الموضوع: في محراب رمضان
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-04-2021, 02:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي في محراب رمضان

في محراب رمضان


الشيخ د. : ناصر بن محمد الأحمد









عناصر الخطبة
1/ الصيام فرصة العمر 2/ فوائد الصيام 3/ كيف كان صيام رسول الله والصحابة؟ 4/ ماذا نفعل في رمضان؟ 5/ أصناف الناس في رمضان 6/ أحوال السلف مع رمضان 7 / أحوال المسلمين اليوم مع رمضان، 8/ دعوة إلى كل عاصٍ



في رمضانَ نورُ الإيمان يشعُّ ويُضيء، ونفحَات الوحي المباركات تمضي وتجِيء، فالأوقاتُ بالطاعات والقرُبات مَعمورة، والأرواح بالطمأنينة والسكينة بَهِجَةٌ مغمورة، الأجسادُ عن شهواتها وملذّاتها تخلَّت، والأرواحُ بحُلَى القُربات توشَّت وتحلَّت، وللخير العميمِ شمَّرت وتجلَّت ..










إن الحمد لله…
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها المسلمون: لقد كان مِن وافر نِعَم الله السابغة: أنْ هيَّأ لعباده مِن فُرص العمر ومواسم الخير ما يبلغ بهم إلى هذا المراد، وإن فُرْصة الصيام وموسم رمضان هما في الطَّليعة مِن هذه الفُرَص والمواسم، التي يجب على أُولي الألباب اغتنامُها، والسَّعْي الحثيث إلى اهتبالها؛ فإنَّ في الصيام مجالاً رحيبًا، ومضمارًا واسعًا؛ لإعداد لَبِنات القوة في مختلف ميادينها ودروبها، فالإمساكُ بالنهار عن الأكل والشرب والشَّهْوة، وما يصحبه مِن صبْر على رهق الحِرْمان، ومَرارة الفقد، وإحياء الليل بالقيام في صبر على نصبه واستدامة على ذلك أيام الشهر ولياليه إلى منتهاها – كلُّ ذلك مِنْ أظْهَر عوامل الدربة على تقْوية الإرادة في تغييرٍ هو مطْمحُ أولي الأبصار، ومبتغَى الذين أخبتوا إلى ربهم، وابتغوا إليه الوسيلة بكلِّ سبيل، إنَّه تغيير في المسار، وتصويبٌ في المسلك، فمِن ذُلِّ الخطيئة إلى عِز الطاعة، ومِن مهابط العجْزِ والكسل إلى ذُرى الجدِّ والعزْم، ومِن أدران العوائد المقبوحة إلى طُهْر وطيب العوائد القويمة والسنن الجميلة والخِصال الجليلة.
وهكذا، فإنَّ في الصيام بعْثًا للقوة التي وهنتْ أو خمدتْ، والإرادة التي استنامتْ أو ذوتْ، والعزيمة التي خارتْ أو اسْتكانتْ، لتكون خير عدَّة يعتدُّ بها لبلوغ الدرجات العلا، والظفر بالسعادة العاجلة، والعُقبى في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الناس لربِّ العالمين.
هذه واحدةٌ مِنَ المِنَح التي مَنَحَنَا اللهُ إياها؛ لكي ننال بها جنَّةً عَرْضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذُن سَمِعتْ، ولا خطر على قلْبِ بشَر، ومع ذلك يَمُرُّ رمضان على بعض المسلمين – هداهم الله – كغَيْره من الشهور، بل إنَّه – وللأسف – قد يكون أسوأ حالاً عند البعض؛ وعند الترمذي من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (رغم أنف رجلٍ ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفَر له، ورغم أنف رجلٍ أدْركَ عنده أبواه الكِبَر فلم يدخلاه الجنة).
عباد الله: في رمضانَ نورُ الإيمان يشعُّ ويُضيء، ونفحَات الوحي المباركات تمضي وتجِيء، فالأوقاتُ بالطاعات والقرُبات مَعمورة، والأرواح بالطمأنينة والسكينة بَهِجَةٌ مغمورة، الأجسادُ عن شهواتها وملذّاتها تخلَّت، والأرواحُ بحُلَى القُربات توشَّت وتحلَّت، وللخير العميمِ شمَّرت وتجلَّت!
كم هو جميل وأنت تنظُر لتلك الوجوه المتوضِّئة الصائمة وهي تنطلق إلى المساجد؛ لتشهد صلاة العشاء، ومِن ثم صلاة التراويح! وأجمل منها حينما تنطلق تلك الأفواج الإيمانيَّة إلى المساجد بعد منتصف الليل؛ لتصلي ما كَتَب الله لها! وأجمل مِن ذلك كله حينما تذرف تلك الدمعات الحارة الخائفة مِن عقاب الله والفرحة بثواب الله! ما أجمل ذلك الجو الإيماني المليء بالخشية والإنابة والإخبات والخوف مِنَ الجليل!
إنَّ شهر رمضان قد مَرَّ بأقوامٍ عبَّاد زُهَّاد مِن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم مَرَّ مِن بعدهم على التابعين؛ فرأى منهم ما يشبه ذلك مِن العبادة والطاعة، لكنه اليوم يشكو إلى الله حالنا؛ صلاة قليلة الخُشوع، قليلة القراءة، قصيرة الوقت، قليلة الركعات، وفوق ذلك كله لا يقوم بها إلا القليل، والكثرة الكاثرة قد حبسهم العُذر عن حضور منازل الرحمة وبيوت الغفران، وليت شعري! ما هو العذر الذي حبس الكثير عن قيام رمضان؟! فهم ما بين مشغول بدنياه، محبوس في متجره! فهذه فُرصة العام ليجمع من المال ما لا يجمعه طوال السنة، ويُسَوِّق من البضائع ما تكدَّس عنده طوال الأشهر الماضية.
أو لاعبٍ لاهٍ مشغولٍ بلِعْبه، فلا يحلو عمل المباريات لكثيرٍ من الشباب في رمضان إلا وقت صلاة التراويح.

