الموضوع: فقه الدعوة
عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 17-10-2023, 11:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (20)


د.وليد خالد الربيع


الارتباط بالحق وعدم التعلق بالأشخاص


تحدثنا في الحلقة السابقة عن البشارة قبل الإنذار، وقلنا إن البشارة والإنذار من وسائل الدعوة وأساليبها إلا أن بعض الدعاة قد يغفل عن جانب مهم في هذه الأساليب، وهو تقديم البشارة على الإنذار وتغليب جانب الترغيب على جانب الترهيبٍ.
القاعدة التاسعة: الارتباط بالحق وعدم التعلق بالأشخاص:
في طريق الدعوة إلى الله قد يتأثر الداعي بعالم جليل أو داعية كبير، فيعجب به وبأفكاره وأسلوبه، فيحمله ذلك على قبول كل ما يصدر منه بغير استدلال أو نظر فيما وافق الصواب أو خالفه، وقد يحمله الإعجاب على تعليل أخطائه أو التسويغ لانحرافاته، وهذا مزلق خطير قد يقع فيه بعض الدعاة من حيث لا يشعرون.
فالله عز وجل قد أمر المؤمنين الصادقين بالتمسك بهذا الدين الحق والمنهج الواضح في كل أمورهم لتحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة ، وحذرهم من الإعراض عنه أو التمسك بغيره، فقال عز وجل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} قال المفسرون: هو القرآن العظيم والسنة معه لأنها تبينه وتفسره، وقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء}، أي تتولونهم وتتبعون أهواءهم وتتركون لأجلها الحق.
وقد تضافرت النصوص الشرعية والآثار عن الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين على الحث بالتمسك بالوحي والهدى الذي جاء به النبي[ وعدم معارضة ذلك بأقوال الرجال ولو علا قدرهم وارتفعت رتبتهم، فضلا عن تقديم أقوالهم وآرائهم على كلام الله ورسوله، وبينوا أن واجب كل مكلف اتباع الحق إذا ظهر له دون توقف في قبوله على قول أحد من الناس، ودلت تلك النصوص على أن سبيل النجاة إنما يكون بالارتباط بالحق دون الأشخاص، فبالحق تقاس الأقوال والآراء ويستبين صوابها من باطلها.
أما التعلق بالأشخاص واتباعهم في أقوالهم وآرائهم واجتهاداتهم وقبولها على الإطلاق دون نظر في مدى موافقتها للحق الذي جاء به النبي [ من ربه فهو مسلك خطير مخالف لهدي سلف الأمة كما قال الشاطبي: «إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا (ضلال)، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره ، ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله [، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينيا» (الاعتصام 2/355).
وقال أيضا: «ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل» (الاعتصام 2/347)، وقال: «اتباع الرجال شأن أهل الضلال» (الاعتصام 2/350).
فمن النصوص الشرعية الواردة في لزوم التمسك بالحق ونبذ التعلق بالأشخاص:
قال الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «هذا متضمن للأدب مع الله تعالى ومع رسول الله[ والتعظيم والاحترام له وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالله ورسوله من امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله متبعين لسنة رسول الله[ في جميع أمورهم وألا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، فلا يقولوا حتى يقول ولا يأمروا حتى يأمر.
وفي هذا نهي شديد عن تقديم قول غير الرسول[ على قوله؛ فإنه متى استبانت سنة رسول الله [ وجب اتباعها وتقديمها على غيرها كائنا من كان».
وقال عز وجل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}.
قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه فقد رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله والجهاد عنه بحسب الإمكان، ولا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس؛ فبهذا الحال يستتب لهم أمرهم وتستقيم أمورهم».
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى النبي[ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النبي[ - أي قرئ عليه – فغضب وقال: «أمتهوّكون فيها يابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى [ كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» أخرجه أحمد وابن أبي عاصم وقال الألباني :حسن.
والتهوك: هو التحير، وقيل: الوقوع في الشيء بقلة مبالاة.
وعن أنس قال: قال رسول الله [: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل زمانا من دهره بعمل لو مات دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، فإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح» أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 1/174 وقال الألباني : إسناده صحيح.
وعنه عن النبي [ أنه قال: «لا عليكم ألا تعجبوا بأحد حتى تعلموا بما يختم له» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
وعنه قال: ذكر لي أن رسول الله[ قال: «يخرج فيكم أو يكون فيكم قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون « أخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إن فيما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق». المرجع السابق .
وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله[ منه فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع».
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:»إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء» «الجامع» لابن عبد البر.
وقال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في البشر».
وقال أيضا: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد[ كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وقال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته».
وقال الإمام مالك: «ليس كلما قال رجل قولا - وإن كان له فضل - يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}.
وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي[«.
وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله[ إذا صح الخبر عنه».
فحريّ بالداعي إلى الله تعالى أن يأخذ نفسه بهذا الأصل البيّن والمسلك الواضح، وهو الاعتصام بالسنة وما كان عليه سلف الأمة من تعظيم النصوص وعدم معارضتها بقول أحد من الناس، فضلا عن تقديم قوله عليها، وألا يغتر بصلاح أحد ولا يعجب بعمله لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ فإن خير من يقتدى به النبي [ وصحابته الكرام الذين زكاهم الله عز وجل في كتابه وتوفي النبي [ وهو عنهم راضٍ والتابعون لهم بإحسان، الذين قال [ فيهم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» متفق عليه.
فمع التقدير والإفادة من العلماء والدعاة والمفكرين إلا أن الداعي يستصحب دائما هذا الأصل، وهو أنه لا عصمة إلا للقرآن والسنة والإجماع، وكل إنسان عدا رسول الله[ - مهما سما في العلم والإخلاص - فهو عرضة للخطأ ويؤخذ من قوله ويرد عليه، مع الاحترام لشخصه والتقدير لاجتهاده، فهذا الأصل يحفظ الداعي من التحزب والتعصب والتفرق، ويجعله دائما -بإذن الله- مخلصا في دعوته لله عز وجل.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.55 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]