عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 06-08-2022, 07:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي اتباع السلف الصالح بإحسان بلا طغيان

اتباع السلف الصالح بإحسان بلا طغيان
محمد بن علي بن جميل المطري


لا يَخفى على المسلم العاقل فضلُ علم السلف على علم الخلف، فهم أوسع علمًا بالشريعة، وأكثر ورعًا، وأقل تكلفًا، وقد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ))[1]، وأفضل السلف علمًا وعملًا وفضلًا وتُقًى وشرفًا، الصحابة رضي الله عنهم الذين أمر الله تعالى من بعدهم بأن يستغفروا لهم، وأثنى على الذين يتبعونهم، قال الله سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]، وقال عز وجل: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]، وأخبر الله سبحانه أنه لا هداية لغيرهم إلا بالإيمان كإيمانهم، فقال سبحانه: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ [البقرة: 137]، فمن سلك سبيل الصحابة واتبعهم بإحسان فقد اهتدى، ومن سلك غير سبيلهم، ودخل في الأهواء والبدع، والتنطع والغلو، وكثرة السؤال والجدال، والقيل والقال، فليس على الهدى، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فقال: ((إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))[2].

وإجماع السلف الصالح حجةٌ قاطعة، واختلافُهم رحمة واسعة، والأمر الذي يذهب إليه أكثرهم في المسائل العلمية والعملية المختلف فيها هو الراجح غالبًا، فالعلم النافع هو المشهور الذي يتناقله العلماءُ فيما بينهم.

قال التابعي الجليل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله: "ليس من العلم ما لا يُعْرَف، إنما العلم ما عُرِف، وتواطأت عليه الألسن"[3].

وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "شرُّ العلم الغريب، وخيرُ العلم الظاهر الذي قد رواه الناس"[4].

هذا وإنَّ بعض طلاب العلم قد يَغْلُون في اعتبار حجية قول بعض آحاد السلف في بعض المسائل الغريبة المنقولة عن بعضهم من غير ثبوت الإجماع عنهم في تلك المسألة، مع كون علماء السلف كغيرهم يُصيبون ويُخطؤون، ويَعلمون ويَجهلون، والحجة القاطعة هي في قول الله سبحانه وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف الصالح دون ما اختلفوا فيه، أما المسائل الاجتهادية التي يتكلم فيها العلماء بالقياس والرأي والأخذ بأصول الشريعة والقواعد الشرعية ونحو ذلك، فقد يُصيب فيها العالم وقد يُخطئ.

وقد أثنى الله على من اتَّبع السلف بإحسان، فقال سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ [التوبة: 100]، ولم يذكر الله اتباعهم اتباعًا مطلقًا كما أمر باتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بلا قيدٍ؛ لأن كل ما في القرآن العظيم والسنة الصحيحة حقٌّ وصواب، ويجب اتباعه بقدر الاستطاعة، أما ما جاءنا عن السلف الصالح، ففيه الصواب والخطأ، وفيه الحسن وغير الحسن، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "بيَّن تعالى بقوله: ﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾ ما يُتَّبَعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم"[5].

فيجب الحذرُ من الغلو في اتِّباع السلف، فالغلو قد يكون في اتباع الحق، فعن عبد الرحمن بن شِبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ))[6]، قال المناوي رحمه الله: "قوله: (ولا تغلوا فيه) أي: تجاوزوا حده من حيث لفظه أو معناه بأن تتأوَّلوه بباطل، أو المراد لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتتركوا غيره من العبادات، فالجفاء عنه التقصير، والغلو التعمق فيه، وكلاهما شنيع، وقد أمر الله بالتوسط في الأمور"[7]، وجاء في وصف حملة القرآن الذين يجب إكرامهم: (وحاملُ القرآنِ غير الغالي فيه والجافي عنه)[8]، قال ابن الأثير رحمه الله: "إنما قال ذلك؛ لأن من أخلاقه وآدابه التي أمر بها القصد في الأمور، وخير الأمور أوساطها"[9]، فقد يحصل الغلو في القرآن بتحميله غير ما يحتمل، وبتنزيل آيات الكافرين مثلًا على المسلمين كما فعل الخوارج، وكذلك قد يحصل الغلو في السنة النبوية بتحميلها غير ما تحتمل، أو بالانشغال بها عن القرآن العظيم، وهكذا قد يحصل الغلو في اتِّباع السلف الصالح، فقد جعل الله لكل شيء قدرًا، فسدِّدوا وقاربوا، والقصد القصد تبْلُغُوا، ((وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))[10].

