الموضوع: اللغة في الشعر
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-12-2022, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي اللغة في الشعر

اللغة في الشعر



د. إبراهيم عوض


اللغة في الشعر

لغة المتنبي.. خروج عن المألوف (الغريب)




كان المتنبي في مطلع حياته فقيرًا؛ إذ ولد في أسرة فقيرة، لقد انتهينا في دراستنا التي خصصناها لحياته وشخصيته إلى أن أباه كان سقَّاءً، على خلاف النظرية التي اخترعها الأستاذ محمود شاكر في العصر الحديث، وحاول أن يوهمنا - بغير أساس يستند إليه - أنه كان ابنًا لأحد أشراف العلويين، وهو ما فنَّدناه في كتابنا السالف ذكره[1].

ونحسب أنه كان من نتيجة الصراع بين تلك النشأة الفقيرة وهذا النسب الخامل (على ما تواضع عموم الناس على الخمول والنباهة في هذه المسائل، وإن كنا لا نشاركهم في هذا)، وبين الموهبة الشِّعرية والذكاء اللذين حبَا الله سبحانه المتنبي بهما، فضلًا عن الثقافة التي اهتم الشاعر اهتمامًا شديدًا بتحصيلها منذ صغره، تحصيلًا جعل بعض مترجميه يضربون بها الأمثال[2] - نحسب أنه كان من نتيجة الصراع بين هذين الجانبين في نفسه، ضمن أشياء أخرى أن تتبلور عنده الرغبة في الخروج على المألوف في شعره للفت أنظار الناس إليه، بل تعليق عيونهم به، وكأنه وقد فاته أن يلفت أنظارهم إليه بنسب ماجد أو مال وافر، أراد أن يشغلهم بشِعره ويحير ألبابهم ويجعلهم يرددون فيه النظر مرارًا مشدوهين أو مستغربين.

وقد اتخذ الشاعر عدة وسائل إلى ذلك؛ كاستخدام الغريب الخشن والإكثار منه في بعض قصائده، واستخدام الصيغ غير المألوفة، وتعويص العبارة، وبخاصة في مطلع القصيدة، واللجوء إلى المدرسة الكوفية المهجورة يجري على قواعدها التي تخالف ما اصطلح عليه عامة العرب...، إلخ، مما سنتعرف إليه في هذا الفصل.

على أنه لا بد من الآن من المسارعة إلى القول بأننا لا نقول إن المتنبي كان يلجأ إلى كل وسيلة من هذه الوسائل في كل وقت وفي كل بيت أو حتى في كل قصيدة، لا، وإنما الذي نراه أنه كان غرضه لفت الأنظار بالخروج على ما ألفه الناس والنقاد في دنيا الشعر، فكان يتخذ هذه الوسيلة أو تلك مكثرًا من اللجوء إليها زمنًا، ثم ينتقل إلى غيرها زمنًا آخر، وقد يجمع بين أكثر من وسيلة في نفس الوقت، وهكذا، وكل ذلك تبعًا للظروف وحالته النفسية، وما إلى ذلك.

ونبدأ بالإغراب والخشونة:
لقد عيبت عليه الخشونة منذ وقت جد مبكر من تاريخ نقده، بل إن الحاتمي - على ما يحدثنا هو نفسه والعهدة عليه - قد واجهه بهذه السمة في شعره وآخذه عليها، إذ انتقد استعماله في التغزل بامرأة للفظتي (ربحلة) و(سبحلة)... وكان رأي الحاتمي أن مثل هاتين اللفظتين مستهجنتان في شعر المحدثين لمباينتهما مذاهب المطبوعين والمرهفين لما فيهما من جفاء[3].

وإذا كان الحاتمي قد عاب عليه أنه استخدم في تغزله لفظتين جافيتين، فإن الصاحب بن عباد قد عمم الانتقاد؛ إذ جعل استخدامه الغريب سمةً عامة لشعره غير موقوفة على الغزل، فقال: (وأطم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ الفاخرة والكلمات الشاذة)[4].