أو ما بين مسلسل عند جهاز التلفاز سَلْسَلَتْه المسلسلات والأفلام، وكبَّلته بالقيود والآثام، والبرامج التي تكثر وتَتَنَوع في رمضان؛ صدًّا عن ذكر الله، وإلهاءً عن الصلاة.
أيها المسلمون: إنَّ البركات تَتَنَزَّل في شهر رمضان، فهل مِن راغب؟ والرحمات تتنـزل فيه فهل مِن تائب؟ هذه أنهار الخَيْر، وبحارُه تَتَدَفَّق في لياليه، فأين الجادُّون؟ هل مِن مشمِّر للطاعة، باذلٍ لمهر الحور العين؟! ليالٍ تَمُرُّ وتمضي كلمْح البصر، ويذهب الجهْد والتعب وتبقى حلاوة الطاعة، فهذا الثمن يا خاطب الحور: صيام وقيام، وصدقة وتلاوة قرآن، ومجالس ذِكر، وغير ذلك مِن أعمال البر والطاعة، والثمن: الجنة – إن شاء الله.
يقول – صلى الله عليه وسلم -: (مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)، ويقول: (مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم مِن ذنبه)؛ رواهما الشيخان.
فماذا تريد بعد ذلك يا عبد الله؟ هل هناك فُرصة أعظم مِن هذه الفرصة؟ هل هناك عرض أفضل مِن هذا العرض؟ إنها الخسارة والله كل الخسارة، والغبن كل الغبن أن يفوِّت المرءُ هذه الفُرصة على نفسه، ويحرمَ نفسه هذا الخير العظيم، وهو لا يدري هل يجد فرصةً ثانيةً مثل هذه الفرصة أو لا يجد، فلا إله إلا الله، كم مِن مغبون قد حُرم الخير في رمضان؟! ولا إله إلا الله، كم مِن خاسرٍ قد ضيَّعَ فرصة هذا الشهر، ولا يخسر على الله إلا هالك؟! نعوذ بالله من الخسران.
لماذا نُعرض ونحن المحتاجون؟ لماذا نرفض ونحن الغارمون؟ إنَّه الشيطان الذي سوَّل للكثير منَّا، فمرة يقول لنا: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وهي كلمةُ حقٍّ أُريدَ بها باطل، ومرة يقول لنا: ما زال في العمر متَّسعٌ لنؤخِّر التوبة، ونحن نعلم أنَّ الموتَ لا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، فسبحان الله! كيف انتصر علينا مع علِمنا بِحِيَلِه ومَكْره، وقد بيَّنَها الله لنا في كتابه؟! ولكن ها هو الشيطان يصفَّد في شهر رمضان، فأين مَن يستغل هذه الفرصة ليبقى العدو الثاني الذي هو بين جنبينا؟ فلنستغل الفرصة ولنكرهها على طاعة الله حتى تصبح لها ديدنًا لا تنفك عنه؟!
أيها المسلمون، إنَّ رمضان انبثاقةُ فجْرٍ جديد للعالم، فيه أعمال عظيمة:
أولاً: فيه التوبةُ والاستغفار:
فرمضان فُرصةٌ عظيمة، وساحَةٌ واسعة للتفكير الصادق في العودة إلى الله تعالى، وترك أكل الحرام، وشهادة الزُّور، والتوبة الصادقة مِنَ الظُّلم والغيبة والنميمة، وقد قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، فإن لَم نَتُبْ في رمضان فليت شعري متى نتوب؟ ولله سبحانه في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار.
ثانيًا: الدعاء:
قال الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: (لكلِّ مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان).

