عرض مشاركة واحدة
  #54  
قديم 22-05-2022, 09:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

مقدمة في فن الإلقاء والخطابة
الشيخ عبدالله محمد الطوالة
الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق بشيرًا ونذيرًا؛ أما بعد:
فإن الإلقاء والخطابة هي أهم وأسرع وأقوى وسائل الدعوة، وأكثرها تأثيرًا، وهل بغير الكلمة الخطابية تلين القلوب، وتستقيم النفوس، وتصلح المجتمعات، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].
لذلك فقد اعتنى علماء الإسلام قديمًا وحديثًا بهذا الفن وأولوه عنايةً خاصة، كيف لا ومعجزة الإسلام الكبرى، إنما هي قرآن يتلى، وبيان يلقى؛ قال جل وعلا: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51].
ولا شك أن من يملك ناصية الكلمة، فهو يملك أقوى أدوات التأثير والتغيير، فقد كان للكلمة ولا يزال أثرها الكبير، ودورها الفعال في كل عمليات التطور الإنساني على مر العصور وتعاقب الأجيال، وعلى تغير الظروف وتنوع الأحوال، بل إن الكلمة إذا ما ركزت بعناية، واستثمرت بفعالية، فليس على وجه الأرض أقوى تأثيرًا منها، فهي القوة العجيبة المسؤولة عن كل حركات البناء والهدم في التاريخ، ولو تأملت مليًّا فستجد أن الكتب المنزلة كلمة، ورسالة الأنبياء والمرسلين كلمة، ونتاج المؤلفين كلمة، وخطب القادة والأئمة كلمة، ومواعظ الدعاة والمرشدين كلمة، وتوجيهات المصلحين والمربين كلمة، ودروس المعلمين والمحاضرين كلمة، وبيان الأدباء والشعراء كلمة، بل إن شهادة التوحيد كلمة، والنداء للصلاة كلمة، وحكم الولاة والقضاة كلمة، وشهادة الشهود كلمة، واستحلال الفروج بكلمة، والحرب مبدأها كلام؛ ولأمر ما قال موسى عليه السلام داعيًا: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 27، 28].
والكلمة الطيبة صدقة جارية، تهدي العقول، وتنير القلوب، وتزكي النفوس، وتسمو بالأرواح، تأمل: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
والكلمة الطيبة إذا أُحسن توظيفها جاءت بالمدهش العجيب: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24، 25].
واهتمام العرب بالخطابة وتوظيفهم لها قديم قبل الإسلام، حتى إن كل قبيلة كانت تنتخب من أفذاذها شاعرًا وخطيبًا، يفاخرون باسمها، ويدافعون عن شرفها ومكانتها، ويقومون بمهام الإصلاح بين المتنازعين، والوفادة على الملوك والسلاطين، ومراسم التهنئة والتعزية، كما أن لهم عند الحروب والغارات صولات وجولات.
فلا عجب أن يوظف الإسلام الكلمة الطيبة أحسن توظيف، وأن يهتم بها غاية الاهتمام، حتى إنه جعلها فريضةً أسبوعية، وعبادةً مرعية، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة الإسلامية، ومظهرًا رائعًا من أجمل وأجل مظاهر توحد الأمة المحمدية، كما أن من دلائل اهتمام الإسلام بها، أنه رغب كثيرًا في النظافة والتجمل والتطيب من أجلها، وحث على التبكير في الوقت عند الخروج لها، وعلى الدنو من الإمام، والإنصات التام، وعدم مس الحصى فضلًا عن الكلام، ثم رتب عليها من الثواب والعقاب، ترغيبًا وترهيبًا، ما لم يرتبه على عبادة غيرها، فجعل الخطوة الواحدة إليها تعدل عمل سنة كاملة صيامها وقيامها، كما أن في القرآن الكريم أمر مؤكد بالسعي إليها، وترك كل ما يشغل عنها، ووعد بالخير الوفير لمن يحرص عليها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9].
كما أن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، عرف قيمتها، واهتم بها، وأحسن توظيفها، واتخذ المنبر من أجلها، وأكثر من استخدامها، وكانت هي وظيفته الأولى هو ومن بعده من الخلفاء والعلماء والقادة والمصلحين، وكانت هي أقوى ما استخدموه لقيادة أممهم إلى حياة البر والكرامة، والتقوى والاستقامة.