ولا شك أن إجماع السلف حجةٌ قاطعة، وأن فَهمهم للنصوص أولى من فَهمنا، فهم أعلم وأتقى، وإن كان هناك زيادة في العلم لا تخالف ما أجمع عليه السلف، فهي مقبولة بشرطها، فالسلف الصالح أسَّسوا لنا العلوم لنبني عليها، قال القرافي رحمه الله: "العلوم ليست تقليدية، ولا يجمد فيها على حالة واحدة طول عمره إلا جامد العقل، فاتر الذهن، قليل الفكرة، فاتر الفطنة، إلا في الأمور الجليلة جدًّا؛ فإنها لا تتغير عند العقلاء"[11].

وقال ابن الحاج رحمه الله: "عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد له أن يأخذ منه فوائد جمة خصه الله بها، وضمها إليه، لتكون بركة هذه الأمة مستمرة إلى يوم القيامة"[12].

وقال بكر أبو زيد رحمه الله: "احذَر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر، وصوابه: كم ترك الأول للآخر، فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر: كم ترك الأول للآخر!"[13].

وما أكثر الأخطاء العلمية والعملية الثابتة عن بعض آحاد علماء السلف الصالح، أو ما يغلب على الظن خطؤهم فيها، ولذلك أمرنا الله بالاستغفار لهم، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]، وتأمَّل حذف مفعول ﴿ اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا ﴾؛ ليعمَّ مغفرة الذنوب المحققة، ومغفرة الأخطاء العلمية التي لا إثم فيها، وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ السلف الصالح يُصِيبون ويُخطِؤون، فعلى طالب العلم أن يقتصد في اتباعهم، ولا يتابعهم فيما خالفوا فيه السُّنَّة، وقد ينقل العلماء بعض ما ورد عنهم مما يخالف السنة، لمعرفة أحوالهم، ولحث الناس على الاجتهاد في الخير، ولا يعني ذلك اتباعهم فيما خالفوا الصواب، مثل ما نُقِل عن وكيع بن الجراح رحمه الله أنه كان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة، فعلَّق الذهبي على هذا بقوله: "هذه عبادة يُخضَع لها، ولكنها من مثل إمام من الأئمة الأثرية مفضولة، فقد صح نهيه عليه الصلاة والسلام عن صوم الدهر، وصح أنه نهى أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، والدين يُسر، ومتابعة السُّنَّة أولى، وكل أحد يُؤخَذ من قوله ويُترك، فلا قدوة في خطأ العالم، ولا يُوبَّخ بما فعله باجتهاد"[14].

فالواجب اتباع السلف الصالح بإحسان، أما ما أخطؤوا فيه فلا يُتابعون عليه، ومعلوم في أصول الفقه أن قول الصحابي حجة إذا لم يخالف نصًّا، ولم يخالفه صحابي آخر[15].

وإنما اشترط العلماء لقبول قول الصحابي ألا يخالف نصًّا؛ لأن الصحابي قد يقول باجتهاده فيُخطِئ، وقد نقل العلماء بعض أخطاء الصحابة العلمية؛ مما يبين عدم عصمتهم، فما بالك بمن بعدهم؟! ومن ذلك:
أنَّ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا لا يريان التيمم للجنب، وأفتيا بذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنهما رجعا عن ذلك.

وكان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه يرى أنَّ أكل البَرَد الذي ينزل مع المطر لا يُفطِّر الصائم.

وكان لابن عباس رضي الله عنهما - على سعة علمه وفضله - أخطاء علمية معروفة تفرد بها في الفقه والفرائض[16].

قال ابن تيمية رحمه الله: "الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تُعظِّمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه! وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره، وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان! وكلا هذين الطرفين فاسد"[17].

