عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 29-05-2021, 02:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النشء المسلم في الغرب

النشء المسلم في الغرب (2)


جمال المعاند








مما لا مراءَ فيه أنَّ التربية عملية قصدية، والظُّروف المحيطة بالنشء المعاصر فرضت اهتمامًا يرتاب من الارتجال، ولا يطمئن للعفوية، ومن نافلة القول: أنَّ تبايُن البيئات يفرض الأخذ في الاعتبار عواملَ تُولَد في بيئة، أو تَبْرُز فيها، خلافًا لمكان آخر.

والبيئةُ الغربيَّة في عصرنا نشأت فيها أجيالٌ مُسلمة لم يفرد لهم إلاَّ القليل من الدِّراسات التي لا تبلُّ الصَّدى؛ لأسبابٍ، منها ضعفُ الاهتمام بالتربية، وكذلك تموُّه الحدود الفاصلة بين التربية والتعليم، كما أنَّ فضاءات الحرية المتوفرة في البيئة الغربية تُغري أيَّ إنسان بإمكانية تَنشئة أطفاله وفقًا لما يراه مناسبًا.

وهذه السلسلة من المقالات هي رَصدٌ تطبيقي يُعْنَى بالأسباب، ويقدِّم الاقتراحات ما أمكن، وفي المقال المرقم بالأول كان استهلالاً عامًّا مثل نظرة عامَّة للواقع في إلمامات تُحيط بالكلية، ولا تبحث في التفاصيل؛ حيث كان الهدف تأطيرَ المشكلة، ومن هذا المقال فما بعد إذا أَذِنَ المولى - تبارك اسمه - سيكون البحثُ في الآليَّات مع مُقارنات يَقتضيها المقام، وما لم يرد من آلية أو مُقاربة، فغلبة الظن أنَّه سهل السيطرة عليه.

ولو نظرنا إلى جُذور الإقامة في الغرب في مُحاولةٍ لاستشفاف الدَّوافع، نرى أنَّ التخلُّف في العلوم التطبيقيَّة كان السبب الأول؛ مما دفع بإرسال شريحة من أبناء المسلمين لتلقي العلم، بعضهم خشي من العودة لدوائر التخلُّف فأقام، وتبعتهم شريحة أخرى دفعهم الكسب المادي، وما تضمَنُه القوانين الغربية من أجور وحقوق مَحفوظة، وتسلُّط الظَّلَمة على زمام الأمور في عدة بلدان إسلامية زاد من مساحات التعسُّف، فلجأت شريحة ثالثة، وهؤلاء مَتْنُ الأقليَّات المسلمة في الغرب، وبالنَّظر نَجد رابطًا واحدًا يَجمع كل تلك الدوافع، هو الخوف بأشكال مُتعددة المآخذ، ومتى ما كان الخوف هاجسًا، فمجال العقل البحث عن الأحوط، وبناءً عليه؛ فإنَّ مناقشة وضع النشء المسلم في الغرب يَجب أن يُصَبَّ في خانة التصويب والتعديل، وليس في منحى إعادة الترتيب.

فالإقامةُ في الغرب هدفٌ، بِغَضِّ النظر عن المبرِّرات، وما لا يفطن له القائمون على تربية النشء في الغرب هذه الحقيقة، فيتساوى عندهم المنهجُ، ومن ثَمَّ التعامُل، وما من دولة غربية إلاَّ وولد فيها جيل من المسلمين، وبعضُها حاملٌ بالجيل الرابع.

ولم تترك القوانين الغربية من خيارات لمن رغب في إنشاء أسرة إلاَّ منافذ ضيقة، فما من معضلة بعد الحصول على الإقامة أصعب من عقبة الزَّواج على المغترب.

وأمام قضية تكوين الأسرة أو المحضن الأول للطفل، نَجد الاحتمالات التالية:
الزَّواج من كتابية، ومن مُسلمة وافدة، ومُسلمة أو مسلم وُلِدَ في الغرب، وكلهم عُرضة لتأثيرات البيئة الغربية، وأخطرهم على الإطلاق الزواج من كتابية مُقيمة في بلدها.

أمَّا الخلفية الشرعية للمقيمين في الغرب، فتكاد تنحصر بين عوامَّ في المصطلح الشرعي هم السواد الأعظم - رغم الدرجات العلمية الحياتية - وثُلَّة من طلبة العلم، أمَّا علماء الشرع في الغرب فهم قلة.

ومما يشتركون فيه إلاَّ ما ندر حرصُهم على تسمية المولود اسمًا إسلاميًّا، ويرفض أغلبهم أكل الخنزير أو شرب الخمر، وربَّما أبدى بعضهم ملاحظات في حال رُؤية مخالفة مع معلوم من الدين بالضرورة، حتى وإن لم يكن ملتزمًا، وليس المجال هنا لبسط المخالفات الشرعية الحاصلة في البيوت، وإبانة الحكم الشَّرعي، إنَّ ما يعنينا هو قضية تنشئة الأطفال المسلمين.

