عرض مشاركة واحدة
  #66  
قديم 26-11-2021, 07:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,424
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (66)
صـ296 إلى صـ 304

فصل

فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد :

منها : أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو باطل بإطلاق ; لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه ، وداع يدعو إليه ، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل ، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة ، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق ; لأنه خلاف الحق بإطلاق ، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة ، وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الموطأ : إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن ، وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون في الصلاة ، ويقصرون في الخطبة ، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم ، [ ص: 296 ] وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم .

فأما العبادات ; فكونها باطلة ظاهر ، وأما العادات ; فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي ، فوجودها في ذلك وعدمها سواء ، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به ، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب .

وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو صحيح وحق لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع ; [ ص: 297 ] فكان كله صوابا ، وهو ظاهر .

وأما إن امتزج فيه الأمران ; فكان معمولا بهما ; فالحكم للغالب والسابق ، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع ; فلا إشكال في إلحاقه بالقسم الثاني ، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة ; لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد ، فإذا جعل الحظ تابعا ; فلا ضرر على العامل .

إلا أن هنا شرطا معتبرا ، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض ، وإلا ; فليس السابق فيه أمر الشارع ، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه .

وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع ; فهو لاحق بالقسم الأول .

وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك ; فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع ; فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع ، وهواه تبع ، وإن لم يكف عند ورود النهي عليه ; فالغالب والسابق له الهوى والشهوة ، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده ; فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه ، أو لإذن الشارع ، فإن حاضت فانكف ، دل على أن هواه تبع ، وإلا دل على أنه السابق .
[ ص: 298 ] فصل

ومنها : أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود ; لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة ; فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا .

أما أولا ; فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي ; لأنه مضاد لها .

وأما ثانيا ; فإنه إذا اتبع واعتيد ، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به ، حتى يسري معها في أعمالها ، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج ; فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له ، وإذ صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه ; فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ، ودليل التجربة حاكم هنا .

وأما ثالثا ; فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه ، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم ، وانفتاح مغاليق العلوم ، وربما أكرم ببعض الكرامات ، أو وضع له القبول في الأرض ; فانحاش الناس إليه ، وحلقوا عليه ، وانتفعوا به ، وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم ، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة ; من الصلاة ، والصوم ، وطلب العلم ، والخلوة للعبادة ، وسائر الملازمين لطرق الخير ، فإذا دخل عليه ذلك ، كان للنفس به بهجة وأنس وغنى ولذة ونعيم ، بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك كما ، قال بعضهم : " لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف " ، أو كما قال ، وإذا كان كذلك ; فلعل النفس تنزع [ ص: 299 ] إلى مقدمات تلك النتائج ، فتكون سابقة للأعمال ، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله ، هذا وإن كان الهوى المحمود ليس بمذموم على الجملة ; فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق ، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين ; فلا حاجة إلى تقريره هاهنا .
فصل

ومنها : أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه ; كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس ، وبيان هذا ظاهر ، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا ، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها ، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها ، دون توخي مقاصد الشرع .
[ ص: 300 ] المسألة الثانية

المقاصد الشرعية ضربان : مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .

فأما المقاصد الأصلية ; فهي التي لا حظ فيها للمكلف ، وهى الضروريات المعتبرة في كل ملة ، وإنما قلنا : إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية ; لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة ، لا تختص بحال دون حال ، ولا بصورة دون صورة ، ولا بوقت دون وقت ، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية ، وإلى ضرورية كفائية .

فأما كونها عينية ; فعلى كل مكلف في نفسه ، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا ، وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته ، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه ، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ، ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه ، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ، ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ، ولحيل بينه [ ص: 301 ] وبين اختياره ، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ ، محكوما عليه في نفسه ، وإن صار له فيها حظ ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي .

وأما كونها كفائية ; فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين ; لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها ، إلا أن هذا القسم مكمل للأول ; فهو لاحق به في كونه ضروريا ; إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي ، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق ; فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص ، لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط ، وإلا صار عينيا ، بل بإقامة الوجود ، وحقيقته أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته ، وما هيئ له من ذلك ، فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله ، فضلا عن أن يقوم بقبيلة ، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض ; فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض .

ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك ; فلا يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم ، ولا لقاض أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه ، ولا لحاكم على حكمه ، [ ص: 302 ] ولا لمفت على فتواه ، ولا لمحسن على إحسانه ، ولا لمقرض على قرضه ، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة ، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية ; لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات .

وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام ، ويصلح النظام ، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام ، وهدم قواعد الإسلام ، وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها ، ولا قصد المعاوضة فيها ، ولا نيل مطلوب دنيوي بها ، وأن تركها سبب للعقاب والأدب ، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة ; لأن في تركها أي مفسدة في العالم .

وأما المقاصد التابعة ; فهي التي روعي فيها حظ المكلف ، فمن جهتها [ ص: 303 ] يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات ، والاستمتاع بالمباحات ، وسد الخلات ، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره ، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه ، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها ، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة ، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن ثم خلق الجنة والنار ، وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس هنا ، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى ، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك ، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه ، فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده ، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور ، فطلب التعاون بغيره ، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره ، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع ، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه .

فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها ، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها ، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة ، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا ، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة ، وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ البقرة : 216 ] ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ ، فإنه المالك وله الحجة البالغة ، [ ص: 304 ] ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا ، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به ، فبهذا الحظ قيل : إن هذه المقاصد توابع ، وإن تلك هي الأصول ; فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية ، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.85 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]