الموضوع: صفات الدعاة
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 24-11-2021, 06:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي صفات الدعاة

صفات الدعاة
هبة حلمي الجابري



الداعي إلى الله تعالى الذي يتصدَّى للدعوة، ويحمل لواء الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، له صفات يجب أن يتحلَّى بها؛ ليكون نموذجًا عمليًّا لدعوته وقدوةً حسنةً لمن يتصدَّى لدعوتهم، وهذه الصفات هي:
1- قوة الصلة بالله.
2- قوة الصلة بالناس.
3- سعة الأفق.
4- المعرفة بالمدعوين.
5- الحلم والعفو.
6- مطابقة القول الفعل.
7- الاستقامة.
8- التواضع.
9- الشجاعة والثبات على الحق.
10- الإخلاص.
11- الصبر.
12- العناية بالمظهر.
♦ ♦ ♦

1- قوة الصلة بالله:
على الداعي أن يكون قوي الصلة بالله تعالى، دائم الخوف منه، يراقبه في كل صغيرة وكبيرة، متصلًا به ليلَ نهارَ، يعبده كأنه يراه، شعاره تقوى الله، والبُعْد عن كل حرام ومكروه، واجتناب الشبهات، فيترك الحلال أحيانًا مخافة أن يقع في الحرام.

إذا تهاون الناس في أمر دينهم وسَمَّوا الحرام بغير مُسمَّاه؛ نجده ما زال ثابتًا على الدين وقيمه ومبادئه، أمور كثيرة قد تكون بسيطةً في أعين الناس هي عند الله عظيمة؛ كالرشوة باسم الإكرامية، والانصراف من العمل قبل مواعيده الرسمية أو الحضور بعدها، أو أن يثبت حضور مَنْ لم يأتِ للعمل، أو استخدام أدوات العمل في أعمال شخصية، وغيرها كثير من مُحرَّمات انتشرت بين الناس، وأوجدوا لها مُبرِّرات أو سمَّوها بغير مسمياتها، فيتجنَّب ما يغضب الله حتى لو شاع بين الناس، فرِضا الله عنده هو الأساس، لا يُزعزع صلته بالله إحساسه بالغربة ولا كلام الناس.

وإذا كان الإيمان العميق ضروريًّا لكل مسلم، فهو للداعي أشدُّ ضرورة، ومع اعتماد الداعي على الله في كل أموره، فإنه يثق في ربِّه ثقةً كاملةً بأنه يحفظه وينصره، ويدفع الشرور عنه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحج: 38]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171- 173]، وما دام الداعي ينصر الله؛ أي: ينصر دينه بالدعوة إليه، فإن الله تعالى ناصره؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، فعلى الداعي أن يتيقَّن ذلك، ولا يشك فيه أبدًا.

والداعي لا ييئس أبدًا؛ لأن اليأس حرامٌ أن يتسرَّب إلى القلوب الموصولة بالله؛ وإنما يدخل قلوب الكافرين المنقطعة صلتهم بالله؛ قال عز من قائل: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

وعلى الداعية أن يتفكَّر في خَلق الله تعالى، ويتأمَّل ويتدبَّر في آيات الله المبثوثة في نفسه وفي الكون، والقرآن الكريم عندما يلفت أنظار الداعية إلى هذه الآيات المنتشرة في الكون يدعوه لعقيدة التوحيد الخالص.

وهذا الإيمان الراسخ من الداعية يؤدي حتمًا إلى التوكُّل الدائم على الله والاستسلام له بلا تردُّد؛ لأنه ما دام قد ثبت في نفسه ثُبوتًا جازمًا أنه لا فاعل إلا الله، واعتقد فيه تمام الاعتقاد والعلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العناية والرحمة بجملة العباد وآحادهم، فإنه مُتَّكِل لا محالة على الله؛ لأن الله معه في كل آنٍ وحالٍ، فيتوكَّل على الله ويعتمد عليه في كل أموره، ويكون على يقين وثقة أن الله معه، فلا يخاف من أحد سواه، ولا يعتمد على أحد إلا إيَّاه.

وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما مرَرْنا بسيرته رأينا صدق اعتماده وتوكُّله على الله، وعظيم تضرُّعه والتجائه إلى مولاه؛ نتذكَّر موقفه وهو في طريق عودته من الطائف بعدما آذوه صلى الله عليه وسلم، ورموه بالحجارة، لمن لجأ؟ ولمن بثَّ شكواه؟ لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وناداه في تضرُّع وخشوع: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى مَنْ تَكِلُني؟ إلى بعيد يتجهَّمني أم إلى عدوٍّ ملَّكْته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي...))، فينزاح الهمُّ والكرب، ويزول الحزن.

