيها على قدر ما لاحظت إلا:
مسيح: (عرق)، واللاذ: (ثوب من الكنان رقيق)، تنوفة: (مفازة، وقد تجوزت فيها)، والحزائق: (الجماعات)، والسَّمالق (بفتح السين: الأراضي البعيدة)، وثوب شُبارق (بضم الشين: ممزق)، والألفاظ الثلاثة الأخيرة من قصيدة واحدة، ومطلعها:
(هو البين حتى ما تأنى الحزائق)[43]، وكلها ألفاظ قوافٍ، وهي كما ترى نسبة جد ضئيلة، ثم تلي ذلك قصيدة من سبعة وثلاثين بيتًا[44] تضم هذه الألفاظ: المتديِّريها (بتشديد الياء الأولى وكسرها: المتخذيها دارًا)، والشَّموع (بفتح الشين: اللعوب الضحوك)، والقطيع: (الثوب يقطع من جلد البعير)، والخبعثنة: (اسم من أسماء الأسد)، ثم قصيدة من اثنين وأربعين بيتًا أولها:
أحق عافٍ بدمعك الهِمَمُ ♦♦♦ أحدثُ شيء عهدًا به القِدَمُ[45]

فيها ألفاظ:
الوَحاء (بفتح الواو: السرعة)، والعَفوني (بفتح العين والفاء والنون الممدودة، من صفات الأسد: الشديد)، وماوِيَّة (بكسر الواو وتشديد الياء وفتحها: المرآة)، والعهاد (جمع عهد: المطر بعد المطر).

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 12-12-2022 الساعة 04:14 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.63 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]