الموضوع: فقه الدعوة
عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 03-03-2022, 12:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (17)

التدرج في الدعوة


د.وليد خالد الربيع



تحدثنا في الحلقة السابقة عن التوازن في الدعوة وحقيقة التوازن والموازنة في العمل الدعوي ونستكمل اليوم عن ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفنون التعامل مع الآخرين ، وعن القاعدة السادسة وهي التدرج في الدعوة وأهمية التدرج وحكمته.

3 - عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ويدخل الغلو أيضا أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، كما قال شيخ الإسلام: «وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب عليه من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، والفريق الثاني من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه ولا حلم ولا صبر ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر... فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع لله ورسوله وهو معتد في حدوده».

وقال أيضا: «فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين».

4 - في التعامل مع الآخرين:

يحرص الدعاة على بذل النصيحة لعامة الناس والسعي في إيصال النفع لهم، فأتباع النبي [ أعلم الناس بالحق وأرحم الناس للخلق؛ وذلك لأنهم يتمسكون بالوحي ويمتثلون أوامره وينتهون عن نواهيه ويقفون عند حدوده ويتخلقون بآدابه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الواسطية) في بيان مكارم الأخلاق التي يتحلى بها أهل السنة والجماعة: ويعتقدون معنى قوله [: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة».

5- عند الفتن والمحن:

قال الشيخ صالح آل الشيخ في (الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ): «إذا ظهرت الفتن أو تغيرت الأحوال فعليك بالرفق والحلم ولا تعجل؛ لأن النبي [ قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه»، وإذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال فلا تحكم على شيء من تلك الأحوال إلا بعد تصوره؛ لقوله عز وجل: {ولا تقف ما ليس لك به علم}.

وعليك بلزوم الجماعة؛ لقوله [: «عليكم بالجماعة وإياكم والتفرق»، وقال: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب». وعليك بالموازين الشرعية لمعرفة الحق من الأقوال والأفعال والأحوال والأشخاص، والرجوع إلى أهل العلم الراسخين.

القاعدة السادسة - التدرج في الدعوة:

من القواعد الدعوية التي تمس حاجة الدعاة إليها (قاعدة التدرج)، فبعض الدعاة يستعجل في قطف الثمار وتحصيل النتائج دون مراعاة لأحوال المدعوين وظروفهم النفسية أو الاجتماعية أو مستواهم العلمي والثقافي، فيريد أن يبرئ ذمته فيقول ما يعلمه أو يفعل ما يظنه الصواب، غافلا أو متجاهلا لغاية الدعوة وهدفها الأسمى وهو هداية الناس بأيسر طريق وأقرب سبيل.

والتدرج هو الأخذ شيئا فشيئا وعدم تناول الأمر دفعة واحدة.

ويوضح د. عبدالرحيم المغذوي المقصود من هذه القاعدة بأنها: «ترفق الداعية في دعوته للناس والانتقال بهم في سلم الدعوة خطوة خطوة، ودرجة درجة وعدم الإكثار عليهم وإعطائهم فوق طاقتهم وأكثر من وسعهم وخاصة غير المسلمين أو من أسلم حديثا ولم يتمكن الإيمان من قلبه، أو من يعيش في بلاد غير إسلامية ولم يعرف الإسلام على حقيقته أو ما شابه تلك الحالات.

ومن أدلة هذه القاعدة ما أوصى به رسول الله [ معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال [: «إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»، فهذا الحديث يدل على أهمية التدرج في الدعوة ومراعاة أحوال الناس، وما تنطوي عليه أنفسهم وعقولهم من أشياء تقتضي الترفق والتدرج بهم في الدعوة» اهـ.


ويؤكد د. أبو الفتح البيانوني أن من مظاهر الحكمة في الدعوة (التدرج) ولاسيما عند معالجة الأشخاص والأوضاع العامة، تماما كما فعل القرآن الكريم والرسول العظيم [، ومشى على ذلك الخلفاء الراشدون والعلماء العاملون.

فقد نزل القرآن الكريم متدرجا في ثلاث وعشرين سنة، ولما اعترض على ذلك الكافرون بين الله الحكمة من نزوله متدرجا فقال: {وقال الذين كفروا لولا نزِلّ عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}، وفي الحديث عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبدا» أخرجه البخاري.

وروى الشاطبي في (الموافقات) أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال يوما لأبيه عمر: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي أن القدور غلت بي وبك في الحق.

قال: عمر لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة» اهـ.

يقول الشاطبي: «ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة؛ فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف، فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين، وفي الحديث: «الخير عادة والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، وإذا اعتادت النفس فعلا من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه وانشرح له صدره، فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول، هذا عادة الله في أهل الطاعة، وعادة أخرى جارية في الناس، أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه، ومنها كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه، فكان يحب الرفق ويكره العنف، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله؛ لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد وأسهل في التشريع للجمهور» اهـ. وللتدرج حِكَم عديدة ذكرها د. محمد الزحيلي منها :

أولا - موافقة الفطرة:

فالإسلام دين الفطرة، وأحكامه عامة تتفق مع الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، وأسلوبه في التشريع خاصة يلتقي مع الفطرة، فيلتقي مع النفوس السليمة والعقول الراجحة في تقبل الأخبار والتكاليف شيئا فشيئا وبناء الأشياء والقرارات درجة درجة، ونقل عن المودودي قوله: «لا ينبغي أن نغفل قاعدة تدرك بالفطرة، وهي أنه لا يحدث تغيير في الحياة الاجتماعية إلا بالتدرج».

