عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 28-09-2022, 02:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون









الشِّعر: ثورة الكلمة، ولغة القافِية، التي لا تَفتأ تَصرخ ملء الشَّاعرية والشعرية، ترسم ملامحَ الوجود والموجود، وتترجِم الخيرَ والشرَّ في الإنسان، وتَكشف عن أعماقِ ذاتيَّةِ الشاعر الذي يخلق من أبجديَّة مشاعره وآلامه وآمالِه وطموحاته مادَّةً هلاميَّة يشكِّل منها صورًا تخييليَّة، يلونها بأساليبه البلاغية والمجازية؛ لتعبِّر عن آرائه وميولاته وأحلامِه، فتميط حجبَ التساؤلات عن الواقع والمواقع!

ولأنَّ بؤرة الإبداع الأدبي هي تَحقيق التأثير في المتلقِّي؛ كان لزامًا على المبدِع - سواء أكان شاعرًا أم كاتبًا - أن يجيدَ استعمال لغته الأدبيَّة، وأن تكون منه كفاءة الإرسال، وتكون من المتلقِّي كفاية التأويل؛ كي تَكون عمليَّة التواصل بينهما ناجحة.

وعليه؛ فالشِّعر رسالة، والقصيدة شيفرة يحاول القرَّاءُ تفكيكها والغوص إلى ما وراء الكلمات في أعماق ما بين السطور؛ محاوَلةً منهم لفهم مقاصد الشَّاعر.

والمتلقِّي القارئ لأبعاد النصِّ ورؤاه يَدخل في حوارٍ حجاجي معه؛ يَستنطق من خلاله المفردات، ويزيح ستائرَ الغموض والرمزيَّة عن المعاني؛ فيؤوِّل ما يمكن تَأويله في قراءة تحليليَّة ناقدة ممحصة.. وهذه القراءة ما هي إلَّا محاولة لسَبر أغوار هذه القصيدة الباذخة في مبانيها ومعانيها، ورساليَّتها ومقصديتها.. والقصيدة تعلِن عن نفسها، وتتحدَّث عن ذاتها!

عتبة سوح الذات الشاعرة:
العنوان - كما هو معروف - هو العتبة الأولى التي نَنطلق منها للولوج إلى النصِّ، وهو تَكثيفٌ لمعانيه، أو لنقُل: هو الجسر الذي يمرُّ عليه القارئ للوصول إلى دلالاته، وهو يشكِّل أول إشارة من المؤلِّف للمتلقي.

وهو كذلك "رسالة لغوية (...) تَجذب القارئَ إليها، وتغرِيه بقراءتها، وهو الظَّاهر الذي يدلُّ على باطِن النصِّ ومحتواه"[1]، و"قد أظهَر البحثُ السيميائي بشكلٍ من الأشكال، أهميَّة العنوان في دراسة النصِّ الأدبي؛ وذلك نظرًا للوظائف الأساسيَّة المرجعيَّة والإفهاميَّة والتناصيَّة التي تَربطه بالنصِّ وبالقارئ"[2]، ولاستنطاقه لا بد من فَتح نوافذ التأويلات على بِنيته اللَّفظيَّة والدلالية، وإن كان هو بنية سطحيَّة، فإنَّ القصيدة بِنية عمِيقة، وعليه؛ فإنَّ تفكيكه إلى وحدات دالَّة تُحيل بالتالي على مدلولات مزخرفة بألوان بلاغيَّة، تساهِم بدورها في رسم ملامح القصيدة، وفتح مغالِقها، وتوضيح مقاصدها.

وعنوان القصيدة التي بين أيدينا للأديب والناقد د. فريد أمعضشو، يتكوَّن من كلمتين: "نفثة مصدور"؛ نفثة + مصدور! الكلمات لا تتوقَّف عند حدود دلالاتها المعجميَّة، بل تتخطَّاها إلى توليد دلالاتٍ أخرى حسب السِّياق الذي وردَت فيه، فحَسب سياق القصيدة فإنَّ "نَفثة" هي غصص حرَّى، يَستعر بها جوف الشَّاعر، وهي أَلسِنة لهيب الغربة التي تتلاطَم بين ضلوعه؛ إنَّه معلول، والعلَّة أكبر من التحمُّل؛ ثمَّة بركان يَثور في الأعماق!

والنَّفث فعلٌ لا شعوري أحيانًا، وشعوريٌّ في أحايين أخرى، وتلك الغصص حممٌ تَطفو على سَطح الواقع المرير.. نَفثة تحرق ما مضى من الأيام، وما اخضرَّ من الحاضر، وتعيد الآتيةَ رمادًا قد ينبتُ فيه عشب الأمَل، أو لعلَّه يَنبت! والذَّات الشاعرة فارس يتوشَّح سيف الكلمة، يحاول أن يَنفخ في هذا الرَّماد ويعيده سيرتَه الأولى أغصانًا مخضرَّة!