وعلى كل مسلم مقيم في الغرب أنْ يدركَ خطورة البيئة الغربية على نفسه ومَن يَعول، وثَمَّة مرحلةٌ من العمر تكاد أنْ تكون مُهمَّشة في حياة الطفل المسلم على الأخص غربًا، ولا يعبأ لها، ألا وهي ما دون سن السابعة، واصطلح فقهاؤنا على تسميتها ما قبل سن التميِيز، والغريب أنَّ لها أحكامًا فَطِنَ لها السلف، وأثبتت الدراسات النفسية والتربوية الجادة أنَّ لها بصماتٍ من العسيرِ إزالتُها من شخصية الطفل مستقبلاً.

وأولى القضايا التي يعوزها مَزيد من الاهتمام: الاعتقاد، وليس ثَمَّة بيئة أخطر على عقيدة المسلم من البيئة الغربية، على الأخص إن كان الطفلُ طفلاً ذاكرته في طور التكوين، فهو مُلازم لأمِّه الكتابية أو حديثة العهد بالإسلام، فالساعات التي يقضيها معها أكثر مما يقضيها مع أبيه يوميًّا، ومن ألفاظها يتعلم النطق، وما تقوله أو تفعله يُعَدُّ في ذاكرته الأصلَ، وسيُفاجَأ مَن يُقيم في الغرب من معلومة هو يُدركها تمامًا، ولم يفكر بأَثَرِها عقديًّا، وهي:
أنَّ منطوقَ الإله أو معناه غيرُ متوفر في اللغات الأخرى، لقد بحثتُ في اللغات التي لي فيها بعض الإلمام، وهي (الإنكليزية، والإسبانية، والفرنسية)، وتحدثتُ مع مسلمين مُثقفين، وسألنا بعضًا من أهلها، وبعد جهد ومناقشات وترجمات، عثرنا على لفظين اثنين، هما الربُّ والسيد مسميات للذات الإلهية، وفي طيِّ الكلام حصرت المعاني التي أوردوها لشرحِ هاتين الكلمتين في [الخالق، والمالك، والرازق، والشافي، والرحيم، تَجوُّزًا بمعنى مُحقق الأماني]، وعند النَّصارى أوكل تَحقيق الأماني لابنه - تعالى الله عما يَأْفِكُون - وهنا تكمُن خطورةُ إضعاف توحيد الألوهية في ميزة المؤمن عن الكافر أو الحد الفاصل، كما لا يَخفى اختزال توحيد الأسماء والصفات، وفلسفة الذنب، أو مبدأ الخير والشر، وقيمته إسلاميًّا: الأمرُ والنهي، فلا حاجةَ أن نشرح للمسلم الواعي أنَّ أوامر الله - سبحانه - تصب في مصلحة الإنسان دنيويًّا وأخرويًّا، وأنَّ ما نهى عنه الشرع الحنيف رغم قلته ثبت علميًّا وعقليًّا أنه ضرر والأولى للعاقل اجتنابه، وفي المقابل فلسفة الخطأ عند الغربيين تُحمل على مَحمل واحد، هو القصور البشري، برغم إيمانهم بوجود الشياطين إلا أنَّ مساحة إغوائهم لبني آدم تُقزَّم لأضيق مجال، فالشيطان ليس عدوًّا واضحَ العداوة متربصًا في كل حين مثل ما عندنا - نحن المسلمين - ونُربَّى عليه.

ومَن كان من الغربيِّين مُتدينًا، فعليه تخفيف الأحمال عن ضميره بالاعتراف لرجل دين يَملك توكيلاً عن الربِّ بالمسامحة، بصك غفران يدفع مقابله مبلغًا ماليًّا، أو يتطوع بعمل أو نحوه، فيتولد من هذا الأمر أولاً أن ثَمَّة واسطة بين العبد والرب، وهذه النظرة ترفع المادة أيضًا إلى مستوى القداسة، فهي حلٌّ حتى لِمَا يعتلج في الضمير، فيغدو هدفًا أساسيًّا في الحياة كما هو ملاحظ، وليس ثمة تشريع يضبط إيقاعَ الحياة، إنَّما هي اعتقادات ومَواعظ وتوجيهات أخلاقية لا تحفل من الوسائل إلاَّ العُرف.

وإلحاقًا بهذه النقطة قد يَحدث موت أحد معارف الأسرة، فيسأل الصغير عنه، فيجاب: إنَّه في السماء مهما كان فعله، وربَّما رآه هذا الطفل يقترف ذنبًا، أو على الأقل سمع ذمَّه على شيء قبل وفاته، فالصعود إلى السماء يعني القُرب من الرب، والكل صاعد بغضِّ النظر عما فعله في حياته، وأثر ذلك تربويًّا على الطفل أنَّ الأعمال الصالحة هي نافلة وميزة للشخص الطيب، وليست مصيرًا يُحدد حياته الأخروية، هذا لمن يؤمن بالآخرة.

