عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-12-2022, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء

المثال الثاني الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف -صاحب كتاب سبل السلام غيره- له كتاب تطهير الاعتقاد وله جهود كبيرة في رد الناس للسنة والبعد عن التقليد المذموم والتعصب وعن البدع؛ لكنه زل في بعض المسائل، ومنها ما ينسب إليه في قصيدته المشهورة لما أثنى على الدعوة قيل إنه رجع عن قصيدته تلك بقصيدة أخرى يقول فيها:
رجعت عن القول الذي قد قلت في النجدي
ويعني به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويأخذ هذه القصيدة أرباب البدع وهي تنسب له وتنسب أيضا لابنه إبراهيم؛ وينشرونها على أن الصنعاني كان مؤيدا للدعوة لكنه رجع.
والشوكاني رحمه الله تعالى مقامه أيضا معروف، الشوكاني له اجتهاد خاطئ في التوسل، وله اجتهاد خاطئ في الصفات وتفسيره في بعض الآيات فيه تأويل، وله كلام في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس بجيد، أيضا في معاوية رَضِيَ اللهُ عنْهُ ليس بجيد؛ لكن العلماء لا يذكرون ذلك.
وألف الشيخ سليمان بن سحيمان كتابه تبرئة الشيخين الإمامين يعني بهما الإمام الصنعاني والإمام الشوكاني.
وهذا لماذا فعلوا ذلك؟ لأن الأصل الذي يبني عليه هؤلاء العلماء هو السنة، فهؤلاء ما خالفونا في أصل الاعتقاد، ولا خالفونا في التوحيد ولا خالفونا في نصرة السنة، ولا خالفونا في رد البدع، وإنما اجتهدوا فأخطؤوا في مسائل، والعالم لا يُتبع بزلته كما أنه لا يُتّبع في زلته هذه تترك ويسكت عنها، وينشر الحق وينشر من كلامه ما يؤيد به.
وعلماء السنة لما زلّ ابن خزيمة رحمه الله في مسألة الصورة كما هو معلوم ونفى إثبات الصورة لله جل وعلا رد عليه ابن تيمية رحمه بأكثر من مائة صفحة، ومع ذلك علماء السنة يقولون عن ابن خزيمة إنه إمام الأئمة، ولا يرضون أن أحدا يطعن في ابن خزيمة لأجل أن له كتاب التوحيد الذي ملأه بالدفاع عن توحيد الله رب العالمين وإثبات أنواع الكمالات له جل وعلا بأسمائه ونعوت جلاله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
والذهبي رحمه في سير أعلام النبلاء قال: وزلّ ابن خزيمة في هذه المسألة.
فإذن هنا إذا وقع الزلل في مثل هذه المسائل، فما الموقف منها؟ الموقف أنه ينظر إلى موافقته لنا في أصل الدين، موافقته للسنة، نصرته للتوحيد، نشر العلم النافع، ودعوته للهدى، ونحو ذلك من الأصول العامة، وينصح في ذلك وربما رُدّ عليه؛ لكن لا يقدح فيه قدحا يلغيه تماما.
وعلى هذا كان منهج أئمة الدعوة في هذه المسائل كما هو معروف.
وقد حدثني فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله تعالى حينما ذكر قصيدة الصنعاني الأخيرة (رجعتُ عن القول الذي قلت في النجدي) التي يقال إنه رجع فيها، أو أنه كتبها قال: سألت شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عنها هل هي له أم ليست له؟ قال فقاتل لي الشيخ رحمه الله: الظاهر أنها له. والمشايخ مشايخنا يرجحون أنها له؛ ولكن لا يريدون أن يقال ذلك لأنه نصر السنة ورد البدعة. مع أنه هجم على الدعوة تكلم على هذه القصيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الشوكاني له قصيدة أرسلها للإمام سعود ينهاه فيها عن كثير من الأفعال من قتال ومن التوسع في البلاد ونحو ذلك فيه أشياء.
لكن مقامهم محفوظ لكن ما دلوا فيه لا يتابعون عليه وينهى عن متابعته فيه.