ثانياً: التيسير والتخفيف:

إن التدرج الزمني في التشريع يسّر فهم أحكامه على أحسن وجه، ويسّر معرفته حكما حكما، وهذا ما يلمسه المدقق في نزول الأوامر والنواهي في بداية الإسلام على سنة التدرج مراعاة للتيسير على الناس والتخفيف عنهم، ورفع الحرج في أخذهم باليسر من التكاليف والأحكام .

ثالثاً - تغيير العادات:

إن العادة تتحكم في صاحبها، حتى اعتبرت طبيعة ثانية، ولما بعث رسول الله [ كان العرب قد استحكمت بهم عادات فردية وجماعية، فاقتضت الحكمة التشريعية أن يتدرج المشرع الحكيم بإبطال العادات السيئة والضارة شيئا فشيئا لاقتلاع جذورها، ثم بناء الأحكام والقيم الإسلامية مكانها.

رابعاً - بناء الفرد قبل بناء المجتمع:

اتجه التشريع الإسلامي أولا لبناء الفرد السوي بإصلاحه وتغيير ما بنفسه قبل البدء ببناء المجتمع وقبل تغيير الأنظمة والأحكام، وهذا هو التوجه القرآني في ذلك، فقال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

والحكمة في ذلك أن الفرد هو الأساس لبناء الأسرة، والأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع، وعندما تصلح النفوس وتتربى تربية إسلامية كاملة فإنها تتلقى الأحكام الشرعية برحابة صدر وتتجه ذاتيا إلى تنفيذها وتطبيقها، وهذا ما فعل بالمؤمنين في مكة أولا ثم في المدينة.» اهـ.

ويقابل التدرج في الدعوة آفة من الآفات التي يصاب بها بعض الدعاة وهي (الاستعجال)، ومعناه - كما يوضحه د- سيد نوح - رحمه الله - أنه: «إرادة تغيير الواقع الذي يحياه المسلمون في لمحة أو في أقل من طرفة عين دون نظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب والوسائل، بحيث يغمض الناس عيونهم ثم يفتحونها، أو ينامون ليلة ثم يستيقظون فإذا بهم يرون كل شيء عاد إلى وضعه الطبيعي في حياتهم».

ثم يذكر من مظاهر الاستعجال القيام بتصرفات طائشة صغيرة تضر بالدعوة ولا تفيدها، والارتقاء ببعض الدعاة إلى مستوى رفيع قبل اكتمال نضجهم.

وسرد - رحمه الله - بعض سبل معالجة الاستعجال، فمن ذلك :

1- إمعان النظر في الآثار والعواقب المترتبة على الاستعجال؛ فإن ذلك مما يهدي النفس ويحمل على التريث والتأني.

2- دوام النظر في كتاب الله؛ فإن ذلك يبصرنا بسنن الله في الكون وفي النفس وفي التشريع ومع العصاة والمكذبين قال تعالى: {سأريكم آياتي فلا تستعجلونِ}.

3- دوام المطالعة في السنة والسيرة؛ فإن ذلك مما يوقعنا على مقدار ما لاقى النبي [ من الشدائد والمحن وكيف أنه تحمل وصبر ولم يستعجل حتى كانت العاقبة له وللمنهج الذي جاء به.

4- مطالعة كتب التراجم والتاريخ؛ فإن ذلك يعرفنا بمنهج أصحاب الدعوات والسلف في مواجهة الباطل، وكيف أنهم تأنوا وتريثوا حتى مُكِّن لهم.

5- العمل في أحضان وظل ذوي الخبرة والتجربة ممن سبقوا على الطريق.

6- العمل من خلال منهج واضح الأركان محدد المعالم يستوعب الحياة كلها ويأخذ بيد العامل من طور إلى طور.

7- مجاهدة النفس وتدريبها على التريث والتأني والتروي؛ فإنما الحلم بالتحلم ومن يتصبر يصبره الله.

فعلى الدعاة التدرج في الدعوة إلى الله، وهذا يشمل:

1- التدرج في بيان الأحكام الشرعية، وذلك بالبدء بالأهم فالمهم، دون إثقال أذهان المدعوين بمعلومات كثيرة لا يحتاجون إليها، وقد تكون لبعضهم فتنة أو شبهات لعدم استعدادهم الفطري والعقلي لتلقي مثل تلك المعلومات، كما قال علي -رضي الله عنه- : حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!».


2- التدرج في التطبيق والعمل، بحيث يراعي قدرة المدعوين وظروفهم، مع الانتباه إلى أن العقائد والفرائض والمحرمات لا تدرج فيها ولا تهاون.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]