ومع ذلك، فإنه لم يورد له من هذه (الألفاظ النافرة والكلمات الشاذة) إلا لفظة (التوراب)، وهي وإن كانت صيغة غريبة ليست في رأيي من غريب الألفاظ ذاتها، فإن كل الفرق بينها وبين الصيغة المعروفة (التراب) لا يخرج عن الواو، والسياق على كل حال يبين معناها على أجلى ما يكون، فقد وردت في البيت التالي من قصيدة للشاعر في رثاء ابن سيف الدولة:
أيفطمُه التورابُ قبل فطامِهِ ♦♦♦ ويأكُلُه قبلَ البلوغِ إلى الأكلِ؟
ولا أظن البيت محتاجًا إلى أي شرح.

ومن الطريف أني لم أقع على هذا الانتقاد في (الوساطة)، رغم أن القاضي الجرجاني قد اجتهد أن يجمع في كتابه كلَّ ما أخذ على المتنبي، ورغم أنه قد خصص صفحات طوالًا في أوائل الكتاب للحديث عن البداوة والتحضر وتأثيرهما على الشعر جفاءً وخشونة، أو رقة وسهولة، وعاب على أبي تمام إغرابه في اللفظ وخروجه على مقتضى الطبع على العكس من البحتري وجرير، اللذين جريا مع الطبع، فلم يغربا أو يتوعَّرا[5].

فإذا انتقلنا إلى الثعالبي (350 - 429هـ) - وهو قرب عهد المتنبي (ت 354هـ) - وجدناه يخصص لهذه السمة الأسلوبية في شعر المتنبي ما يمكن أن يسمى فصلًا مستقلًّا، وإن لم يزد عن ثلاث صفحات، بعنوان (استعمال الغريب الوحشي)، أخذ عليه فيه أنه - وإن كان من المحدَثين وجرى على رسومهم في اختيار الألفاظ المعتادة المألوفة بينهم، بل ربما انحط عنهم بالركاكة والسفسفة - قد تعاطى الغريب الوحشي والشاذ البدوي، الذي ربما زاد فيه على أقحاح المتقدمين، ثم ذكر له من هذه الألفاظ كلمة (ابتشاك) (الكذب)، و(الحفش) (جمع السيل للماء من كل جانب إلى مستنقع)، و(القدى) (المقدار)، و(تطس) (تدق)، و(اليرمع) (الحجارة البيض الرخوة)، و(اليلل) (إقبال الأسنان وانعطافها على باطن الفم) و(الكنهور) (القطعة العظيمة من السحاب)، و(النال) (المعطي)، و(متديريها) (المتخذين منها دارًا)[6].
ومن الملاحظ أن هذه مجرد أمثلة، وإلا فالغريب في شعر المتنبي كثير.

أما العميدي (ت 433هـ)، فإنه - وإن خصص كتابه لسرقات المتنبي - قد تنبه مثلًا إلى استخدام الشاعر للمدام كلمة (القنديد) تشبهًا بالجاهليين[7]، ولكنه لم يتوسع في هذه النقطة لخروجها عن موضوع كتابه كما سلفت الإشارة، كذلك فقد نبه البغدادي في (خزانة الأدب) على هذا الملمح الأسلوبي؛ إذ قال: إن في ألفاظه تعقيدًا وتعويصًا[8].

ويكاد يكون كل مَن تناول أسلوب المتنبي من المحدَثين قد تعرض لهذه المسألة؛ فعل ذلك اليازجي، ومحمد كمال حلمي بك، وبلاشير، وفك، ود. عبدالوهاب عزام، والعقاد، وطه حسين، وأنيس المقدسي، ود. محمد كامل حسين، وإبراهيم العريض، ود. محمد عبدالرحمن شعيب، ود. صلاح عبدالحافظ، وغيرهم.

ونحب الآن أن نتناول بالمناقشة العوامل المسؤولة عن هذه السمة في شعر الشاعر، ومدى انتشارها فيه، وهل هي تزيد في مراحل معينة من شعره، أو في لون بذاته من القصائد عن غيرها من القصائد والمراحل.

