عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 24-09-2021, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: إرهاصات الشعر الحر عند علي أحمد باكثير - دراسة فنية






وهناك قصيدة أخرى هي (أغنية النيل)، وقد نشرها في "مجلة الرسالة" العدد (57) سنة 1934م، ويبدو أنها متزامنة مع القصيدة السابقة، وقد بَناها على المزدوج، وجاء وزنها على مخلع بحر البسيط يقول فيها[30]:





وَالزَّوْرَقُ النَّاعِسُ

يَغْفُو عَلَى المَاءِ



كَالبَائِسِ اليَائِسِ

فِي وَسْطِ نَعْمَاءِ



يُرَتِّلُ الشِّعْرَ

مِجْدَافُهُ اللاَّغِبْ



يُشَيِّعُ العُمُرَا

وَيَنْدُبُ الصَّاحِبْ



يَجْرِي فَيَرْعَاهُ

فِي أَلَمٍ بَالِي



يُهِيجُ مَسْرَاهُ

ذِكْرَى الهَوَى الخَالِي



غَنَّى بِهِ المَلاَّحْ

أُغْنِيَّةَ الحُبِّ



يُكَرِّرُ التَّصْدَاحْ

بِالنَّغَمِ العَذْبِ



يَمُدُّهَا يَا لَيْلْ

يَا لَيْلِي يَا عَيْنِي



مُنَادِيًا بِالوَيْلْ

مِنْ أَلَمِ البَيْنِ










وتبدو هذه القصيدة أقرب إلى المقطَّعة الشعريَّة، التي تقومُ على انفعالٍ واحد مُهَيمِن على جميع أبياتها وكلماتها، كما أنَّ لغة الشاعر أوغَلتْ في السُّهولة، حتى استعارت ألفاظ وتعبيرات العامَّة؛ مثل قوله: (يا ليلي يا عيني)، وجاءت الموسيقا هادئةً لصُنْعِ بِناء سيمفوني مُتنوِّع الدرجات اللحنيَّة.







وهناك نماذج أخرى تُشبِه النموذجين السابقين؛ مثل: قصيدة بعنوان: (شهر الصيام)، التي نُشِرت في "مجلة الفتح" في العدد 478 - السنة العاشرة، وقصيدة أخرى بعنوان: (فلسطين المجاهدة)، ونُشِرت في العدد 505 - السنة الحادية عشرة)، وثالثة عنوانها: (تحية الدكتور سوتومو) ونُشِرت في العدد 514 - السنة الحادية عشرة.







ثم جاءَتْ تجربة ترجمة مسرحية (الليلة الثانية عشرة) لشكسبير، على طريقة الشعر المقفَّى المألوف، وأردَفَها بترجمة مسرحية (روميو وجولييت) على تفعيلة بحر المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعول)، ومن أبياتها قوله على لسان جولييت وهي تُوشِك أنْ تحتسي السائل المنوم الذي أعطاه لها الراهب؛ لتكونَ في هيئة الموتى مدَّة اثنتين وأربعين ساعة، رَيْثما يحضر زوجها روميو فينطلق بها من القبر[31]:



الوَداع الوَداع! إلَهِي يعلَمُ وَحْدَه



أَيْنَ يجمَعُنا الدَّهر بعدَ اليوم



هذي برِداء الخَوْفِ النافِض راجفة فِي عُرُوقِي



حتَّى لَتَكادُ تجمد سِعر حَياتِي



فلأُنادِهِمَا لتَعُودا إلَيَّ لتَسكِين رُوعِي



يا حاضِن! لا، لا، فَماذا عَسَايَ تَصنَعُ عِندِي؟



إنَّ هذا الدَّور القائظ لا بُدَّ لي أنْ أُمثِّلَه وحدي



يا جام هَلُمَّ إليَّ!



