عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 28-03-2024, 02:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,788
الدولة : Egypt
افتراضي يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب

يُسُنَّ لِمَنْ شُتِمَ قَوْلُهُ: إِنِّي صَائِمٌ، وَتَأْخِيرُ سُحُورٍ، وَتَعْجيلُ فِطْرٍ عَلَى رُطَبٍ

يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف

قَالَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَسُنَّ لِمَنْ شُتِمَ قَوْلُهُ: إِنِّي صَائِمٌ، وَتَأْخِيرُ سُحُورٍ، وَتَعْجيلُ فِطْرٍ عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ عُدِمَ فَتَمْرٌ، فَإِنْ عُدِمَ فَماءٌ، وَقَوْلُ مَا وَرَدَ".


هُنَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- سُنَنًا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَثَّلَهَا الصَّائِمُ، وَيَحْرِصَ عَلَيْهَا، وَهِيَ:
السُّنَّةُ الْأَوْلَى: أَنْ يَقولَ لِمَنْ شَتمَهُ: إِنِّي صائِمٌ:
وَهَذِهِ ذَكَرَهَا -رَحِمَهُ اللهُ- بِقَوْلِهِ: (وَسُنَّ لِمَنْ شُتِمَ قَوْلُهُ: إِنِّي صائِمٌ).

وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»[1].

وَهُنَا مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ: هَلْ يَقولُهَا سِرًّا أَوْ جَهْرًا؟
الْجَوابُ: فِي هَذَا خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى أَقْوالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَقولُهَا سِرًّا فِي نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَهَذَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ[2].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقولُهَا جَهْرًا بِلَسانِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَهَذَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنابِلَةِ، وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ[3]، وَاخْتارَهُ النَّوَوِيُّ، وَشَيْخُ الْإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَابْنُ الْقَيِّمِ[4].

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقولُهَا جَهْرًا فِي صَوْمِ الْفَريضَةِ، وَسِرًّا فِي صَوْمِ النَّافِلَةِ.
وَهَذَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنابِلَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ[5]، وَاخْتارَهُ الْمَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ[6].

السُّنَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُؤخِّرَ السُّحورَ:
ذَكَرَهَا -رَحِمَهُ اللهُ- بِقَوْلِهِ: (وَتَأْخيرُ سُحورٍ). وَالْحَديثُ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ سَيَكونُ فِي مَسائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعْريفُ السُّحُورِ:
السَّحُورُ بِالْفَتْحِ: اسْمٌ لِمَا يُؤكَلُ فِي السَّحَرِ، وَبِالضَّمِّ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ؛ أي: الْأَكْلَ نَفْسَهُ. وَأَجازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكونَ اسْمًا لِلْفِعْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ[7].

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكْمُ السُّحورِ:
أَجْمَعَ الْعُلَماءُ عَلَى أَنَّ السُّحورَ مَنْدوبٌ إِلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ واجِبًا، وَلَا يَأْثَمُ مَنْ تَرَكَهُ، قَالَ الْعَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي مُقْتَضاهُ الْوُجوبُ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْقَرائِنِ، وَهَهُنَا قَرينَةٌ تَدْفَعُ الْوُجوبَ، وَهُوَ أَنَّ السُّحورَ إِنَّمَا هُوَ أَكْلٌ لِلشَّهْوَةِ وَحِفْظِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لَنَا، فَلَوْ قُلْنَا بِالْوُجوبِ يَنْقَلِبُ عَلَيْنَا، وَهُوَ مَرْدودٌ"[8].

وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْماعَ عَلَى هَذَا جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ[9].

