عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 13-06-2022, 10:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية د .راغب السرجانى

مدينة أنطاكية .. أهميتها ومكانتها-(19)

أهمية أنطاكية



د. راغب السرجاني

تُعَدُّ مدينة أنطاكية من أهم المدن في منطقة الشام وآسيا الصغرى، بل لا نبالغ إن قلنا إنها كانت من أهم مدن العالم القديم بأسره، وذلك لمميزات خاصَّة تفوَّقت بها هذه المدينة على غيرها.

فهي أولًا: مدينة رئيسة منذ قديم الزمان، كانت تتخذها الدولة البيزنطية قديمًا عاصمة لمنطقة الشام بكاملها ولعدة قرون.

وثانيًا: هي مدينة دينية من الطراز الأول، حيث يعظِّم النصارى شأنها جدًّا، فهي أول مدينة أطلق فيها على أتباع المسيح اسم المسيحيين، وذلك كما جاء في سِفْر أعمال الرسل: "ودُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً"[1]. وفي هذه المدينة أسَّس القديس بطرس أول أسقفية له[2].

وثالثًا: وصل الفتح الإسلامي إلى هذه المدينة مبكرًا جدًّا، ففتحت بالإسلام في سنة (15هـ) 636م على يد المجاهد الجليل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فهي إسلامية منذ أكثر من 460 سنة[3].

ويرجع الفضل في تحويلها إلى منطقة إسلامية واضحة المعالم إلى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، الذي لاحظ تكرار الهجمات البيزنطية على هذه المدينة بالذات، فقرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان، بل ومن العراق، ليستوطنوا في هذه المنطقة، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين، وصارت المدينة إسلامية آمنة، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش وطرسوس وملطية وغيرها[4].
ورابعًا: فهذه المدينة صاحبة تاريخٍ تجاريٍّ عظيم، فهي من أهم المراكز الاقتصادية في المنطقة، بل إنها كانت من مراكز التبادل التجاري المشهورة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية في الفترات التي كان السِّلم يغلب فيها على العَلاقة بين الدولتين[5].

وخامسًا: تُعَدُّ هذه المدينة من أحصن مدن الشام، بل من أحصن مدن العالم آنذاك، وكانوا يقارنون حصانتها بحصانة القسطنطينية أحصن مدن العالم القديم[6].

ولعلنا إذا نظرنا نظرة سريعة إلى جغرافيتها ندرك مدى الحصانة الطبيعية التي وهبها الله سبحانه وتعالى لهذه المدينة، فضلًا عن القلاع والحصون؛ فالمدينة محاطة بالجبال العالية من جهتي الجنوب والشرق، ويحدها من الغرب نهر العاصي، وهي محاطة -أيضًا- من الشمال بمستنقعات وأحراش. وفوق هذه الحماية الطبيعية فهي محاطة بأسوارٍ عالية من كل جانب، وعلى هذه الأسوار ثلاثمائة وستون برجًا للمراقبة وإطلاق السهام والرماح والقذائف المشتعلة، فضلًا عن قلعة حصينة جدًّا من الصعب أن تُقتحم.
سادسًا: تقع هذه المدينة على أول طريق الشام للقادمين من آسيا الصغرى[7]، وعلى ذلك فسقوطها يعني فتح الطريق للشام، كما أن بقاءها بما فيها من جنود وحامية يجعل تجاوزها دون إسقاط أمرًا في غاية الخطورة؛ لذلك لم يكن هناك بُدٌّ للصليبيين من التوقف أمامها.

سابعًا: هذه المدينة وإن كانت مدينة داخلية غير ساحلية إلا أنها على مقربة جدًّا من البحر الأبيض المتوسط وموانئ السويدية واللاذقية، مما يجعل وصول المؤن إليها عن طريق البحر أمرًا ممكنًا بل ميسورًا.

ثامنًا: التركيبة السكانية في داخل أنطاكية كان لها طابع خاص جدًّا، فعلى الرغم من قدم توطُّن المسلمين فيها إلا أنه كان بها أعدادٌ كبيرة من النصارى الأرثوذكس، وأيضًا من النصارى الأرمن؛ وذلك للأهمية الدينية لهذه المدينة عندهم، وقد عاشوا قرونًا طويلة مع المسلمين في هذه المدينة في تعايش جميل، لم يعكر صفوه على مدار السنين فتنة طائفية ولا اضطهاد عنصري.

تاسعًا: التاريخ القريب لهذه المدينة شهد بعض التغيرات التي أضافت بعض التعقيدات إلى القصة، فهذه المدينة سقطت في أيدي الدولة البيزنطية في (358هـ= أول نوفمبر سنة 969م)، في عهد الإمبراطور نقفور فوقاس[8]، وأحدث سقوطها دويًّا كبيرًا في العالمين الإسلامي والمسيحي، فهي وقت سقوطها كان قد مرَّ عليها أكثر من ثلاثة قرون بأيدي المسلمين، وهي في الوقت نفسه المدينة الدينية المعظَّمة عند عموم العالم المسيحي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي.