ربما لا يصنعُ لِي شَيْئًا البتَّةَ هَذَا المَزِيج



أفأغدو غَداةَ غَدٍ زوجَ باريس؟



كلاَّ، يَأبَى خِنجَري هذا، فلتَبقَ إِلَى جانِبِي



ربَّما كانَ سمًّا أرادَ بِهِ القسُّ ألاَّ أعيش



لئلاَّ يكون زَواجي الجديد وَبالاً عَلَيْه



إذَا عَلِمُوا أنَّه قد زوَّجَنِي من قبلُ بروميو







ثم جاءت تجربته الناضجة في مسرحيَّته (إخناتون ونفرتيتي)؛ التي تعدُّ بحقٍّ أوَّل محاولة شعرية عربية معروفة لكتابة شعر التفعيلة أو الشعر الحر؛ الذي عرَّفَه باكثير بأنه: "حر لعدم التزام عدد معيَّن من التفعيلات في البيت الواحد"[32]؛ ولهذا يقول د. عز الدين إسماعيل: "فحركة الشعر الجديد التي بدأت منذ أواخر الأربعينيَّات في العراق، والتي امتدَّت فيما بعدُ إلى سائر الأقطار العربيَّة، وما زالت حتى اليوم تنمو وتتطوَّر، لم تحدث في شكل القصيدة منذ البداية إلا ما أحدَثَه باكثير؛ من كسر وحدة البيت، وطرح القافية بصورتها القديمة، واتِّخاذ التفعيلة أساسًا للبناء الموسيقي"[33].







ويمكن القول: إنَّ شغف باكثير بفنِّ المسرح - خاصَّة مسرح شكسبير - كان البوَّابة الرئيسة التي ولَج منها إلى الشعر المرسل المنطلق والشعر الحر، وكأنه قد أعاد فرعًا إلى أصله؛ إذ إنَّ المعروف أنَّ المسرحيَّة كانت تُكتَب شعرًا - لا نثرًا - في بدايتها، منذ نشأتها في الأدب اليوناني الكلاسيكي على يد أبرز أعلامها: صوفوكليس، ويوروبيدس، وإيسخيلوس، وأرسطوفان؛ ولهذا فإنَّ النقَّاد كانوا يُطلِقون على المسرحي لقب شاعر حتى وإنْ كان ناثرًا[34]، يقول باكثير: "حقًّا كان الشعر لغة المسرح عند كتَّاب اليونان والرومان، وكذلك عند شكسبير وأقرانه في العصر الإليزابيثي، وعند راسين وكورني في فرنسا... ومن أشهر مَن حاوَل ذلك الشاعر الأيرلندي الكبير ييتس، الذي كان يعتَقِد أنَّ إحياء الشعر في المسرح هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ المسرح من غلَبَة الاتجاه الذهني عليه، ولإعادة الوَقْدِ العاطفي إليه، وقد نجح في ذلك"[35].







كما أنَّ المسرحيَّة - حتى بعدَ أنْ صارت تُكتَب نثرًا - "لم تفقد جوهر الفن الشعري أو رُوحه، وإنما ظلَّت في كثيرٍ من الأحيان محافظةً على هذا الجوهر وتلك الرُّوح الشعريَّة، ويبدو هذا بوضوحٍ في مسرحيَّات ذوي الحس المرهف والأصالة الفنيَّة من كُتَّابنا المُعاصِرين"[36].







وتبدو هذه الرُّوح الشعريَّة واضحةً في كثيرٍ من المسرحيَّات التي كتَبَها باكثير على نظام الشعر الحر، مثل: إخناتون ونفرتيتي، والوطن الأكبر، وهمام في بلاد الأحقاف.







ولم تكنْ نزعته التجديديَّة محصورة في التخلُّص من رتابة القافية المتكرِّرة، التي ميَّزت القصيدة التقليديَّة، وإنما تجاوَزت ذلك إلى تحطيم البيت الشعري واستبداله باصطلاح "وحدة التفعيلة"، كما أنَّه أدخل فكرة الجملة الشعريَّة المنطلقة بدلاً من البيت الشعري المغلق، خاصَّة في مسرحيَّاته؛ حيث استقرَّ في نفسه عدم صلاحية الشعر المقفى لفن المسرح، فاعتمد على هذه الجملة الحواريَّة، التي كانت تَطُول وتقصر حسب الموقف الدرامي.