فأما الباعث له على انتهاج هذه الطريق فقد سبق أن قلت إنه رغبته في الخروج على المألوف وشغل الناس والعلماء والنقاد به وبشعره، أليس هو القائل:
أنامُ مِلءَ جُفُوني عن شوارِدِها ♦♦♦ ويسهَرُ الخلقُ جرَّاها ويختَصِمُ

ثم إن رده على مَن كان يستفسر منه عن معنى شيء في شعره بأن ابن جني لو كان موجودًا لأجابه، يدل على هذه الرغبة[9]، وإلا فما الذي يمنعه من الجواب وهو - لا ابن جني - صاحب الشعر؟ بل إنه كان يقول: ابن جني أعرف بشِعري مني[10]، وما نحسب هذا القول من المتنبي إلا زيادة في الإدلال بمعرفته بالغريب الذي لا يعرفه غيره، ولكنه إدلال في صورة التواضع واللامبالاة، فإن أخباره كلها تتضافر على اعتزازه بعلمه باللغة وغريبها.

على أنه ينبغي ألا يفهم أن المتنبي كان هو الوحيد بين الشعراء العباسيين الذي كان يستعمل الغريب، أو حتى الوحيد الذي كان يكثر منه، فإن أبا تمام مِن قبله قد اشتهر بذلك[11]، بل إن البحتري المشهور بين النقاد بسلاسة لفظه وجريه مع طبعه من غير تكلف ولا اعتساف، حتى ليصفه ابن شرف بأن (لفظه ماء ثجاج ودر رجراج...، طبع لا تكلف يعنيه ولا العناد يثنيه)[12]، والذي يقول عنه د. شوقي ضيف: إنه لا يكاد يغلظ لفظه[13]، البحتري هذا له ألفاظ غريبة مستكرهة كما للمتنبي، وإن لم تكثر عنده كثرتها عند شاعرنا، وقد وجدت له بالمصادفة في بعض الكتب التي استشهدت بأبيات من شعره؛ مثل (طيف الخيال) للشريف المرتضى، و(حديث الشعر والنثر) للدكتور طه حسين، و(العصر العباسي الثاني) للدكتور شوقي ضيف، ألفاظه مثل (المسبكر) (الشاب التام المعتدل)، و(رداع) (أثر الطيب في الجسم) و(صائك) (لاصق)[14].
هذا، والشعر الذي وردت فيه هذه الألفاظ إنما هو بيتانِ لا غير، وفي الغزل.

ومن ذلك أيضًا كلمة (مَرْت) (بفتح الميم وسكون الراء)، و(صديع): (صبح)، و(شروع): (الإبل الداخلة في الماء)[15]، و(ابذعر): (تفرق)، و(غباغب الثور)، و(عِيص) (بكسر العين)، و(سميدع): (البطل الشجاع)، و(سُمُوك) (بضم السين والميم: الأعالي)[16].

ومن المؤكد أننا لو رجعنا إلى الديوان نفسه لوجدنا أكثر من ذلك كثيرًا، ولكن يبدو من كلام النقاد الذين درسوا شعره، أن البحتري لم يشتهر بالإغراب والجفاء في ألفاظه.

والآن إلى العوامل المسؤولة عن هذه السمة في شعر المتنبي:
لقد ربط عدد من النقاد - قدماء ومحدثين - بين هذه السمة وبين البداوة. وربما كان ابن عباد هو أول من أشار إلى ذلك؛ إذ قال: وأطمُّ ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة والكلمات الشاذة، حتى كأنه وليد خباء أو غذي لبن، ولم يطأ الحضر ولم يعرف المدر)[17].

كما ربط الثعالبي والبديعي بين هذه السمة وبين البداوة، وإن كانا قد أضافا إلى ذلك أن هذه إحدى سمات الأقحاح من الشعراء القدماء؛ إذ نصَّا على أنه قد (تعاطى الغريب الوحشي والشاذ البدوي، بل ربما زاد في ذلك على أقحاح المتقدمين)[18].