والناظر في الكتب الجامعة لآثار السلف؛ كمصنف عبد الرزاق الصنعاني ومصنف ابن أبي شيبة، وكتب التراجم يجد بعض الأقوال الغريبة، والاجتهادات البعيدة عن الصواب لبعض التابعين وأتباع التابعين، وهم من السلف الصالحين، بل إنَّ بعض فضلاء التابعين وأتباعهم وأتباع أتباعهم وقعوا في بعض البدع الاعتقادية؛ كبدعة الإرجاء والخوارج والقدر والتشيع وغير ذلك، مما يدل على أنهم يصيبون ويخطؤون، وأنهم قد يختلفون في أفهامهم واستدلالهم، ويختلفون أحيانًا في تنزيل بعض النصوص على الواقع أو الحكم في الحادثة المعينة، فمثلًا:
اختلف السلف الصالح في حكم المختار بن أبي عُبَيد الثقفي، فأكثرهم كفَّره أو ضَلَّله، وبعضهم كان يُعظِّمه، فأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي رضي الله عنه آخر الصحابة موتًا، كان يرى المختار مسلمًا، بل كان حامل رايته في حروبه[18].

وأيضًا اختلف السلف الصالح في الحجاج بن يوسف الثقفي الوالي الظالم الجبار، فكان بعضهم يعتقد إسلامه، ويُصلي خلفه، وكان بعضهم يعتقد كفره، فالحسن البصري وطاوس اليماني كانا يريان كفره، ومحمد بن سيرين وسفيان الثوري كانا يريان إسلامه، ويجعلانه من فَسَقَةِ المسلمين[19].

وكل إمام من الأئمة الأربعة الفقهاء المشهورين له تفرُّدات يغلب على الظن خطؤه فيها، حتى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على سعة علمه، وكثرة رواياته، وشدة حرصه على اتباع السُّنَّة، والاقتداء بالسلف من قبله؛ له أقوال يُخطِّئه فيها كثير من أهل العلم، مثل قوله بوجوب غسل النجاسة كالبول إذا أصاب الثوب سبع مرات، وقوله بنقض الوضوء من القيء والقيح، وقوله بعدم تطهير جلد الميتة بالدباغ، وقوله - في رواية - بجواز الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم[20]، وسأله ابنه عبد الله عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسه ويُقبِّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ فقال: لا بأس بذلك[21]!

وصدق الإمام مالك رحمه الله حين قال: "كلٌّ يُؤخَذ من قوله ويُرَد إلا صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن غرائب المسائل ما شذ به التابعي الجليل مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23]، فقد فسرها بقوله: "تنتظر الثواب من ربها، لا يراه من خلقه شيء!"، رواه عنه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، فكان مجاهد لا يُثبِت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهذا مخالف لنص القرآن الكريم، وما تواترت به الأحاديث الصحيحة، وما أطبَق عليه معظم السلف الصالح، وقد بيَّن ابن عبد البر زلة مجاهد رحمه الله في قوله هذا، قال ابن عبد البر رحمه الله: "روى سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد في قول الله عز وجل: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22] قال: حسنة ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23] قال: تنتظر الثواب، ذكره وكيع وغيره عن سفيان، وقول مجاهد: هذا مردودٌ بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، وجمهور السلف، وهو قول عند أهل السنة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس من العلماء أحد إلا وهو يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجاهد وإن كان أحد المقدَّمين في العلم بتأويل القرآن، فإنَّ له قولين في تأويل آيتين هما مهجوران عند العلماء، مرغوب عنهما، أحدهما هذا، والآخر قوله في قول الله عز وجل: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]: يُوسِّع له على العرش، فيُجْلِسه معه، وهذا قولٌ مخالفٌ للجماعة من الصحابة ومن بعدهم، فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية أن المقام المحمود الشفاعة"[22].

