عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 05-04-2024, 05:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,973
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الثاني والعشرون: علاج قسوة القلب:

السيد مراد سلامة

الحمد لله الذي تفرَّد بالعز والجلال، وتوحَّد بالكبرياء والكمال، وجلَّ عن الأشباه والأشكال، ودل على معرفة فزال الإشكال، وأذلَّ مَن اعتزَّ بغيره غاية الإذلال، وتفضَّل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادَّ لأمره ولا معقِّب لحكمه وهو الخالق الفعال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

هو الأول والآخر والظاهر والباطن الكبير المتعال، لا يحويه الفكر ولا يحدُّه الحصر، ولا يدركه الوهم والخيال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أيَّده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال، ورفعه إلى المقام الأسنى، فكان قاب قوسين أو أدنى، وخلع الجمال.

أخي المسلم، بعدما رأينا أحوال السلف في التأثر بذلك المشهد مشهد الجنازة، نأتي إلى سؤال ما هو علاج تلك القسوة؟ وكيف نخرج من تلك الغلفة؟ الجواب بحول الملك الوهاب: إن رقة قلب وغزارة دمعة منةٌ وعطية نعمة من نعم الله تعالى، ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر:22].

المعرفة بالله تعالى:
اعلم أن مَن تعرَّف على الله تعالى حق المعرفة، رقَّ قلبه ودمِعت عيناه من خشية ربه ومولاه؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].

يقول ابن كثير رحمه الله: أي: إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفين به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كانت المعرفة به أتَمَّ والعلم به أكملَ، كانت الخشية له أعظم وأكثر؛ عن أبي حيان [التميمي] عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل[1].

تذكر الموت وما بعده:
ومما يعين على التأثر والخشية والإنابة أن تُكثر من تذكُّر الموت وأنه أقرب إليك، فلا تدري متى يأتيك.

زيارة القبور والتفكر في حال أهلها:
واعلموا أن العبرة من زيارة القبور أخذُ العظة والعبر من المقبور، وأن يدرك المرء أنه إلى الله تعالى راجعٌ وإن هذا هو مسكنه، كان لبعض العصاة أمٌّ تعظه ولا ينثني، فمر يومًا بالمقابر، فرأى عظمًا نخرًا فمسَّه، فانفتَّ في يده، فأنِفت نفسه، فقال لنفسه: أنا غدًا هكذا، فعزم على التوبة، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: يا إلهي، اقبلني وارحمني، ثم رجع إلى أمه حزينًا، فقال: يا أماه، ما يصنع بالآبق إذا أخذه سيده، فقالت: يَغُلُّ قدميه ويديه، ويُخشن ملبسه ومطعمه، قال: يا أماه، أُريد جبة من صوف وأقراصًا من شعير، وافعلي بي ما يفعل بالعبد الآبق من مولاه، لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني، ففعلت به ما طلب، فكان إذا جن عليه الليل، أخذ في البكاء والعويل، فقالت له أمُّه ليلةً: يا بني، ارفق بنفسك، فقال: يا أماه، إن لي موقفًا طويلًا بين يدي رب جليل، فلا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل، أو إلى شر مقيل، إني أخاف عناءً لا راحة بعده أبدًا، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: فاسترح قليلًا، فقال الراحةَ أطلُب يا أماه، كأنك بالخلائق غدًا يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار، فمرت به ليلة في تهجُّده هذه الآية: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الحجر: 92، 93].

فتفكر فيها وبكى واضطرب وغُشي عليه، فجعلت أمه تناديه ولا يجيبها، فقالت له: قرة عيني، أين الملتقى، فقال بصوت ضعيف: إن لم تجديني في عرصة القيامة، فسلي مالكًا عني، ثم شهق شهقة، فمات رحمه الله، فخرجت أمه تنادي أيها الناس هلمُّوا إلى الصلاة على قتيل النار، فلم يُر أكثرُ جمعًا ولا أغزرُ دمعًا من ذلك اليوم[2].

تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها:
ومما يُعينك على إذابة قسوة القلب أن تتفكَّر في ذلك اليوم الرهيب الذي يفر المرء فيه من أبيه وأمه وأخيه، أن تتفكر وأن تتوهم أنك موقوف بين يدي الله تعالى، وأنه سيحاسبك على أعمالك وأقوالك، وهذا أبو الدرداء كان يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء، قد علِمت، فكيف عملت فيما علمت؟ وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لَما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه، ولخرجتُم إلى الصعدات تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم، ولوددتُ أني شجرة تُعضد ثم تؤكل.

وكان عبد الله بن عباس أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع، وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد، ووددت أني لم أُخلق وعُرضت عليه النفقة، فقال: ما عندنا عنز نحلبها وحمر ننقل عليها، ومحرر يخدمنا، وفضل عباءة، وإني أخاف الحساب فيها.

عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي، إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله وسألوه: ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي، قال: يا أخي، ما الذي أبكاك قد رعتَ أهلك، أفمن علة أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل، قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]، قال فبكى أبو حازم أيضًا معه، واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتُفرج عنه، فزدتَه، قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما[3].

كان يزيد الرُّقاشي رحمه الله يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه والقبر بيته والتراب فراشه والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشيًّا عليه[4].

قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر رحمه الله: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينيك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: يا أخي، إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام، لكنت حريًّا ألا تجف لي عين، قال: فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، فقال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يدي، فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكاني، ولربما أضجَرَ ذلك امرأتي، فتقول يا ويحها: ما خصصت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا، ما تقر لي معك عين[5].

مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها:
ومما يجعلك تتأثر ويجعل قبلك يلين وعينك تدمع: المحاسبة؛ أي: أن تحاسب نفسك على أعمالك وأقوالك قبل أن تحاسب عليها يوم القيامة؛ قال خويل بن محمد: "كأن خويلًا قد وُقف للحساب، فقيل له: يا خويل بن محمد، قد عمَّرناك ستين سنة فما صنعت فيها؟ فجمعت نوم ستين سنة مع قائلة النهار، وإذا قطعة من عمري نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، ثم جمعت ساعات وضوئي، فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيها، ثم نظرت في صلاتي، فإذا صلاة منقوصة وصومٌ منخرق، فما هو إلا عفو الله أو الهلكة".

قال إبراهيم التيمي: "مثَّلت نفسي في الجنة آكُل ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثَّلتُ نفسي في النار آكُل من زقومها، وأشرَب من صديدها، وأُعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعمَل صالحًا فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي"[6].

[1] تفسير ابن كثير-ط دار طيبة (6/ 544)

[2] التبصرة لابن الجوزي (1/ 18).

[3] حلية الأولياء (3/ 146).

[4] التذكرة للقرطبي ص (124).

[5] حلية الأولياء، 5/ 164.

[6] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص: 26).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.96%)]