الموضوع: فقه الدعوة
عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 26-12-2021, 02:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (8)


د.وليد خالد الربيع

ذكرنا في الحلقة السابقة أن شروط الدعوة التي يجب مراعاتها العلم؛ حيث إن الدعوة إلى الله من العمل الصالح ومن شروط العمل الصالح أن يكون مستنداً إلى العلم الشرعي الصحيح، وقلنا إنه لابد للداعية من أن يتمكن من التميز بين المعروف والمنكر ليعرف مراتب المعروف والفرق بين الواجبات والمندوبات والمباحات وكذلك بين الكبائر والصغائر والمحرمات .


الشرط الثالث - الحكمة في الدعوة :
قال عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، فقسم الدعوة إلى أربعة مراتب: الحكمة، ثم الموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الفعل الرادع للظالم، كما قال عز وجل: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم}، والمتأمل في سيرة النبي[ ودعوته يجد أنها قائمة على الحكمة في أسمى صورها وغاياتها، حيث كان[ يستعمل الرفق في موضعه، ويضع الحزم والشدة في موضعهما، وهذه هي الحكمة.
فالحكمة في حقيقتها: وضع الأشياء في مواضعها المناسبة لها، والحكمة هي معرفة الحق والعمل به، وهي إصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وقد مدح الله تعالى صاحب الحكمة فقال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}، ودعا بها النبي[ لابن عباس فقال في رواية:«اللهم علمه الحكمة»، وقال[:«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها».
ومن الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل مراعاة المصالح والمفاسد:
فقد يحمل الحماس بعض الشباب الغيورين على القيام ببعض التصرفات التي يظنونها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللهو دون اعتبار أو نظر في قواعد المصلحة والمفسدة وكيفية الترجيح بينها إذا تعارضت، وإهمال هذا الأصل الجليل يؤدي إلى مفاسد عظيمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات، فلابد أن تكون المصلحة فيهما راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به هو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع؛ فحيث كانت مفسدة الأمر أو النهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد تُرك واجب وفُعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله، وليس عليه هداهم، وهذا من معنى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب؛ فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال».
وقال: «وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
ولكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام».
فإعمال هذا الأصل الجليل والتوقف عن إنكار بعض المنكرات لا يعد تهاونا في الدين، وإنما هو اقتداء بالنبي[ على بصيرة كما أمر الله تعالى.
قال ابن القيم: «إن النبي[ شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله[ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة»، وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته»، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله[ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصار دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء».
ومن الحكمة مراعاة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله[ يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي[ قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
قال ابن رجب: «فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، أما إنكاره بالقلب فلا بد منه؛ فمن لم ينكر بقلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه، وسمع ابن مسعود رجلا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، فقال ابن مسعود: «هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر»، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد؛ فمن لم يعرفه هلك.
وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب القدرة، وقال ابن مسعود: «يوشك من عاش منكم أن يرى منكرا لا يستطيع له، غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره».
يستفاد من هذا:
1- أن الإنكار القلبي فرض على كل مسلم في كل حال، أما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة، يقول شيخ الإسلام: «حب القلب وبغضه وإرادته وكراهته ينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان، وأما فعل البدن فبحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل».