ونقطة تربوية قلما يُفطَن لها، تلعب الأم الدَّورَ الرئيس فيها، فهي أول معلم لطفلها، فإذا كانت من غير الناطقين بلغة القرآن، فتلك مُصيبة، وقد أشبعنا هذه النقطة شرحًا في المقالة الأولى، وهنا نعرج على الآليات، فاللغة العربية هي اللغة الوحيدة بين لغاتِ العالم التي تَمتلك مخارج وصفاتٍ لحروفها، وتم البحث والاستقصاء عن اللغات سابقة الذِّكر (الإسبانية، والفرنسية، والإنكليزية)، وبعد مراجعة المختصين، لم يتبنَّ أحدٌ ولا أشار إلى مرجع يشير إلى أنَّ ثَمَّة مخارج أو صفاتٍ، وفسحة الجدال حول نغمة الحرف، والتي يُمكن حصرها في باب الصِّفات، وما من قاموس أو معجم إلا يورد ضبطَ النطق، بعلمٍ اصطلح على تسميته عالميًّا (phonetic)، يضبط الكلمة كما سُمِعَت من أهلها، وبناءً على ذلك فمن الصُّعوبة تعلُّم الطفل المسلم الذي لم تُؤسّس عنده العربية أحكامَ التلاوة، وهي فرض عين على كل مسلم، فكل مسلم غربي أو مَن نشأ في الغرب، عليه "خرط القتاد" - كما يقال - لتعلم التلاوة.

وعند السنة الثانية من عمر الطِّفل تبدأ مَداركه بالاتِّساع، وتبرز مهارة السَّماع لديه، ولا شيء أهم من القصص يَجذبه كُلَّه، على الأخص إن رافقها تَمثيل.

والسؤال الذي يغيب عن ذهن كثير من الآباء:
ماذا يمكن لكتابية أو حديثة عهد بالإسلام أنْ تُزْجِي الوقتَ مع صغيرها؟
والجواب: إنَّها ستسرد له ما تعلمت أو سمعت به منذ أنْ كانت صغيرة، والسَّرْد القصصي يعتمد على التشويق بغضِّ النظرِ عن الفكرة، وإذا كُنَّا نعيبُ على العَلْمَانيِّين من أدباء العربية التنكُّب لثوابت الأمة، فماذا ننتظر ممن نشأ لا يعلم شيئًا، أو يلم بجزء ضئيل من الثوابت؟! ولقد استقصيت عن هذه النقطة بعضَ الدعاة الذين تزوَّجوا من مسلمة حديثة العهد، فلم أقفْ على وقفة لهم عند هذه النقطة، ولا يقف الأمر عند هذه الخطورة، فرِوَاية قصة بلغة أخرى هي إحدى الوسائل ليس لتثبيتها فحسب، بل لإعطاء مهارة التصوُّر الذهني فيها.

وقد يقول قائل: إنَّ قصص الأطفال عمومًا تحاكي مُثُلاً تَعارَف عليها بنو البشر، مثل: الأمانة، والصدق... لكنها نظرة قاصرة للأدب، فما من قصة أو رواية إلاَّ ويُمكن اختزالها بجُمَل مَعدودات، وما تبقَّى يُقصَد منه إثراء القاموس اللُّغوي، وتعلُّم - شِئْنَا أم أَبَيْنَا - طُرُقًا في التفكير من مثل: الوصف، والتحليل، والذي يعتمد على أسس القاصِّ ومبادئه.

والكل يدرك أنَّ الأطفال - لأنَّ ذاكرتهم لا تزال خَامًا - يَختلفون، فمِن مُحب للوصف إلى مُعجَب بالسرد، وصولاً لمن التقطَ الفكرة.

وبعد السنة الثالثة للطِّفل تبدأ مشاركاتُه في الأحاديث، ولا يَخلو حديث من مَثَل، والأمثال هي تجاربُ حياتية تُكثَّف عباراتُها لتغدو قانونًا يشار إليه من دون تفاصيل، والسُّؤال: حشد كمية من الأمثلة في عقل الصغير لا تنتمي لمبادئ الإسلام، ألاَ يؤثر على تفكيره، ومن بعدُ سلوكه؟!

وهنا قد يرد اعتراض أنَّ هناك أمثالاً عربية سيئة المعنى، ولا تتَّفق مع تعاليم الدين الحنيف، والجواب: إنَّ ما يطرح من هذا القبيل في بيئتنا العربية لا يعدم من مُصحح بآية كريمة أو حديث نبوي شريف، أو تفسير يَنْقض لعالِمٍ من علمائنا.

وفي المحضن الأسري للأطفال مشاركون آخرون، هم الحضانة والمدرسة والرائي - التلفاز - ومعارف الأسرة، وهو حديثنا في المقال اللاَّحق بإذن الله - تبارك اسمه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.24 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.75%)]