صَرَفْتُ إلى ربِّ الأنام مَطَالبي ** وَوَجَّهْتُ وجْهِي نحوه ومَآرِبِي
فما زال يُوليني الجميلَ تلَطُّفًا ** ويَدْفَعُ عنِّي في صُدُور النوائِبِ
إِذَا أغْلَق الأَمْلاكُ دوني قُصُورَهم ** ونَهْنَه عنْ غشيانهم زَجْر حاجِبِ
فَزِعْتُ إلى بابِ المُهيمِنِ طارِقًا ** مدلاًّ أُنادِي باسْمِه غيْرَ هائِبِ
فلم أنْفِ حجّابًا ولم أخْشَ منْعَة ** ولو كان سُؤْلي فَوْقَ هامِ الكواكِبِ
كريمٌ يُلَبِّي عبدَه كُلَّما دَعَا ** نَهارًا وليلاً في الدُّجَى والغَياهِبِ
سَأَسْألُه ما شئتُ إنَّ يمينَه ** تَسِحُّ رفاقًا باللهى والرَّغائِبِ

ثالثًا: الإنفاق:
النفَقة من أسباب القُرب من الله تعالى ودخول الجنة؛ قال – صلى الله عليه وسلم -: (ما نقصتْ صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضَع أحدٌ لله إلا رفعه)، وإنها لفرصة ثمينة أن ينالَ العبدُ الأجر العظيم بصدقةٍ لا تنقص ماله.

رابعًا: العمرة:
قال – صلى الله عليه وسلم -: (العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنَّة، وهذا الفضلُ العظيم للعمرة عام في كل حين، وأما في رمضان فإن فضلها يتضاعَف؛ فقد قال – صلى الله عليه وسلم – لامرأة من الأنصار: "فإذا جاء رمضان فاعتمري؛ فإنَّ عمرة فيه تعدل حجة، أو قال: حجة معي).

خامسًا: القيام:
كما أنَّ شهر رمضان شهر الصيام، فهو كذلك شهر القيام؛ قال الله تعالى:(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 2 – 4].

ومع ذلك فإنَّ الناس في رمضان على أصناف:
فمنهم مَن يُغلق مجاري الابتسامة على شفتيه، فما تراه إلا عابِس الوجه، مقطب الجبين، وإن حصل بينه وبين إنسان آخر شيء من الخلاف، سمعتَ السَّبَّ والشَّتم ورفع الصوت؛ بحجة أنَّه صائم، وعلى الرغم من أن معظم حكومات الدول الإسلامية تُقلل ساعات العمل الرسمي في رمضان، وتؤخِّر بداية الحضور، إلا أنَّ السواد الأعظم من الموظفين والعاملين ينتابهم كَسَل وخمول وبلادة ذهن، ويعطلون مصالح البلاد والعباد، وإذا سألتهم قالوا: إنَّنا صائمون! وكأن الصيامَ يدعوهم للكسل وترْك العمل، وهي فريةٌ يبرأ منها الصِّيامُ براءة الذئب من دم يوسف – عليه السلام! فما عرف سلفُنا الكرام الجِدَّ والنشاط والعزيمة والقوة إلا في رمضان، والدراسات العلمية الحديثة أثبتتْ فوائد جمة للصيام، فلماذا أيُّها الموظفون تتَّهمون الصيام بأنه سبب كسلكم وخمولكم؟ آهٍ من لوعة ضيف عزيز كريم بين قوم من الساهين الغافلين!