2- التغيير باليد مشروط له الاستطاعة الشرعية وهي الولاية والسلطة، قال شيخ الإسلام: «وهذا واجب على كل مسلم قادر - أي الأمر والنهي - وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم؛ فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}اهـ.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «فالإنكار باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع، أما من لا يستطيع ذلك، أو إذا غير بيده يترتب على ذلك الفتنة والنزاع و المضاربات فإنه لا يغير بيده، بل ينكر بلسانه ويكفيه ذلك؛ لئلا يقع بإنكاره ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره كما نص على ذلك أهل العلم»اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن موقف المسلم من كثير من المعاصي المنتشرة فقال :«موقف المسلم حدده النبي[ فقال: «من رأى منكم منكرا..» الحديث؛ فمن هذا الحديث يكون تغيير المنكر على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى - التغيير باليد: فإذا كان لك سلطة يمكنك بها أن تغير هذا المنكر بيدك فافعل، وهذا يمكن أن يكون للإنسان إذا كان المنكر في بيته وكان هو القائم على البيت؛ فإنه في هذه الحالة يمكن أن يغير بيده.
المرتبة الثانية: فإذا كان لا يستطيع تغيير المنكر بيده فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي تغيير المنكر باللسان ، والتغيير باللسان على وجهين:
الوجه الأول: أن يقول لصاحب المنكر: ارفع هذا المنكر، ويتكلم معه ويزجره إذا اقتضت الحال ذلك.
الوجه الثاني: إذا كان لا يستطيع هذا فليبلغ ولاة الأمر.
المرتبة الثالثة - التغيير بالقلب: فإذا كان لا يستطيع تغيير المنكر بيده أو بلسانه فلينكر بقلبه وذلك أضعف الإيمان، والإنكار بالقلب أن تكره هذا المنكر وتكره وجوده» اهـ.
ومن الظواهر الخطيرة في الساحة الدعوية اتخاذ المواقف بناء على العواطف، فلاشك أن واقع المسلمين مليء بالمآسي والآلام مما يحمل بعض الغيورين على اتخاذ بعض المواقف الطائشة والقيام ببعض التصرفات غير المسؤولة كردة فعل عاطفية للتعبير عن مشاعر الغضب والغيرة على الدين والمسلمين، متجاهلا ما قد ينجم عن تلك التصرفات من مفاسد تعم المسلمين وتضيق عليهم .
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «وبعض الناس قد يجد المنكر فيهجم عليه ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق؛ لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج ويقيس، قد يكون في تلك الساعة ما يطفئ لهيب غيرته فيما صنع، لكن سيخمد هذا الفعل نار غيرته وغيرة غيره في المستقبل، قد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لهذا أحث أخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني، والأمر وإن تأخر قليلا لكن العاقبة حميدة بمشيئة الله تعالى»اهـ.
ويقول أيضا: «ينبغي لأهل هذه اليقظة والحركة المباركة ألا تحملهم العاطفة فتصدهم عن التعقل، وعن السير على مقتضى الشرع؛ لأن العاطفة إذا لم تكن مقيدة بما يقتضيه الشرع والعقل فإنها تكون عاصفة ويترتب عليها من الضرر أكثر مما يترتب عليها من النصح؛ لذلك يجب أن يكون نظرنا بعيدا، ولست أريد بهذا أن نسكت على باطل، أو أن نؤيد باطلا، ولكني أريد أن نأتي البيوت من أبوابها ، وأن نحاول بقدر استطاعتنا سلوك سبيل الحكمة في إزالة هذا الباطل والقضاء عليه؛ لأن سلوك طريق الحكمة وإن طال فإن ثمرته ونتيجته تكون مرضية للجميع، ربما الغيرة تطفئ لهيب النار، لكن لا تطفئ الجمر الذي قد يتقد فيما بعد.
لذلك أحث إخواني وأبناءنا الشباب أصحاب هذه الحركة وهذه اليقظة على التأني، وبعد النظر والتعقل، وأن يجعلوا تصرفاتهم كلها على ما تقتضيه الشريعة، وأن ينظروا كيف كانت حكمة النبي[ في الدعوة إلى الله وتغيير المنكر؛ حتى يأخذوا منه أسوة حسنة»اهـ.
وانظر إلى ضبط الصحابة عواطفهم وغيرتهم وحماسهم وفق الأحكام الدينية والسياسة الشرعية، يقول سهل بن حنيف: «أيها الناس اتهموا رأيكم، والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله[ لرددته» أخرجه مسلم، وفي لفظ له قال سهل: وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله[ وبين المشركين، فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله[ فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: «بلى»، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى»، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: «يابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا» قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، قال: فنزل القرآن على رسول الله[ بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: «نعم»؛ فطابت نفسه ورجع.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.46 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]