عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 14-07-2021, 03:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (9)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (8)

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، قَالَ : سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا ، وَسَيَأْتِي لِتَحْرِيمِ أَكْلِ الضِّفْدَعِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : ( قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ ) الْآيَةَ [ 6 \ 145 ] .


وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الضِّفْدَعِ مُطْلَقًا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ [ ص: 60 ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَنَّ جَمِيعَ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ كُلَّهَا حَلَالٌ إِلَّا الضِّفْدَعَ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .

وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التِّمْسَاحَ لَا يُؤْكَلُ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنِ اشْتَهَاهُ .

وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا يُؤْكَلُ التِّمْسَاحُ وَلَا الْكَوْسَجُ ; لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ النَّاسَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَحْرِ كَمَا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَرِّ ، وَذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ .

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ : مَا حَرُمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْبَحْرِ كَكَلْبِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ وَإِنْسَانِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ إِلَّا فِي الْكَلْبِ ; فَإِنَّهُ يَرَى إِبَاحَةَ كَلْبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَكْلَ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
تَنْبِيهٌ

الدَّمُ أَصْلُهُ دَمِيَ ، يَائِيُّ اللَّامِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَذَفَتِ الْعَرَبُ لَامَهَا ، وَلَمْ تُعَوِّضْ عَنْهَا شَيْئًا ، وَأَعْرَبَتْهَا عَلَى الْعَيْنِ ، وَلَامُهُ تَرْجِعُ عِنْدَ التَّصْغِيرِ ، فَتَقُولُ : دُمَيٌّ بِإِدْغَامِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فِي يَاءِ لَامِ الْكَلِمَةِ ، وَتَرْجِعُ أَيْضًا فِي جَمْعِ التَّكْسِيرِ ، فَالْهَمْزَةُ فِي الدِّمَاءِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ ، وَرُبَّمَا ثَبَتَتْ أَيْضًا فِي التَّثْنِيَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمٍ الرِّيَاحِيِّ : [ الْوَافِرِ ]
وَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذَبَحْنَا جَرَى الدَّمَيَانِ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ


وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ لَامُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ ، وَالْوَصْفِ فِي حَالَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنْهُ فَتَقُولُ : فِي الْمَاضِي دَمِيَتْ يَدُهُ كَرَضِيَ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : [ الرَّجَزِ ]
هَلْ أَنْتَ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ


وَتَقُولُ فِي الْمُضَارِعِ : يَدْمَى بِإِبْدَالِ الْيَاءِ أَلِفًا كَمَا فِي يَرْضَى ، وَيَسْعَى ، وَيَخْشَى ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الطَّوِيلِ ]
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا


وَتَقُولُ فِي الْوَصْفِ : أَصْبَحَ جُرْحُهُ دَامِيًا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ : [ الرَّاجِزِ ]
نَرُدُّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا نَرُدُّهَا دَامِيَةً كُلَاهَا


[ ص: 61 ] وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَامَهُ أَصْلُهَا يَاءٌ ، وَقِيلَ أَصْلُهَا : وَاوٌ وَإِنَّمَا أُبْدِلَتْ يَاءً فِي الْمَاضِي ; لِتَطَرُّفِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ كَمَا فِي قَوِيَ ، وَرَضِيَ ، وَشَجِيَ ، الَّتِي هِيَ وَاوِيَّاتُ اللَّامِ فِي الْأَصْلِ ; لِأَنَّهَا مِنَ الرِّضْوَانِ ، وَالْقُوَّةِ ، وَالشَّجْوِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمُ : الْأَصْلُ فِيهِ دَمَى بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَقِيلَ : بِإِسْكَانِهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ ) ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ اضْطِرَارِهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الِاضْطِرَارِ الْمَذْكُورَ الْمَخْمَصَةُ ، وَهِيَ الْجُوعُ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ) [ 5 \ 3 ] وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي الْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ) . وَالْمُتَجَانِف ُ : الْمَائِلُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى : [ الطَّوِيلِ ]


تَجَانَفُ عَنْ حَجَرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا


فَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْبَاغِي وَالْعَادِي كِلَاهُمَا مُتَجَانِفٌ لِإِثْمٍ ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْبَاغِي : هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَغْيِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ ، وَالْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْعَادِي : هُوَ إِخَافَةُ الطَّرِيقِ وَقَطْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ . ا ه .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِثْمُ الْبَاغِي وَالْعَادِي أَكْلُهُمَا الْمُحَرَّمَ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ كَالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ ) [ 2 \ 173 ] ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ إِنْ خَافَا الْهَلَاكَ ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبَا .

وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الْمَعْنَى ( غَيْرَ بَاغٍ ) أَيْ : فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ ( وَلَا عَادٍ ) ، بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً وَيَأْكُلُهَا .

وَنَقَلَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمَعْنَى ( غَيْرَ بَاغٍ ) فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً وَتَلَذُّذًا ( وَلَا عَادٍ ) [ ص: 62 ] بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا : الْمَعْنَى ( غَيْرَ بَاغٍ ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، ( وَلَا عَادٍ ) عَلَيْهِمْ ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي قُطَّاعُ الطَّرِيقِ ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ ، وَالْمُسَافِرُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ ، وَالْغَارَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَمَا شَاكَلَهُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ; فَإِنَّ أَصْلَ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ قَصْدُ الْفَسَادِ ، يُقَالُ : بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا فَجَرَتْ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) [ 24 \ 33 ] وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ الْبَغْيُ فِي طَلَبِ غَيْرِ الْفَسَادِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : خَرَجَ الرَّجُلُ فِي بِغَاءِ إِبِلٍ لَهُ ؛ أَيْ : فِي طَلَبِهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ مُرَفَّلِ الْكَامِلِ ]
لَا يَمْنَعَنَّكَ مِنْ بِغَا ءِ الْخَيْرِ تَعْقَادُ الرَّتَائِمْ



إِنَّ الْأَشَائِمَ كَالْأَيَا مِنِ وَالْأَيَامِنَ كَالْأَشَائِمْ


وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاضْطِرَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : الْإِكْرَاهُ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ ، كَالرَّجُلِ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ ، فَيُكْرِهُونَهُ عَلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَخْمَصَةُ الَّتِي هِيَ الْجُوعُ كَمَا ذَكَرْنَا .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ آيَةَ ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ) [ 5 \ 3 ] ، مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ ، وَحُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) [ 16 \ 106 ] بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَحَدِيثِ : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " .
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاضْطِرَارِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ وَيُمْسِكُ حَبَّاتِهِ ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْسِ الشِّبَعِ هَلْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَوْ لَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَةُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ ، وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ .

[ ص: 63 ] فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَيَتَزَوَّدَ مِنْهَا ، قَالَ فِي " مُوَطَّئِهِ " : إِنَّ أَحَسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا ، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ مِمَّنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ ، فَإِذَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ أَكَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ حَتَّى يَجِدَ غَيْرَهَا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيُمْسِكُ الْحَيَاةَ ، وَحُجَّتُهُمَا : أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا تُبَاحُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَإِذَا حَصَلَ سَدُّ الرَّمَقِ انْتَفَتِ الضَّرُورَةُ فِي الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ .

وَعَلَى قَوْلِهِمَا دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " حَيْثُ قَالَ : وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرُ آدَمِيٍّ .

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَمَحَلٌّ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَخْمَصَةُ نَادِرَةً ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنْهَا .

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي الْقَوْلَيْنِ كَحُجَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا . وَالْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .

وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ سَدَّ الرَّمَقِ ، وَرَجَّحَهُ الْقَفَّالُ وَكَثِيرُونَ .

وَقَالَ النَّوَوِيُّ : إِنَّهُ الصَّحِيحُ . وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ ، وَالرُّويَانِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا حِلَّ الشِّبَعِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ أَيْضًا .

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّة ِ وَهُوَ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْعُمْرَانِ حَلَّ الشِّبَعُ وَإِلَّا فَلَا ، وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَادِيَةٍ وَخَافَ إِنْ تَرَكَ الشِّبَعَ أَلَّا يَقْطَعَهَا وَيَهْلَكَ ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَشْبَعُ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَتَوَقَّعَ طَعَامًا طَاهِرًا قَبْلَ عَوْدِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ حُصُولُ طَعَامٍ طَاهِرٍ وَأَمْكَنَ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِنْ لَمْ يَجِدِ الطَّاهِرَ ، فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ .

قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا .

[ ص: 64 ] قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : وَفِي الشِّبَعِ رِوَايَتَانِ : أَظْهَرُهُمَا : لَا يُبَاحُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ .

قَالَ الْحَسَنُ : يَأْكُلُ قَدْرَ مَا يُقِيمُهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ ، وَاسْتَثْنَى مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ . وَلِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ لِلْآيَةِ . يُحَقِّقُهُ : أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَهُوَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرَّ ، وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ كَذَا هَاهُنَا .

وَالثَّانِيَةُ : يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ . اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ ; لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : أَسْلُخُهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ . فَقَالَ : حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ : " هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ " ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : " فَكُلُوهَا "، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ .

وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ الْفُجَيْعِ الْعَامِرِيِّ عِنْدَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْمَيْتَةِ مَعَ أَنَّهُ يَغْتَبِقُ وَيَصْطَبِحُ ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِ النَّفْسِ حَاجَتَهَا مِنَ الْقُوتِ مِنْهَا ; وَلِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ ، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ الشِّبَعُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْمَيْتَةِ مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبِلَ ةِ وَيُفْضِي إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهِ ، بِخِلَافِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً ، فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى مِنَ الْمَعْنَى بِلَفْظِهِ .

وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَلَيْسَ مَعْنَى الشِّبَعِ أَنْ يَمْتَلِئَ حَتَّى لَا يَجِدَ مُسَاغًا ، وَلَكِنْ إِذَا انْكَسَرَتْ سَوْرَةُ الْجُوعِ بِحَيْثُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَائِعٍ أَمْسَكَ . ا ه . قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَدُّ الِاضْطِرَارِ الْمُبِيحِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ ، وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْهَلَاكِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا .

قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي " الْمُوَطَّأِ " فِيمَنْ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ ا ه .

وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى حَالٍ يُشْرِفُ مَعَهَا عَلَى الْمَوْتِ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ ذَلِكَ يُفِيدُ .

[ ص: 65 ] وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : الثَّانِيَةُ فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ .

قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا خِلَافَ أَنَّ الْجُوعَ الْقَوِيَّ لَا يَكْفِي لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا ، قَالُوا : وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ إِلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ ; فَإِنَّ الْأَكْلَ حِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُ ، وَلَوِ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهَا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ جُوعٍ أَوْ ضَعْفٍ عَنِ الْمَشْيِ أَوْ عَنِ الرُّكُوبِ ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ رُفْقَتِهِ وَيَضِيعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ .

فَلَوْ خَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ مُخَوِّفٍ فِي جِنْسِهِ فَهُوَ كَخَوْفِ الْمَوْتِ ، وَإِنْ خَافَ طُولَ الْمَرَضِ فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُمَا قَوْلَانِ ، وَلَوْ عِيلَ صَبْرُهُ ، وَأَجْهَدَهُ الْجُوعُ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ الْمَيْتَةُ وَنَحْوُهَا أَمْ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ ، أَصَحُّهُمَا : الْحِلُّ .

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ : وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَخَافُهُ تَيَقُّنُ وُقُوعِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ ، بَلْ يَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ هِيَ الَّتِي يَخَافُ التَّلَفَ بِهَا إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ ، قَالَ أَحْمَدُ : إِذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءً كَانَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ يَخَافُ إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ ، وَانْقَطَعَ عَنِ الرُّفْقَةِ فَهَلَكَ ، أَوْ يَعْجِزُ عَنِ الرُّكُوبِ فَيَهْلِكُ ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مَحْصُورٍ .

وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ : أَنْ يَخَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَقِينًا كَانَ أَوْ ظَنًّا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ خَافَ الْهَلَاكَ ، أَوْ يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْوُجُوبُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [ 2 \ 195 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) [ 4 \ 29 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.64 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]