ومنهم مَن يجعل شهر رمضان شهر النوم والكسل والبطالة، فيقضي جل نهاره نائمًا، وربما تجد البعض لا يستيقظ إلا قبيل المغرب بلحظات، وقد فاتتْه صلاة الظهر والعصر!
ومنهم مَن يمضي ليله أمام أجهزة الإفساد إلى قبيل الفجر عند نزول الرب إلى السماء الدنيا، فهو يطيع الله في النهار ويعصيه في الليل!

إنَّ تلكُم الحركة النشطة التي تبثُّها قنوات الأقمار المرئية، التي تنشر الإثْم عاريًا، وتحلق الدين قبل أن تحلق العفاف والحياء، جعلوا من رمضان موْسِم طرَبٍ وسهرٍ، تُبث فيه الأفلام الرخيصة، والدعايات المضَلِّلة، وإن كان للإسلام نصيبٌ في تلك القنوات فهو إسلام مُشَوَّه الصورة، ترى معه القبلات واستجداء اللحظات، صارتْ وباءً كاملاً، فاحتلتْ كل مكان، وجذبت إليها الرشيد والسَّفيه، والقويم والفاسد، وبذلك تخسر الأمة في كل لحظة مواطنًا صالحًا، يُضَلُّ ويُغَش ويُخدَع، ويُسرَق ويُحتَال، تمتعًا بهذا الترف المرئي والداء المستشري، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نسمع عن سرقة الجواهر والأثاث والدنانير، وعن الاعتداء وقطْع الطريق، لكن كيف يُسرق من الناس رمضان؟ مَن أولئك الذين يسرقون من المسلمين رمضان، ثم يُعلنون على صحف الجرائد سرقاتهم تلك؟ وكيف واتَتْهُم الجراءَة ليسرقوا هذا الشَّهر الكريم بعد أن مثَّلوا وخرَّبوا أوقاتِ الشُّهور الأخرى التي لم يكفِهم الفساد فيها فجلبوه إلى رمضان؟ لعلّكم إذًا عرفتم هؤلاء السارقين؟ إنهم مَن اعتدى على الأمَّة قبل وبعد وأثناء رمضان، فانبروا بقنواتهم الفضائية المهترِئَة، وباسم الترفيه عن الصائمين بطرح برامج ومسلسلات لهم؛ تتنافس فيما بينها لسرقة رمضان، وجوِّه الروحي من عباد الرحمن، الذين رضوا بها فشاهدوها مضيِّعين معنى الصوم الحقيقي وهو التقوى، فمَن لَم يدعْ قول الزور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه.
في رمضان يُعطَى السائل، ويغفَر للتائب، تتَّصل القلوب ببارئها، تمتلئ المساجد، فهذا مصلٍّ، وهذا ذاكِر، وآخر يتلو كتاب ربِّه، كلهم يرجون الأجر والتخلُّص مِن أوزار الذنوب، ترى هؤلاء فتحمَد الله، لكنك تحزن وأنت ترى في المقابل فِئامًا من الناس يستقبلون رمضان انتظارًا لأن تتسلَّط عليهم هذه القنوات ببرامجها التافهة، التي تحمل شرًّا وفسقًا ورقصًا وعُرْيًا، والأعظم استهزاء بدين الله وشرائعه، وتشويهًا للتاريخ ومراجعه، تطيش معها عقول من بقي معه عقل، فما الذي دهى القوم؟ قد يكون هدف هذه القنوات ماديًّا لجلْب المال، ولكن في المقابل كيف بِمَن أضاع فرصة رمضان العظيمة بالمغفرة والرحمة والعتق من النار؛ ليشتريَ بدلاً منها وزرًا وإثمًا؟ ثم ألَمْ يكفِ هذه القنوات ورجالها ما أفسدوه خلال العام في بيوت المسلمين ليعتدوا على هذا الشهر الكريم بهذا الفِسْق والفجور بالبرامج الرمضانية كما يسمونها؟ ما الذي دهى القوم؟ وأيُّ قناعات تسرَّبت إليهم ليجعَلوا من شهر التقى والعفاف موسم حياة لاهية وسمر عابث؟ أين هم من النداء الرمضاني: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار في كل ليلة)؟