وبعض المسائل قد يدَّعي فيها بعضُ الناس إجماع السلف عليها، وربما ضللوا من خالفهم فيها، مع أنه لا إجماع للسلف في تلك المسألة، مثل دعوى بعضهم أن السلف يُثبِتون أنَّ الله سبحانه يُجلِس نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم معه على العرش يوم القيامة، وقد بالغ بعض الحنابلة في هذه المسألة، ومسألة كون اللفظ بالقرآن مخلوق، حتى هجر بعضُهم الإمامَ البخاري، وطعنوا فيه، وظلم بعضهم الإمام ابن جرير الطبري، ومنعوا الناس من الدخول عليه، وكان ابن جرير يقول:
سُبْحَانَ من لَيْسَ لَهُ أنيس
وَلَا لَهُ فِي عَرْشه جليس[23]




ومن الأقوال التي نُقِلت عن بعض أئمة السلف: تكفير من ينفي علو الله سبحانه أو ينكر رؤية الله سبحانه يوم القيامة، أو يقول بخلق القرآن الكريم، وقد أخذ بعض طلاب العلم هذه الأقوال على إطلاقها، ولم يفرِّقوا بين التكفير المطلق وتكفير الأعيان، فكفَّروا كل من قال بهذه البدع، وإن كان عالِمًا له قدم صدق في الإسلام، أو كان جاهلًا مقلدًا، ولم يَعذِروا أحدًا بالجهل أو التأويل!

قال ابن تيمية: "التحقيق في هذا أنَّ القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية؛ كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ، ومن قال: إنَّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكَفَّر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة"[24].

والحقيقة أنَّه لم يُجمِع السلف الصالح على تكفير كل من قال بهذه البدع الشنيعة، فلا بد من التفريق بين ما أجمع عليه السلف وما لم يُجمعوا عليه، ومن قال من السلف بتكفير أهل تلك البدع، فهو تكفيرٌ من غير تعيينٍ، أو هو اجتهاد منهم، فهو قول لبعض أئمة السلف، وليس قولًا لجميعهم، فبعض السلف رأى تكفير أهل تلك البدع؛ لأن العلم في زمنهم كان منتشرًا، والبدعة كانت في أول أمرها، فرأى بعض السلف تكفير من خالف الجماعة، لقيام الحجة على المخالف المبتدع.

قال ابن تيمية: "أكثر الطالبين للعلم والدين ليس لهم قصدٌ من غير الحق المبين، لكن كثرت في هذا الباب الشُّبَه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أُوتي العلم والإيمان أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهِله كثيرٌ من أعيان الفضلاء، فظنوا أنَّه من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـون في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنتُ كافرًا؛ لعلمي أنَّ هذا كفر مبين، وأنتم لا تَكفُرون؛ لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يُكفِّرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعيَّن منهم فقد يدعون له، ويستغفرون له؛ لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين"[25].

وعلى كل حال، فتكفيرُ أهل تلك البدع فيه خلاف بين أهل العلم، ودعوى إجماع جميع السلف على تكفيرهم فيه نظرٌ، فقد تقدم مثلًا أن التابعي الجليل مجاهد بن جبر كان ينكر رؤية الله سبحانه يوم القيامة، ولا يُعرف عن أحد من السلف أنه كفَّره.

ولا يصح الإجماعُ على تكفير كل مَن قال بخلق القرآن، فمعروف أنَّ بعض السلف كان متوقفًا في تكفيرهم، بل كان بعضهم يصرِّح بعدم تكفيرهم كعلي بن الجعد البغدادي شيخ البخاري، وهو من كبار المحدثين، فقد قال: من قال: القرآن مخلوق لم أُعَنِّفه! ولا شك أنَّ علي بن الجعد أخطأ في قوله هذا، بل يجب إنكار هذه البدعة المنكرة، فالقرآن كلام الله غير مخلوق، ومن صفات الله سبحانه أنه يتكلم متى شاء كما أخبر في كتابه، فقد كلَّم الله موسى تكليمًا، وسيكلم الناس يوم القيامة، فمَنْ أنكر صفة الكلام لله سبحانه فقد أخطأ خطأً كبيرًا، وأتى منكرًا عظيمًا، ولو لم يكن متأولًا لكان كافرًا، لتكذيبه بنصوص القرآن، فالتأويل مانعٌ من التكفير، قال ابن تيمية: "ليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال، يكون كافرًا، بل ولا فاسقًا، بل ولا عاصيًا، لا سيما في مثل مسألة القرآن، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين، وغالبهم يقصد وجهًا من الحق فيتَّبعه، ويعزُب عنه وجه آخر لا يحقِّقه، فيبقى عارفًا ببعض الحق، جاهلًا ببعضه، بل منكرًا له"[26].
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.16 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.11%)]