وَقَدْ حَضَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ عَلَى السُّحُورِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: «تَسَحَّرُوْا فَإِنَّ فِي السّحُورِ بَرَكَةٌ»[10].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصودُ بِالْبَرَكَةِ الَّتِي عُلِّلَ بِهَا السُّحورُ:
قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذِهِ الْبَرَكَةُ الْمُعَلَّلُ بِهَا السُّحُورَ يَجوزُ أَنْ تَكونَ أُخْرَوِيَّةً؛ لِأَنَّ فِيهِ مُتابَعَةَ السُّنَّةِ، وَهِيَ موجِبَةٌ لِلثَّوابِ وَزِيادَتِهِ وَثَمَرَتِهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِهِ ذِكْرٌ وَدُعاءٌ وَوُضُوءٌ وَصَلاةٌ وَاسْتِغْفارٌ فِي وَقْتٍ شَريفٍ، تَنْزِلُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَيُسْتَجابُ فِيهِ الدُّعاءُ، وَقَدْ يَدُومُ ذَلِكَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِمَزيدِ الْأُجورِ. وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ دُنْيَوِيَّةً كَقُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الصِّيَامِ، وَالنَّشاطِ لَهُ، وَيَحْصُلَ لَهُ بِسَبَبِهِ الرَّغْبَةُ فِي الاِزْدِيادِ مِنَ الصَّوْمِ لِخِفَّةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى فاعِلِهِ...، وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ الْبَرَكَةُ بِمَجْموعِ الْأَمْرَيْنِ. وَحَاصِلُ الْبَرَكَةِ فِي السُّحورِ يَتَنَوَّعُ أَنْواعًا:
أَوَّلُهَا: اتِّباعُ السُّنَّةِ وَالِاقْتِداءُ.
ثَانِيهَا: مُخالَفَةُ أَهْلِ الْكِتابِ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْإِفْطارِ كَمَا سَتَعْلَمُهُ بَعْدُ.
ثالِثُهَا: التَّقَوِّي بِهِ وَالنَّشاطُ لِلصَّوْمِ سِيَمَا الصِّبْيانُ.
رابِعُهَا: التَّسَبُّبُ لِلصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ إِذْ ذاكَ.
خامِسُهَا: التَّسَبُّبُ فِي ذِكْرِ اللهِ وَالدُّعاءِ وَلِلرَّحْمَةِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ الْإِجابَةِ.
سادِسُها: التَّسَبُّبُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، فَإِنَّهُ إِذَا جاعَ رُبَّمَا ساءَ خُلُقُهُ.
سابِعُهَا: تَجْديدُ نِيَّةِ الصَّوْمِ، فَيَخْرُجُ مِنْ خِلافِ مَنْ أَوْجَبَ تَجْديدَهَا إِذَا نامَ ثُمَّ تَنَبَّهَ"[11].

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ:
كُلُّ ما حَصَلَ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ حَصَلَتْ بِهِ فَضيلَةُ السُّحورِ:
لِحَديثِ أَبِي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «السُّحُورُ أَكْلَةٌ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ»[12].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ»[13].

فَتَحْصُلُ فَضيلَةُ السُّحورِ بِكُلِّ ما يَكُونُ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، وَلَكِنْ كَمالُ فَضيلَتِهِ بِالْأَكْلِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَكْلَةُ السَّحَرِ»[14]، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلامِ-رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْأَشْبَهُ: أَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ عَلَى الْأَكْلِ؛ فَهُوَ السُّنَّةُ"[15].

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَقْتُ السُّحورِ:
اِخْتَلَفَ الْعُلَماءُ فِي تَحْديدِ وَقْتِ السُّحورِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ وَقْتَ السُّحورِ مَا بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ إِلَى طُلوعِ الْفَجْرِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهورِ الْفُقَهاءِ؛ مِنَ الْحَنابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْمالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[16].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وَقْتَ السُّحورِ ما بَيْنَ السُّدُسِ الْأَخيرِ وَطُلوعِ الْفَجْرِ.

وَهَذَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[17].

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: سُنِّيَةُ تَأْخيرِ السُّحورِ، وَبَيانُ الْعِلَّةِ فِي سُنِّيَةِ تَأْخيرِهِ:
يُسَنُّ تَأْخيرُ السُّحورِ، وَقَدْ حَكَى غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْإِجْماعَ[18]. وَذَكَرَ الْإِمامُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّ أَحَادِيثَ الْأَمْرِ بِالتَّسَحُّرِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَتَأْخيرِهِ، وَتَعْجيلِ الْفِطْرِ، مُتَواتِرَةٌ صِحَاحٌ[19].

وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخيرُ السُّحورُ؛ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي الْمَقْصودِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: كانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِأُمَّتِهِ فَيَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَسَحَّرْ لَاتَّبَعوهُ فَيَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَلَوْ تَسَحَّرَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ لَشَقَّ أَيْضًا عَلَى بَعْضِهِمْ مِمَّنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ النَّوْمُ، فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الصُّبْحِ، أَوْ يَحْتاجُ إِلَى الْمُجاهَدَةِ بِالسَّهَرِ، وَقَالَ: فِيهِ أَيْضًا تَقْوِيَةٌ عَلَى الصِّيامِ؛ لِعُمومِ الِاحْتِياجِ إِلَى الطَّعامِ، وَلَوْ تُرِكَ لَشَقَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ كانَ صَفْراوِيًّا؛ فَقَدْ يُغْشَى عَلَيْهِ فَيُفْضِي إِلَى الْإِفْطارِ فِي رَمَضانَ"[20].

تَنْبيهٌ: وَالسُّنَّةُ فِي تَأْخيرِ السُّحورِ عِنْدَ جُمْهورِ الْفُقَهاءِ ما لَمْ يُخْشَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي[21]؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، وَالْمُرادُ بِالْفَجْرِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ»[22].

وَالصَّحيحُ مِنْ قَوْلَي الْعُلَماءِ: أَنَّ وَقْتَ السُّحورِ عِنْدَ طُلوعِ الْفَجْرِ الْكاذِبِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةٌ»[23]، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ السُّحورُ مَأْخوذٌ مِنَ السَّحَرِ، وَالسَّحَرُ هُوَ آخِرُ اللَّيْلِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكونُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ قَبْلَ طُلوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ السُّحورَ بِكَوْنِهِ سُحورًا؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْحَدُّ الَّذِي بِتَبَيُّنِهِ يَجِبُ الْإِمْساكُ:
أَمَّا الْحَدُّ الَّذِي يَجِبُ بِتَبَيُّنِهِ الْإِمْساكُ فهُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْفارُ فِي الطُّرُقِ وَالْبُيوتِ وَالْمَساجِدِ.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ[24]، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمَذاهِبُ الْأَرْبَعَةُ[25]، وَنُقِلَ الْإِجْماعُ عَلَى هَذَا[26].

وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ؛ مِنْهَا:
حَديثُ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلِ هَكَذَا؛ حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا»، وحَكَاهُ حَمَّادُ -أَحْدُ رُواةِ الْحَدِيثِ- بِيدِيهِ، قَالَ: يَعْنِي: مُعْتَرِضًا[27]، أي: أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ خَطٍّ مُسْتَقيمٍ دَقيقٍ، وَإِنَّمَا حَتَّى يَنْتَشِرَ.

وَفِي حَديثِ ابْنِ مَسْعودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «إِنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا -وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ نَكَسَهَا إِلَى الْأَرْضِ-؛ وَلَكِنِ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا -وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَةَ عَلَى الْمُسَبِّحَةِ وَمَدَّ يَدَيْهِ-»[28]؛ فَيَنْتَشِرُ يُمْنَةً وَيُسْرَةً؛ وَلِذَا لَا يَكونُ بِمُجَرَّدِ ظُهورِ الْخَطِّ الدِّقيقِ حَتَّى يَسْتَبينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَلْ يُجْزِئُ التَّسَحُّرُ عَنِ النِّيَّةِ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ فِي إِجْزاءِ التَّسَحُّرِ عَنِ النِّيَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّسَحُّرَ يُجْزِئُ عَنْ نِيَّةِ الصِّيَامِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ[29].