كما أنَّ الدولة البيزنطية بعد سقوطها قتلت الكثير من أهلها، وأخرجت الباقي، وهجَّرتهم خارجها، واستقدمت جموعًا كبيرة من المسيحيين ليعيشوا فيها، وظلَّ الوضع على هذه الصورة إلى العقد الثامن من القرن الحادي عشر؛ أي بعد موقعة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ= 1071م)؛ حيث شهدت منطقة أنطاكية هجرة مزدوجة من السلاجقة والأرمن، مما أدَّى إلى تغيُّر الخريطة السكانية من جديد، بل إنَّ العنصر الأرمني غلب على التوزيعة الجديدة، وقد أدَّى الانهيار البيزنطي أمام السلاجقة إلى سعي الدولة البيزنطية إلى التعاون مع الأرمن -على كراهيتها لهم- لمقاومة السلاجقة؛ وهذا أدَّى إلى رسوخ قدم أكبر في المنطقة، بل تطاول الأرمن أكثر وأكثر، وخرجوا عن تبعيَّة الدولة البيزنطية، وحاصر أحد أكبر قادتهم وهو فيلاريتوس مدينة الرها، واستولى عليها من البيزنطيين، وذلك في سنة (469هـ) 1077م، ثم في السنة التالية مباشرة (470هـ= 1078م) استطاع فيلاريتوس أن يستولي على أنطاكية ذاتها بعد قتل آخر حاكم بيزنطي لها[9].
غير أن الأرمن لم يحكموا أنطاكية إلا سبع سنوات فقط، حيث سقطت في يد سليمان بن قُتلمش مؤسِّس دولة سلاجقة الروم، وذلك في سنة (477هـ= 1085م)[10]، ليبدأ فيها حكمًا إسلاميًّا من جديد بعد غياب 119 سنة متصلة، ومن جديد بدأ السلاجقة وعموم المسلمين يتزايدون في المدينة، وذلك جنبًا إلى جنب مع النصارى الأرثوذكس على أَتْباع المذهب البيزنطي والأرمن الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة. وهذا التاريخ القريب -كما نرى- أعطى تعقيدًا واضحًا للموقف؛ فأنطاكية متنازعٌ عليها بوضوح من الطوائف الثلاثة: المسلمين بقيادة السلاجقة، والدولة البيزنطية والأرمن، إضافةً إلى القوة الجديدة القادمة من أوربا الغربية!

عاشرًا وأخيرًا: أنطاكية بالذات حلم كبير في ذهن بوهيموند، الزعيم النورماندي الشرس، فهو لا ينسى أنها كانت أُمْنيَّة أبيه روبرت جويسكارد زعيم النورمان الإيطاليين الشهير، وأن أباه أرسل جيشًا قبل ذلك بسبعة عشر عامًا، وبالتحديد في سنة (473هـ= 1081م) لإسقاط أنطاكية، وكان على رأس هذا الجيش بوهيموند نفسه، ولكن هذا الجيش فشل في إسقاط المدينة الحصينة، والفشل في عُرْف هؤلاء القراصنة عار كبير، فهم لا يعيشون إلا على السلب والنهب والسرقة والقنص.

ولذلك فإن بوهيموند لم ينسَ أنطاكية أبدًا، ويأخذ القضية كثأر قديم، ويضحِّي بكل شيء من أجل استحواذها، وليس في ذهنه دين ولا صليب، ولا يتحرك قلبه لقدس أو حجيج، ولا يخشى في ذلك إمبراطور الدولة البيزنطية الذي تظاهر بالصداقة له، ولا زعماء الحملة الصليبية الذين يصاحبونه في هذه العمليات الإجرامية. إن المسألة عنده مسألة شخصيَّة تمامًا، وسيبيع كل شيء ويشتري أنطاكية!
هذه أمور عشرة جعلت قضية أنطاكية قضية معقدة جدًّا، وهي محطُّ أنظار الجميع، وعليها سيكون التنافس بين كل القوى الموجودة في المنطقة.


[1] سفر أعمال الرسل: 11/62.
[2] محمد حامد الناصر: الجهاد والتجديد ص79،
Runciman: op. cit. 1, p. 213
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/495،494، وابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 2/105، وياقوت الحموي: معجم البلدان 1/269.
[4] البلاذري: فتوح البلدان ص160.
[5] Runciman: op. cit. 1, p. 213.
[6] Grousset: Hist. des Croisades 1, p. 72.
[7] Chalandon: Premiere Croisade, p. 181.

[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/495،494.
[9] حامد غنيم أبو سعيد: الجبهة الإسلامية في مواجهة المخططات الصليبية ص91.
[10] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/139،138.















__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.85%)]