إنَّ البرامج الفضائية كما هو مشاهد أنها تنشط في رمضان بشكل عجيب وتتضاعَف جهود المحطات وقنوات البث، وهذا لا يتعارض مع حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – المتفق عليه أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا دخل رمضان فتحتْ أبواب الجنَّة، وغلِّقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)، وفي رواية مسلم: (وصفدت الشياطين)؛ لأنَّ الذي يسلسل هو الشياطين من الجن، كما جاء في رواية الترمذي وابن ماجه: (ومردة الجن)، لكن الذين وراء هذه البرامج هم مرَدة شياطين الإنس ممن يتسمّى بأسماء إسلامية، لكنه مع الأسف يتنكَّر لدينها وأهلها، بل وعاداتها وتقاليدها المرعيّة بهذه البرامج ودعمها المادي، وهي التي لا هدف لها إلا إزالة الأجر والثواب الذي حصل عليه العبد في نهار رمضان، فتأتي هذه البرامج وتقضي عليه بالليل، لكن هؤلاء الشياطين لم يدَعوا الصائمين من جمع الحسنات حتى في النهار؛ لأن قنوات البث تعمل طوال ساعات الليل والنهار، فانشغل الكثيرون حتى في نهار رمضان عن الذكر والاستغفار وقراءة القرآن، وجلسوا أمام هذه القنوات، واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط!
أيها المسلمون: كان السلفُ – رحمهم الله – يدْعُون الله تعالى ستة أشهر حتى يُبلغهم رمضان، فإذا بلغوه اجتهدوا في العبادة فيه، ودعوا الله سبحانه ستة أشهر أخرى أن يتقبّله منهم، أمَّا أصحاب الفضائيات والإذاعات في زماننا، فإنَّ معظمهم يستعد لرمضان قبل مجيئه بستة أشهر، بحشْد كل فِيلم خليع، وكل مسلسل وضيع، وكل غناء ماجن؛ للعرض على المسلمين في أيام وليالي رمضان، ولسان حالهم يقول: شهر رمضان الذي أنزلت فيه الفوازير والمسلسلات! ولأنَّ مرَدة شياطين الجن تصفَّد وتغلُّ في شهر رمضان، عزَّ على إخوانهم من شياطين الإنس الذين يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون – عزَّ عليهم ذلك، فناوَؤُا دين الله تعالى، وناصَبوه العَداء، وأعلنوا الحرْبَ ضده في رمضان بما يبثُّونه ليل نهار على مدار السَّاعة على كثيرٍ منَ الشبكات الأرضيَّة والفضائيَّة! فأين هم مما يحدث لإخوانهم المسلمين المشردين في هذه الأيام؟ وأين هم لو كانوا صادقين مِن نقْل ما يجري في كثيرٍ مِنَ بُلدان المسلمين المنكوبة والمستَعْمَرة من القوى الغربية ظُلمًا وعدوانًا؟
عجيبٌ هؤلاءِ الناس؛ كيف لم يُقَدِّروا هذا الشهر حقَّ قَدْره، ولم يستشعروا حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: (أتاني جبريل فقال: يا محمد، مَن أدرك رمضان فلم يُغفر له فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين…)، إنَّ هؤلاء القَوْم يخشى عليهم أن ينتهي رمضان وقد حرموا خيرًا عظيمًا.
فنسأل الله ألا يجعلَ حظَّنا مِنْ صيامنا الجوع والعطش، ولا مِنْ قيامنا النصب والتَّعَب.
بارك الله لي ولكم…
الحمد لله على إحسانه…



الخطبة الثانية:

