عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-01-2022, 06:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,316
الدولة : Egypt
افتراضي الوزغة (قصة قصيرة)

الوزغة (قصة قصيرة)
ماجد عاطف




(1)
كنت فيما مضى أترك الوزغَ لشأنه لا أتعرَّض له؛ اشمئزازًا من شكله، السَّحالي أجمل منه مع أنها تعض، جلده أشفُّ وأبرص يوحي بالمرض الجلدي، إن اضطررت لاحقتُه وطردتُه، ثمَّ علمتُ أنه سام وفي قتله كذا وكذا من الحسنات، فصرت كلَّما استطعت، قتلتُه من الضربة الأولى إن أمكن.

وانشغلت بك طوال ليالٍ، فتجاهلتُ الوزغة الصغيرة الشفيفة المبقعة التي لم أنجح في قتلها أو طردها خارج البيت، حاولتُ مرة وهربَت منِّي، ثم عادت إلى مكانها الأثير أسفل قاعدة النيون؛ حيث تستعين بالضوء للاصطياد.

حركتها رشيقة؛ تترادف على الجانبين، تتقدَّم، تميل بحركة من طرف واحد في كل مرة، فتلفت انتباهي، تصطاد، غالبًا الناموس، تتسلَّل بخفَّة، لا صوت لمفرغات أصابعها التي تجعلها تعلق، وفجأة تلتقم النَّاموسة الحاطة على الجدار فتصبح في بطنها.

وأتسلَّى بالفرجة عليها حين لا أحتمل النظر في شيء؛ تلفاز أو كتاب أو حاسوب، تصفو أفكاري بمراقبتها.
لقد أحسنت صنعًا حين أخبرتك أنَّني لا أؤمن بصداقة الجنسين، لم أؤمن بها قط، وعن تجربة قبل أن يكون تديُّنًا.

لا أستطيع - يا غريبة - أن أمنع أفكاري من التدفُّق وأن أنسى أنَّ مَن قبالتي هي امرأة، أو أمنع عقلي من الملاحظة لثانية واحدة.
وحبست نفسي عشرين عامًا عن الاختلاط لهذا السبب، ثم تدرجتُ في التحايل على الحبس إلى الرسائل والقراءات.

لم أعد - مثلك - بحاجة لنَظر أو رؤية أو تفاصيل ماديَّة تؤكِّد أو تنفي، وظهر هذا العالم الافتراضي، القابل في أيِّ لحظة ليصبح واقعًا حقيقيًّا.

الجملة العادية - في شأن المطبخ - يمكنها أن تخبرني أشياء لا حدَّ لها، لكني أعلم، مِن داخلي، أنَّ هذا افتتان أيضًا، كنت عند اللحظة المناسبة أرتدُّ عنه، صرت أتمثَّل شخصيَّة من أقرأ لها أو تكتب لي، الكلمة قد تشي بذاكرة أو حاجة، إيقاع قد يفضح اندفاعًا أو ميلًا، علامة ترقيم في محلِّها - أو غير محلها - تقول شيئًا.
ووضعتُ لنفسي قاعدة: أن لا أقرأ مَن تطغى عليها ذاتيَّتها في الكتابة، وليست محتكمة لفكرة موضوعية.

(2)
وكانت فراشة ليليَّة داكنة بجوار ضوء النيون على الحائط منذ ساعة، والوزغة الصغيرة بعيدة عنها نصف متر، من الصعب على الوزغة اصطيادها؛ حجم أكبر من سَعة الفم الملتقم، ومقدرة على الإفلات بالطيران في أي لحظة.
وبالفعل انشغلَت الوزغة بالتِقام الناموس الصغير.

كنت أتساءل:
هل أشبه أنا الوزغة وأنت الفراشة؟ أم العكس؟
لم يَخطر لي العكس؛ أن أكون أنا الفراشة وأنت الوزغة، لكني الآن بعد أن هدأتُ وابتعدتُ، لا أستبعد.

والفراشة يا غريبة على سكون وحذر، لا تجرؤ الوزغة معهما على الاقتراب، بالكاد كل عشر دقائق تضم أو تَفتح جناحيها، لا أخشى من النساء لحظة التخالط معهنَّ، ولا يمكن أن يصدر عنِّي ما ليس مهذبًا أو يزعجهنَّ.

لكن مع ذلك - عند التذكُّر - تبدأ الكلمة الواحدة في التوسُّع والتكاثر والاشتقاق لتصبح صفحة، إنِّي أفهم ما لم أفهمه في لحظته، وأستعيد وأحلِّل وأضمُّ الفكرةَ على المعلومة، وأعيد النظر، وأجنح أو أقرِّر.
ولعلِّي أصنع (شايًا) فأصب لك، أو أتبسم لكلمة أتخيَّلك تعيدينها أو تقولينها.

ورُبَّ كلمة خرجت منك دون قصد، تعيدني إلى شيء اختبرته مطولًا لشهور وسنوات، فأشعر بالتقارب والفهم، والتعاطف والمسؤوليَّة (أو الانتهازية، لا أدري).

رُبَّ سلوك عفوي في لحظته، ولو كان نفسيًّا أو لغويًّا، يذكِّرني بتسلسله وإلى أين سيفضي، وأقدر على توظيفه، ولا أستطيع أن أخدع نفسي كما لو كنت صغيرًا.

لو كنتِ مثل الكثيرات لما باليتُ بكِ، ولكنك غريبة شبيهة؛ لغتك وحدها وقاموسها أخبراني عن مفاهيمك ومصادرك وبيئتك.

بمجرد أن علمت أنَّك باحثة ناجحة، أدركت استحالة أن تكوني ذاتيَّة، وضرورة أن تحتاجي - في آنٍ - لمساحة تعويضيَّة؛ لهذا فيما بعد تورطت في تناقضي مع نفسي:
هل أقطع هذا التواصل الذي أحتاج إليه ويناسبني تمامًا، أنا الذي يعي - بالضبط - حالتك النفسيَّة، ويستطيع أن يقدِّر أشياء كثيرة ذاتيَّة وعائلية وأكاديمية ومعرفية، حتى لو فصلتْ بيننا آلاف الكيلومترات، أم أستمر فيه؟

ولم أرد اللجوء للمهارة، إنَّما أن أكون عفويًّا وصادقًا، إذا كانا ممكنين، وكيف لي أن أكون صادقًا وأنا أعرف سلفًا أنَّ ما أفعله لا يحلُّ لي؟ وأنَّه سيرهقني بالتضخُّم في رأسي، ويشغلني بالترقُّب والتوقُّع؟

هل تعتقدين الآن أنني كنت غبيًّا بوضعكِ في صورة أشياء لا يَذكرها المرء عن نفسه، أو حين...؟
لقد كنت أحذِّرك.


(3)
وكالمتوقع تمامًا يا غريبة.
الوزغة لم تَقترب ألبتة، بقيَت على بُعدها تلتقم الناموس، ومع أنها لم تكن جائعة على الأغلب، التقمَت الفراشة التي طارت عشوائيًّا في حركة غير محسوبة، فصارت في نطاقها فجأة، ثم سحبَتها إلى أسفل قاعدة النيون.

كلُّنا يا غريبة، ذكورًا أو إناثًا، حتى تحت الضوء، بل إنَّ الضوء نفسه - قد يكون سببَ المأساة؛ وزغًا أو فراشات، ومهما رأيتني متخلفًا أو مجنونًا عندما عرضتُ عليك الزواج، فهذا ما يحصل مع الفراشات.. حين لا تكون في مأمن!


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.30 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (3.29%)]