عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 24-09-2021, 10:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,666
الدولة : Egypt
افتراضي رد: إرهاصات الشعر الحر عند علي أحمد باكثير - دراسة فنية




فهذه تجربةٌ تأمُّليَّة بدا فيها الشاعر فيلسوفًا متحيِّرًا، يبحَثُ عن نفسه في خضمِّ هذا التِّيه الدنيوي، الذي تجسَّم أمامه في هذه الغُرفة الصامتة المُقفِرة التي لا حياةَ فيها ولا مُنى ولا طمأنينة، لكنَّها هادئة وساكنة سُكونَ الفناء.

فكلُّ شيءٍ يوحي بصورة الموت، الذي يمتدُّ من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، صورةٌ فنيَّة مليئة باليأس والقتامة التي تبدو في هذا النور الحائر في أرجاء الغُرفة، وهذه الاستغاثة التي تتوسَّل إلى اليأس أنْ يُخرِجها من ظلمات الجهل والنسيان.

فالغرفة القفرة الساكنة ما هي إلا الدُّنيا الضيِّقة، وما هذا اليائس البائس سوى الإنسان الذي لا حول له ولا قوَّة؛ فهو الذي استبدَّ به اليأس والنسيان، فلم يعدْ يذكُر أقرب مفردات المعجم إلى ذاكرته؛ وهي اسمه، وهذا يُعبِّر - بلا شكٍّ - عن مأساة الإنسان بعامَّة، ومأساة الشاعر العربي المعاصر بخاصَّة.


ويُلاحظ أنَّه لا يمكن اختزال أو حذف أيِّ سطرٍ من القصيدة؛ إذ قد يُسِيء ذلك إلى مجمل معمار بنائها شكلاً وفنًّا، بل وربما يهدم شُموخ هذا البناء، أو يُشوِّه جمال توازُنه الهندسي فيفقد القارئ القُدرةَ على التذوُّق الجمالي، والانسجام مع سحر الإبداع، وهذا يُؤكِّد معنى التلاحُم الشديد بين الجمل والمعاني في هذا النوع من الشعر.



كما يلاحظ هنا أنَّ باكثير قد استخدم مفردات صورته الشعرية كإشاراتٍ انفعاليَّة، تختزن في داخلها تجارب ومواقف متعدِّدة، وتُلخِّص موقف الإنسان في كلِّ زمان ومكان، فتكون هذه المفردات بمثابة الاستحضار الانفعالي لهذه المواقف وتلك التجارب.

وهنا يتمثَّل جوهر الشعر الحر ومَغزاه الحقيقي؛ فهو يهدف إلى التعبير عن مُعاناة الشاعر الحقيقيَّة للواقع الذي تعيشُه الإنسانية المعذَّبة.

فالقصيدة الشعريَّة إنما هي تجربة إنسانيَّة مستقلَّة في حدِّ ذاتها، ولم يكن الشعر مجرَّد مجموعة من العواطف والمشاعر والأخيلة والتراكيب اللغوية فحسب، وإنما هو إلى جانب ذلك طاقة تعبيريَّة، تُشارِك في صُنعها كلُّ القدرات والإمكانيَّات الإنسانية مجتمعةً - كما أنَّ موضوعاته هي موضوعات الحياة عامَّة، تلك الموضوعات التي تُعبِّر عن لقطات عاديَّة، تتطوَّر بالحتميَّة الطبيعيَّة، لتصبح كائنًا عضويًّا، يقومُ بوظيفة حيويَّة في المجتمع.

ومِن أهم تلك الموضوعات ما يكشف عمَّا في الواقع من الزيف والضلال، ومواطن التخلُّف والجوع والمرض؛ ممَّا يدفع الناس إلى فعل التغيير إلى الأفضل، خاصَّة المجتمع العربي إبَّان هذه الحقبة التاريخيَّة.

وفي ظنِّي أنَّ كتابة باكثير لشعر التفعيلة على هذه الصورة، قد سبقَتْه مرحلةٌ تطوُّريَّة جوهريَّة؛ وهي كتابة الشعر على نظام الموشح أو المزدوج أو المسمط أو المخمس[27]، وقد تَمثَّل هذا في كِتابته قصائدَ على نظام الشعر المزدوج، نلمَحُ فيها التنويع الموسيقي، والتجديد الإيقاعي؛ ومن أمثلة هذه القصائد قصيدة (كلنا عرب)، التي نشرها في "مجلة الفتح" العدد (433)، عند سَماعه إلغاء تأشيرة الدُّخول، وقيود الجوازات بين المملكة العربية السعودية ومملكة العراق.

والقصيدة تبلُغ ستة وأربعين بيتًا، بَناها على نظام المزدوج، وجاء وزنها على مخلع بحر المتدارك، ذلك البحر الذي كان مفضَّلاً لديه في كتابة هذا الشعر الحر بعد ذلك، ويقول في هذه القصيدة[28]:





فَأَجَابَ الدَّمُ

ثَائِرًا مُحْنِقَا



مُغْضَبًا يَكْظِمُ

نَفَسًا مُحْرِقَا



مَا شَكَكْتُ بِهِ

أَبِهَذَا الغَبِي



قَدْ أَحَسَّ بِهِ

دَمُكَ اليَعْرُبِي



أَعَجِيبٌ أَخٌ

ضَمَّ عَطْفًا أَخَاهْ



كَبُرَتْ جُمْلَةً

حَمَلَتْهَا الشِّفَاهْ



أَوَ لَيْسَ العَجَبْ

طَامِعًا فِي أَخِيهْ



مُستَعِينٌ عَلَى

أَهْلِهِ صَائِدِيهْ



مَا لِهَذِي الحُدُو

دِ ارْفَعُوهَا ارْفَعُوا



وَيْلَهُمْ قَطَّعُو

نَا لِكَيْ يَبْلَعُوا










نلاحظ أنَّ لغة الشاعر الرَّصينة التي عُرِفت في شِعره التقليدي قد اختفَتْ، وحلَّت محلَّها لغةٌ أخرى عذبة قريبة في معانيها، وتقترب كثيرًا من لغة الحياة اليوميَّة، من مثل قوله: (الغبي - قطعونا - يبلعوا).







كما نلاحظ أنَّ موسيقا تفعيلة المتدارك (فاعلن) والخبب[29] قد أتاحَ للشاعر إمكانيَّة واسعة للتحرُّك خلال أشكال غير محدودة من الموجات النفسيَّة، التي جاءتْ أشبه بالصرخة التي نادَتْ على العرب: أنِ اتَّحدوا من جديد، والغوا هذه الحدود التي صنَعَها الاستعمار بينكم ليقطع أوصالكم، ثم يبتلعكم بعدها.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.03%)]