فإذن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذه القاعدة المتفق عليها لها أثر كبير؛ بل يجب أن يكون لها أثر كبير في فتوى المفتي وفي استفتاء المستفتي أيضا.
إذا نظرنا إلى أنّ الحكم عند الله جل وعلا واحد، ومع ذلك الخمر تأخّر تحريمها، والزنا تدرّج الرب جل وعلا في تحريمه؛ يعني في جملة أحكامه، فالخمر صار فيه تدرج مع أن الحكم عند الله جل وعلا أنه حرام، وأنه محرم في الإسلام؛ لكن لم يأت للناس دفعة واحدة؛ لأجل مراعات تحصيل المصالح ودرء المفاسد.
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل الكعبة قال لعائشة «لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم ولجعلت لها بابين» قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر) يريد به أنه لا تتحمل عقولهم أن تهدم الكعبة وأن يُعاد بناؤها مع أن إعادة بنائها على قواعد إبراهيم هي الأفضل، وهو إرجاع الأمر على ما هو عليه؛ لكنه ترك ذلك عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ رعاية للمصالح ودرءا للمفاسد وبوّب عليه البخاري رحمه الله بقوله وهو الفقيه الإمام: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقع في أشد منه. يعني أن يكون هناك اختيار الإمام المفتي يُعلن أو لا يعلن، يقول يفتي أو لا يفتي، إذا خشي أن يقصر فهم الناس عن الفتوى أو أن لا ينزلوها على فهم المفتي، أو أن تحدث من الأضرار أكثر من مصلحة الفتوى، فإنه يترك الاختيار حتى لا تُحدث الفتوى ما تحدث.
واليوم تسمعون كيف أن بعض المفتين يتكلم في كل مسألة دون نظر، يأتي مستفتي من أمريكا يمكن بلد –أستغفر الله وأتوب إليه- لا تعرف نور الله جل وعلا الإسلام، ويسأل عن الهوى في بلد في الخليج الواقع مختلف والزمان مختلف والشخص مختلف والحال مختلفة، ويأتي المفتي ويفتي فتعلن الفتوى على الجميع.
والفتوى غير الحكم، الحكم هذا واحد لا يتغير؛ لكن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان.
ولهذا تجد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لما ذهب إلى مصر من بغداد رجع وفيه فقه الشافعي القديم وفيه الفقه الجديد، الحنفية لهم أيضا أقوال هؤلاء وهؤلاء، الإمام أحمد له في بعض المسائل أربع روايات في بعض المسائل خمس روايات، الفتوى تختلف الحكم واحد.
فإذن لا يقال إن كل فتوى هي حكم، الفتوى تتعلق بالشخص وتتعلق بالزمان وتتعلق بالمكان وتتعلق بالمصالح والمفاسد.
من أمثلة ذلك خذ مثلا لو أن سائلا سأل في بلد من بلاد الغرب في أي بلد مثلا، شاب هناك يريد أن يدرس: هل لي أن أتزوج امرأة وأنوي أني إذا انتهيت هذه المدة سنة أو ستة أشهر أني أطلقها؟ هل لي أن أفعل ذلك؟ فينظر المفتي إلى حاله فإذا به شاب وإذا به متدفق فإذا أغلقت به هذا الباب وإذا كان الاختيار عدم ذلك، فإنه قد يؤول إلى الزنا فلا شك أن هذا بالإجماع أخص، فيفتى هذا بما يناسبه في شخصه وزمانه ومكانه، فذهبت الصحف والمجلات فأعلنت الفتوى للناس جميعا.
فإذن صرنا في مشابهة للمتعة المحرمة بشكل أو بآخر، مع أن العلماء نصوا أن النية نية الطلاق في العقد غير مؤثرة؛ لكن الناس لا يفهمون من الفتوى لا يفهمون حدود ما يفهمه المفتي، ولهذا يجب أن يرعى المفتي المصالح ويدرأ المفاسد في جميع الاعتبارات في ذلك.
القواعدة الأخيرة ولا نريد أن نطيل في هذا الباب: الشريعة يسر.