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِذَا تَناوَلَ الْإِنْسانُ الْعِشاءَ وَبِقَلْبِهِ أَنَّهُ سَيَصومُ مِنَ الْغَدِ فَإِنَّها نِيَّةٌ تُجْزِئُهُ"[30].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّسَحُّرَ لَا يُجْزِئُ عَنِ نِيَّةِ الصِّيامِ.

وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ[31].

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: حُكْمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ حَالَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَلَوْ شَكَّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ جازَ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِماعُ وَغَيْرُهَا بِلَا خِلافٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْفَجْرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، ولِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: «كُلْ مَا شَكَكْتَ حَتَّى يَتَبَيَّن لَكَ»[32]، وَفِي رِوايَةٍ عَنْ حَبيبِ ابْنِ أَبِي ثابِتٍ قَالَ: «أَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ الْفَجْرَ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَصْبَحْتَ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا، قَالَ: اخْتَلَفْتُمَا. أَرِنِي شَرَابِي»[33]. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَرِنِي شَرَابِي» جارٍ عَلَى الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ يَحِلُّ الشُّرْبُ وَالْأَكْلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ، وَلَوْ كانَ قَدْ تَبَيَّنَ لَمَا اخْتَلَفَ الرَّجُلانِ فِيهِ؛ لِأَنَّ خَبَرَيْهِمَا تَعارَضا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَصْبَحْتَ» لَيْسَ صَريحًا فِي طُلوعِ الْفَجْرِ، فَقَدْ تُطْلَقُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِمُقارَبَةِ الْفَجْرِ"[34].

وَرُغْمَ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي جَوازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ إِلَّا أَنَّ هُناكَ خِلافًا بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى أَقْوالٍ، وَهِيَ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: جَوازُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهورِ مِنَ الْحَنابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[35].

الْقَوْلُ الثَّانِي: عَدَمُ جَوازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ، وَمَنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضاءُ.
وَهَذَا الْمَشْهورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمالِكِيَّةِ[36].

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: كَراهَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمالِكِيَّةِ[37].

السُّنَّةُ الثَّالِثَةُ: تَعْجِيلُ الْفِطْرِ:
وَهَذِهِ ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- بِقَوْلِهِ: (وَتَعْجيلُ فِطْرٍ). وَالْكَلامُ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ سَيَكونُ فِي مَسائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأولَى: حَدُّ الْإِفْطارِ:
حَدُّ الْإِفْطارِ تَيَقُّنُ مَغيبِ الشَّمْسِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِالْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالتَّعْجيلُ إِنَّمَا يَكونُ بَعْدَ الاِسْتيقَانِ بِمَغيبِ الشَّمْسِ، وَلَا يَجوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْطِرَ وَهُوَ شاكٌّ هَلْ غابَتِ الشَّمْسُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ إِذَا لَزِمَ بِيَقينٍ لَمْ يُخْرَجْ عَنْهُ إِلَّا بِيَقينٍ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَ يَقولُ: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوْا الْصِّيَامَ إِلَى اللّيْلِ﴾ [البقرة: 187]، وَأَوَّلُ اللَّيْلِ مَغِيبُ الشَّمْسِ كُلِّهَا فِي الْأُفُقِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرينَ، وَمَنْ شَكَّ لَزِمَهُ التَّمادِي حَتَّى لَا يَشُكَّ فِي مَغيبِهَا"[38].

وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْماعُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْإِفْطارِ وَتَمامَ الصَّوْمِ وَانْقِضاءَهُ هُوَ تَيُقُّنُ الْغُروبِ، قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "يَنْقَضِي الصَّوْمُ وَيَتِمُّ بِغُروبِ الشَّمْسِ بِإِجْماعِ الْمُسْلِمينَ"[39]، وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْمُرادُ: إِذَا تَحَقَّقَ غُروبَ الشَّمْسِ إِجْماعًا"[40].