أمَّا بعدُ:
أيها المسلمون: إنَّ شهر رمضان يشد الناس إلى الدين، يذكرهم بحقِّ الله، تشم رائحة الدين في كل مجلس تجلس فيه، إنه يرفع في نفوس الناس درجة الاستعداد لتغيير ما في النفس، حتى يغير الله ما بهم؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، يُشعرهم رمضان بضرورة هذا الدين لهم، كضرورة الماء والهواء، وإن كل أمة تهمل أمر دينها وتُعطِّل كلمة الله في مجتمعها، فإنما تهمل أعظم طاقاتها، وتعَطِّل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة، وكل أمة يُفقَد التديُّن في مجتمعها، تضطرب أُمُورها، ويموج بعضها في بعض، ويقلب الله عزها ذلاًّ، وأمنها خوفًا، وإحكامها فوضى.
فهل استطاعتْ أمَّتُنا الإسلاميَّة أن تعيَ حقيقةَ الصَّوم بكلِّ ملامحِها ودلائلها، من نهَلٍ للنَّقل، وجلاءٍ للعَقل، وصفاءٍ في القلب، وأُنسٍ للروح، ووعيٍ مقتَرنٍ بالتقوى، وعِلمٍ متّصل بمخافة المولى – جلَّ وعلا؟
هل أدركنا أنَّ لشَهر رمضانَ نورًا يجدر أن تستضيء به النفوس والقلوب، فَتُثَبتُ الأمة أقدامَها على طريق التغيير بوعيٍ لا تشوبه رغبات، وبثبات لا يعكِّره ارتجال؟ أم إنَّ حظَّنا من رمضانَ هو الاسم المعروف والزّمن المألوف، ويا لله، كم نسعد ونغتبِط بشهر رمضان حين نجعَل منه دورةً زمنيَّة قويَّة خيِّرة، تقودنا إلى تحقيقِ الذات، والنصر على المعتدين بيقين وثبات.
أيها المسلمون، تعارف كثيرٌ من الناس على أن يتخذوا من رمضان شهرًا للتراخي والكسَل، والتخفف منَ الجد في العمل، مع أنَّ رمضان في تاريخ الإسلام شهر جدٍّ واجتهاد، بل هو شهر بطولات وأمجادٍ، بطولات وأمجاد بكلِّ ألْوانِها وأنماطِها، بطولة الصِّراع في الميدان بين الكُفْر والإسلام، وبطولة اليقين والإيمان، وبطولة التأبِّي على الشَّهوات، وبطولة الترفُّع عن خسيس الملذَّات، ولرمضان مِن كل هذه البطولات حظه الوافر في الماضي والحاضر من تاريخ الأمة الإسلامية.
كان رمضان شهر العِزَّة والبركة والانتصارات، فمعذرة إليكَ إذا لم تجد عندنا ما كنت تأمل وترجو، لقد كنتَ تشرق على أمة الإسلام وهي عزيزة لم تقفْ على الأبواب، ولم تستعطف الأعداء ولم تخضع للكافرين.
كنتَ تشرق عليها وفي كل أرض منها أذانٌ يعلو، ومنابرُ ترتفع، وشعائر يعلن بها الناس، كنتَ تُشرق عليها وإنها لسيدة العالم، وقائدة الدنيا، واليوم على ماذا تشرق؟ على جرْحٍ فِلَسْطين الدامي؟ أم على آلام أفغانستان؟ أم على المآسي في العراق؟ أم على فجيعة الشيشان؟ أم على مصيبة كشمير؟ معذرة يا رمضان، لقد أطرقت رؤوسنا خجلاً، وعدتَ إلينا وقد غرقنا في ذلِّنا.
فيا مَن ضيَّع الزمان فيما ينقص الإيمان، ويا مُعرضًا عن الأرباح مُتَعَرضًا للخسران، أما لك من توبة؟ أما لك مِن أوبة؟ أما لك من حوبة؟
فيا مَن أدْركتَ رمضان وأنت ضارب عنه صفحًا بالنسيان، هل ضمنتَ لنفسك الفوز والغفران؟ أتراك اليوم تفيق مِن هذا الهوان؟ قبل أن يرحلَ شهر القرآن والعتق من النيران؟ لعله يكون بالنسبة إليك آخر رمضان!
فإن أبيتَ إلا العصيان، وملازمة المعاصي في رمضان، فتوضَّأ وكبِّر أربع تكبيرات، وصلِّ على نفسك صلاة الجنازة، فإنك حينئذ ميت!
نعوذُ بالله من الخذلان..
اللهم اهدنا فيمَن هديت..

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.42 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.83%)]