وكما للقصيدة شعريَّتها، كذلك للعنوان شعريَّته، ثمَّة علاقة وطيدة بين القصيدة والعنوان؛ فهي علاقة الجزء بالكلِّ، وعلاقة الباب بفناء الدَّار، إنه نصٌّ موازٍ لمتن القصيدة؛ حيث يشكِّل وحدةً متجانسةَ الدلالات مع وحدة النصِّ، وهو خطاب مستقلٌّ عن خطاب القصيدة، لكن مدار الدلالة وبؤرة المعنى واحد!

فنفثة مَصدور هنا توازي ما جاء في مَتن القصيدة من شَجنٍ وقلَق ولهيب يلفح ضلوعَ الشاعر، والقارئُ يحاول البحثَ عن المعاني المخبَّأة في ثنايا القوافي، وعبارة "المؤلِّفون يكوِّنون المعنى" تشي أنَّ ثمَّة معاني كثيرة تتعدَّد بتعدُّد القرَّاء، والمعنى ليس ثابتًا ولا نهائيًّا، المعنى سموات من المعاني، وما يفهم الآن قد يُفهم بصورة مختلفة مستقبلًا، وتتابُع الزَّمن يغيِّر المعنى ويجدِّده؛ فمثلًا ما يفهم من قصائد ابن الفارض الآن غير الذي فُهم من مئات السنين، وكذلك الأمر بالنِّسبة إلى الجاهلي؛ فقصائد الشعراء الصَّعاليك قد تَحمل دلالات متشعبة وعديدة، خصوصًا في خطابها الثوري المتمرد، وقد كانت لي وقفة مع شعر الصَّعاليك ومع قائدهم عروة بن الورد، الذي أطلقت عليه لقب "روبن هود العصر الجاهلي"، وليس هنا مقام الحديث عن ذلك، وعليه؛ فالنَّفثات في هذه القصيدة ستكون لها صور عدَّة، كل صورة وكل مشهد يَحكي عن جانب من جوانب نفثات ذلك المصدور همًّا وغمًّا؛ على أمَّة غرقَت في وَحل اللامبالاة، آذانها من طينٍ وعجين، هل من سامع للَهيب نفثات المصدور؟!

إنَّ المصدور يقول:
أنا في كياني غريب
غريب
غريب

استهلَّ الشاعر قصيدتَه بضمير المتكلم "أنا" ليحصر الحديثَ عن نفسه، أنا الغريب، أتحدَّث عن نفسي، عن كياني.. أنا من يَشعر بالغربة، ولا أحد سواي.. أنا هو المصدور، أنا القابِع في مأساة الغربة، أتحدَّث عن أنايَ!

البداية هي "أنا"؛ لتلفَّ هذه "الأنا" حبالَ الرؤية والرؤى حول أعناق الكلمات، لا لتشنق معانيها؛ بل لترفعها إلى علياء الرمزيَّة والرسائل المشفَّرة المسكوبة في دلالات عديدة تتعدَّد وتتشظَّى كما تتشظى تلك الذَّات.. الكلمات تفيض بأنين النَّفثات؛ حيث بدأ الشاعر قصيدتَه بجملةٍ اسمية "أنا في كياني غريب..."، ثمَّ جاءت بعدها جمَلٌ فعليَّة "تداهم.. فتمرع.. تشهر.. تنشر.. تغتال"؛ وكأنَّه يصرخ في وجه ذلك "الآخر" الذي داهَم سوحه: إنَّ ما أقوم به كلام حديث، وما تقوم به أنتَ أفعال، وتلك الأفعال كانت مكرًا، كانت سيطرة وانتزاعًا قسريًّا لما يملكه الغير، أنا في كينونتي وفي أعماقي أشعر بالغربة؛ غربة تتفتَّق عن غربة حتى كأنَّها ظلمات ثلاث، والشاعر هنا ردَّد كلمة "غريب" ثلاث مرات مع علامات تعجُّب الكينونة الإنسانيَّة، والكينونة الفكريَّة، والكينونة التاريخية، غربة عبر المكان والزَّمان.

والغربة ظاهرة بارِزة في الأدَب العربي، وكذا العالَمي، لا يَخلو أدبٌ ما من وجود هذه الظَّاهرة الإنسانيَّة التي عبَّر عنها الأدباءُ والشعراء والفنَّانون عبر العصور.. لكن غربة الشاعر في هذه القصيدة ليست غربة "الأنا" وحدها؛ بل غربة الذَّات الجماعية؛ وهذا ما يَجعل هذه الغربةَ غربة لا ككلِّ الغربات.

صدمة هزَّت الشاعرَ لِما يراه من ظلمٍ وهوان.. انعدام الثِّقة في الواقع المعيش، إنَّه يعاني من التِّيه والغربة في خندق القلق.. ها هو يوجِّه الخطابَ إلى ذلك القائد الذي أتى بفرسانه:
تُـداهِم فُرْسانُ جُـودِكَ سُـوحِي
فتَمْرَعْ.. وتُزْهِرْ.. وتَأمُلْ
وتَــوًّا!
تُشَهِّرُ عَضْبَكْ
وتنشُر مَحْلَكْ
وتَغْتال آمال





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.44 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.98%)]