ومن ثم فقد قامت خطبة الجمعة بدور حيوي كبير في المسيرة الإسلامية الطويلة، فمن خلالها نشرت تعاليم الشريعة، ورسخت مبادئ العقيدة، وحُوربت البدع والمنكرات، وزُكيت الأخلاق والسلوكيات، ومن خلالها شُخصت أوضاع المجتمعات، وبُث الوعي الصحيح، وعُولجت المشكلات.
وهكذا فقد كان الخطيب الفذ ولا يزال هو خير من يعبر عن الدين والدنيا، ويجول في كل شؤون الإنسان وشجونه، يقنع العقول، ويحرك المشاعر، ويشكل القناعات، ويرفع الهمم، ويربط الناس بخالقهم العظيم، ويدافع عن حقوق المظلومين، ويرد شبه الأعداء والمظلين، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18].
وها هي المساجد العامرة، ذات المنابر المؤثرة، لا تزال تستقبل أفواج التائبين، ومواكب العائدين، وما تزال أصوات الخطباء الأفذاذ تصدح عاليًا في كل جمعة، تنير الطريق للسائرين، وتروي عطش الظامئين.
أما وقد وصلنا اليوم لما وصلنا إليه، وأصبح الواقع غير ما كنا عليه، وتراجع المسلمون إلى مؤخرة الركب، وأمسى العالم كله أسيرًا لتيار إعلامي عالمي موجه، ذي إمكانيات ضخمة هائلة، وقنوات متخصصة مؤثرة، وبرامج فاتنة آسرة، فيها من بهرج العرض، وجمال الإخراج، وزخرف القول، ما يجعل المتابعين يتناولون السم يحسبونه عسلًا، ويقتنون الخزف يظنونه ذهبًا، وبذلك استحوذوا على الكثير من أوقاتهم واهتماماتهم، وغيروا الكثير من قناعاتهم ومسلماتهم.
إلا أنه وبالرغم من كل ذلك، فلا يزال الخطيب المسلم هو فرس الرهان، وفارس الميدان، خصوصًا إذا علمنا أن أعداد المنابر في عالمنا الإسلامي الكبير كثيرة جدًّا، وأن الذين يستمعون لها باهتمام وإنصات يتزايدون بشكل مضطرد، ولله الحمد والمنة، لكن الذي يضعف الكفة، أن أكثر خطبائنا الكرام - مع شديد الأسف - بعيدون عن القيام بأدوارهم الدعوية، مفتقدون للكثير من المهارات الأساسية، فالبعض يبالغ في هدوئه، فتأتي كلماته جافةً باردة، تموت قبل أن تصل، والبعض الآخر جامدون تقليديون، خطبهم مكررة، وكلماتهم مجملة، لا توقظ غافلًا، ولا تحرك ساكنًا.
يقول الشيخ عائض القرني: "رأيت على المنابر من يقرأ علينا صحفًا اكتتبها فهي تلقى عليه بكرةً وأصيلًا، يسردها سردًا بلا تأثير ولا جاذبية، ولا أداء ولا حرارة، ورأيت من يغطي وجهه بأوراقه، فهو محجوب عن الناس طيلة الخطبة، وهناك من يخطب فيتلعثم ويرتبك من شدة الخوف، نعم، هناك من يحسن الإلقاء والأداء، ولكنه ضحل المادة، بخيل المحصول والعطاء، فكأنه ما قال شيئًا، وهناك صاحب الحجة والبرهان، الحافظ المطلع، لكنه بارد رتيب، في صوته خيوط النعاس، ومقدمات الكرى"[1].
فلا بد إذًا من تطوير وتحسين أساليب خطبائنا الكرام، لا بد من تميز الخطيب وقوته، وإتقانه لدوره ومهمته، لنضمن لهذه الدعوة المباركة مكانًا عليًّا، وقبولًا حسنًا، ونضمن لهذا المنبر الهام تأثيرًا قويًّا، وتفاعلًا مثمرًا مرضيًا، ولن يتأتى ذلك إلا بأمرين أساسين:
الأول: دراسة وفهم أصول وقواعد فنون الخطابة نظريًّا.
الثاني وهو الأهم: التدرب الجاد (المنظم) لاحتراف أساليبه وإتقان مهاراته عمليًّا.
وحيث إن هذا المقال بمثابة مقدمة في فن الإلقاء والخطابة فسأكتفي بإيراد تعريف الخطابة مع شرح مختصر، ثم أذكر أهداف الخطابة في الإسلام ومميزاتها وأسباب رقيها، وسيأتي الحديث عن بقية فنون الخطابة ومهاراتها تباعًا في مقالات أخرى بإذن الله وتوفيقه.