فعلى الداعية- بل وكل مسلم- اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يعلقوا به القلوب، وأن يخلصوا له التوجُّه والقصد، وأن يفرغوا قلوبهم وأنفسهم من كل اعتماد أو توكُّل على غيره.

2- قوة الصلة بالناس:
كما وثق الداعي صلته بالله تعالى، فعليه أن يوثق صلته بالناس؛ لأن دعوته إنما تكون معهم، ويرتفع شأنها ويعلو ذكرها بهم؛ فيترفَّق بهم ويحنو عليهم، فهو ابنٌ للكبير وأخٌ للصغير، يعاملهم معاملة حسنة، لا يرتفع عليهم بعلمه ومكانته، ولا يفرق بين سيِّدهم وخادمهم، ولا بين قويِّهم وضعيفهم، ولا بين غنيِّهم وفقيرهم، ولا بين كبيرهم وصغيرهم؛ بل الكل عنده سواء، لا فرق بينهم إلَّا بالتقوى.

وهذا الفهم عند الداعي يجعله لا يفرق بين إنسان ودعوته بسبب الحسب أو النسب، فلا يقتصر في دعوته على الأغنياء تاركًا الفقراء، أو يدعو الأقوياء ويترك الضعفاء؛ بل لا بد أن تشمل دعوته الجميع؛ لأنها دعوة عامة جاءت من أجل الجميع، وهو مكلف من قبل الله تعالى بنشرها بين الناس.

ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى للدعاة درسًا عمليًّا في هذا الباب بما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم مع عبدالله بن أُمِّ مكتوم في سورة عبس؛ فرغم أن عبدالله كان أعمى مما جعله لا يتحقَّق من عمل النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فدخل عليه طالبًا التعليم، في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولًا فيه بتعليم غيره من صناديد قريش، وكونه أعمى يعطيه العذر في عدم تقدير الوقت المناسب للسؤال، وسبق القرشيين في الحضور يعطي النبي صلى الله عليه وسلم عذرًا في إمهال عبدالله؛ لأنه أسلم من قبل، والقرشيُّون لم يسلموا بعد، وفي إسلامهم إسلام غيرهم، ورغم ذلك فقد عُوتِب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف؛ حتى لا يُقال إنه أهمل عبدالله لفقره وعَماه، واهتمَّ بغيره لجاهه وغناه، وحتى لا يبقى هذا القول بعد ذلك بداية يهتمُّ فيها الدعاة بالأشياء الظاهرة، ويفرقون بين الخلق وبعضهم بما ليس لهم به سبب؛ فقال تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 1- 10].
وهذا يعطينا دليلًا على أن الإسلام يحرص دائمًا على كرامة الإنسان مطلقًا مهما كان وضعه الاجتماعي.

3- سعة الأفق:
للداعية دور مهم في مجتمعه، فعليه المناصحة والإرشاد، وهذا أمر يحتاج إلى جهد شديد، وبذل متواصل في التفصيل العلمي والبحث الموضوعي، فكيف يدعو إلى دين الله وهو لا يملك المعلومات التي تؤهِّله للدعوة؟ يحتاج أن يقرأ، وأن يتعلَّم، وأن يتزوَّد بالمعلومات في كل المجالات: تفسير وحديث وعقيدة وفقه وسيرة وغيرها، فالأفق الواسع يمكِّن الداعية من أداء مهمته؛ لأنه يُقدِّم له ملكة الفهم والحكم والقدرة على مواجهة كافة الاحتمالات بسبب العلوم التي أحاط بها وعلمها.

ودليل الداعية إلى ذلك كله هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب على الداعية أن يحفظ من القرآن ما استطاع، ويحسن تلاوته، وأن يواظب على قراءة القرآن مع تدبُّر معانيه ومعرفة أحكامه، وأن يرجع إلى السنة النبوية الصحيحة، كما عليه أن يدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح والتابعين.

فكيف يدعو إلى الله وليس عنده ورد من القرآن ينهل منه؟! ولا يحفظ شيئًا من القرآن، ولو الآيات التي يستشهد بها في دعوته ولا يحفظ شيئًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟

حفظ الداعية للقرآن الكريم ودراسته للسنة النبوية وسيرة السلف الصالح تجعل عنده المقدرة على التبليغ والإرشاد؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختبر الدُّعاة إلى الله عن مدى تمسُّكهم وتفهُّمهم وإحاطتهم بالقرآن الكريم؛ فعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟))، قال: أقضي بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟))، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟))، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله.