بيد أنه يلاحظ أن الربط قد اقتصر عند الصاحب على تشبيه المتنبي بالبدو، وعند الثعالبي والبديعي على وصف الألفاظ نفسها بالبدوية مرة، ومرة أخرى على أن المتنبي ربما زاد في استعماله لمثل هذه الألفاظ على أقحاح المتقدمين، هكذا من غير تحديد للمقصود بـ(المتقدمين): أهم الأمويون، أم الجاهليون، أم أولاء وأولئك؟ ولا المراد بـ(أقحاحهم): أهم أهل الوبر منهم أم ماذا؟

أيًّا ما يكن الأمر، فإنهم لم يربطوا بين هذه الصفة الأسلوبية عند المتنبي وبين قضائه عامين في البادية وهو صبي، على ما هو معروف من سيرة حياته، فضلًا عن أن يصفوا المتنبي نفسه بأنه بدوي، كما يفهم من كلام بعض من تناولوا شعره من المحدثين؛ كمحمد كمال حلمي، الذي أرجع حب الغريب من الألفاظ إلى ما بقي من أثر البداوة في نفسه[19]، وإن عاد فقال: إنه كان ميالًا إلى البداوة، متعصبًا للأعراب[20]، (ومثله في ذلك الدكتور عبدالوهاب عزام)[21]، وكالدكتور محمد مندور، الذي وصفه بـ(البدوي الشجاع)[22].

فأما أن المتنبي كان بدويًّا، فغير صحيح:
لا على الحقيقة، فإنه ولد بالكوفة وعاش طول عمره في المدن، سواء بالعراق أو الشام أو مصر أو بغداد أو فارس (على الترتيب)، اللهم إلا وقتًا من عمره قضاه ببادية الشام، على ما هو مشهور من سيرته.

ولا على المجاز؛ (إذ قلنا: إن المقصود من كلام محمد كمال حلمي، ود. عزام، ود. مندور، أنه بدوي الطباع، وأنه كان يحب البادية وأهلها، ويحن إليها وإلى العيش فيها، ويرى في أخلاق سكانها وتقاليدهم مثله العليا)، فإنه كان طامحًا طول عمره إلى الغنى ودوي الشهرة، ثم انضاف إلى ذلك بعد تركه حلب إلى كافور طمعه في ولاية يولِّيه إياها العبد الحبشي، ولم يكن ممكنًا أن يحقق ذلك لو عاش في البادية.

وأيضًا حري بنا أن نلتفت إلى أنه حتى عندما تحطمت آماله في مصر، لم يلجأ إلى البادية ولو ليستريح فيها من عناء مطامعه وخيبة أحلامه مؤقتًا، بل انطلق إلى العراق رأسًا، وحين نبا به المقام في بغداد وتكالب عليه صنائع المهلبي، لم ييمم وجهه قصد البادية، بل اتجه إلى فارس، وإن تعليقه على ضيق مساحة أرجان وبساطة مبانيها حين أشرف عليها، لَيدل دلالة قوية على أنه كان يعشق فخامة الحضارة متمثلة في اتساع المدن وتطاول البنيان وضجة العمران[23].

ومما يدل كذلك على أن رأيه في الأعراب لم يكن طيبًا أنه حين كان يعيش بينهم كان يبدي ضيقه بهم واحتقاره لهم، ويشبه نفسه معهم بالمسيح بين اليهود وصالح في ثمود؛ إذ قال:

ما مقامي بأرض نخلة إلا

كمقامِ المسيح بين اليهودِ



أنا في أمَّةٍ تداركها الل

هُ غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ




وأن أيامه في البادية كانت أيام الفقر الأزرق، وكان مشايخ القبائل الذين يقصدهم بمدائحه لا يُجيزونه عليها إلا بالدرهمين والثلاثة.

وإلى هذه الفترة من حياته ينتسب مثل هذا الشعر الصارخ من الجوع والفقر والحرمان:

أين فضلي إذا قنعت من الدهـ

ـرِ بعيشٍ معجلِ التنكيدِ؟



ضاق صدري وطال في طلب الرز

قِ قيامي وقلَّ عنه قعودي



أبدًا أقطع البلادَ ونجني

في نحوس وهمتي في سعودِ




و:
أرى أناسًا ومحصولي على غنمٍ ♦♦♦ وذكر جودٍ ومحصولي على الكلم

و:

إلى كم ذا التخلف والتواني؟

وكم هذا التمادي في التمادي؟



وشغل النفسِ عن طلب المعالي

ببيع الشِّعرِ في سوق الكسادِ؟




و:

فسرتُ نحوك لا ألوي على أحدٍ

أحث راحلتيَّ: الفقر والأدبا



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 12-12-2022 الساعة 04:12 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.49 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (2.19%)]