كما ثبت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، وقد قال الله جل وعلا ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة:286] وقال جل وعلا ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[الطلاق:7]، وقال جل وعلا ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾[الحج:78] ونحو ذلك من الآيات فالدين يسر هذه القاعدة حق لكنها استخدمت في غير الحق.
الدين يسر ما معناه؟ معناه أن تشريع الإسلام يسر في الأحكام، يعني ما نص الله جل وعلا عليه تشريع الصلاة تشريع الوضوء تشريع الصيام تشريع الزكاة، الزكاة اثنين ونصف في المائة هذا يسر، ما كلفنا عشرة أو عشرين في المائة من المال، يسر، الصيام شهر في السنة يسر، صلاة الجمعة مرة في الأسبوع، الصلوات خمس في اليوم وليس بالخمسين هذا يسر.
فإذن معنى القاعدة أن أحكام الشريعة مبنية على اليسر.
هنا الأمر الثاني أن المجتهد في المسائل التي لا نص فيها إذا صار هناك وجهان للقول فإنه ينبغي له أن يختار أيسرهما؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، أما إذا اتضحت له المسألة فليس له الخيار ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾[الأحزاب:36]، فإذا كان كذلك فهذه القاعدة أعملها السلف في شرح أحكام الإسلام وأعملها السلف في المسائل الاجتهادية، إذا نزلت نازلة نظروا هذه فيها تضييق وهذه فيها سعة اختاروا ما فيه سعة.
ولأنه من القواعد التي اختارها الشافعي رحمه الله تعالى ووافقه عليها جمع من أهل العلم أن الأمر في الشريعة إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، معنى ذلك أن المجتهد ييسر في الأمر.
قد قال سفيان الثوري رحمه الله فيما ذكره عنه النووي وجماعة قال: ليس العلم بالتشديد وإنما العلم الرخصة تأتيك من فقيه. لماذا؟ هذه الكلمة استغلها بعضهم في أن التيسير والترخيص في كل شيء، وهذا ليس بجيد؛ لماذا؟ لأن التشديد يُحسنه كل أحد إذا اشتبه على الواحد شيء، أتركه ما يصلح لا تأتي هذا، هذا يحسنه كل أحد، والمرء قد يتورع في نفسه؛ لكن فيما يفتي به الناس ينبغي أن ينظر ما ينبغي شرعا وألا يشدد على الناس، في نفسه قد يختار الأشد تورعا أو بعدا؛ لكن فيما يفتي به الناس ييسر عليهم في المسائل الاجتهادية.
قال: وإنما العلم الرخصة تأتيك من فقيه. يعني أن الفقيه يعلم كتاب الله جل وعلا، ويعلم سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعلم كلام أهل العلم، فيعلم أن هذه الرخصة لا تخالف الكتاب ولا تخالف السنة ولا نخالف ما أجمع عليه أهل العلم، حينئذ التيسير فيه مدعاة.
فإذن التيسير أصل من أصول الشريعة في تشريعات الشريعة كلها يسر والشريعة شملت أحكامها كل ما يحتاجه المكلف فإذن هي اليسر في نفسها وإذا كان الأمر بالاجتهاد فإن المفتي ينبغي له أن يختار اليسر.
المسألة السابعة
ما يلزم المفتي أن يتصف به

لاشك إذا بينا هذه القواعد والأصول العامة، صفة المفتي ما هية؟ ما الذي يجب على المفتي أو ينبغي أن يتصف به؟
لم أجد أحسن من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين عن رب العالمين قال رحمه الله: قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح عنه: ينبغي للرجل –هذا كلام إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد- ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا –وانظر إلى تعبير الإمام حمل نفسه على الفتيا يعني تجرأ وفعل وكان ينبغي له أن لا يحمل نفسه- ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، عالما بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلة معرفتهم لصحيحها من سقيمها.
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه الفقيه والمتفقه وقد عقد أبوابا وفصولا في صفة المفتي والمستفتي والفتوى وهي فصول حسنة قال ما حاصله:
أول أوصاف المفتي أن يكون بالغا، هذا وصف عام لأنه حكم تكليفي فيلزم فيه البلوغ.