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سُنِّيَّةُ تَعْجيلِ الْفِطْرِ، وَبَيانُ الْحِكْمَةِ وَوَجْهُ الْخَيْرِيَّةِ فِي التَّعْجيلِ:
يُسْتَحَبُّ تَعْجيلُ الْفِطْرِ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْغُروبِ، وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْماعُ عَلَى هَذَا، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "تَعْجيلُ الْفِطْرِ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْغُروبِ مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفاقٍ"[41].

وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِحْبابِ يَشْهَدُ لَهُ الْأحَادِيثُ الْمُتَكاثِرَةُ، مِنْهَا:
حَديثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ»[42].

وَعَنْ أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ: «دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ، وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ، وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ -يَعْنِي: ابْنَ مَسْعُودٍ- قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-»، زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: وَالْآخَرُ أَبُو مُوسَى -رضي الله عنها-[43].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ، أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا»[44].

وَقَدْ كانَ الصَّحَابَةُ -رضي الله عنهم- يُسارِعونَ بِالْفِطْرِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْغُروبِ؛ كَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمون الْأَوْدِيِّ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا، وَأَبْطَأَهُمْ سُحُورًا»[45].

وَأَمَّا الْحِكْمَةُ مِنِ اسْتِحْبابِ تَعْجيلِ الْفِطْرِ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: "قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا حَضَّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى تَعْجيلِ الْفِطْرِ؛ لِئَلَّا يُزادَ فِي النَّهارِ ساعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ؛ فَيَكونُ ذَلِكَ زِيادَةٌ فِي فُروضِ اللهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِالصَّائِمِ، وَأَقْوَى لَهُ عَلَى الصِّيَامِ"[46].

وَمِنَ الْحِكْمَةِ أَيْضًا: "أَلَّا يَتَبَرَّمَ بِالصَّوْمِ، وَلَا أَنْ يَطولَ عَلَيْهِ زَمانُهُ، وَأَنْ يُعْطِيَ النَّفْسَ حَقَّهَا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَكَسْرُ صُورَةِ الْجوعِ الَّذِي أَثارَهُ الصَّوْمُ"[47].

وَأَمَّا كَوْنُ النَّاسِ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ فَلِمَا "فِيهِ مِنْ إِظْهارِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي مُتابَعَتِهَا، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي مُخالَفَتِهَا، وَفِعْلُها كَالْعَلَمِ عَلَى صَلاحِ الدِّينِ وَالْأُمورِ كُلِّهَا، وَتَرْكُهَا كَالْعَلَمِ عَلَى فَسادِ الدِّينِ وَالْأُمورِ كُلِّهَا، حَتَّى إِنَّ الصَّحَابَةَ -رضي الله عنهم- كانوا إِذا خُذِلُوا فِي أَمْرٍ، فَتَّشُوا عَلَى مَا تَرَكُوا مِنَ السُّنَّةِ، فَإِذَا وَجَدُوهُ، عَلِمُوا أَنَّ الْخِذْلانَ إِنَّمَا وَقَعَ بِتَرْكِ تِلْكَ السُّنَّةِ، فَلَا يَزالُ أَمْرُ الْأُمَّةِ مُنْتَظِمًا، وَهُمْ بِخَيْرٍ مَا دَامُوا مُحَافِظينَ عَلَى سُنَّةِ تَعْجيلِ الْفِطْرِ، وَإِذَا أَخَّرُوهُ، كانَ عَلامَةً عَلَى فَسادٍ يَقَعونَ فِيهِ"[48].

وَلِأَنَّ "التَّعْجيلَ أَحْفَظُ لِلْقُوَّةِ، وَأَرْفَعُ لِلْمَشَقَّةِ، وَأَوْفَقُ لِلسُّنَّةِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْبِدْعَةِ، وَلِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّمانَيْنِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ"[49]، وَلِأَنَّ "فِيهِ مُخالَفَةَ أَهْلِ الْكِتابِ، وَكانَ مِمَّا يَتَدَيَّنونَ بِهِ: الْإِفْطارُ عِنْدَ اشْتِباكِ النُّجومِ، ثُمَّ صارَ فِي مِلَّتِنَا شِعارًا لِأَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَسِمَةً لَهُمْ، وَهَذِهِ هِيَ الْخَصْلَةُ الَّتِي لَمْ يَرْضَهَا رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-"[50].