إن السيرة النبوية هي أكبر مدرسة دينية عملية يمكن أن نتعلَّم منها، إنها تطبيق عملي بمعنى الكلمة لأحكام القرآن، أليست أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خُلُقُه القرآن".

في السيرة نجد كل ما يخطر على بالنا، إذا أردت أن تعرف كيف تكون الحياة الزوجية الصحيحة، فستجدها في علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بزوجاته، سنجد في السيرة الطريقة الصحيحة لتربية أبنائنا، وفي السيرة نعرف كيف نتعامل مع العصاة، كيف تتناقش وكيف تتعامل وتبيع وتشتري، كل ما تودُّ الحديث عنه، ستجده في السيرة تطبيقًا عمليًّا واضحًا.

4- المعرفة بالمدعوين:
مما يعين على النجاح الكبير للداعية في مجال الدعوة معرفة حال مَنْ تُوجَّه لهم الدعوة، من حيث نفسيَّاتهم وأخلاقهم، وعوائدهم، وتاريخهم، وموقعهم، ومللهم، وحضارتهم، ولغتهم، فيخاطبهم بما يُحقِّق الغرض، ويصل به إلى المطلوب من أيسر الطرق.

ومعرفة المدعوين تحتاج إلى دراسة العلوم التالية كما يقول الدكتور عبدالقادر سيد عبدالرؤوف:
علم التاريخ: ليعرف الفساد في العقائد والأخلاق والعادات، فيعرف كيف تنهض الحجة، ويبلغ الكلام غايته من التأثير، وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال؛ ولهذا كان القرآن الحكيم مملوءًا بعِبَرِ التاريخ من قصص السابقين.

علم الأخلاق: الذي يبحث عن الفضائل النفسية وكيفية تربية المرء عليها، وهو لازم لرجال الدين وللدعاة ألزم؛ كي يستطيعوا معالجة النفوس وتهذيبها.

معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها: ليتيسَّر للداعي بيان ما فيها من الباطل، فإن لم يتبيَّن له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره، وإن دعاه إليه، ومن لم يقف على ما عند الناس من المذاهب والتقاليد الدينية لا يستطيع أن يخاطبهم على قدر عقولهم.

علم النفس: ليكون الداعية على معرفة بهوى النفس وميولها واتِّجاهاتها ومدى تأثيرها في المجتمع، وهو مهم؛ لأنه يُمكِّن الداعية من توجيه خطابه إلى النفس بما يثيرها ويُناسبها.

علم الاجتماع:الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها، وأسباب ضعفها وقوَّتها وتأخيرها وتقدُّمها.

العلم بلغات الأمم المراد دعوتها إلى الإسلام: فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يكون عارفًا بلغة القوم الذين يدعوهم إلى الإسلام، ((ومن تعلَّم لغة قوم أمن شرَّهم))، وذلك يُعطيه القدرة على مخاطبة أي قوم بلغتهم، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت بإجادة السريانية، قال زيد: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب بها))، قال قلت: لا، قال: ((تعلَّمها))، فتعلَّمْتها في سبعة عشر يومًا.

قد يقول قائل: هذه العلوم للمتخصصين؛ وإنما نحن مبتدئون!
إن تطبيق هذه العلوم على أرض الواقع ممكن وبكل بساطة؛ فمعرفة ميول وثقافة وتفكير وطبيعة من تدعوه مهم جدًّا.

يختلف حديثك إذا كنت تتكلم مع ملتزم وتريد نصحه أو تذكيره، عن حديثك مع مَنْ لا يعرف شيئًا عن الدين؛ فالملتزم قد يسمع الآية أو الحديث فتؤثر فيه أشدَّ التأثير.

يختلف حديثك مع المتبرِّجة عن حديثك مع من حجابها غير صحيح، وعن حديثك عمَّن كانت ترتدي الحجاب ثم فُتنت وتركته، ويختلف حديثك مع الصغير عن الكبير، وعن المتعلم مع غير المتعلم، وهكذا في كل الأمور.

مثال: قد يواجه الداعية من بلغ من الغفلة ألَّا تُحركه الآيات والأحاديث، أو من يُقدِّم العقل على النصوص؛ يريد أن تقنعه بالعقل، إذا قرؤوا أو سمِعوا موعظة تعتمد على ذكر الآيات أو الأحاديث فقط فلن يلتفتوا إليها، فكيف نتعامل مع أمثال هؤلاء؟

بما أن الاسلام دين الفطرة السوية فعلى الداعية أن يخاطب عقولهم، وأن يُقَبِّح الفعل الذي يصدر منهم، ويُحرِّك الفطرة السوية بداخلهم، وإذا كان يحثُّهم على عمل صالح، فعليه أن يستفزَّ ما بداخلهم من خير بطيب الكلام، فإذا نجحت في شدِّ انتباههم يمكنك عندها الاستشهاد بالآيات والأحاديث.