الثاني أن يكون عدلا ثقة، عدلا لا يأتي ما يؤخذ عليه في دينه بفسق أو كبيرة أو نحو ذلك، ثقة فيما ينقل عن الدين يتحرى لا يتجاسر لم يجرب عليه الكذب، لم يجرب عليه افتئات، لم يجرب نسبة أشياء إلى غير من تنسب إليهم، قال: لأن علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين، وإن كان بصيرا بها فإنه لا تقبل فتوى الفاسق.
الثالث أن يكون عالما بالأحكام الشرعية وعلمه بها يشتمل على معرفته بأصولها وفروعها، وأصول الأحكام في الشرع أربعة:
أحدها: العلم بكتاب الله تعالى.
الثاني: العلم بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثالث: العلم بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه ليتّبع ألأحكام وليجتهد بالرأي فيما فيه الاختلاف.
والرابع: العلم بالقياس الموجب ليرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد المفتي طريقا للعلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل، فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه ولا يجوز الإخلاف بشيء منه.
انتهى كلام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى.
الوصف الخامس أن يعلم المفتي أحوال الناس وأهواءهم وأغراضهم؛ لأنه ربما توصل الناس بكلام المفتي إلى أغراضهم وأهوائهم وهؤلاء الناس قد يكونون من علية القوم وقد يكونون من أهل الأهواء على أي اختلاف، فالمفتي إذا لم يعلم الشأن فإنه قد تُسَمّى له الأمور بغير اسمها وقد توصف له الأمور بغير وصفها، فحينئذ إذا علم الأهواء وعلم ذلك فيجب عليه حينئذ الحذر مما تحدثه فتواه في الناس مما قد يكون من المفاسد التي يجب أن يصد عنها أن يترفّع عنها رعاية للدين وحفاظا على الكلمة.
وهذه الأهواء قد تكون في علاقة رجل بامرأته، وقد تكون في علاقة رجل مع تركة يراد أن تقسم ويسأل فيها، وقد تكون علاقة رجل بوصية في يده، وقد تكون علاقة الرجل بوقف، وقد تكون المرأة تسأل لشيء تصل به إلى غرض من أغراضها، وقد يكون الأمر أكبر من الوصول بالفتاوى إلى أشياء تغير في الأمة وتقلب في الأمة أشياء فحينئذ يجب الأمر أن يكون المفتي متثبتا متأنيا لا تصدر فتواه إلا بعد إيقان وإتقان ونظر في المصالح والمفاسد حتى لا تعوذ الفتوى على أصل الشريعة وقاعدة الشريعة بالإبطال وهي أن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد.
المبحث الثاني ما يلزم المستفتي أن يتصف به.
هذا المفتي في بعض الأشياء.
لكن المستفتي ما حاله؟
المستفتي ينبغي له وبعض العلماء يقول يجب عليه أن يطلب الأعلم الأتقى لله ليسأله، مرة أنا في الحرم في مكة قابلني شخص من الآفاق، قال: أنا أريد أستفتيك، فقلت له: تستفتيني لماذا اخترتني أنا بالضبط ليش بالضبط استفتي فلان، قال أخي باين، وأخبرته الناس ينظرون إلى وجه أهل الخير مثلا أو من ظاهره خير والله أعلم بسريرته وينظرون له ويقولون هذا طالب علم هذا شيخ.
بل قد رأينا في مجتمعاتنا والمجتمعات القريبة منا أن كل من ظاهره الالتزام يسمى شيخا، الشيخ فلان والشيخ فلان والشيخ فلان، كلمة شيخ لم تكن تطلق إلا على العالم المتبحر الشيخ فلان، والآن زادوا فضيلة الشيخ، شيء فيه زيادة وتبدّل في الألفاظ مما يجب حماية الشريعة فيه؛ لأنه إذا سمّى واحد فلان وسمى فضيلة الشيخ، معناه أنه أهل، لاشك فيجب أن نتأنى في الألفاظ وأن نصف الناس بما ينزلون به «أنزلوا الناس منازلهم» هذا حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يثق المستفتي بظاهر المرء بل يبحث عن العالم الأعلم الأتقى لله؛ لأنه سيفتيه بما يجب عليه عند ربه جل وعلا، فإن قصّر في البحث أو في التحري فإنه يأثم لأنه ما تحرى الصواب في ذلك.
