الموضوع: فقه الدعوة
عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 17-10-2023, 11:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (23)


د.وليد خالد الربيع



-الدعوة بالأفعال قبل الأقوال


تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف، وذكرنا أن الشريعة الإسلامية كلها عدل ورحمة وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس، وقلنا: يجب على الداعية أن يحرص على التزام العدل والإنصاف في أموره جميعها.
القاعدة الثانية عشر: الدعوة بالأفعال قبل الأقوال:
من المعلوم أن النفس البشرية مجبولة على التقليد والمحاكاة والتأسي، ويتأثر الناس بالمواقف العملية أكثر من المواعظ القولية والخطب الكلامية ، وإن كان للبيان بالقول أثر لا ينكر في نشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فمن المهم أن يكون الداعية قدوة حسنة وأسوة صالحة، يمتثل بنفسه قبل أن يدعو غيره، ويدعو بأفعاله قبل أقواله، يتحلى بالأخلاق الفاضلة ويتخلى عن الصفات السيئة، كما قال الحسن البصري: «عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك»، وقال: «الواعظ من وعظ الناس بعمله لا بقوله»، وكان إذا أراد أن يأمر بشيء بدأ بنفسه ففعله، وإذا أراد أن ينهى عن شيء انتهى عنه.
ولهذا جعل الله عز وجل أفضل البشر وهم الأنبياء والمرسلون أسوة للناس، فقصّ أخبارهم وحكى أحوالهم ثم أمر بالاقتداء بهم فقال عز وجل: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام: 90)، وقال عز وجل: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف: 35).
ونصب سبحانه وتعالى سيد المرسلين وإمام المتقين قدوة صالحة ومثالا يحتذى في كل شؤون الدين وأعمال الإسلام، فقال عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب: 21)، قال ابن كثير: «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله [ في أقواله وأفعاله وأحواله».
وقد كان [ القدوة في كل المجالات، ففي مجال العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان يكثر الصيام، ويديم العبادة، فقد سألت عائشة - رضي الله عنها- أكان رسول الله [ يخص شيئا من الأيام بمزيد من العبادة؟ قالت: «لا، كان عمله ديمة - مستمرا- وأيكم يطيق ما كان رسول الله يطيق؟».
وفي مجال الدعوة كاد [ أن يهلك نفسه في سبيل هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النار حتى قال له ربه: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}.
وفي مجال الزهد كان [ ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه الشريف، ويجوع حتى تمر عليه الأيام العديدة كما قالت عائشة - رضي الله عنها-: «ما شبع رسول الله من خبز بر ثلاثة أيام تباعا منذ قدم المدينة حتى مضى لسبيله»، وما كان ذلك عن فقر وضيق يد وإنما كان تقللا من الدنيا كما قال [: «ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت الشجرة ثم راح وتركها».
أما في الشجاعة فكان [ أجود الناس لاسيما في رمضان، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان [ في كل أبواب الخير في القمة، قال ابن القيم: «هو الأسوة والقدوة، وكان يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب الدعوة ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم ، وكان أحسن الناس معاملة» اهـ.
وكان [ يسلك الجانب العملي في التعليم فكان يصلي أمام الصحابة ويقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وطاف حول الكعبة ووقف على عرفة على دابته وقال لهم: «خذوا عني مناسككم».
وكان أصحاب رسول الله [ القدوة من بعدهم كما قال ابن مسعود: «من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله [؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وقد جاءت النصوص الشرعية تحذر من مخالفة الأقوال للأفعال، فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2-3).
قال القرطبي: «قَالَ الْمُثَنَّى: ثَلَاث آيَات مَنَعَتْنِي أَنْ أَقُصّ عَلَى النَّاس: {أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ} (الْبَقَرَة: 44), {وَمَا أُرِيد أَنْ أُخَالِفكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هُود: 88), {يَأَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ مِنْ حَدِيث مَالِك بْن دِينَار عَنْ ثُمَامَة أَنَّ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [: «أَتَيْت لَيْلَة أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْم تُقْرَض شِفَاههمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَار كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ قُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاء أُمَّتك الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَيَقْرأُونَ كِتَاب اللَّه وَلَا يَعْمَلُونَ». وَعَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا; فَسَكَتَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَقَالَ: أَتَرَوْنَنِي أَنْ أَقُول مَا لَا أَفْعَل فَأَسْتَعْجِل مَقْت اللَّه! اهـ.
وفي الحديث: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: «كنت آمرك بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه».
وكان عمر - رضي الله عنه- يجمع أهل بيته فيقول لهم: «أما بعد، فإني سأدعو الناس إلى كذا وكذا وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحدا منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالا شديدا».
ويبين ابن القيم الأثر الخطير للقدوة السيئة فيقول: «علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويصدون عنها بأفعالهم، كلما قالت ألسنتهم: هلموا إليها، قالت أعمالهم: لا تصدقوهم ، فلو كان خيرا لكانوا أول عامل به» اهـ.
فالقدوة الحسنة من أعظم أساليب الدعوة إلى الله وأكثرها تأثيرا، وإنما دخل كثير من الناس في دين الله عز وجل؛ لما رأوا من حسن أخلاق المسلمين وطيب معاملتهم وصدق أحوالهم وتطابق ظاهرهم مع باطنهم وتوافق أفعالهم مع أقوالهم، فحري بالداعية إلى الله تعالى أن يتحلى بهذا الخلق القويم، ويستعمل هذا الأسلوب الحكيم في نشر دين الله وهداية الناس إلى منهج الإسلام، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.14%)]