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "تَنْبيهٌ: مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ: مَا أُحْدِثَ فِي هَذَا الزَّمانِ مِنْ إِيقَاعِ الْأَذانِ الثَّانِي قَبْلَ الْفَجْرِ بِنَحْوِ ثُلُثِ ساعَةٍ فِي رَمَضَانَ، وَإِطْفاءِ الْمَصابيحِ الَّتِي جُعِلَتْ عَلامَةً لِتَحْريمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى مَنْ يُريدُ الصِّيامَ، زَعْمًا مِمَّنْ أَحَدَثَهُ أُنَّهُ لِلِاحْتِياطِ فِي الْعِبادَةِ، وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إِلَّا آحَادُ النَّاسِ، وَقَدْ جَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ صَارُوا لا يُؤَذِّنونَ إِلَّا بَعْدَ الْغُروبِ بِدَرَجَةٍ؛ لِتَمْكينِ الْوَقْتِ زَعَمُوا! فَأَخَّرُوا الْفِطْرَ، وَعَجَّلُوا السُّحورَ، وَخالَفُوا السُّنَّةَ، فَلِذَلِكَ قَلَّ عَنْهُمُ الْخَيْرُ، وَكَثيرٌ فِيهِمُ الشَّرُّ"[51].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَحْوالُ الصَّائِمِ وَقْتَ الْغُروبِ:
الصَّائِمُ وَقْتَ الْغُروبِ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
الْحَالُ الْأَوْلَى: أَنْ يَكونَ فِي مَكانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ رُؤْيَةِ غُروبِ الشَّمْسِ خَلْفَ الْأُفُقِ، كَأَنْ يَكونَ فِي صَحْراءٍ، أَوْ فَضاءٍ مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ عَلَى رُؤوسِ الْجِبالِ، أَوْ فِي مَكانٍ مُرْتَفِعٍ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ، وَهِيَ تَغيبُ عَنِ الْأُفُقِ.

فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُفْطِرُ عِنْدَ غِيابِ كامِلِ قُرْصِ الشَّمْسِ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالِاعْتِبَارُ سُقُوطُ قُرْصِهَا بِكَمَالِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الصَّحْرَاءِ"[52].

الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكونَ فِي مَكانٍ يَتَعَذَّرُ فِيهِ رُؤْيَةُ غِيابِ الشَّمْسِ خَلْفَ الْأُفُقِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ سُكَّانِ الْمُدُنِ حَيْثُ تَحُولُ الْأَبْنِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْأُفُقِ، أَوْ لِوُجودِهِ فِي مَكانٍ مُنْخَفِضٍ كَالْوِدْيانِ، أَوْ لِوُجودِ جِبالٍ تَحولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَفِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ بِمُجَرَّدِ غِيابِ الشَّمْسِ عَنْ ناظِرَيْهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَغِيبُ عَنْ عَيْنَيْهِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ بَعْدُ، بِسَبَبِ اخْتِفائِهَا خَلْفَ الْأَبْنِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلالُ عَلَى غُروبِهَا بِاخْتِفاءِ أَشِعَّتِهَا الَّتِي تَكونُ عَلَى الْجُدْرانِ الْعالِيَةِ، أَوْ بِإِقْبالِ اللَّيْلِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ -إِنْ أَمْكَنَ رُؤْيَةُ ذَلِكَ-، وَالْمَقْصودُ بِإِقْبالِ اللَّيْلِ هُوَ ظُهورُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي السَّماءِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَلَيْسَ الْمَقْصودُ انْتِشارُ الظُّلْمَةِ فِي السَّماءِ كُلِّهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكونُ بَعْدَ غُروبِ الشَّمْسِ بِمُدَّةٍ.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ-: "وَأَمَّا فِي الْعُمْرانِ وَقُلَلِ الْجِبالِ: فَالِاعْتِبارُ بِأَنْ لا يُرَى شَيْءٌ مِنْ شُعَاعِهَا عَلَى الْجُدْرَانِ وَقُلَلِ الْجِبَالِ، وَيُقْبِلَ الظَّلامُ مِنَ الْمَشْرِقِ"[53]. وقَالَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِيِّ: "مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ: غُرُوبُ الشَّمْسِ، إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَكُونُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، أَوْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ خَلْفَ الْجِبَالِ: فَلَا يُعَوِّلُ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى إقْبَالِ الظُّلْمَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَغِيبِهَا، فَيُصَلِّي وَيُفْطِرُ"[54].