الصفة الثانية أن لا يُخفي شيئا من الحقيقة عن المفتي؛ لأن المفتي يفتي على نحو ما يسمع، فإذا أخفى بعض الحقيقة فإنه لا ينجيه هذا، فيجب عليه أن يذكر كل الحقيقة حتى تكون الفتوى مطابقة للاستفتاء، قد كان العلماء الأقدمون إذا جاءتهم الفتوى، إذا جاءهم الاستفتاء في ورقة كتبوا الفتوى تحتها مباشرة بكلام من طرف الصفحة لطرف الصفحة؛ يعني ما يبقون مجال لكلمة تضاف، رعاية لجانب أن يأتي صاحب هوى ويضيف كلمة أو يحذف كلمة.
الوصف الثالث أن يجل العالم؛ لأن بعض المستفتين يأتي بعبارة فيها فضاضة أو في وقت غير مناسب، أو أنه لا يصبر على العالم ونحو ذلك، فينبغي له أن يجل العالم أولا في صيغة السؤال.
وهنا نَقْل يقول الخطيب أيضا في الفقيه والمتفقه ما نصه: لا ينبغي للمستفتي إذا سأل المفتي أن يقول له ما يقول صاحبك، أو ما تحفظ في كذا؟ بل يقول ما تقول أيها الفقيه أو ما الفتوى في كذا.
يعني هذا من باب الأدب معه؛ لأن المفتي نفس بشرية، فأحيانا تكون صيغة السؤال غير جيدة، فلا ينشط لإعطاء الجواب كما ينبغي بما ينفع السائل، تعطي كلمات وجيزة السائل لا يستوعبها ويبني عليها ويكون مخطئا، وهنا ينبغي للمفتي أن يتأنى وأن يصبر على وعر الناس، وكذلك المستفتي ينبغي له أن يُجل العالم وأن يصبر عليه وأن يستفتي بأناة وهدوء.
من صفات المستفتي أن المستفتي لا يلزم أن يسأل على الدليل، بعض الناس ظن أن المستفتي يجب عليه أن يسأل على الدليل ويقول إن الدليل على ذلك قول الله جل وعلا ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾[النحل:44] فيقول اسألوهم بالبينات والزبر، وهذا تفسير مخالف لما عليه المفسرون، فإن المفسرون جعلوا الجار والمجرور في قوله ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ أن هذا راجع إلى أول الآية في تأييد كل نبي أوحى الله إليه بالبينات والزب. أما السؤال فإنما يلزم أن يسأل فإذا أجابه المفتي العالم بجواب يلزمه أن يأخذ به بطون أن يسأله عن الدليل.
وإذا نظرنا في المدونة للإمام مالك بن أنس أسئلة لمالك وأجوبة رجل كذا تجد أن أكثرها بل جلها بلا دليل.
مسائل الإمام أحمد تجد أن أكثرها أو جلها بلا دليل والمسائل المنقولة المعروفة عن أهل العلم أكثرها بلا دليل.
بهذا نقول إن المفتي يذكر الدليل هذا من باب الأفضلية إذا نشط لذلك وكان المستفتي يعي، أما إذا كان المستفتي لا يعي فإنه لا يذكر له الدليل.
الوصف الخامس ألا يكون للمستفتي غرض أو هوى في استفتائه، وإنما غرضه بيان الحق وزوال الجهل والشبهة ليلتزمه المستفتي ويبني عليه، هذه مسألة عظيمة في الناس، فإن الناس يستفتون عن أشياء لهم غرض فيها؛ بل قد قيل إن السائل الواحد يتصل بسبعة ثمانية عنده أرقام المشايخ يتصل بهذا وهذا وهذا في نفس المسألة، وإذا أحرجته في السؤال قال أما سألت فلان وقال لي كذا، أولا أشغلت المشايخ والوقت قصير والواجبات كثيرة جدا جدا جدا أكثر من الأوقات، والآن الواحد يستغفر الله جل وعلا عن ضعف الوقت لأداء الواجب.