ومن هنا فإنَّ مَنحَى باكثير قد اختلف عن مَنحَى شوقي في كتابة المسرحيَّة؛ حيث إنَّ شوقي في مسرحيَّاته الشعريَّة كان يعتمد على تنويع الوزن، عندما كان ينتقل من شخصيَّةٍ إلى أخرى في الحوار، لكنَّ باكثير اعتَمَد على الشعر المرسل المنطلق - المعتمِد على وحدة التفعيلة - والمصاغ على هيئة سُطور؛ ممَّا جعل المتلقِّي لا يَكاد يشعُر أنَّه شعر!







لكنَّ باكثير في النهاية اقتنع من خِلال تجاربه الشخصيَّة أنَّ الشعر لا يصلح سوى لكتابة المسرحيَّة الغنائيَّة، أمَّا النثر فهو الأنسب لكتابة المسرحيَّة عُمومًا، ويتبيَّن هذا من قوله: "وأرى أنَّ النثر هو اللغة الطبيعيَّة للمسرحيَّة، وأنَّ الشعر لا ينبغي أنْ يُكتَب به غير المسرحيَّة الغنائيَّة؛ التي يُراد بها أنْ تُلحَّن وتغنَّى وهي الأوبرا"[37].







ولهذا فإنَّ تجربته التجديديَّة تبدو ناضجةً في قصائده العديدة، التي لم تُجمَع في دِيوانه المعروف "أزهار الرُّبى في شعر الصبا"[38]؛ الذي تنتمي قصائده إلى المرحلة التقليديَّة من حياته الفنيَّة شكلاً ومضمونًا، وإنما جاءت قصائده على شعر التفعيلة متناثرةً في المجلات الأدبية والصحف التي كانت سائدة إبَّان هذه الفترة؛ مثل: مجلة أبوللو، والرسالة، والفتح، والكاتب، والمسرح، والنهضة الحضرمية.







ومن هذه القصائد قصيدته التي يقول فيها[39]:



يَا لَهَا مَهزَلَه



يَا لَهَا سَوْءة مُخجِله



مَثَّلتْ دَوْرَها أمَّة تدَّعِي ضلَّةً أنَّها من كِبار الدُّوَل



سلَّمت لِلْمُغِيرين أَوْطانَها لِتُوارِي فِي سُورِيا أَوْ في لبْنان الخَجَلْ



أمَّة وَلَّتْ مِن وَجْهِ العَدُوِّ فِرَارَا



وقد جاء وزنها على المتدارك، وتَمَّ توزيع تفعيلاته (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) على النحو الآتي:



فاعلن فاعلن



فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن



فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن



فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن



ويلاحظ تسجيع القافية بين (مهزله - مخجله) وبين (الدول - الخجل).







ومن أمثلتها أيضًا قصيدة عنوانها: (بين الصحو والذهول)، يقول فيها[40]:



وَقَفْتُ لا أدْرِي عَلامَ الوُقوفْ



فِي شاطِئ النِّيلِ قُبَيْلَ السَّحَر



والكَوْن غَافٍ وَرُؤاهُ تَطُوف



في هَمَسات الرِّيحِ بَيْنَ الشَّجَرْ



في رَقَصات النُّور نُور القَمَرْ



عَلَى بِساطِ المَاء ماء النهرْ



في حِلَقٍ شَتَّى صُفُوف صُفُوفْ


وفِي نَقِيقٍ مُستَحَبِّ الصَّدَى


على تَوالِي أوْجه وَالقَرار


كجُوقَةٍ تَعزِفُ فِي مُنتَدى


بالرِّيفِ، ألقى القَوْم فيه الوَقارْ


قَدْ شارَكَ الصبيَة فيه الكِبارْ


ينتَبِهُون اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهارْ


بين المَزامِير وبين الدُّفُوفْ





ويُلاحَظ أنَّ باكثير هنا لم يستطع التخلُّص مطلقًا من أسْر القافية الموحَّدة؛ مثل: (السحر - الشجر - النهر)، و(الوقوف - تطوف - صفوف)، على الرغم من أنَّه نوَّع فيها، لكنَّنا يمكن أنْ نلمح التجديد بصورةٍ واضحة في لغته الصافية المفعمة بالسهولة المفرطة، وصوره العذبة المُنتَقاة بعناية أطياف الطبيعية حول منزله في روضة المنيل بالقاهرة.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]