الخطابة إذًا: هي فن مشافهة الجمهور لاستمالته للمأمول.
وحين نتأمل هذا التعريف المختصر يتبين أنه مكون من خمسة عناصر، يمكن شرحها على النحو التالي:
الأول: أنه فن؛ أي: إنه علم له أصول وقواعد نظرية، لا بد من دراستها وتعلمها، وله مهارات عملية لا بد من مواصلة التدرب عليها قدرًا كافيًا حتى يتقنها.
الثاني: المشافهة، وهو توجيه الكلام من شخص واحد لمجموعة من السامعين، مباشرةً وبدون حوائل.
الثالث: الجمهور، ويشمل كافة قطاعات وشرائح المجتمع (العالم والجاهل، الكبير والصغير، الموافق والمخالف؛ إلخ).
الرابع: الاستمالة، وهي استجابة المتلقي عمليًّا لتوجيهات الخطبة، من خلال اقتناع العقل بالأدلة والبراهين، وتأثر الوجدان بالبيان البليغ.
الخامس: المأمول، وهي أهداف الخطيب الخاصة والعامة، التي يريد من السامعين أن يقتنعوا بها ويطبقوها عمليًّا.
إذًا ففن الخطابة علم جليل، وفن جميل، ينير الطريق للراغبين، ويوضح السبيل للسالكين، ولكنه لا يضمن لمن أراد تعلمه أن يتقن مهاراته ما لم يتدرب على تلك المهارات ويطبقها بالقدر الكافي، تمامًا كفن التجويد الذي يبين لك كيف تقرأ القرآن الكريم بطريقة صحيحة، لكنه لا يضمن لك أن تتقن مهارة التلاوة ما لم تتدرب عليها بنفسك، وبدرجة كافية، كما قال الناظم:
وليس بين أخذه وتركه
إلا رياضة امرئ بفكه




وإذا كان الشيء يستمد أهميته من أهدافه،فإن أهداف الخطابة في الإسلام عظيمة وجليلة؛ ومنها ما يلي:
1- تبليغ دعوة الله عز وجل، ونشر العلم الصحيح.
2- تربية المجتمع على الأخلاق والفضائل، ونهيه عن الشرور والرذائل.
3- رفع المستوى العلمي والثقافي والفكري والأدبي للسامع والخطيب.
4- تقوية وبناء الروابط الأخوية بين المسلمين.
5- رد شبهات الأعداء، والذب عن جناب الدين وأحكامه وعلمائه ورموزه.
6- ترقيق القلوب بالترغيب والترهيب، والتذكير بعظمة علام الغيوب.
كما أن للخطابة في الإسلام مميزات عظيمة؛ من أبرزها ما يلي:
1- وجوب أداء خطبة وصلاة الجمعة في كل حي أو بلدة من بلاد الإسلام.
2- تكرارها دوريًّا (أسبوعيًّا أو سنويًّا).
3- تهيئة المكان والجو المناسب للإلقاء والإنصات (المسجد).
4- التفرغ التام لها من جميع الأشغال والأعمال.
5- الاستعداد الخاص لها بالنظافة والتجمل والتطيب.
6- كونها عبادة جليلة، وشعيرة عظيمة، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة.
7- كونها من أنجح وسائل الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- نقل هموم وآلام الجسد الواحد من مكان لآخر للتلاحم والتعاون.
9- إثراء المكتبة الإسلامية، والمواقع المتخصصة بالعلوم النافعة والخطب المؤثرة، لنشرها على أوسع نطاق.
أما أسباب رقي الخطابة في الإسلام: فيمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- قوة الاستشهاد بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
2- بروز كوكبة من الخطباء الأفذاذ، على رأسهم سيد الفصحاء وأخطب الخطباء عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
3- كثرة المحافل الخطابية وتكررها دوريًّا (كالجمعة والأعياد والجهاد وغيرها).
4- ارتفاع شأن الخطيب وعلو منزلته في المجتمع المسلم.
5- استخدام الخطابة من قبل الخلفاء والأمراء والعلماء لقيادة الشعوب وتأليف القلوب وإصلاح الأوضاع.
6- وجود إرث كبير من الثروة الخطابية والكنوز البيانية مما يساعد المبتدئين على الانطلاق بقوة.
7- شمولية الخطب لكل مناحي الحياة وشؤونها.
نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يبارك في الجهود وينفع بها،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

[1] إلى الخطباء، عائض القرني، ص 5.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]