الثاني فالذي ينبغي لك أن تجتهد في البحث عن الأعلم والأفقه وتسأله ويلزمك أن تأخذ الفتوى عنه، أما أن تسأل سبعة ثمانية فهذا لا ينبغي في ذلك.
ولهذا أقول ينبغي للذين يجيبون عن الأسئلة في الإفتاء في الاستفتاءات أن يأخذوا الحيطة والحذر، فكثير من المستفتين يسجّل الكلام، وربما يكون المفتي أو يكون المجيب على السؤال ربما يكون في حال لا يحب أن يجيب عليها، أو ربما يكون ما تثبت من المسألة وظن أنها لن تتعدى هذا، وضعف ورعه أن يقول لا أدري، فتسجل عليه كما سمعت من تسجيلٍ على بعض طلبة العلم سجِّل له بكلام غلط بالاتفاق وغلط فيه وزل فيه خالف فيه لكن ذاك سجل سينقلها، حينئذ يقع الزلة والزلة.
ومن واجب المستفتي ولا يحل له أن يسجل كلام عالم دون إذنه لأن كلام العالم هذا في تسجيله ينبني عليه ما دونه غرق الأساس هذه تبعة للدبين وللمستقبل فكل من أراد أن يسجل فليخبر المفتي أو من سـأل أنا أريد أن أسجل الفتوى، فإن أذن وإلا فلا يجوز له أن يخدعه؛ لأن المفتي ينظر إلى أن هذا الجواب لواحد لكن إذا سجل صار لمئات.
وأنا اختبرت بعض الناس في ذلك فكان الأكثرون يقولون نعم عندنا تسجيل، وخاصة في الأزمة التي مرت أزمة الخليج وما تبعها، فكان أكثر من يتصل يكون معه تسجيل، أسأله معك تسجيل يقول نعم، ليش ما أخيرت؟ وهل المصلحة ضرب الأمة بعها ببعض وتكثير الأقوال؟ تكثير الفتاوى؟ لا، المصلحة في الائتلاف والاجتماع، والفرقة هي نصيب الشيطان من هذه الأمة.
الحقيقة المسائل كثيرة ومتعددة من المسائل هذه المسألة التاسعة
مراتب الفتوى

مراتب الفتوى فيها مباحث الفتوى.
تارة تكون صريحة وتارة تكون تلميحا، فما كان صريحا هذا لا إشكال فيه، وما كان فيه تلميح أو فيه كناية فإنه يلزم فيه الإيضاح والسؤال.
ومن حيث الصحة وعدمها الفتوى يقال عنها صحيحة إذا وفقت الدليل أو وافقت قواعد الشرع ترتب عليها تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ويقال لها فاسدة أو باطلة إذا كانت مصادمة لنص من الكتاب أو من السنة.
ننتقل إلى آخر البحث لأن الوقت ربما يقصر بنا.
في آخر بحث بنا:
طرق مسايرة الفتوى للهوى

يعني ما هي الطرق التي يخشى منها ليكون الهوى مأثرا على الفتوى.
أولها تتبع الرخص واستدامة ذلك، فإن تتبع الرخص من العالم والرغبة في أن يرخص ويرخص ويرخص في أي قول يجده، هذا شاع في فتوى بعض الناس في هذا الزمن، هذا ليس بطريق، أنه يبحث عن الرخصة كيفما كان، ويفتي بها الذي ينبغي؛ بل الذي يجب عليه أن يتحرى الحق وأن يفتي بما يرى أنه الصواب في هذه المسألة.
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات ما نصه: فإذا اعتاد الترخّص صار كل عزيمة في يده كالشاقة منها. وهذا ظاهر وقد وقع المتوقع في أصول كلية وفي فروع جزئية كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء، ومسألة الإطلاق بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز. وقال أيضا: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى.