وَقَالَ ابْنُ دَقيقِ الْعِيدِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْأَمَاكِنُ تَخْتَلِفُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا فِيهِ حَائِلٌ بَيْنَ الرَّائِي وَبَيْنَ قُرْصِ الشَّمْسِ: لَمْ يَكْتَفِ بِغَيْبُوبَةِ الْقُرْصِ عَنِ الْأَعْيُنِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى غُرُوبِهَا بِطُلُوعِ اللَّيْلِ مِنَ الْمَشْرِقِ"[55].

وَقَالَ الْحَطَّابُ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ: إذَا غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ، بِمَوْضِعٍ لَا جِبَالَ فِيهِ، فَأَمَّا مَوْضِعٌ تَغْرُبُ فِيهِ خَلْفَ جِبَالٍ، فَيُنْظَرُ إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الظُّلْمَةُ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ"[56].

وَيَدُلُّ لِهَذَا: قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا -أي: جهة المشرق-، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا -أي: جهة المغرب-، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ: فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»[57].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَحَدُ هَذِهِ الْأَشْياءِ يَتَضَمَّنُ بَقِيَّتَهَا؛ إِذْ لَا يُقْبِلُ اللَّيْلُ إِلَّا إِذَا أَدْبَرَ النَّهارُ، وَلَا يُدْبِرُ النَّهارُ إِلَّا إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ لَا يَتَّفِقُ مُشاهَدَةُ عَيْنِ الْغُروبِ، وَيُشاهَدُ هُجومُ الظُّلْمَةِ؛ حَتَّى يُتَيَقَّنَ الْغُروبُ بِذَلِكَ؛ فَيَحِلُّ الْإِفْطارُ"[58]. وَقَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَتَضَمَّنُ الْآخَرَيْنِ وَيُلَازِمُهُمَا، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي وَادٍ وَنَحْوِهِ، بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَيَعْتَمِدُ إِقْبَالَ الظَّلَامِ وَإِدْبَارَ الضِّيَاءِ"[59]. وَقَالَ أَيْضًا: "قَالَ الْعُلَماءُ: إِنَّمَا ذُكِرَ غُروبُ الشَّمْسِ وَإِقْبالُ اللَّيْلِ وَإِدْبارُ النَّهارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ غُروبَهَا عَنِ الْعُيونِ لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَغيبُ فِي بَعْضِ الْأَماكِنِ عَنِ الْعُيونِ، وَلَا تَكونُ غَرَبَتْ حَقيقَةً؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِقْبالِ اللَّيْلِ وَإِدْبارِ النَّهارِ"[60].

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حُكْمُ الْإِفْطارِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ:
اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: جَوازُ الْإِفْطارِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهورِ[61].

الْقَوْلُ الثَّانِي: عَدَمُ جَوازِ الْإِفْطارِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ[62].

الْمَسْأَلَةُ الْخامِسَةُ: مَنْ أَفْطَرَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ:
مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُخولُ اللَّيْلِ؛ فَظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، وَأَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ فَأَفْطَرَ؛ فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كانَ نَهارًا، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَكُنْ غَرَبَتْ؛ فَعَلَيْهِ الْإِعادَةُ.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]