أيضًا لا بد أن ينتبه الداعية أن النفس تكره الهجوم والشدة في القول، فإذا هاجمت العاصي، وأغلظت له في القول فلن تقبل نفسه الكلام، وقد يأخذه الكبر حتى لو اقتنع بكلامك، فالكلمة الطيبة لها تأثير السحر في النفوس.

هناك بعض المسائل الحساسة التي يُثير طرحها الخلاف- كحكم تهنئة النصارى بأعيادهم- وعندها لا بد أن يكون الداعية حريصًا على عدم إثارة من يخاطبهم؛ لكي يتقبَّلوا الحديث، فهناك من تشرَّبوا فتاوى جواز التهنئة، ومنهم من يرى أن التهنئة أو الاحتفال من وسائل البر والإحسان، ويعترض بشدَّة على تحريم الاحتفال أو التهنئة، ولا يقبل فيها نقاش ولا دليل، فهؤلاء يحتاجون إلى حوار العقل المصحوب بالأدلة وأقوال السلف، يحتاجون إلى تشكيكهم في صحة فكرتهم ورأيهم، وإذا كانت قناعتهم تستند إلى رأي مرجوح؛ أذكر الرأيين وأُفنِّدهما بالعقل، والأهمُّ بأسلوب ليس فيه هجوم حتى يتقبَّلُوا الحديث.

أغلب الناس تحب المواعظ الخفيفة واليسيرة، فالدروس أو الخطب أو المقالات والمنشورات الطويلة لا يقرؤونها، إلا لو كان الأسلوب مشوقًا ممتعًا يجذبهم ولا يشعرهم بالملل، قالت أمُّ المؤمنين عائشة لأحد الواعظين في مكة: "يا عبيد بن عمير إذا وعظت فأوجز؛ فإن كثير الكلام يُنسي بعضُه بعضًا".

5- الحلم والعفو:
الحلم والعفو من أهم الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها الداعية؛ لأن الناس كثيرًا ما يصدر منهم ما يغضب النفوس، ويُثير القلوب، فإذا لم يكن متحلِّيًا بالحلم والعفو صدر عنه ما ينفر الناس منه، فلا يجتمع عليه أحد، ولا يستطيع النجاح في مهمته؛ ولهذا مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أشجَّ عبد القيس لما فيه من الحلم والأناة، فقال: ((إنَّ فيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُما اللهُ: الحِلْمُ والأناةُ))؛ رواه أبو داود.

والداعي إلى الله يتعرَّض لطبقات مختلفة من الناس، منهم الخلوق المهذَّب، ومنهم الشرس العنيد، وبالحلم والعفو يستطيع الداعية أن يُفسح صدره للجميع، ويعامل كل واحد منهم بالقدر الذي ينفعه ويستفيد منه، فالداعية في مجتمعه بمثابة الطبيب الذي يعالج أمراضهم، ويصف لهم العلاج الناجح كل حسب مرضه، وهو الأب الحنون الذي يحنو عليهم، ويتحمَّل أذاهم، ويعفو عن إساءتهم.

وليكن قدوته في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربُّه بقوله: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالعفو؛ فقال عز وجل: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].

لقد بلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غاية الحِلْم والعفو، والسُّنَّة النَّبويَّة حافلة بمواقف الرَّسول الكريم في الحِلْم، ومِن ذلك قصَّة الأعرابي الذي جبذ (يعني جذب أو شد) النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بردائه جَبْذَةً شديدةً؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال: يا محمَّد، مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء"؛ رواه البخاري.

بالله عليكم يا أحبابنا، لو كانت هذه المعاني مستحضرة في واقعنا وواقع تعامُلنا مع عباد الله عز وجل، كيف سيكون حال دعوتنا؟ كيف لو استحضر المُعَلِّم هذا المعنى مع طُلَّابه ورَّواد درسه؟ وكيف لو استحضرت المعلمة ذلك مع طالباتها؟ وكيف لو تأمَّل الداعية والمربِّي والشيخ والعالم في هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم، وتمثَّله أصحاب الرسالات والدعوات في حياتهم، كيف سيكون حال الناس؟
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.79 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.00%)]