الطريق الثاني إعمال الحيل المذمومة، فتجد أنه يجد حيلة للتخلص من الحكم الشرعي، والحيل ذم الله جل وعلا عليها اليهود ولعنهم بذلك؛ لأنهم استحلوا محارم الله بأدنى الحيل، وضابط الحيل المذمومة ما قاله الشوكاني في السيل الجرار قال: كل حيلة تنصب لإسقاط ما أوجبه الله أو تحليل ما حرّمه الله فهي باطلة. لا يحل لمسلم أن يفعلها ولا يجوز تقرير فاعلها عليها ويجب الإنكار عليه.
أما إذا كانت الحيلة لا تنصب لإسقاط حكم شرعي؛ فإن بعض العلماء رخص في الحيل وسمّى بعضهم بعض الحيل حيلا شرعية، نسبها للشرع، ولا يصح أن تسمى حيلا حينئذ؛ بل يقال رخص في أنه يسلك طريقا للخروج من الإثم والإلزام بوجه من أوجه الشرع، هذا لا يسمى حيلة بل أخذ بطريق من الطرق.
لكن الحيل المذمومة كما ذكرنا هي ما نُصب من الحيل لإسقاط واجب أو تحليل محرم، يذهب يحتال على الربا بالعينة، يقول لك أنا أبيعك هذا القماش أو أكياس الأرز أنا بعت إياها الكيس بمائة وعشرين واشتريتها منك الكيس بمائة، يعطيه مائة ومائة وعشرين مؤجلة بعتك بمائة وعشرين بعد سنة، خلاص حط يدك عليها حط يده عليها استلمتها قال استلمتها فقال أنا أشتريها منك الكيس بمائة، خلاص اشتريتها ويذهب يعطيه الأكياس لها مدة طويلة مثل ما هو معلوم، هذا احتيال بيع العينة والعينة محرمة في أنها احتيال على الربا.
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: إن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه، ويكون كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس وبيان هذا ظاهر.
السبب الثالث من أسباب اتباع الهوى في الفتوى حب استدامة الرئاسة والإمارة، وهذا أمر خطير لأنه ما أحد يعلم الشرع ويعرف أن الشرع يوافق أهواء الناس، الشرع لا يوافق أهواء الناس، الشرع حكم على الناس تارة يكون الشرع فيما يختاره الناس، وتارة يكون ما يضاد الناس في أفعالهم، فإذا كان هذا الذي يفتي يريد استدامة الرئاسة ورضى الناس عنه ومحبتهم له وتوجيه وجوه الناس إليه، فإنه يقول لهم ما يرضيهم، يقول للناس ما يرضيهم يخشى أن ينصرفوا عنه.
نزيد بالمناسبة أو يقول في المحاضرة ما يرضيهم ولا يبين لهم حكم الله جل وعلا وبيان الحق الواضح فحينئذ يقع في الغلط.
نعم ليس كل حق يعلم يلزم بيانه في كل زمان ومكان؛ لكن يجب على المرء أن لا ينطق بباطل، وأن لا ينسب للشريعة ما ليس منها بهذا نقول ما قاله ابن حزم في ذلك، قال: إن الذي ينحرف في الفتوى ويتبع هواه، يفتي بما يتفق له مستديما لرياسة أو لكسب مال، وهذا واقع يفتي بما اتفق ما يحرف المسألة، كلام رجال ما يخالف سهل، اعمل ما تريد، الرخصة تأتيك من فقيه هذا محمود يتحرى ويرخص ما في الشرع، والشرع ولله الحمد لم يأتي بما يشق على الناس لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
السبب الرابع اتباع الآباء في أصل الدين أو اتباع ما عليه المجتمع أو البلد، وجعل هذا مرجعا يرجع إليهم دون غيرهم.
السبب السادس التقليد المذموم والتعصب للمذاهب لأن المتعصبة يزعمون أن إمامهم -يعني غلاة المتعصبة- أن قول إمامهم في الشريعة يلزم الأخذ بها، ويأنفون أن يُنسب الصواب إلى أحد من العلماء من ممن يخالف هذا المذهب.
أيضا مما يقال في هذا أنّ من طرق دخول الهوى في الفتوى تقديم العقل على ما دل عليه الشرع في الفتوى نصا أو استنباطا أما النص فيأتي يقول لا يحسن الأخذ بهذا الحديث، هذا الحديث لا يناسب هذا الزمان، أو هذه السنة صالحة للصحابة للبدو، صالحة لزمان ما؛ لكن لا تصلح لزماننا، هذا التعبير ليس تعبير عالم، ليس تعبير متحرٍّ للحق في مثل هذا.
لكن قد يأتي العالم ويقول إن هذه السنة مثلا أو الفتوى هذا الدليل يترتب عليه مفسدة لو عمل به فإنه يؤخذ بالمصلحة في ذلك؛ لأن المصلحة دلت عليها الشريعة مثل ما قالها ابن تيمية في مسائل وقالها الإمام أحمد في مسائل ونحو ذلك.
ويدخل في هذا مسألة التحسين والتقبيح العقلي ومرجع الحكم على الدليل والاستنباط منه إلى العقل؛ بل زاد الأمر في بعض المنحرفة في هذا الباب إلى أن قالوا إنّ أصول الاستنباط للفتوى وللفقه التي قررها العلماء في أصول الفقه يجب أن تغيَّر إلى أصول فقه جديدة تناسب العصر، فلا نقول مثلا إنّ الدليل الكتاب والسنة والإجماع والقياس وكذا، نقترب لا نقول إن الأمر يدل على الوجوب؛ بل نفصل لا نقول إن الأصل في الأمر الوجوب، لا نقول إن الأمر لابد أن يكون إما للوجوب أو للاستحباب أو الإباحة، إذا كان بعد نهي ونحو ذلك على ما هو معلوم وتفصيل الكلام في هذا، يريدون أصول فقه جديدة، وإذا قننوها صار الاستنباط من الدليل على وفق أصول محرفة، وهذا أشد في الانحراف في الشريعة وتحكيم للهوى لا في فهم الدليل؛ ولكن في أصل الاستنباط من الدليل، وهذا أمر خطير للغاية لأثره على الأمة.
على كل حال لعل فيما ذكر كفاية، وهذا الموضوع مهم.
وأرجو أن يستزاد من البحث فيه وأن نتقي الله جل وعلا في ذلك، وأوجه الخطاب في ذلك إلى نفسي المقصرة أولا، وإلى كل أخ يخاف الله جل وعلا ويتقيه، ويرجو أن يخفف عنه الحساب في ذلك أن يتقي الله في الفتوى، أن يتقي الله في الفتوى، وأن لا يقول في مسألة إلا بعلم، وقد كان جمع من السلف يهربون إذا اجتمع إليهم أربعون، إذا اجتمع إليه أربعون رأى الناس كثير هرب، ليقولوا عنه ما يقولوا؛ لكن الرياسة والتصدر لكل مجال هذا أمر ليس بالسهل؛ فينبغي على الجميع الخوف من الله جل وعلا والتحري في ذلك واحترام أهل العلم ومحبة أهل السنة والائتلاف وعدم الاختلاف وتحري الحق حيثما كان العبد، وسؤال الله جل وعلا دائما بدعوة العلماء: اللهم إما نعوذ بك أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا أو نظلم أو نظلم، اللهم فأجب، نسألك اللهم أن تغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
اللهم لا تجعل في قلوبنا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم أوسع رحمتك وأمطر شعابيب عفوك وجودك وإحسانك وقدسك ورحمتك على أئمتنا الماضين.
اللهم بارك في علمائنا الحاليين وسددهم في أقوالهم وفي أعمالهم، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويُنطق فيه بالحق ويعافي فيه أهل المعصية إنك على كل شيء قدير.
نسألك اللهم أن توفق ولاة أمورنا لما فيه الرشد والسداد، وأن تجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، ونعوذ بك اللهم من التعاون على الإثم والعدوان.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.30 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]